يحيى محمد
يتصور الكثير بأن الإعتماد على العقل في التشريع يفضي إلى نسخ الشريعة أو تعطيلها، ناهيك عن ان ذلك يثير في حد ذاته الاختلاف لارتفاع الضوابط. وقديماً كان السلف يمتعضون من ابداء الرأي الذي فيه رائحة العقل والبعد عن النص[1]، بل ويتحفظون أحياناً حتى من الرأي الذي يضطرون اليه في ابداء الفتوى، رغم أنه لا يستقل عادة عن النص، كالقياس مثلاً. وكان الإكثار في الرأي مدعاة لإحجام الاخرين عن صاحبه، كما هو معروف من موقف العلماء إزاء ابي حنيفة الذي اشتهر أنه يكثر العمل بالرأي وترك الأحاديث[2].
لكن اول محاولة مبدئية للتنظير في الموقف من مبادئ الإجتهاد والرأي نجدها لدى الشافعي. فقد كان هذا الإمام القرشي أول من استدل على المنع من التدخل العقلي، جاعلاً حدود الرأي لا تتعدى القياس باعتباره ظل النص وتابعه. ففي معرض نقده لمبدأ المصلحة والإستحسان اعتبر ان من استحسن فقد شرع، وقال: (انما الإستحسان تلذذ)[3]، وان (القول بما استحسن شيء يحدثه لا على مثال سبق)[4]. وعقد في كتابه (الأُم) باباً بعنوان (كتاب إبطال الإستحسان)[5]. والأدلة التي طرحها الشافعي بهذا الصدد هي ذاتها التي وظفها تلميذه داود الاصبهاني ضدّه في المنع من القياس، حيث وجدها تنطبق لا في منع المصلحة والإستحسان فحسب؛ وانما في مختلف ضروب الرأي التي منها القياس[6]. كذلك وسّع ابن حزم الاندلسي من دائرة الشبهة في نقضه للقياس والمصلحة والإستحسان[7]. فجميع هؤلاء استدلوا بكون الشريعة بيّنة وكافية في أحكامها لسد كل شأن من شؤون الحياة، فما من حادثة الا ولها حكمها بالنص، أو بدليل مستظل من نص كما يرى الشافعي. وبغير ذلك لا يبقى للحكم مصدر يعول عليه غير الأهواء والميول الذاتية، إذ لا ضابط للمصالح، وهي تتردد بين اعتبار الشارع لها وبين الغائه؛ كالذي صرح به الآمدي من الشافعية[8]. ويضيف البعض إلى أنه مثلما قد يغلب على العقل الهوى؛ فقد يخفى عليه وجوه الضرر والفساد[9].
كما ان الشاطبي الذي أقام تنظيراً واسعاً لمقاصد الشرع طبقاً للمصالح المعتبرة وجد نفسه في الوقت ذاته مضطراً إلى وصد الباب بوجه الممارسة العقلية، فعمد إلى نقد العقل بصورته المستقلة. فعلى رأيه ان العقل عاجز عن إدراك مصالح الدنيا من غير شرع، وذلك لإعتبارين: أحدهما أنه بالشرع لا العقل قد تبين ما كان عليه أهل الفترة (الجاهلية) من انحراف الأحوال عن الإستقامة وخروجهم عن مقتضى العدل في الاحكام. والثاني أنه لو كان للعقل قدرة تامة على إدراك جميع تلك المصالح لما كان الشرع بحاجة إلى ذكرها، ولاكتفى بذكر مصالح الآخرة فحسب. وبالتالي فقد انتهى إلى إقرار كون (العادة تحيل استقلال العقول في الدنيا بادراك مصالحها ومفاسدها على التفصيل) لكنه مع ذلك أقرّها (بعد وضع الشرع اصولها)[10]. بالإضافة إلى أنه اعتبر التعويل على العقل يقتضي ان يكون على حساب ما أمر به الله من العمل بالكتاب والسنة، فعلى رأيه أن احكامه تعالى لم ترد بما استحسنته النفوس واستقبحته[11]، اتساقاً مع ما ذهب اليه الأشاعرة من نفي الدلالة العقلية للحسن والقبح.
ولا شك ان الرأي الأخير يمكن ان يكون موضعاً للاحتجاج - بغض النظر عن الدلالة العقلية للحسن والقبح - وذلك فيما لو كان هناك وضوح كاف في تفاصيل الكتاب والسنة. أما مع عدم هذا الوضوح فالامر مغاير، حيث ان الأخذ بإطمئنان النفس لم يعد في قبال ما يقره القرآن والسنة، بل في قبال ما ينقله الناقل وما يفتيه المفتي من حيث فهمه واستنباطه، وان هذا النقل وكذا الفهم لا يتجاوز في الغالب درجة الظن، ولا يرقى إلى حالة الإطمئنان، فضلاً عن ان يكون مضاهياً للقطع الوجداني.
كذلك اعتبر الشاطبي ان الإعتماد على العقول في تحديد المصالح يفضي إلى التضارب والاختلاف لعدم توفر الضابط، فعلى حد قوله أنه (لو ترك الناس والنظر لانتشر ولم ينضبط، وتعذر الرجوع إلى أصل شرعي. والضبط أقرب إلى الانقياد ما وجد اليه سبيل. فجعل الشارع للحدود مقادير معلومة واسباباً معلومة لا تتعدى، كالثمانين في القذف، والمائة وتغريب العام في الزنا على غير احصان.. الخ.)[12].
مع ذلك ان ما ذكره الشاطبي في بيانه الأخير لا يتسق مع ما نعلمه من كثرة الإجتهادات والتغييرات التي ظهرت في عصر الخلفاء الراشدين، كتلك التي مارسها عمر بن الخطاب قبال العديد من النصوص والسيرة النبوية، وكان على رأسها إجتهاده في مقدار عقوبة شارب الخمر وكيفية تنفيذها، وكذا حكم المؤلفة قلوبهم؛ مما عدّه الفقهاء مقبولاً لاعتبارات معينة ابرزها مراعاة المصلحة وتغير بعض الظروف. مما يعني ان الضبط يمكن ان يتحقق مع الإجتهاد العقلي اذا ما روعيت فيه اعتبارات التوافق العقلائي، أو خضع لالزام الشورى أو الاجماع.
وعلى صعيد الوسط الشيعي سبق ان أثار الشيخ الطوسي شبهة الإعتماد على العقل وأبطلها، وذلك وهو بصدد اقرار فقدان القرائن التي تصحح الأحاديث الموجودة، معتبراً أنه يلزم من ذلك ترك أكثر الأخبار والأحكام بحيث (لا يحكم فيها بشيء ورد الشرع به، وهذا حد يرغب أهل العلم عنه، ومن صار اليه لا يحسن مكالمته لأنه يكون معولاً على ما يعلم ضرورة من الشرع خلافه)[13]. وتابعه في هذا الأمر رجال الإمامية بلا خلاف.
