-
ع
+

إبن القيم والتحسين العقلي

يحيى محمد 

اختلف أصحاب الدائرة البيانية حول مسألة الحسن والقبح؛ إن كانت في الأصل عقلية كما يقول أصحاب منطق الحق الذاتي، أو أنها شرعية كما يقول أصحاب منطق حق الملكية. ونقل إبن تيمية أنه تنازع المتأخرون من عامة الطوائف حول هذه المسألة، فلكل طائفة من أصحاب الحديث والصوفية وأصحاب مالك والشافعي وأحمد قولان، لكن الأمر مع الحنفية يختلف إذ أطبقوا على القول بعقلية الحسن والقبح، وحكوا ذلك عن أبي حنيفة نفسه وأنه كان يوجب بالعقل معرفة الله تعالى[1]. وكان صاحب (الكبريت الأحمر) من الحنفية يقول: مذهب أصحابنا وجميع المعتزلة أن أصول الواجبات والحسن والقبيح في الأفعال كلها مدركة بالعقل سواء ورد عليها حكم الله بالتقرير أو لم يرد[2].

ومن القائلين بعقلية المسألة من أهل الحديث أبو نصر السجزي وأبو القاسم سعد بن علي الزنجاني وغيرهما، وذكروا أن إنكار ذلك من بدع الأشعري دون أن يسبقه احد. ووافقهم عليها من أئمة الشافعية أبو بكر محمد القفال الكبير الذي أُعتبر أنه بالغ في إثباتها وبنى عليها كتابه (محاسن الشريعة). واختارها من أصحاب أحمد بن حنبل أبو الحسن التميمي وأبو الخطاب وإبن عقيل وغيرهم، وذكروا أن هذا هو قول جمهور الناس، كما ذكروا أن الرسل جاءت لترشد إليها، وبالتالي فإن ما يعلم بالعقل من الدين هو – برأيهم - جزء من الشرع والكتاب والسنة.

ونقل أبو الخطاب في (التمهيد) إختلاف أصحابه من الحنابلة حول ما إذا كان في قضاء العقل حظر وإباحة وإيجاب وتحسين وتقبيح أم لا؟ فذهب أبو الحسن التميمي إلى إثبات ذلك، بل اعتبر أنه لا يجوز أن يأتي الشرع بحظر ما كان في العقل واجباً، كشكر المنعم والعدل والإنصاف وأداء الأمانة وما إليها، كما لا يجوز أن يأتي الشرع بإباحة ما كان في العقل محظوراً، نحو الظلم والكذب وكفر النعمة والخيانة وما إليها، معتبراً أن هذا ما ذهب إليه عامة أهل العلم من الفقهاء والمتكلمين وعامة الفلاسفة. كما نقل أبو الخطاب قول شيخه القاضي أبي يعلى الذي رأى أنه ليس في قضايا العقل إيجاب وتحسين وحظر وإباحة، وإنما يعلم ذلك من جهة الشرع، وتعلّق بقول أحمد في رواية عبدوس بن مالك العطار: ليس في السنة قياس ولا يضرب لها الأمثال ولا تدرك بالعقول وإنما هو الإتّباع. واعتبر أبو الخطاب أن هذه الرواية إن صحت عن إبن حنبل فالمراد بها الأحكام الشرعية التي سنّها رسول الله[3].

ومن حيث التحقيق فصّل إبن القيم الجوزية القول في هذه المسألة كما في كتابه (مفتاح دار السعادة)، فساند ما دلّ عليه النظر العقلي الصرف كما أثبته منطق الحق الذاتي، ثم أخذ يستدل على ذلك بالبيان الديني. لكنه عاب على هذا المنطق أشياء فرعية، مثلما أيّد بعض ما ذهب إليه منطق حق الملكية من تفريعات، وإن عاب عليه ما حمله من أصل. وبذلك فقد سلك إبن القيم الطريق الوسطى.

ومن حيث المبدأ أقرّ إبن القيم بذاتية الحسن والقبح كما يقول بها منطق الحق الذاتي، معتبراً أنها صفات ثبوتية للأفعال معلومة بالعقل، وأن الشرع جاء بتقرير ما هو مستقر في الفطر والعقول من تحسين الحسن والأمر به، وتقبيح القبيح والنهي عنه، وأنه لم يأتِ بما يخالف العقل والفطرة.

كما صوّب ما أقرّه المنطق السابق من إثبات حكمة الله وأنه لا يفعل شيئاً عبثاً أو خالياً من الحكمة، بل كل أفعاله مقصودة لعواقبها الحميدة وغاياتها المحبوبة. لكنه مع ذلك أعاب على أتباع هذا المنطق ما أوجبوه على الرب من الحكمة بعقولهم، وشبهوه بخلقه في الأفعال؛ فما حسن منهم حسن منه، وما قبح منهم قبح منه. وعلى رأيه أنه لزمتهم بذلك اللوازم الشنيعة وضاق عليهم المجال، معتبراً أن الصحيح هو إثبات أن تكون لله حكمة تليق به دون أن يكون لها شبيه، بل نسبتها إليه كنسبة صفاته إلى ذاته، فكما أنه لا يشبه خلقه في صفاته فكذا في أفعاله.

