يحيى محمد
لطريقة النظر أهميتها الخاصة على الصعيدين القانوني والسياسي. فقد تقتضي الضرورة تشكيل لجان خاصة لصياغة القرارات الدستورية والقانونية وذلك طبقاً للنظر في أدلة إجتهاد الفقهاء والعمل على ترجيح بعضها على البعض الآخر. وهو عمل ربما دعت اليه الضرورات الحديثة لأجل التطبيق ولو ضمن حدود ضيقة جداً. أما قبل ذلك فالشاهد التاريخي يفتقر لأي محاولة جادة مارست النظر في الأحكام المتضادة للفقهاء وترجيح بعضها على البعض الاخر، ومن ثم تحويلها إلى صياغات قانونية موحدة وملزمة لأفراد المجتمع. لكن مع هذا الغياب فان الفكرة والدعوة إلى ذلك الأمر لم تنعدم كلياً. ونعترف بان الأمر يتعلق بشاهد يتيم لم يكتب له النجاح، إلا ان عراقته وكونه يكشف عن حاجة مزمنة وموغلة في القدم ما زالت لم تُسدد بعد إلى يومنا هذا؛ هو ما يجعل منه ذا أهمية خاصة.
ففي بدء الخلافة العباسية بعثَ الكاتب عبد الله بن المقفع (المتوفى خلال العقد الخامس من القرن الثاني للهجرة) رسالة إلى الخليفة أبي جعفر المنصور تحدث فيها عما رآه من تزايد في اختلاف الآراء وتضارب الأحكام القضائية من قبل الفقهاء، فاقترح عليه توحيد الأحكام وإلزام الناس عليها، وذلك بعد النظر في موارد الاختلاف وترجيح بعضها على البعض الاخر. إذ خاطب المنصور في (رسالة الصحابة) قائلاً: «ومما ينظر أمير المؤمنين فيه من أمر هذين المصرين - البصرة والكوفة - وغيرهما من الأمصار والنواحي، اختلاف هذه الاحكام المتناقضة التي قد بلغ اختلافها أمراً عظيماً في الدماء والفروج والأموال، فيستحل الدم والفرج بالحيرة وهما يحرمان بالكوفة، ويكون مثل ذلك الاختلاف في جوف الكوفة فيستحل في ناحية منها ما يحرّم في ناحية أخرى. غير انه على كثرة ألوانه نافذ المسلمين في دمائهم وحرمهم يقضي به قضاة جائز أمرهم وحكمهم. مع انه ليس مما ينظر في ذلك من أهل العراق وأهل الحجاز فريق إلا قد لجّ بهم العجب بما في أيديهم والاستخفاف ممن سواهم، فأقحمهم ذلك في الأمور التي يغضب لها من سمعها من ذوي الألباب. أما من يدعي لزوم السنة منهم فيجعل ما ليس سنة سنة، حتى يبلغ ذلك به إلى ان يسفك الدم بغير بينة ولا حجة على الأمر الذي يزعم انه سنة، وإذا سئل عن ذلك لم يستطع ان يقول هريق فيه دم على عهد رسول الله (ص) أو أئمة الهدى من بعده..». ثم قال: «فلو رأى أمير المؤمنين أن يأمر بهذه الأقضية والسير المختلفة فترفع إليه في كتاب، ويرفع معها ما يحتج به كل قوم من سنة أو قياس، ثم نظر في ذلك أمير المؤمنين وأمضى في كل قضية رأيه الذي يلهمه الله، ويعزم له عليه عزماً وينهى عن القضاء بخلافه، وكتب بذلك جامعاً لرجونا ان يجعل الله هذه الأحكام المختلطة الصواب بالخطأ حكماً واحداً صواباً، ورجونا ان يكون اجتماع السير قربة لإجماع الأمر برأي أمير المؤمنين وعلى لسانه ثم يكون ذلك من إمام آخر، آخر الدهر إن شاء الله». ثم أكد بأن اختلاف الاحكام قد يكون ناتجاً عن المأثور عن السلف مما لم يجمع عليه، حيث يراه قوم على وجه، ويراه آخرون على وجه آخر. لذلك فقد أوصى بضرورة النظر إلى أحق الفريقين بالتصديق وأشبه الأمرين بالعدل[1].
