يحيى محمد
التزم إبن تيمية شعاراً رفعه ضد خصومه العقليين، فكان ينادي بالإيمان بما وصف الله نفسه ورسوله من غير تحريف ولا تعطيل ولا تكييف ولا تمثيل. وتشكّل جميع هذه الحالات من النفي إعتراضاً على الخصوم العقليين الذين مارسوا برأيه التحريف والتعطيل والتكييف والتمثيل، في كل ما يتعلق بصفات الله تعالى. وفي بعض مناظراته سُئل عن مراده بالتحريف والتعطيل؟ فذكر أن المعنى هو «تحريف الكلم عن مواضعه، كما ذمّه الله تعالى في كتابه، وهو إزالة اللفظ عما دلّ عليه من المعنى، مثل تأويل بعض الجهمية لقوله تعالى: ((وكلّم الله موسى تكليماً)) (النساء/164) أي جرّحه بأظافير الحكمة تجريحاً، ومثل تأويلات القرامطة والباطنية وغيرهم..»[1]. وأوضح بأنه عدل عن لفظ التأويل إلى لفظ التحريف، بإعتبار أن التحريف اسم ذمّه القرآن، وكما قال: «إني عدلت عن لفظ التأويل إلى لفظ التحريف، لأن التحريف اسم جاء القرآن بذمه، وأنا تحريت في هذه العقيدة إتّباع الكتاب والسنة، فنفيت ما ذمّه الله من التحريف ولم أذكر فيها لفظ التأويل بنفي ولا إثبات، لأنه لفظ له عدة معان كما بينته في موضعه من القواعد، فإن معنى التأويل في كتاب الله غير معنى لفظ التأويل في إصطلاح المتأخرين من أهل الأصول والفقه، وغير معنى لفظ التأويل في إصطلاح كثير من أهل التفسير والسلف، لأن من المعاني التي قد تسمى تأويلاً ما هو صحيح منقول عن بعض السلف، فلم أنفِ ما تقوم الحجة على صحته، فإذا ما قامت الحجة على صحته، وهو منقول عن السلف، فليس من التحريف»[2].
كما بيّن بأن ما قصده في قوله من غير تكييف ولا تمثيل، هو أنه استخدم لفظة التكييف بإعتبار أن نفيه مأثور عن السلف، كما قال ربيعة ومالك وإبن عُيَيْنة وغيرهم، وهو أن الإستواء معلوم والكيف مجهول والإيمان به واجب والسؤال عنه بدعة، وبالتالي فالمتفق عليه هو أن الكيف عند السلف غير معلوم. وعليه أكّد بأن نفيه للتكييف إنما جاء إتّباعاً لسلف الأمة، فضلاً عن كونه منفياً بالنص، إذ أن تأويل آيات الصفات يدخل فيه حقيقة الموصوف وحقيقة صفاته، وهو من التأويل الذي لا يعلمه إلا الله، حيث يختلف علمنا بمقصود الكلام ومعناه عن علمنا بتأويله، كالذي أشار إليه في عدد من كتبه[3]. أما التمثيل فهو منفي بالنص والإجماع القديم، مضافاً إلى دلالة العقل على نفيه ونفي التكييف، لأن كنه الباري تعالى غير معلوم للبشر. وقد أشار إلى كلام الخطابي الذي نقل أنه مذهب السلف، وهو إجراء آيات الصفات وأحاديثها على ظاهرها مع نفي الكيفية والتشبيه. إذ الكلام في الصفات فرع عن الكلام في الذات يحتذى فيه حذوه، ويتبع فيه مثاله. فإذا كان إثبات الذات إثبات وجود لا إثبات تكييف، فكذا هو الحال في إثبات الصفات.