وذكر الانصاري ان السبب في منع التعويل على الأحكام العقلية، هو (ان الركون إلى العقل فيما يتعلق بادراك مناطات الأحكام لينتقل منها إلى إدراك نفس الأحكام موجب للوقوع في الخطأ كثيراً في نفس الامر، وان لم يحتمل ذلك عند المدرك، كما تدل عليه الأخبار الكثيرة الواردة بمضمون: (ان دين الله لا يصاب بالعقول)، وانه لا شيء أبعد عن دين الله من عقول الناس)[14]. هذا في الوقت الذي عدّ قطعيات العقل المخالفة للدليل النقلي هي في غاية الندرة إن لم تكن غير موجودة بالمرة، وكما صرح بأن (ادراك العقل القطعي للحكم المخالف للدليل النقلي على وجه لا يمكن الجمع بينهما في غاية الندرة، بل لا نعرف وجوده، فلا ينبغي الاهتمام به في هذه الأخبار الكثيرة[15]، مع ان ظاهرها ينفي حكومة العقل ولو مع عدم المعارض، وعلى ما ذكرنا يحمل ما ورد من ان دين الله لا يصاب بالعقول)[16].
على ذلك شاع القول بأن ما موجود من بيان أو نصوص يكفي لسد وتغطية جميع ما يستحدث من واقع وقضايا، حتى بغير حاجة إلى الأحكام العقلية. وقد سبق ان اشار الشيخ ابو جعفر الطوسي إلى ما موجود من وفرة خبرية كافية لتغطية مسائل الأحكام كافة. وحديثاً رأى السيد الصدر ان البيان كاف في الشمول لتناول مختلف قضايا الأحكام حتى مع عدم الأخذ بالدليل العقلي النظري الذي يستند اليه الأصوليون ويخالفهم عليه الإخباريون[17]. كما ان السيد محمد تقي الحكيم صرح هو الآخر بأن الإمامية تعتبر أحكام الشريعة بمفاهيمها الكلية لا تضيق عن مصالح العباد ولا تقتصر عن حاجاتهم وبالتالي فانها مسايرة لمختلف الأزمنة والأمكنة، وان تأثير الزمان والمكان والأحوال إنما هو في تبدل مصاديق مفاهيم النصوص لا غير[18] . الأمر الذي يعني عدم الحاجة إلى الأحكام العقلية.
والى اليوم مازالت نزعة الاحجام والخوف من الممارسة العقلية في التشريع سارية، حتى عُدت خطرة على الشرائع السماوية، كالذي صوره الاستاذ عبد الوهاب خلاف وهو في معرض رده على الطوفي بقوله بأن (تعريض النصوص لنسخ أحكامها بالآراء وتقدير العقول خطر على الشرائع الإلهية وعلى كل القوانين)[19].
خلاصة الشبهات
مما سبق يمكن تلخيص الشبهات التي تثار بحق الممارسة العقلية في تأسيس الأحكام أو استكشافها كالتالي:
1 ـ إن الممارسة العقلية المستقلة تبعث على نسخ الأحكام الشرعية وتغييرها، أو طرحها وإلغائها كلية.
2 ـ إنها عاجزة عن إدراك المصالح الدنيوية، بدلالة ان الشرع لم يكتف بذكر المصالح الأخروية وانما جاء ايضاً بتعليم المصالح الدنيوية، وأنه بالشرع لا العقل قد تبين ما كان عليه أهل الفترة (الجاهلية) من انحراف الأحوال عن الإستقامة وخروجهم عن مقتضى العدل في الاحكام.
3 ـ إنها غير قابلة للضبط والإنضباط، وتتأثر بالأهواء والمصالح الخاصة.
4 ـ إنها توقع في الأخطاء الكثيرة وإن لم يدركها المدرك.
5 ـ إنها لا تتفق مع مقولة كمال الشريعة وبيانها وتمامها، ولا مع منطق (حلال محمد حلال إلى يوم القيامة وحرامه حرام إلى يوم القيامة).
6 ـ وجود الأحاديث الناهية عن العمل بها في إدراك الأحكام ومناطاتها.
هذه هي خلاصة الشبهات التي مرت معنا، ويمكن الرد عليها نقضاً وحلاً، أو بناءاً ومبنى، كالاتي:
النقض والبناء
من حيث النقض والبناء اننا لو سلمنا بمصداقية هذه الشبهات لكان بعضها على الأقل يصدق على جميع المذاهب التي تعول على الإجتهاد والرأي. ذلك ان هذه الإجتهادات تضطر أحياناً لتغيير الأحكام تبعاً لمراعاة المقاصد أو المصالح أو غير ذلك من الاعتبارات، ومع ذلك لا يصح ان يقال أنها تمارس نسخاً للشريعة أو إلغاء احكامها. وفعلاً أنها تُتهم بمثل هذه التهمة من قبل تلك المذاهب التي لا ترى مجالاً لممارسة الرأي والإجتهاد. بل ان الشاهد التاريخي يكشف عن تبادل الاتهامات بين المذاهب في هذا الخصوص، تبعاً لمنطق التوسع في الأخذ بأصول الإجتهاد. فكلما زادت أصول الإجتهاد أكثر كلما زادت الشبهة بحق المذهب. فلو غضضنا الطرف عن الكم المستخدم من تلك الأصول وجدنا ان القائل بالقياس والإستحسان والمصالح متهم بدرجة أكبر من القائل بالقياس والإستحسان، والأخير متهم أكثر مقارنة مع من يقول بالقياس وحده. مع ذلك فنحن نعلم ان التهمة في حق الجميع غير صحيحة.
أما الاشكال عن عجز العقل عن إدراك المصالح الدنيوية فإنه لو صدق لانطبق ايضاً على جميع المذاهب التي تعول على المصالح والإستحسان، ومنهم الشاطبي الذي أثار مثل هذا الاشكال. وكما سنعرف ان الممارسة العقلية وخبرتها المناطة بالواقع والاسترشاد بمقاصد الشرع؛ كل ذلك يجعلها قادرة على إدراك مثل هذه المصالح، باعتبارها مصالح واقعية لها آثارها الواضحة إن كانت مفيدة معتبرة أو ضارة ملغاة. نعم ان فائدة الشرع - هنا - هو أنه سبّاق في تحديد المصالح لاحاطته الكلية، بينما يحتاج الكشف العقلي إلى المزيد من الخبرة والجدل مع الواقع، كما لا بد من تبني المقاصد لإدراك ما يخفى عنه من هذه المصالح.
وكذا يمكن القول ان الإجتهادات التقليدية للفقه غير قابلة للضبط والإنضباط باعتبارها تعود إلى الفهم، والفهم مختلف حوله اصولاً وفروعاً، الأمر الذي يجعلها مفضية للوقوع في الأخطاء الكثيرة، بدلالة ما لدينا من آراء كثيرة للمسألة الفقهية الواحدة. وهو ما أدى إلى تكوين علم خاص اطلق عليه الخلافيات، مما ليس معنوناً في أي علم من العلوم الإسلامية الأخرى. واكثر من هذا قد ضُرب بالفقه المثل على ضعف النتائج التي يولّدها لكثرة الشكوك التي تراود مسائله. ومن ذلك ان الفقيه الفيلسوف ابن رشد لم يجد وصفاً يليق بتسخيفه لنظرية الفيض الفارابية السينوية من حيث أنها مدعاة للظنون والخيالات غير مقارنته إياها بعلم الفقه، كما في قوله: (وبحق صارت العلوم الإلهية لما حُشيت بهذه الأقاويل أكثر ظنية من صناعة الفقه)[20] .