لكن من جهة أخرى صوّب ما ذهبوا إليه من أن الله لا يحب الشر والكفر وأنواع الفساد بل يكرهها، وأنه يحب الإيمان والخير والبر والطاعة، وإن خطّأهم في تفسير هذه المحبة والكراهة، إذ فسّروها بأنها «مجرد معان مفهومة من ألفاظ خلقها في الهواء أو في الشجرة ولم يجعلوها معاني ما يهدي به الله تعالى». كما أعاب عليهم ما طرحوه من تحديد مسألة الثواب والعقاب تبعاً للحسن والقبح، مثلما أعاب على أتباع منطق حق الملكية نفيهم لعقلية الحسن والقبح، وإبعادهم للغرض والحكمة الإلهية، وتقبّل منهم في القبال عدم إيجاب أي شيء من الأفعال على الله. واستدل على بعض ما ذكره من منطوقات الآيات ومفاهيمها. ومن ذلك ما جاء في قوله تعالى: ((قل إنما حرم ربي الفواحش ما ظهر منها وما بطن والإثم والبغي بغير الحق وأن تشركوا بالله ما لم ينزل به سلطاناً وأن تقولوا على الله ما لا تعلمون)) (الأعراف/33)، وقوله: ((وإذا فعلوا فاحشة قالوا وجدنا عليها آباءنا والله أمرنا بها، قل إن الله لا يأمر بالفحشاء أتقولون على الله ما لا تعلمون)) (الأعراف/28)، حيث اعتبر ذلك دليلاً على أن الفواحش هي فواحش في نفسها، لذلك تعلّق بها التحريم. ويصدق الحال على ما حرّمه الله من الخبيث وما أمر به من المعروف، لخبث الخبيث ولكون المعروف معروفاً، لا العكس كما يدّعي أتباع منطق حق الملكية، أي أن الفحش لم يأتِ لأن الله حرّمه، ولا أن الخبيث كان لأن الله منع عنه، حيث القول بذلك ينافي النص القرآني كما هو حال منطوق الآيتين السابقتين.

واستدل إبن القيم على عقلية الحسن والقبح بما نصّ عليه الخطاب الديني من أن الله سبحانه استخدم الأدلة العقلية التي تقبلها الفطر والعقول في الاحتجاج على فساد مذهب الشرك وعبادة الغير، وجعل ما ركّبه في العقول من حسن عبادة الخالق وقبح عبادة الغير من أعظم الأدلة. وبالتالي فلولا أن حسن عبادته وقبح عبادة الغير مستقران في العقول؛ لما احتج عليهم بذلك، بل لكانت الحجة بمجرد الأمر فحسب.

وعليه إعترض على أتباع منطق حق الملكية في تسويتهم بين الأفعال التي خالف الله بينها؛ فجعل بعضها حسناً وبعضها قبيحاً، وركّب في العقول والفطر التفرقة بينهما، مثلما ركّب في الحواس التفرقة بين المحسوسات، كالحلو والحامض، والبارد والساخن، والضار والنافع، وغير ذلك. كما إعترض عليهم في نفيهم عن الله إيجاب ما أوجبه على نفسه وتحريم ما حرّمه على نفسه بمقتضى حكمته وعدله. كما رأى أنهم أخطاوا في نفيهم هذه الحكمة في خلقه وأمره، إذ تصوروا أنه لا يفعل شيئاً لشيء ولا يأمر بشيء لشيء، وكذا عاب عليهم إنكارهم الأسباب والقوى التي أودعها الله في الأعيان والأعمال، فنفوا الحكم والغايات المطلوبة في أوامره وأفعاله.

كما خطّأهم في تسويتهم بين المحبة والمشيئة وأن كل ما شاءه الله من الأفعال والأعيان فقد أحبه ورضيه، وما لم يشأه فقد كرهه وأبغضه، حيث محبته مشيئته، وكراهته عدمها، واعتبر أنه يلزمهم على ذلك أن يكون إبليس محبوباً لله، وكذا فرعون وهامان وجميع الشياطين والكفار، بل أن يكون الكفر والفسوق والظلم والعدوان الواقعة في العالم محبوبة له مرضية، وأن يكون الإيمان والهدى ووفاء العهد والبر التي لم تصدر عن الناس مكروهة مسخوطة له، فسووا بين الأفعال التي فاوت الله بينها، وسووا بين المشيئة المتعلقة بتكوينها وإيجادها والمحبة المتعلقة بالرضى بها. وواقع الحال أن قولهم هذا يقرّبهم من النظام الوجودي، حيث يكون الحب والكره متعلقين بالإرادة التكوينية فحسب، كما عرفنا.