وفي معرض هذه المناظرة قال له أحد المعترضين: على ذلك يجوز أن يقال عنه تعالى بأنه جسم لا كالأجسام؟ فردّ عليه بالقول: إن الله يوصف بما وصف به نفسه وبما وصف به رسوله، وليس في الكتاب والسنة أن الله جسم حتى يلزم هذا السؤال[4]. وعالج هذه المسألة في محل آخر، فاعتبر أن الشرع صرح بالوجه واليدين وسائر الصفات في كل من القرآن والسنة، وعليها ذهب الكثير من أهل الإسلام إلى الإعتقاد بأن الخالق هو جسم لا كالأجسام، بل وأُتهم على أثر ذلك كل من يثبت الصفات المذكورة كالحنابلة وغيرهم، مع أنه - كما يقول - ليس فيهم من أطلق لفظ الجسم على الله، بل شاء الخصوم أن يقوّلوا غيرهم بخلاف مقالتهم. فهو يعتبر لفظ الجسم والكثير من الألفاظ الأخرى ملتبسة، وهي لم ترد في الشرع، وبالتالي لا يقال فيها نفي ولا إثبات ما لم يعلم مقصد المناظر منها كالذي سبق عرضه[5].
والقاعدة العامة لديه هي أن «القول في الصفات كالقول في الذات، فإن الله ليس كمثله شيء، لا في ذاته ولا في صفاته ولا في أفعاله، فإذا كان له ذات حقيقة لا تماثل الذوات، فالذات متصفة بصفات حقيقة لا تماثل سائر الصفات. فإذا قال السائل: كيف استوى على العرش؟ قيل له كما قال ربيعة ومالك وغيرهما: الإستواء معلوم والكيف مجهول والإيمان به واجب والسؤال عنه بدعة، لأنه سؤال عما لا يعلمه البشر ولا يمكنهم الإجابة عنه. وكذلك إذا قال كيف ينزل ربنا إلى السماء الدنيا؟ قيل له: كيف هو؟ فإذا قال: لا أعلم كيفيته، قيل له: ونحن لا نعلم كيفية نزوله، إذ العلم بكيفية الصفة يستلزم العلم بكيفية الموصوف، وهو فرع له وتابع له، فكيف تطالبني بالعلم بكيفية سمعه وبصره وتكليمه واستوائه ونزوله وانت لا تعلم كيفية ذاته»[6]. وضرب لذلك مثلاً في العلم والقدرة، إذ الكيفية فيهما لدى المخلوق غير ما هي لدى الخالق. وبالتالي إذا جاز إطلاق لفظ القدرة على قدرة الله، ولفظ العلم على علمه تعالى، وكلاهما لا يشابه قدرة الناس وعلمهم، فكذا يمكن إطلاق الإستواء عليه رغم إختلافه عن إستواء الناس، ونفس الشيء مع بقية الصفات؛ مثل اليد والنزول والقدم والوجه وكونه في السماء... الخ، فكل ذلك على وجه يليق بذاته الكريمة. وهذا يدل على نفي التشبيه والتجسيم، معتبراً أن ظواهر النصوص من القرآن والسنة لا تقتضي ذلك، إذ التشابه بالاسم لا يقتضي التشابه في الحقيقة[7].
والموقف السابق من الصفات هو ذاته ما ذهب إليه الكثير من السلف. وسبق للخطيب البغدادي أن صرح بأن الصفات المروية في السنن والصحاح قد سلّم بإثباتها الكثير من السلف وأجروها على ظواهرها ونفوا الكيفية والتشبيه عنها، في حين نفاها قوم، وحقق فيها قوم آخرون من المثبتين فخرجوا بذلك إلى ضرب من التشبيه والتكييف. وأيّد البغدادي ما أطلق عليه سلوك الطريق الوسطى، معتبراً أن الكلام في الصفات فرع الكلام في الذات «فإذا كان معلوم أن إثبات رب العالمين إنما هو إثبات وجود لا إثبات كيفية؛ فكذلك إثبات صفاته إنما هو إثبات وجود لا إثبات تحديد وتكييف، فإذا قلنا لله يد وسمع وبصر فإنما هي صفات أثبتها الله تعالى لنفسه، ولا نقول أن معنى اليد القدرة، ولا أن معنى السمع والبصر العلم، ولا نقول أنها جوارح، ولا نشبهها بالأيدي والأسماع والأبصار التي هي جوارح وأدوات للفعل، ونقول إنما وجب إثباتها لأن التوقيف ورد بها ووجب نفي التشبيه عنها لقوله تعالى: ((ليس كمثله شيء)).. ((ولم يكن له كفواً أحد))»[8].