فأين هي اسعافات الضوابط الفقهية، وكيف يمكن تجنب الكم الهائل للاخطاء التي يدل عليها كثرة الخلاف الفقهي؟! فهي من الناحية المنطقية إما ان تكون كلها خاطئة بلا استثناء، أو ان الصحيح منها لا يتجاوز الرأي الواحد للمسألة، وفي كلا الحالين نعلم اننا أبعد ما يكون عن بلوغ الحد الذي يُعتمد عليه في علاج المشاكل الفقهية وحلها. فهل يعقل ان تكون أخطاء الوجدان العقلي أكثر من ذلك؟!
وكذا يجوز ان يقال بأن تلك الإجتهادات تبعث على الأهواء لما تحمله من مرونة يصعب ضبطها، الأمر الذي تشهد عليه فتاوى ما يسمون (وعاظ السلاطين)، وهم الذين لا يخلو منهم عصر ولا زمان. فهم يستخدمون نفس الأساليب الاستدلالية المعول عليها، فيصبح من الصعب كشف ما في ذاتهم من الدوافع الدخيلة، سيما ونحن نعلم بأن الإنسان، مهما بلغ من التجرد، فإنه يبقى عاجزاً عن ايجاد رصيف آخر خارج الطوق الذي تفرضه عليه ثقافة البيئة وروح العصر، مما يؤثر على تحديد آرائه ونتاجه الإجتهادي.
وكذا يمكن أن يقال بأن تلك الإجتهادات تتنافى مع مقولة بيان الشريعة أو تمامها وكمالها. إذ مع هذا البيان والكمال ليس ثمة حاجة للإجتهاد الذي هو منبع الاختلاف وموطن الأخطاء وموضع زلات الاقدام، وكل ذلك لا يتفق مع ما عليه الشريعة من الكمال والبيان.
كذلك فإن وجود عدد من الأحاديث الناهية عن الممارسة العقلية يمكن ان يعم بحسب اطلاقها، وبحسب غيرها من الأحاديث، جميع صور الإجتهاد الأخرى. فلسان هذه الأحاديث واضح في الحث على تجنب الوقوع في الأخطاء الناتجة عن الظنون الإجتهادية لإدراك الأحكام، وهو أمر ينطبق على جميع صور الإجتهاد التي يمارسها الفقهاء على مر العصور[21]. وإن كنا في القبال نجد أحاديث أخرى معارضة تشيد بالعقل ومكانته، وتحث على ممارسته في إدراك القضايا المعروضة. الأمر الذي يؤيد صدق الدعوة بالإحتكام إلى العقل في القضايا التي يمكنه إدراكها إدراكاً عقلائياً معتبراً، بعيداً عن الهوى والمصالح الشخصية.
الحل والمبنى
أما من حيث الحل والمبنى فيمكن القول بأن حجية الوجدان العقلي هي حجية ذاتية تستغني عن جعل الشارع، واي مساس بها يُعد في حد ذاته مساساً بالشرع، إذ لا يتقوم الشرع إثباتاً الا بهذه الحجية أو هذا الوجدان. كما يمكن القول بأن توكيد هذه الحجية ينبع من الشرع، لا من حيث التصريح بمكانته وقيمته وكذا الحث على ممارسته كما نجد ذلك في العديد من نصوص القرآن والحديث؛ إنما ايضاً من حيث ما يزودنا به منهج الإستقراء وحساب الإحتمالات من نتيجة مؤكدة مفادها صدق قضاياه بما يجعل العمل به مشروعاً حسب ضوابط لا غنى عنها. واذا اضفنا إلى ذلك ان الوجدان العقلي يستهدي بهدي مقاصد الشرع وتوجيهاته كأحد أبرز الضوابط التي يناط بها في علاج مزاحمات الواقع وما يفرضه من تشابك في قضايا المصالح والمفاسد؛ علمنا كم هو حجم الضرورة وجسامة المسؤولية الملقاة على عاتق مثل هذه الممارسة الإجتهادية.
على ذلك كيف تجوز المقارنة والموازاة بين الحكمين الوجداني والإجتهادي التقليدي، فيوضع الحكم الأول جنب الثاني، أو يُدرجان بحسب الترتيب، مع ان الحكم الأخير غالباً ما لا يرقى إلى نوع معتد به من الظنون العقلائية النوعية؟! والأنكى من ذلك كيف يرجح العمل بمثل هذه الطريقة وتقديمها على الحكم الوجداني للعقل؟ كما كيف يصح اتهام هذا الوجدان بالهوى والتضارب مع أنه يقبل الضبط العقلائي والمشاركة النوعية؟! في حين ان طريقة الإجتهاد التقليدية بضوابطها المعروفة لا تثمر في الكثير من قراراتها الا نتائج ضعيفة. بل ان الوسيلة التي تتبعها قائمة على مقدمات ضعيفة، فكيف يوثق بالنتائج التي تفرزها وتحسبها نتاجاً شرعياً خالصاً؟! إذ تتقوم ممارستها - في أحسن الأحوال - بجمع من المقدمات الظنية، وحيث ان صدق النتيجة متوقف على صحة هذه المقدمات جميعاً، لذلك فإنه بحسب منطق الإحتمالات لا بد من ضرب إحتمالات صدق تلك المقدمات ببعضها كي تكون النتيجة صحيحة صادقة، وبضرب الإحتمالات تضعف القيمة الإحتمالية، فتندرج النتيجة تحت مراتب الأحكام الضعيفة لا الظنية، لذلك كيف يمكن قبول مثل هذه الأحكام الضعيفة، في الوقت الذي يتم فيه تفويت فرصة العمل بالوجدان العقلي للمسائل التي تقبل الإدراك وتحديد النتائج؟!
وكما ذكرنا فإن حجم ما نراه من الاختلاف بين الفقهاء حول القضية الفقهية الواحدة؛ يضعّف من مصداقية طريقة الإجتهاد التقليدية، حيث ان الآراء المختلفة إما ان تكون كلها خاطئة، أو باستثناء واحدة منها صحيحة. لكن شتان بين هذه الطريقة وبين ممارسة الوجدان العقلي. فأحكام هذه الممارسة إن لم تكن قطعية فإنها متاخمة للعلم، أو على الأقل يكون الظن فيها قوياً لا يقارن بما عليه الصور التي تعكسها مرآة طريقة الإجتهاد التقليدية، سيما حينما تستهدي بهدي الشورى وتوظف لعملها دراسة الواقع وما تقتضيه من معرفة العلوم الإنسانية الكفيلة بالبحث الميداني.
