يحيى محمد
إذا كان الجهاز الفلسفي يرتكز على العقل والاستدلال كأساس للتنظير، فإن الجهاز العرفاني المحض يستند إلى القلب كمصدر للكشف والمشاهدة التلقائية من غير نظر ولا استدلال. فهو يستفيض الحقائق ويستلهمها بنفسها عبر حدس يُطلق عليه الحدس الصوفي. وبذلك يكون القلب أداة معرفة لدى العرفان في قبال العقل لدى الفلسفة، كما ويكون الكشف والمشاهدة أداة تلقّ واستلهام في قبال البرهنة والتفكير. ومع ذلك فهناك عامل مشترك بين الطريقتين كما يتمثل بدينامو التوليد والإنتاج المعرفي. فسواء كان الإنتاج قائماً على أداة العقل والاستدلال، أو القلب والكشف، فإن الأصل المولّد الذي يمارس عملية الإنتاج يبقى نفسه في الحالتين، وهو السنخية، رغم أنه في الطريقة العقلية يتبع نهج العلاقات السببية بحفظ المراتب المحددة من العلة والمعلول، إلا أنه في الطريقة العرفانية يتجاوز هذا المعنى الإثنيني ليعبّر عن علاقات تدور ضمن الوحدة الشخصية العضوية، وهي علاقات وإن اتصفت بنوع من الضرورة والحتمية، إلا أنها في جميع الأحوال لا تحتفظ بمراتب العلة والمعلول، كسالبة بإنتفاء الموضوع كما يقول المنطقيون. وهنا ظهر الخلاف بين بعض الفلاسفة وبين العرفاء في ما يخص صنعة الكيمياء. فعلى خلاف طريقة جابر بن حيان وأتباعه من أهل الباطن، رفض إبن رشد أن يكون نتاج هذه الصنعة يصل نفس الرتبة التي تبلغها الطبيعة كما هي، حفاظاً على المراتب الوجودية وإحالة قلب الأشياء بعضها عن بعض. فكما يقول: «وأما الكيمياء فصناعة مشكوك في وجودها، وإن وجدت فليس يمكن أن يكون المصنوع منها هو المطبوع بعينه، لأن الصناعة قصارها إلى أن تتشبه بالطبيعة ولا تبلغها في الحقيقة»[1].
على أن تقسيمنا الآنف الذكر هو تقسيم منهجي أكثر مما يعبّر عن الواقع التاريخي للفكر الوجودي. فمن جهة غالباً ما يتبع المفكر الوجودي إزدواجاً في طريقة التفكير إستناداً إلى أداتي العقل والقلب، أو البرهنة القياسية والكشف، كما هو ملاحظ بشكل واضح وصريح لدى المتأخرين في الحضارة الإسلامية. أما من جهة ثانية، فهو أن المفكر الوجودي قد يستخدم أداة الكشف كتعبير عن تجاهه العرفاني، في الوقت الذي يحافظ فيه على مراتب العلاقات بين العلة والمعلول، كتعبير عن ميوله الفلسفية ورؤيته المعرفية. كما قد يحصل العكس، وهو أن يكون المفكر الوجودي فيلسوفاً ملتزماً بأداة التفكير العقلية، لكنه مع ذلك لا يلتزم بالحفاظ على مراتب العلة والمعلول في رؤيته المعرفية، كتعبير عن ميوله العرفانية. بل هناك من هو واقع في شَرك من التردد، فهو تارة يتبنى الرؤية الفلسفية الثنائية، وأخرى يتبنى الرؤية العرفانية الوحدوية. يضاف إلى أن هناك إتجاهاً صريحاً يجمع بين الأمرين، سواء على مستوى الأداة، أو الرؤية المعرفية، كما هو الحال مع صدر المتألهين الذي جمع ما بين العقل والكشف، كما وآلف ما بين الرؤية المعرفية الفلسفية القائمة على علاقات السببية، والرؤية المعرفية العرفانية التي تتجاوزها، كطريقة متوسطة للجمع بين ما هو ظاهر وما هو باطن، أو ما هو في طور العقل وما هو أرقى منه.
إن ما يفسّر هذا الإختلاط والتداخل بين الفلسفة والعرفان، والذي يجعل من الفيلسوف عارفاً ومن العارف فيلسوفاً، هو أن كلا المعرفتين تعود إلى وحدة الأصل الفعال. فتارة يتم توجيه هذه الوحدة لحفظ العلاقة بين العلة والمعلول، وثانية يتم توجيهها لتجاوز هذه الثنائية وإعتبارها مجرد ظاهر يخفي ما هو أعمق منها وأحق، تعويلاً على ذات الوحدة من الشبه. فالشبه الذي تستبطنه العلاقة بين العلة والمعلول هو في حد ذاته يعبّر عن الوحدة، إذ لا شبه من غير وحدة أو إتحاد، وهو ما يدفع إلى الإعتقاد بوحدة الوجود الشخصية تجاوزاً لقرار العقل بضرورة التمييز بين ما هو علة وما هو معلول.