وتكرر هذا المعنى لدى أحد تلامذة إبن تيمية، وهو الحافظ الذهبي، حينما قال: معلوم عند أهل العلم من الطوائف أن مذهب السلف إمرار آيات الصفات وأحاديثها كما جاءت من غير تأويل ولا تحريف ولا تشبيه ولا تكييف، فإن الكلام في الصفات فرع على الكلام في الذات المقدسة، وقد علم المسلمون أن ذات الباري موجودة حقيقية لا مثل لها، وكذا صفاته تعالى موجودة لا مثل لها[9].
مع أنه ورد في السنة الكثير من الروايات الدالة على التشابه بين الخالق والمخلوق، ومن ذلك ما روي في صحيحي البخاري ومسلم من أن الله خلق آدم على صورته[10]. وورد في بعض الروايات شيء من المقارنة بين عيني الله وعيني المسيح الدجال، فقد روى البخاري عن أحد العبادلة أن النبي قال: إن الله لا يخفى عليكم إن الله ليس بأعور - وأشار بيده إلى عينه - وأن المسيح الدجال أعور العين اليمنى كأن عينه عنبة طافية[11]. بل تشير الروايات إلى أن أغلب الصفات المادية التي يتصف بها البشر هي نفسها واردة في الخالق، فله وجه وعين ويد وكف وقبضة ويمين وساعد وذراع وأصابع وأنامل ورجل وساق وشعر، وأن من صفاته أنه يتكلم بصوت وحرف، وأنه يعجب ويضحك ويستحي ويغار ويهرول، وأنه رؤي فإذا هو شاب جعد قطط، أو أنه في صورة شاب أمرد، وأنه يكشف عن ساق، وأنه يضع قدمه في نار جهنم فتمتلىء ويرد بعضها إلى بعض وتقول قط قط قط، كما أنه يستلقي فيضع إحدى رجليه على الأخرى. والكثير من هذه الروايات هي مما ترويه كتب الصحاح. لذلك كان العلماء من الدائرة العقلية إما يأولون هذه الروايات، أو يكذبونها، إذ جعلوها كسائر الروايات التي تبدو فيها الخرافة ظاهرة.
والنتيجة المستفادة من ذلك هي أننا لو قبلنا أحاديث الصفات المتضمنة للتشبيه والتجسيم بدعوى عدم التكييف والتمثيل والتحريف والتعطيل، فذلك سيضطرنا إلى قبول غيرها من أحاديث الصحاح المتضمنة للخرافة الظاهرة، كالأحاديث المتعلقة بالفأرة والضب والغراب والوزغ وكبد الحوت والذباب[12]. والمنهج البياني يتقبل هذا الأمر على تهافته[13]. وقد كان جماعة من علماء الدائرة العقلية يكذبون الأحاديث التي تبدو الخرافة فيها ظاهرة، كالذي نقله إبن قتيبة عن بعضهم، مثل: «حديث عرق الخيل، وزغب الصدر، ونور الذراعين، وعيادة الملائكة، وقفص الذهب على جمل أورق عشية عرفة، والشاب القطط ودونه فراش الذهب، وكشف الساق يوم القيامة إذ كادوا يباطشونه، وخلق آدم على صورته، ووضع يده بين كتفي حتى وجدت برد أنامله بين ثندوتي، وقلب المؤمن بين إصبعين من أصابع الله تعالى». كما أورد روايات أخرى عدّها مخزية ومثاراً للطعن في الإسلام، وهي شائعة بين أتباع الدائرة البيانية، كرواية أصحاب الحديث: إن عجيزة الحوراء ميل في ميل، وأن من قرأ سورة كذا وكذا ومن فعل كذا وكذا أسكن من الجنة سبعين ألف قصر، في كل قصر سبعون ألف مقصورة، في كل مقصورة سبعون ألف مهاد، على كل مهاد سبعون ألف كذا، وكروايتهم في الفأرة أنها يهودية وأنها لا تشرب ألبان الإبل كما أن اليهود لا تشربها، وفي الغراب أنه فاسق، وفي السنور أنها عطسة الأسد، والخنزير أنه عطسة الفيل، وفي الإربيانة أنها كانت خياطة تسرق الخيوط فمسخت، وأن الضب كان يهودياً عاقاً فمسخ، وأن سهيلاً كان عشاراً - أي ناقة - باليمن، وأن الزهرة كانت بغياً عرجت إلى السماء باسم الله الأكبر فمسخها الله شهاباً، وأن الوزغة كانت تنفخ النار على إبراهيم، وأن العظاية تمج الماء عليه، وأن الغول كانت تأتي مشربة أبي أيوب كل ليلة، وأن عمر صارع الجني فصرعه، وأن الأرض على ظهر حوت، وأن أهل الجنة يأكلون من كبده أول ما يدخلون، وأن ذئباً دخل الجنة لأنه أكل عشاراً، وإذا وقع الذباب في الإناء فامقلوه فإن في أحد جناحيه سماً وفي الآخر شفاء، وأنه يقدّم السم ويؤخر الشفاء، وأن الإبل خلقت من الشيطان... الخ[14].