إذاً نحن بصدد بيان كيف أن الإستقراء الشرعي يثبت صحة التعويل على الوجدان العقلي. ومن ثم بيان أن المقاصد هي المرشدة لهذا السلوك، الأمر الذي يعطي نتائج مخالفة لما عليه الطريقة التقليدية.
مع منهج الإستقراء
ليس هناك طريقة أهم من منهج الإستقراء في الكشف عن الحقائق وفهم القضايا، والتي منها قضايا الدين والإسلام المعرفي. ويعد الشاطبي من القلة الذين عزوا للإستقراء دوراً هاماً في الكشف عن الموارد الكلية للشريعة، وسعى لأن يجعل منها منبعاً للقطع واليقين. لهذا كان من المفيد ان نوظف هذه الطريقة للبحث عن مدى التوافق بين الأحكام العقلية والأحكام الدينية، وذلك في المسائل التي يمكن للعقل إدراكها، كما في قضايا الحسن والقبح وقضايا المصالح والمضار وما على شاكلتها.
وسبق ان طرقنا هذا الباب الجديد، وبيّنا أن التوافق في الأحكام بين التشريعين العقلي والديني يكاد يكون تاماً، وطبقاً لمنطق الإحتمالات يُستبعد أن يكون هذا التوافق صدفة واعتباطاً، وبالتالي كان لا بد من رد احد التشريعين للآخر، أو أن الشيء لا يُفسر الا طبقاً لمحور مشترك بحيث لا يمكن عزل أحدهما عن الآخر، الأمر الذي يفسره كون الأحكام الدينية عبارة عن امضاءات للأحكام العقلية، فالشرع لم يأت بهذه الأحكام على نحو التأسيس، بل على نحو الإمضاء والتبعية. والأهم من ذلك ان إحتمالية صحة الحكم العقلي أو الوجداني في قضية جديدة لم يطرقها الشرع، أو لم نستكشفها نحن منه، تساوي تبعاً للحساب الإحتمالي قدر ما يكسبه العقل من قيمة معرفية في موافقته للقضايا الدينية[22].
هكذا تتأيد بالإستقراء قاعدة الإمامية القائلة: (كل ما يحسن فعله عقلاً يحسن فعله شرعاً)[23]. وصدق من قال بأن الشرع سيد العقلاء. فكيف يجوز - اذاً - عزل العقل عن ممارسته الوجدانية في استكشاف الأحكام اذا ما كان الشرع سيداً فيها؟!
بعد هذا التقديم يمكن الرد على مختلف الشبهات الدائرة حول الممارسة العقلية الوجدانية وبيان بطلانها وزيفها.
العقل وشبهة نسخ الشريعة
نرى ان هذه الشبهة تصدق في حالة واحدة، وهي فيما لو افترضنا ان العقل يحيد النظر عن مقاصد الشرع. أما مع أخذ هذه المقاصد بعين الاعتبار فالامر يختلف، رغم ان هذا الأخذ قد يفضي إلى تغيير الأحكام الجزئية، وذلك عندما تتغير الظروف وتصبح هذه الأحكام معارضة لما عليه المقاصد. إذ لا يعقل الجمود على هذه الأحكام لأنه يعني خرقاً للمقاصد ومن ثم هدماً للدين الذي جاء من أجلها.
فعلى هذا المبنى لا تصدق مثل تلك الشبهة، حتى مع إفتراض القطع بوجود الحكم الشرعي. أما مع عدم القطع بالحكم فإن الموازنة هي الحاكمة، إذ لا بد من التعويل على العمل بالقضية التي لها درجة إحتمالية اعظم مقارنة بغيرها. وهو المبنى الذي اضطر اليه جماعة من الفقهاء المتأخرين في الساحة الشيعية، إذ أدركوا ضعف القيمة المعرفية لركام الأخبار في كتب الحديث، فعملوا بما اطلقوا عليه (دليل الانسداد) وانقادوا إلى الأخذ بأي ظن كان يقربهم من الحكم الشرعي. وكان الشيخ جعفر الكبير الملقب بكاشف الغطاء (المتوفى سنة 1228هـ) يوصي الفقهاء بعدم الأخذ بخبر الآحاد الا عند الضرورة والاضطرار، وأنه لا بد من الإعتماد على القرآن الكريم والحديث المتواتر والسيرة القطعية[24]. لكن هذه الوصية لم تحقق هدفها، فقد استمر الفقهاء يدورون في فلك الرواية وما يقرب منها من اعتبارات؛ كالاخذ بدليل الشهرة وعمل الاصحاب. وفات هؤلاء الجماعة من أتباع دليل الانسداد تشييد ثورتهم على اعتبارات الوجدان العقلي والنظر إلى الواقع ومقاصد الشرع.
اذاً فإن العمل بالعقل لا يفضي إلى نسخ الشريعة، سيما اذا أحسن توظيفه طبقاً لبعض الضوابط؛ وعلى رأسها النظر إلى كليات الشريعة ومقاصدها، فهي قد ترتقي بالعمل بالحكم العقلي إلى حد العلم أو الإطمئنان. وعلى العكس من ذلك فإن ترك الممارسة العقلية يمكن أن يؤدي إلى نسخ الشريعة، أو حتى تحنيطها ضمن قوالب فارغة تقف على الضد من المقاصد والكليات التي من شأنها الحفاظ على اصالة التشريع وروح الديانة.
العقل وشبهة العجز عن إدراك المصالح
اعجب ممن يدعي ان العقل عاجز عن إدراك المصالح الدنيوية، إذ هل للعقل وظيفة أخرى أهم من إدراك مثل هذه المصالح؟! وهل يعقل ان تكون هذه الهبة الإلهية موضوعة فقط لقراءة الخطاب والبحث عن مصالح الآخرة؟!
لقد سبقت الإشارة إلى أن ما جاء به الشرع حول المصالح الدنيوية لا يفسر الا على نحو الإمضاء والتبعية للوجدان العقلي، كالذي يدل عليه المنهج الإستقرائي. ولا شك ان الفائدة من ذكر الشرع لها ليس لاجل التوكيد والتنبيه والتذكير فحسب، بل الأهم من ذلك ما في الشرع من توعد بالعقاب لغرض الردع عن الانحراف، ذلك لأن النفوس تخاف - في الغالب - مما يتوعد به الشرع ولا تخاف مما تستهجنه النفوس والعقول، فترتدع بسبب الأول دون الثاني. وبهذا تتبين حكمة الشرع من ذكر المصالح الدنيوية رغم ان العقل قادر على إدراكها. الأمر الذي يحل الاشكال الذي طرحه الشاطبي في وجه العقل، وهو أنه لو كان قادراً على إدراك المصالح لما كانت هناك فائدة من ذكر الشرع لها.