ثم أن إبن القيم قام بتفكيك التلازم الحاصل في مسألة الحسن والقبح وعلاقتها بالعقاب كما صورها كلا الإتجاهين السابقين؛ إعتماداً على قوله تعالى: ((ولولا أن تصيبهم مصيبة بما قدمت أيديهم فيقولوا ربنا لولا أرسلت إلينا رسولاً فنتبع آياتك ونكون من المؤمنين)) (القصص/47)، فاعتبر الآية ناطقة بأن ما قدمت أيديهم قبل البعثة هي سبب أصابتهم بالمصيبة، وأنه سبحانه لو أصابهم بما يستحقون من ذلك لاحتجوا عليه بأنه لم يرسل إليهم رسولاً، وهذا صريح في أن أعمالهم قبل البعثة كانت قبيحة بحيث استحقوا عليها الاصابة بالمصيبة، وإن كان الله لا يعذب أحداً قبل إرسال الرسل. فلدى إبن القيم أن القبح ثابت للفعل في نفسه، وأن الله لا يعذب عليه ما لم يقم الحجة بالرسل. واعتبر هذه النكتة أمراً وسطاً بين الإتجاهين الآنفي الذكر، فأنكر على أتباع منطق الحق الذاتي ما أثبتوه من العذاب قبل إرسال الرسل، وترتيبهم العقاب على مجرد القبح العقلي، كما أنكر على أتباع الإتجاه الآخر نفيهم للحسن والقبح العقليين وإعتبارهم انتفاء العذاب قبل البعثة دليلاً على انتفاء القبح وإستواء الأفعال في أنفسها، وأنه لا فرق بين أن يعذب الله الناس قبل البعثة أو بعدها، فله الأمر كله[4].

ومن وجهة نظرنا إن التفكيك بين المسألتين السابقتين يصحّ في القضايا التي لا يدركها العقل، فيكون أمرها موقوفاً على الخطاب الديني، أما تلك التي يدركها العقل، كقتل النفس البريئة والعدوان وما شاكل ذلك، فالتفكيك فيها غير وارد بإعتبارها من الواضحات فلا يشملها النص القرآني السابق، إلا إذا اعتبرنا الإدراك العقلي للواضحات وهمياً، أو أمراً نسبياً كالذي يراه منطق حق الملكية. ومع ذلك لا يصح القول بحتمية العقاب عقلاً، بل الصواب إستحقاقه فحسب.

كما من العجب أن يستثني إبن القيم أفعال الله عن القاعدة التي ثبّتها. فهو يرى أن الإستدلال بذاتية الحسن والقبح لا يشمل دائرة حق الله، مكتفياً بتطبيق القاعدة على البشر، رافضاً أن يكون لها مصداق من التطبيق على الرب. مع أن هذه التفرقة لا يقرّها العقل المحض، فما يراه العقل من قبح القبيح، وحسن الحسن، هو أمر ثابت لا علاقة له بدرجة الوجود أو الشروط الخارجية. ولو قلنا بمثل ما يقوله إبن القيم لكان أصحاب منطق حق الملكية على صواب في الرأي القائل بنسبية الحسن والقبح وأنها لا تطبّق على الرب لأنه المالك المطلق. لكن مع وجود فارق، وهو أن إبن القيم قد تقبل ما يقوله أتباع منطق الحق الذاتي من أن الوجوب والتحريم ينبسط على الرب مثلما هو منبسط على البشر، إلا أنه حَسِبَ الإيجاب والتحريم على الرب ليس عقلياً كما يدعي أتباع ذلك المنطق، بل هو مما أوجبه الله وحرّمه على نفسه؛ استناداًً إلى بعض الآيات، كتلك التي تتحدث عن أنه كتب على نفسه الرحمة، وأحق على نفسه ثواب المطيعين، وحرّم على نفسه الظلم كما جعله محرماً بين عباده.

لكن هذا الموقف يلغي القاعدة التي اعتمد عليها إبن القيم في كون الحسن والقبح عقليين، فبغض النظر عما جاءت به النصوص الدينية، فإن العقل يدرك ما يرد على الرب من أمور حسنة أو قبيحة مفترضة، والقول أن ذلك يتوقف على ما أوجبه الرب وحرّمه على نفسه، يعيد المسألة إلى إعتبار الخطاب الديني هو المحدد للأمور بما فيها القضايا العقلية، فيصبح ما هو عقلي ليس بعقلي، وما هو ذاتي ليس بذاتي، كالذي يقوله أصحاب منطق حق الملكية.

 



[1]  نُقل أن ابا حنيفة كان يقول: لا عذر لأحد في الجهل بخالقه.. وأنه لو لم يبعث الله رسولاً لوجب على الخلق معرفته بعقولهم (البحر المحيط، فقرة 82).

[2]  البحر المحيط، فقرة 81.

[3]  درء تعارض العقل والنقل، ج9،  فصل بعنوان: (وما ذكرناه من أن الرسل بينوا للناس الطرق العقلية..). ولاحظ أيضاً: مفتاح دار السعادة، ج2، ضمن: (فصل الأسماء الحسنى والصفات العُلى مقتضية لآثارها من العبودية).

[4]  أنظر حول ما سبق: مفتاح دار السعادة، ج2، فصل بعنوان: الشرائع كلها في أصولها وإن تباينت متفقة مركوز حسنها في العقول، وفصل: الكلام في الإيجاب في حق الله.

comments powered by Disqus