[1] المناظرة في العقيدة الواسطية، شبكة المشكاة الإلكترونية. كذلك: مجموع فتاوى إبن تيمية، ج3، ضمن فصل: في استكمال أصول أهل السنة والجماعة.
[2] مناظرة إبن تيمية بعد العقيدة الواسطية، ص66ـ67. والمناظرة في العقيدة الواسطية. كذلك: مجموع فتاوى إبن تيمية، ج3، ضمن فصل: في استكمال أصول أهل السنة والجماعة.
[3] لاحظ مثلاً: الإكليل في المتشابه والتأويل.
[4] مناظرة إبن تيمية، ص67ـ70. ومجموع فتاوى إبن تيمية، ج3، ضمن فصل: في استكمال أصول أهل السنة والجماعة.
[5] درء تعارض العقل والنقل، ج10، ضمن فصل حول آراء الفلاسفة. ومنهاج السنة، ج2، ص555 .
[6] الرسالة التدمرية، ص29. ومجموع فتاوى إبن تيمية، ج3، ضمن فصل: القول في بعض الصفات كالقول في بعض.
[7] إبن تيمية، ص267ـ277.
[8] الخطيب البغدادي: رسالة الصفات، إخراج وتعليق أبي يعلى البيضاوي، شبكة المشكاة الإلكترونية (لم تذكر ارقام الصفحات). والذهبي: تذكرة الحفاظ، مراجعة: عبد الرحمن بن يحيى المعلمي، دار الكتب العلمية، بيروت، 1374هـ، عن شبكة المشكاة الإلكترونية، ج3، فقرة 1015 (لم تذكر ارقام صفحاته). ولاحظ على هذه الشاكلة: الواسطي: النصيحة في صفات الرب، مكتبة يعسوب الدين الإلكترونية، ص23.
[9] سير أعلام النبلاء، شبكة المشكاة الإلكترونية، ج8، فقرة 402.
[10] جاء في الصحيحين عن أبي هريرة أن النبي (ص) قال: خلق الله آدم على صورته طوله ستون ذراعاً (صحيح البخاري، حديث 5873. ومثله: صحيح مسلم، شبكة المشكاة الإلكترونية، حديث 2841). وجاء في صحيح مسلم عن أبي هريرة أن رسول الله (ص) قال: إذا قاتل أحدكم أخاه فليجتنب الوجه فإن الله خلق آدم على صورته (صحيح مسلم، حديث 2612).
[11] صحيح البخاري، حديث 6972، ومثله حديث 3256، ومثله ما روي عن إبن عمر، حديث 4141. وعلى هذه الشاكلة ما رواه مسلم عن انس بن مالك (صحيح مسلم، حديث 2933). علماً أنه سئل أحمد بن حنبل عن العبادلة فقال: عبد الله بن عباس، وعبد الله بن عمر، وعبد الله بن الزبير، وعبد الله بن عمرو. فقيل له: عبد الله بن مسعود؟ فأجاب: ليس عبد الله بن مسعود من العبادلة (بحر الدم فيمن تكلم فيه الإمام أحمد بمدح أو ذم تأليف، ص91).
[12] صحيح مسلم، حديث 2997، وحديث 1949، وحديث 315. وصحيح البخاري، حديث 1732، وحديث 3136، وحديث 3180، وحديث 3142.
[13] أنظر الفصل الرابع من: مشكلة الحديث. وكذا دراستنا: أزمة الحديث النبوي عند أهل السنة، مجلة الإجتهاد والتجديد، العدد الأول، 1427هـ ـ 2006م.
[14] مقدمة تأويل مختلف الحديث.