فقد امضى الشرع جملة من المصالح كانت معهودة في الجاهلية باعتبارها محمودة تتقبلها العقول، وكان منها: الدية والقسامة والقراض وكسوة الكعبة والاجتماع يوم العروبة - الجمعة - للوعظ والتذكير... الخ[25]. كما نهى عن جملة أخرى من العادات والأعراف المنحرفة آنذاك؛ يشهد عليها الوجدان بالقبح والفساد، كتحريمه للغزو الداخلي واستباحة الأموال والأعراض والربا واسترقاق المدين والنهي عن الغرر في التعاقدات، كالنهي عن البيع بالمنابذة والملامسة والقاء الحجر وبيع الملاقيح والمضامين وبيع ضربة القانص والغائص وما إلى ذلك[26].
نعم ربما يستثنى من ذلك بعض الأمور التي لا ندرك مغزاها إلى اليوم على وجه القطع واليقين، مثل علة عدم إلغاء الشريعة لنظام الرق، مع أنها تتبنى اصالة تساوي الناس وتحث على تحرير الرقبة وتضيّق من منابعها، بل ويظهر أحياناً من بعض النصوص أنها تستهجن حالة ذلك النظام. وقد ورد عن الإمام علي (ع) قوله: (لا تكن عبداً لغيرك وقد خلقك الله حراً)، وقوله ايضاً: (ايها الناس ان ادم لم يلد عبداً ولا امة وان الناس كلهم احرار). وعن عمر بن الخطاب قوله: (متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم امهاتهم احراراً).
مع ذلك يمكن حل هذا المشكل عبر مقاصد الشرع التي تعالج - أحياناً – تناقضات ما تفرضه الظروف والأحوال المختلفة. فمثلاً فيما يتعلق بموقف الشرع من المشركين نرى نصوصاً تدعو إلى المسالمة معهم ما لم يبادروا إلى الاعتداء، وفي القبال نجد نصوصاً أخرى تحث على قتالهم وإن لم يقاتلوا. واذا كان الظاهر من هذه النصوص هو التعارض والتناقض فإن واقع الأمر يثبت العكس مع أخذ اعتبار المقاصد الشرعية. فالامر بقتل المشركين والنهي عن قتلهم لا يمكن ان يكون معلولاً للشرك ذاته كموضوع، وذلك لحصول التناقض بين الأمر والنهي على الموضوع الواحد. أما لو حملنا الأصل على المسالمة كما هو واضح من النصوص الغزيرة، واعتبرنا في الوقت ذاته ان قتال المشركين جاء لبعض الطوارئ الخاصة؛ لأصبح الأمر مفهوماً. وبالفعل يمكننا تفهم علة قتال هؤلاء بما ورد في ذيل الآيات التي حثت على ذلك، والتي منها تبيان ما في قلوبهم من الخيانة والعداوة[27]. الأمر الذي يكشف عن ان القصد في القتال إنما جاء للوقاية وحفظ سلامة المجتمع الإسلامي، سيما وقد كان فتياً.
وكذا يمكن أن يقال بصدد ما نجده من تضارب في الموقف من حرية الإنسان كما سبق توضيحه. لكن بلحاظ المقاصد والأصل العقلي يرتفع هذا التضارب. إذ الأصل المؤكد هو ان الناس احرار لانهم يصدرون عن نفس واحدة ويتساوون في الخلقة. أما علة إبقاء التمايز أو اقرار نظام الرق فمازالت غائبة عن الانظار[28]، ولا يقنع ما ذهبت اليه بعض التصورات الحديثة من ان المجتمع انذاك كان بأمس الحاجة للرق لاعتبارات العمل الاقتصادي المعني بتحقيقه، ولولاه ما استطاع ان تقوم للمجتمع قائمة[29]. وهو تصور ينطوي على مبالغة كبيرة، سيما ان الإسلام صنع في اوساط اهله ومريديه ارادة أمكنها ان تحقق الكثير من المعجزات بالعمل والجهاد والتضحية والايثار. ولعل من النماذج التي تشهد على عظمة الإسلام هو أنه جعل المؤمنين من أشد الناس امتناعاً عن الشيء الذي طالما سرى في عروقهم وخالط دماءهم، أي الخمرة التي كانت أقرب الأشياء إلى نفوسهم فأصبحت بعد الايمان من أبعدها وأكرهها.
على ان جهلنا لعلة عدم إلغاء نظام الرق لا يضر بسلامة التصور المنطقي من الناحيتين الوجدانية العقلية والشرعية كما سنبين أدناه:
طبقاً لمنطق الإستقراء وحساب الإحتمالات يمكن تفسير القضية الجزئية الشاذة بردها إلى الكلي المشترك مع إفتراض وجود بعض الأسباب التي ادت إلى ذلك الانحراف في تلك القضية عن الكلي. والطريقة التي نعول عليها هنا هي ذات طريقة المنهج العلمي المتبع في إثبات الظواهر الطبيعية وتفسيرها، فنحن إزاء عدد من الفرضيات كالتالي:
الفرضية الاولى: هناك خطأ في تعيين الكلي المفترض، بدلالة عدم انطباقه على الجزئي الشاذ. وما تعنيه مسألتنا حسب هذه الفرضية هو اننا اخطأنا اعتبار الشرع يطابق العقل ويلازم قراره، بدلالة قضيتنا الجزئية الشاذة، وهي ان ما اقره العقل من قبح نظام الرق لم يحكم به الشرع. إذاً بحسب هذه الفرضية أنه لا ملازمة بين العقل والشرع، فلكل طريقه ونتائجه المختلفة عن الآخر.
الفرضية الثانية: ان الخطأ متحقق في الجزئي الشاذ (عدم إلغاء الرق) لكون الكلي لا ينطبق عليه.
الفرضية الثالثة: انهما صحيحان معاً، لكن ما جعل الجزئي ينحرف عن الكلي هو لوجود أسباب خاصة غير معلومة دعته إلى ذلك. فلولا هذه الأسباب لخضع تحت طوق الكلي كبقية القضايا.
ولا يخفى ان الإفتراض الأول غير سليم باعتبار ان الكلي يحظى بقوة إحتمالية كبيرة بحسب الإستقراء، فلا يمكن التضحية به لمجرد وجود بعض الشذوذ. فمن الصعب قبول كون الشواهد المؤيدة للكلي دون غيره جاءت صدفة بلا ضابط يمحورها. كذلك لا يؤخذ بالإفتراض الثاني لعلمنا يقيناً ان ما ورد من شذوذ حول الجزئي هو صحيح. لذا ليس لنا من سبيل الا الأخذ بالإفتراض الثالث، وهو إفتراض وجود أسباب خاصة منعت انخراط الجزئي تحت حكم الكلي، سواء كنّا على علم بهذه الأسباب أم لم نكن.
وسبق للشاطبي أن أكد بأنه لا اعتبار بمعارضة الجزئيات في صحة الكليات الثابتة بالإستقراء، لأن الجزئيات الشاذة لا ينتظم منها كلي ليعارض الكلي الثابت. واذا كان التعارض بين الجزئي والكلي هو تعارض من بعض الوجوه فإنه يمكن الجمع بينهما[30]. أما لو كان التعارض من جميع الوجوه والجهات بحيث لا يمكن الجمع بينهما فإنه لا بد من الحفاظ على الكلي الثابت بالإستقراء مع اعتبار ما يخالفه من النصوص الشاذة بأنها من المتشابهات التي يجب الوقوف عندها وإيكال علمها إلى الله[31]، إذ أن الأخذ بالجزئي سوف يفضي لا محالة إلى هدم الشريعة بكلياتها. وهو أمر منكر ومرفوض[32].