لكن إذا ما تجاوزنا هذا الإختلاط والتداخل، ونظرنا إلى الفلسفة والعرفان نظرة تاريخية قائمة على الإستقلال والانفصال، وذلك بطريقة منهجية على صعيد الأداة وبغض النظر عن الأصل الفعال وما ينتجه من رؤية معرفية، فسنرى أن دورتهما التاريخية في الحضارة الإسلامية تختلف عن دورتهما في الحضارة اليونانية ـ الرومانية. فإذا كان العرفان في الدورة اليونانية جاء كرد فعل على الفلسفة التي قيدت نفسها بطريقة العقل منذ طاليس وحتى أرسطو واتباعه، فإن ما حصل في البدايات الأولى للحضارة الإسلامية كان مختلفاً، إذ حضر العرفان كإمتداد لنهايات الدورة اليونانية؛ عبر تبني طريقة العرفان الباطنية وترجيحها على طريقة الفلسفة العقلية، كما هو حال الشيعة الأوائل، وكما يلاحظ بشكل منظّر لدى العارف الكيميائي جابر بن حيان الكوفي، فهو لا يثق بالقدرة الكافية لدى العقل في معرفة الحقيقة وتحصيل اليقين، بل يلجأ إلى طريقة العرفان كمصدر أساس للمعرفة. فهو في موضع الكلام عن علاقة القديم بالمحدث يشير إلى أن هذه المسألة هي من أصعب الأمور عند الفلاسفة إلى درجة أن أكثرهم مات بحسرة التحقيق فيها[2]، لكنه يراها سهلة يسيرة عند أرباب العلم من أهل العرفان الذين يشاهدون الأمر بما «لا يحتاجون فيه إلى إعمال فكر في دليل ولا استعمال لفظ وتمثيل»[3].
ويرى العديد من المفكرين المعاصرين أن بداية طريقة العقل الفلسفية في الحضارة الإسلامية جاءت كرد فعل على العرفان الشيعي. فالمعتقد أن الدعوة بإتجاه التعقيل والاستنجاد بأرسطو التي ظهرت على يد الخليفة العباسي (المأمون) هي ذات دوافع سياسية ضد طريقة العرفان الباطني، مما يجعل مسار الدورة التاريخية للفلسفة والعرفان على خلاف المسار الذي مرّت به في الحضارة اليونانية ـ الرومانية. لكن مهما يكن فإن التطور التاريخي للفكر الوجودي قد كشف بأن الطريقة العرفانية ترى نفسها قائمة - على الدوام - كرد فعل على غلواء العقل ومنهجه الاستدلالي. فالعرفاء كثيراً ما يهمهم الكشف عن قصور العقل وتناقضاته التي تفضي به إلى الطريق المسدود. فهو عندهم ليس مؤهلاً لاستخلاص الحقائق باستثناء بعض المعارف المجملة كمعرفة أن للحوادث محدثاً، وفي ما عدا ذلك يعتبرونه يفضي إلى الشك، وهو ما يبرر تأسيس طريقة العرفان كرد فعل على هذه النهاية الخاسرة.
من هنا نعتبر الشك قنطرة أساسية يمر عبرها السالك ليتخلص من فوضى هيجان بحر العقل إلى سفن نجاة العرفان. وهناك من يعد العرفان مرحلة تأتي بعد إنتهاء مرحلة النظر أو العقل، والتي تسبقها مرحلة الشك، كما هو الحال مع الغزالي الذي يقول: «من لم يشك لم ينظر، ومن لم ينظر لم يبصر، ومن لم يبصر ففي العمى والضلال»[4]. لكن الشك على صنفين، أحدهما يسبق النظر، وهو يحدث لوجود الإختلاف بين المذاهب كما يتحدث عنه المتكلمون، ويزول إما بالتقليد أو بالنظر العقلي ولا يفضي إلى السلوك العرفاني. أما الصنف الآخر فهو يأتي بعد الاغراق في النظر، وهو الذي يفضي إلى ذلك السلوك، كما حدث مع تجربة الغزالي نفسه. فقد ذاق مرارة الشك وسطوته بعد ايغاله في النظر العقلي، ولم يتمكن من الافلات منه إلا بالسلوك العرفاني كما هو معلوم.
[1] تهافت التهافت، ص511.
[2] من بين هؤلاء الفلاسفة ما نُقل عن جالينوس أنه تردد في هذه المسألة من الحدوث والقدم للعالم، وأنه قال في مرضه الذي مات فيه لتلامذته: اكتبوا عني اني ما علمت أن العالم قديم أو حادث (جلال الدين الدواني: رسالة انموذج العالم، ضمن ثلاث رسائل للدواني، تحقيق أحمد تويسركاني، مجمع البحوث الإسلامية، ايران، الطبعة الأولى، 1141هـ، ص482. ورسالة معراج السالكين، ضمن مجموعة رسائل الإمام الغزالي (1)، ص78).
[3] مختار رسائل جابر بن حيان، ص542.
[4] الغزالي: ميزان العمل، تحقيق وتقديم سليمان دنيا، دار المعارف بمصر، الطبعة الأولى، 1964م، ص408 و228.