2 ـ المزاوجة بين الشورى والنظر
لكن إذا ما كانت خطوة ابن المقفع موضوعة لنظام فردي؛ فلا مانع من أن يتم تجسيدها بصورة جماعية، يكون العمل فيها متزاوجاً بين مسلكي الشورى والنظر. أي ان النظر في أدلة المجتهدين يكون جماعياً بحسب الشورى. ونحن نجد في الفترة الحديثة أصداء لهذه الطريقة لدى دعاة الانفتاح على المذاهب والمجامع الفقهية وإن كانت ضمن أُطر ضيقة. كذلك هو الحال فيما مورس من مهام قانونية في بعض المجالات مما فرضتها التطورات الحديثة وضغط الواقع.
وعلى العموم انه مثلما يمكن للفقهاء القيام بهذا الدور من المزاوجة - بين النظر والشورى - فإن من الممكن لغيرهم من المثقفين الدينيين ممارسة ذلك أيضاً.
وقد يقال إن النتائج المتمخضة عن ممارسة الفقيه هي أقرب إلى مراد الشرع ومقاصده تبعاً لما يتمتع به من عمق وتخصص..
لكن كردّ على ذلك ينبغي لحاظ النقاط التالية:
أولاً: ليس من وظيفة النظر استخدام آليات الإجتهاد، ونحن هنا قد فرضنا الفقيه ناظراً وليس مجتهداً. فهو في هذه الحالة انما يعتاش على مائدة غيره من الفقهاء المجتهدين، وبالتالي فلا فرق بينه وبين الناظر الذي يمارس نفس هذا الدور. أي ان نتاج كل منهما انما هو نتاج الفقيه المجتهد المتخصص.
ثانياً: إن صفة التخصص ليست كافية لجعل النتائج أقرب إلى مراد الشرع ومقاصده. إذ ذلك يعتمد على طبيعة المنهج المتبع. فلو اتصف المنهج بالصرامة والتصلب وانه يعاني من مشكلة مزمنة؛ فإن النتائج المترتبة عليه لا بد وان تبتعد عن مسار الأقربية والتوافق مع مراد الشرع. وهنا يلاحظ ان منهج الفقيه لا يخلو من هذه العقدة، رغم ممارساته التاريخية الطويلة والعمق الذي يتحلى به. فهو يحمل منهجاً متصلباً يمنعه في كثير من الأحيان أن يكون ملائماً لحل مشاكل الواقع، بل والقرب من مراد الشرع ومقاصده.
ثالثاً: إن للمثقف دائرتين معرفيتين، إحداهما تتداخل مع دائرة الفقيه الواسعة، فتدور في حياضها وضمن مدارها، وهي دائرة النظر كما حددنا أُفقها. لكن في القبال ان له دائرة أخرى قد تتعارض مع دائرة الفقيه دون ان تتداخل معها، وذلك طبقاً للمرتكزات المعرفية التي تتحكم في نتائج كل منهما. الأمر الذي يعفي المثقف من صلابة منهج الفقيه، وهو ما يساعده على افراز نتائج مقبولة قد تكون أقرب إلى مراد الشرع ضمن اعتبارات محددة، وقد عرضنا هذه القضية بالتفصيل ضمن دراسة مستقلة[2].
[1] ابن المقفع: رسالة في الصحابة، ضمن آثار ابن المقفع، مقدمة واشراف عمر أبو النصر، دار مكتبة الحياة، بيروت، الطبعة الاولى، 1996م، ص353ـ354. كذلك: الأنباري، عبد الرزاق: منصب قاضي القضاة في الدولة العباسية، نشر الدار العربية للموسوعات، بيروت، الطبعة الاولى، 1987م، ص61 و62. وأمين، أحمد: ضحى الإسلام، دار الكتاب العربي، بيروت، الطبعة العاشرة، ج1، ص208ـ210.
[2] انظر: القطيعة بين المثقف والفقيه.