ومن الناحية المنطقية يمكن ارجاع هذه النتيجة إلى طريقة (جون ستيوارت مل) المسماة (طريقة العوامل المتبقية). إذ قدّم (مل) هذه الطريقة الجديدة ليضيفها إلى عدد من الطرق المنهجية في الكشف العلمي[33]. ويقصد بها أنه اذا كانت هناك ظاهرة مؤلفة من عدة أجزاء أمكن تفسير بعض منها وفقاً لعوامل محددة ضمن مبدأ عام وشامل؛ فإنه يمكن تفسير ما تبقى من الأجزاء الأخرى طبقاً لذلك المبدأ المفترض.
وبهذه الطريقة أمكن التنبؤ واكتشاف عدد من الظواهر الكونية. ومن ذلك ما تمّ اكتشافه من كوكب جديد اعتماداً على نظرية الجاذبية. إذ رغم تمكن هذه النظرية من تفسير الكثير من الظواهر الكونية، الا أنها واجهت شذوذاً لم يخضع لتفسيرها، وهو انحراف مدار كوكب (يورانوس)، الأمر الذي احتاج إلى نوع من التفسير بحيث لا يتعارض مع مبدأ الجاذبية المتبنى. لهذا افترض وجود كوكب آخر مجهول هو الذي يسبب حالة انحراف ذلك المدار. وفعلاً ان احد علماء الفلك استطاع ان يكتشف هذا الكوكب ويحدد مكانه، وهو ما اطلق عليه كوكب (نبتون). بل وتم اكتشاف كوكب آخر تبعاً لما لوحظ من وجود انحراف في مدار الكوكب المكتشف الأخير، فأُطلق عليه (بلوتو)[34].
كما استخدمت هذه الطريقة في الكشف عن غاز (الارجون)، إذ لوحظ ان غاز (الازوت) الموجود في الهواء يختلف في خواصه ومن ثم في تركيبه الكيميائي عن غاز الازوت النقي، فافترض ان هناك غازاً مجهولاً يختلط به فيسبب ذلك الفارق. وفعلاً تم اكتشاف هذا الغاز الذي اطلق عليه الارجون.
وبهذه الطريقة ايضاً استطاعت (مدام كوري) أن تكتشف (الراديوم)، إذ لاحظت ان بعض المعادن تحتوي على طاقة اشعاعية أكثر منها في المعادن الأخرى، فبحثت عن الظاهرة الخفية من خلال إفتراض وجود عنصر مجهول، حتى تم لها اكتشافه[35].
العقل وشبهة الأخطاء والاهواء
لا ينكر ان للوجدان العقلي أخطاءه، فهو غير معصوم عن الأوهام والنتائج الخاطئة. لكن الميزة التي يمتاز بها هذا الوجدان عند الخطأ هو أنه يجد في الغالب طريقه نحو الصواب؛ عبر الخبرة مع الواقع وما يترتب عليها من حقائق. فهو يعتمد على الواقع في تأسيسه للأحكام والتقديرات، سواء بالخبرة والحس، أو بالإختبار والمماحكة، أو من خلال أُفق التوقع والإنتظار، أو ما يكشف عنه الزمن. ومسيرة البشرية من أوّلها إلى آخرها قائمة على سلاسل متنوعة من محاولات الخطأ والصواب. وهي بهذه الحركة تزداد خبرة ويزداد تقدمها تبعاً لذلك. الأمر الذي يختلف عن سائر الإدراكات غير المتكئة على الواقع، ومنها الممارسات الإجتهادية التقليدية التي يصعب عليها إدراك الأخطاء واختبار الآراء بوسائلها المعروفة. فالنص الذي تلجأ اليه في بناء أحكامها مركب من حروف ساكتة وساكنة، ليس فيها نطق ولا حركة، خلافاً لما عليه الواقع، حيث يتسم بمثل هذا النطق وتلك الحركة، مما يؤهله لأن يكون مصدراً أساساً للبناء والتصحيح. لذلك فإن مراجعة الواقع بين مدة واخرى تساعد على تنمية معارفنا وتكشف عن أخطائنا وتغير من تقديراتنا، بينما قراءة النص قراءة فاحصة لمرة لا تستدعي قراءته مرة أخرى ليكون كاشفاً عما هو جديد في البناء والتصحيح، فهو هو، لم يتجدد منه شيء وليس فيه تغير يبعث على المقارنة والمساءلة والاختبار والاحتكام. وسنزيد ايضاح هذه المسألة فيما بعد.
على هذا فالأخطاء المترتبة على الممارسة التقليدية للإجتهاد تكاد تكون ثابتة لا تقبل التصحيح، إذ نجد ركاماً من الآراء الفقهية المتضاربة على مدى تاريخ الفقه الإسلامي. فهي على تضاربها ظلت كما هي لم يبدُ عليها علائم التغيير الا عند اقتضاء الحاجة الزمنية وضغوطها الفاعلة. وحتى هنا نعود مرة أخرى إلى معيار الواقع الذي يحتكم اليه الوجدان العقلي، مما يجعله اقل خطأ واكثر تصحيحاً. يضاف إلى ان بالامكان ضبط أحكامه بعيداً عن الهوى والمصالح الشخصية، وذلك فيما لو تقيد بمقاصد الشرع واستند إلى نظام الشورى والإجتهاد الجماعي.
العقل وشبهة نقص الشريعة
اذا كنا قد علمنا أن أحكام الشريعة تطابق قرارات الوجدان العقلي، وعرفنا ان للاولى طبيعة امضائية مقارنة بالوجدان، فإن ما يناط بهذا الأخير من وظيفة الكشف عن الأحكام لا يستلزم منه نقصان الشريعة، بل كمالها، وذلك لما تحمله من الطابع الامضائي والمطابقة، ولما تحث عليه ـ تبعاً لهذا ـ من حق الممارسة الوجدانية. وسبق ان لاح لمحمد اقبال إدراك مغزى بعثة النبي محمد (ص) وخاتميتها للرسالات السماوية، إذ حدد وظيفتها بربطها بين العالمين القديم والحديث، فمن حيث الدعوة إلى الرسالة كمصدر معرفي يكون النبي (ص) منتمياً إلى العالم القديم، لكنه ايضاً ينتمي إلى العالم الحديث، بحثّه على ايقاظ روح العقل والتجربة والواقع، معتبراً ان دين الإسلام يعترف بما للعقل من قدرة لأن يشكل مصدراً صادقاً للكشف عن الحقائق المعرفية، ومن ثم الاقرار بوجود مصادر أخرى للمعرفة بجانب ما امده الوحي. وهو أمر جعل اقبال يعتبر مولد الإسلام مولداً للعقل الاستدلالي، وذلك لما دعا اليه من اعتماد التجربة والنظر لفهم ظواهر الكون واستنطاق الأنفس والآفاق كمصادر هامة للمعرفة[36]، وكذا الاعتبار من أخبار الأولين وغير ذلك مما يشكل اعترافاً بقيمة النشاط العقلي المستند إلى الواقع ونظام الخلقة[37].
العقل وشبهة نهي الحديث عن الممارسة العقلية
أما بخصوص الأخبار الناهية عن الممارسة العقلية؛ فتعارضها أخبار أخرى تحث على هذه الممارسة. ومن ذلك الأحاديث التي تعد العقل حجة باطنة، وشرعاً من الداخل، وأنه مما يعبد به الرحمن ويكتسب به الجنان. وهي أحاديث قيل فيها أنها متواترة[38]. بل من الأخبار ما يوصي بعدم قبول شيء من غير عرضه على الوجدان العقلي المفضي إلى نوع من الطمأنينة، ومن ذلك ما روي عن النبي (ص) قوله: (استفت قلبك وان أفتاك الناس وأفتوك)[39]، أو قوله: (استفت قلبك واستفت نفسك، البر ما اطمأنت اليه النفس واطمأن اليه القلب، والإثم ما حاك في النفس وتردد في الصدر، وإن أفتاك الناس وأفتوك)[40].
مع هذا فحتى لو صحت الأخبار الناهية عن الممارسة العقلية في إدراك الأحكام، فإن من الممكن تخصيصها في المجالات التعبدية التي لا يلوح منها معنى معلوم. أو ان المراد من النهي فيها هو الممارسات العقلية القائمة على الأهواء والمصالح الذاتية، أو تلك التي لا تفيد العلم وتكون على حساب الرجوع المباشر للمعصوم الكاشف عن الحكم يقيناً بلا أي لبس، أو تلك التي لا تكون منضبطة بضوابط تقنية متينة، كإن تكون غير مستنة بسنة التتبع والبحث والاستقصاء للقضية المطروحة في جوانبها المختلفة، سواء ما تعلق بما ورد عنها شرعاً، ومن ذلك إدراك المقاصد العامة والموجهات الكلية، أو بما ارتبط بها من المترتبات الواقعية والمقدرات الوجدانية.
مهما يكن فالملاحظ هو ان مثل هذه الروايات يصح ان تثار ويعول عليها فيما لو كان هناك وضوح كاف بمؤدى الأخبار والنقل، أما مع عدم وجود مثل هذا الوضوح والإطمئنان فالأمر مغاير، ومن ذلك أن الروايات المتعلقة بهذا الجانب ينتابها بعض اللبس، لذلك نجد الخلاف الكبير بين الإخباريين والأصوليين حول علاقة العقل بالإجتهاد والعمل بالرأي ضمن الاعتبارات الظنية والتي تفضي إلى كثرة الاختلاف وبالتالي كثرة الخطأ. فهل يصح - طبقاً لهذا - أن نقول كما يقول الإخباريون: ان عمل المجتهدين ينافي ما جاء في الأخبار الدالة على منع تدخل العقول والآراء والإعتماد على القواعد والنظريات المفضية إلى المزيد من صور الاختلاف[41] ؟!
مبادئ وضوابط
أخيراً فإن المبادئ والضوابط التي تتحكم ببناء الأحكام كما ندعو لها هي كما يلي:
1 ـ ممارسة الوجدان العقلي في القضايا التي يمكنه إدراكها، كالقرارات التي تتخذ في المعاملات الحضارية.
2 ـ دراسة الواقع وفحصه عن كثب اعتماداً على اصول المنهج العلمي، سيما فيما يتعلق بالدراسات الإنسانية وكل ما له علاقة بعلاج الواقع وتقرير الاحكام.
3 ـ التعرف على ثبات وتغير كل من حاجات الواقع والأحكام الشرعية، ومحاولة الفرز بين الحاجات التي لها القابلية على الثبات وتلك التي لها القابلية على التغير، وكذا بالنسبة للأحكام التي تتأثر بتلك الحاجات ثباتاً وتغيراً والتي ينبغي ان تتأسس على ضوئها.
4 ـ النظر إلى مقاصد الشرع والهدي بهديها من غير زيغ ولا انحراف.
5ـ العمل لتأسيس الأحكام طبقاً لضوابط محددة من العلمية الفقهية والخبرة الواقعية والإختصاص وحسن السليقة والإعتدال مع التدين والتقوى، وأن لا يكون ذلك بمعزل عن الشورى، حيث أنها صمام الامان من الهوى الشخصي، وبها يتحقق أكبر قدر ممكن من العلمية كما هو واضح. وما اعظم ما قاله سفيان بن عيينة من السلف: (إجتهاد الرأي هو مشاورة أهل العلم لا أن يقول هو برأيه)[42].
[1] انظر النصوص السلفية التي تهاجم الرأي في كل من: ابن حزم: الإحكام في أُصول الأحكام، مطبعة السعادة، مصر، الطبعة الأُولى، 1345هـ، ج6، ص49-59. واعلام الموقعين، ج1، ص73-75 . والاعتصام، ج3، ص241-249 .
[2] يلاحظ بهذا الخصوص: مدخل إلى فهم الإسلام، الفصل السابع.
[3] الرسالة، ص503.
[4] الرسالة، ص25.
[5] الام، ج7، ص313-320.
[6] تاريخ المذاهب الإسلامية، ص545.
[7] انظر رسالته المعنونة: ملخص إبطال القياس والرأي والإستحسان والتقليد والتعليل، تحقيق سعيد الأفغاني، مطبعة جامعة دمشق، 1379هـ ـ1960م. والإحكام في أُصول الأحكام، ج8، ص2ـ3. والمحلى، تصحيح محمد خليل هراس، مطبعة الإمام في القلعة بمصر، ج1، ص52 .
[8] الإحكام في أصول الأحكام، ج4، ص395.
[9] عبد الوهاب خلاف: مصادر التشريع الإسلامي في ما لا نص فيه، ص94-96.
[10] الموافقات، ج2، ص48 .
[11] الاعتصام، ج2، ص347 وما بعدها.
[12] الموافقات، ج2، ص309 .
[13] ابو جعفر الطوسي: عدة الأصول، تحقيق محمد مهدي نجف، مؤسسة آل البيت، الطبعة الاولى، 1403هـ ـ1983م، ج1، ص355. ايضاً: فرائد الاصول، ج1، ص187.
[14] فرائد الاصول، ج1، ص20-21.
[15] المقصود بها الأخبار الواردة عن أئمة أهل البيت التي تفيد أخذ الأحكام منهم، كقولهم: (حرام عليكم ان تقولوا بشيء ما لم تسمعوه منا).. (من دان الله بغير سماع من صادق فهو كذا وكذا).. الخ.
[16] فرائد الاصول، ج1، ص19-20.
[17] محمد باقر الصدر: الفتاوى الواضحة، دار التعارف، الطبعة السابعة، 1401هـ ـ 1981م، ج1، المقدمة، ص98 . كذلك: محمود الهاشمي: بحوث في علم الأصول، تقريراً لأبحاث السيد محمد باقر الصدر، المعجم العلمي للامام الصدر، الطبعة الأولى، 1405هـ، ج4، ص126ـ127.
[18] محمد تقي الحكيم: الأصول العامة للفقه المقارن، طبعة دار الاندلس، بيروت، الطبعة الاولى، 1963م، ص388.
[19] مصادر التشريع في ما لا نص فيه، ص103.
[20] ابن رشد: تهافت التهافت، المطبعة الكاثوليكية، بيروت، ص201.
[21] انظر بهذا الصدد كتابنا الإجتهاد والتقليد والاتباع والنظر، طبعة دار أفريقيا الشرق، الطبعة الثالثة، 2009م، الفصل الثاني منه على وجه الخصوص.
[22] منطق الإحتمال ومبدأ التكليف في التفكير الكلامي ، العدد المزدوج، 9ـ10، ص14ـ33. كذلك: الفصل الأول من: العقل والبيان والاشكاليات الدينية.
[23] اصول الفقه، ج2، ص209 .
[24] عن: محمد جواد مغنية: مع كتاب محاضرات في اصول الفقه الجعفري للشيخ ابي زهرة، مصدر سابق، ص48.
[25] الموافقات، ج2، ص307.
[26] الشاه ولي الله دهلوي: المسْوى شرح الموطأ، دار الكتب العلمية، بيروت، الطبعة الاولى، 1403هـ ـ1983م، ج2، ص29-30 . ومجموع فتاوى ابن تيمية، مكتبة النهضة الحديثة، مكة، 1404هـ، ج29، ص23 وما بعدها. ومصطفى الزرقاء: الفقه الإسلامي في ثوبه الجديد، دار الفكر، الطبعة السابعة، ج2، ص881-882.
[27] تمعن بهذا الصدد في الآية الثامنة من سورة التوبة حيث تصف المشركين وتقول: ((كيف وإن يظهروا عليكم لا يرقبوا فيكم إلاً ولا ذمة يرضونكم بأفواههم وتأبى قلوبهم وأكثرهم فاسقون)).
[28] لا شك ان الاعتراف بتمايز الناس إلى أحرار وعبيد قد حدا بالكثير من الفقهاء إلى جعل العبد في مرتبة الحيوان. فقد اعتاد الفقهاء أن يضمنوا كتبهم الفقهية مسألة بيع العبيد ضمن باب عنونوه (بيع الحيوان). انظر على سبيل المثال المصادر التالية: الطوسي: النهاية، ص408. والمحقق الحلي: شرائع الإسلام، مطبعة الاداب، النجف، الطبعة الاولى، 1389هـ ـ 1969م، ج2، ص55ـ61. وجواهر الكلام، ج24، ص136 وما بعدها. والهيثمي: مجمع الزوائد، موقع نداء الايمان الالكتروني، ج4. والأم، ج3، ص18.
[29] قد يقال ان عدم رفض الإسلام لظاهرة الرق يعود إلى احد هذين السببين أو كلاهما: الأول هو ان الظاهرة مرتبطة بما كان عليه نظام الحياة الاجتماعية من كثرة العيال وتعدد الزوجات ومن ثم سعة الانجاب وتكاثر الاولاد، مما يشكّل عبئاً ثقيلاً على أرباب الأُسر، لصعوبة تسديد الكفاية المعيشية والادارة الاجتماعية، فكان لا بد من الاعانة المجانية من الخدمة والعمل المنتج الذي يقدمه الرقيق. أما السبب الآخر فهو ان الاسترقاق في الأصل عبارة عن ضريبة يدفعها المحارب جراء حربه بدل قتله في عصر لم يتهيء له الوصول إلى عرف يتفق عليه المتحاربون أفضل مما كان عليه الحال.
[30] الموافقات، ج3، ص9-10.
[31] دافع الشاطبي عن الأصول المطردة العامة، واعتبر ما يخالفها في ظواهر النصوص من المتشابهات الموكول علمها لله، ذلك لأن الأصول علمت بالإستقراء على نحو قطعي بخلاف المخالف الخاص الذي دليله ظني فلا يعارض ما هو قطعي. يقول الشاطبي: (ان الشريعة اذا كان فيها اصل مطرد في اكثرها مقرر واضح في معظمها ثم جاء بعض المواضع فيها مما يقتضي ظاهره مخالفة ما اطرد فذلك من المعدود في المتشابهات التي يتقى اتباعها، لأن اتباعها مفضٍ إلى ظهور معارضة بينها وبين الأصول المقررة والقواعد المطردة، فاذا اعتمد على الأصول وارجئ أمر النوادر، ووكلت إلى عالمها أو ردت إلى اصولها، فلا ضرر على المكلف المجتهد ولا تعارض في حقه) (الموافقات، ج4، ص176 و230).
[32] الموافقات، ج4، ص174.
[33] توفيق الطويل: جون ستيوارت مل، دار المعارف، مصر، ص145ـ148 . ومحمود قاسم: المنطق الحديث ومناهج البحث، دار المعارف، مصر، الطبعة السادسة، 1970م، ص226.
[34] انظر: Hemple, carl G., Philosophy of Natural Science, current printing 1987, USA, p. 72.
[35] المنطق الحديث ومناهج البحث، ص228ـ229.
[36] كما جاء في قوله تعالى: ((سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم)) فصلت/53.
[37] محمد اقبال: تجديد التفكير الديني في الإسلام، ترجمة عباس محمود، لجنة التأليف والترجمة في القاهرة، الطبعة الثانية، 1968م، ص144ـ145.
[38] فرائد الاصول، ج1، ص19.
[39] أعلام الموقعين، ج4، ص254.
[40] الاعتصام، ج2، ص342-343 . ورد ما يماثل هذا الحديث في المصادر الشيعية عن الإمام الرضا عن أبيه موسى بن جعفر عن النبي (ص) قوله: (.. البِرّ ما إطمأنت إليه النفس، والبِرّ ما إطمأن به الصدر، والإثم ما تردد في الصدر وجال في القلب وإن أفتاك الناس وأفتوك) (الوسائل، ج18، أبواب صفات القاضي، باب11، حديث34، ص121.
[41] احتج الشيخ نعمة الله الجزائري، وهو من الإخباريين، على الأصوليين، مصوراً الخلاف بين الطرفين إنما ينحصر بين من يعمل بأقوال المعصوم ويرى الاحتياط لازماً عندما لا يجد قولاً للمعصوم، وبين من يعمل بالرأي والإجتهاد ويطرح الكثير من الأحاديث المروية عنه بأعذار شتى. فالشيخ الجزائري يصور الخلاف على هذا النحو ليعقد محكمة جزائية في الآخرة، ويتسائل هل يُعقل ان يوضع الإخباري وهو على ذلك النحو في النار، في حين يوضع الأصولي الذي لا يبالي بأقوال المعصوم بالجنة (عن: مرتضى مطهري: الإجتهاد في الإسلام، دار التعارف ـ دار الرسول الاكرم، ص17 )؟!.
[42] أعلام الموقعين، ج1، ص73.