يحيى محمد
نعتقد بأن هناك وجداناً كاشفاً للعلم يتساوى فيه كل من المختص وغيره حتى مع عدم قدرة هذا الاخير على تقديم الادلة الصناعية. ففي حالات معينة يصح للفرد ان يعتمد على وجدانه واطمئنانه في الرفض والقبول وإن لم يعلم وجه الدليل العلمي في القضية بالدقة والضبط. فمثلاً ان الكثير من الناس يؤمنون بوجود الله ووحدانيته اعتماداً على الوجدان وليس بفعل الدليل العلمي، وذلك لعدم معرفتهم صورة هذا الدليل على نحو الضبط والتحديد. انما تحليل آلية الاعتقاد هذه يمكن ان تُستكشف بفعل ما يقوم به العقل الباطن من الربط بين تراكمات الاحساس بالقرائن الدالة على ذلك الاعتقاد. وهو الوجه الذي نبّه عليه القرآن الكريم بالتذكير في تأمل الايات الكونية وبداعة نظامها، حيث انه اقرب الى فهم الوجدان، بلا حاجة لصنعة الدليل وصياغته المنطقية.[1]
مع هذا يصح الفات النظر الى الدليل العلمي بطريقة صب القالب المنطقي على الرؤية الوجدانية. ففي مثالنا السابق يفسر التصديق بوجود الله طبقاً للقيم الاحتمالية المتجمعة تبعاً للقرائن الاستقرائية. اي انه لا مانع من ان يُضفى على الرؤية الوجدانية صبغة الدليل العلمي، شبيه بما نبّه عليه ابن خلدون الذي يرى ان ما يقام من تجربة حدسية يجب ان يصاغ ضمن القوالب المنطقية التي تليق بالعلم المعنية به، ذلك انه يوصي بالرجوع الى قوالب الأدلة وصورها لافراغ المطلوب الحدسي فيها وايفائه حقه من ‹‹القانون الصناعي›› ثم كسوته بصور الالفاظ وابرازه الى عالم الخطابة والمشافهة كي يكون وثيق العرى صحيح البنيان.[2] مما يعني ان هناك قضايا يتساوى فيها التصديق بين المختص وغيره؛ سواء في ملكة التصديق ذاتها، او في قوته وقيمته. فالوجدان العقلي واحد ومشترك بينهما بالتماثل. ويعزز هذا الامر ما قدمته بعض الدراسات الانثروبولوجية من نتائج كشفت عن وجود ذهنية واحدة لدى البشر بخلاف الزعم الذي يرى وجود ذهنيتين مختلفتين، بدائية وحديثة. فمثلاً ان دوركايم في كتابه (أُصول الحياة الدينية) أكد على ان المعارف الروحانية والدينية التي تشكل بنية التفكير لدى ذهنية المجتمعات البدائية هي ذاتها كانت السبب في تبلور الفكر المنطقي لدى المجتمعات الحديثة. اي ان الفكر المنطقي لدى الذهنية الحديثة لم يقاطع الفكر الروحاني والديني لدى الذهنية البدائية، بل ان هذه الاخيرة هي اساس الاولى ومصدر نشوئها. وبالتالي فان مصدر العلوم والفلسفة انما هو التصورات الدينية والروحانية، وان الذهنية الحديثة لم تستطع قط ان تمحو الاثار والمنطلقات المعرفية التي انبتتها الذهنية البدائية، مثلما هو الحال مع مفاهيم كل من الزمان والمكان والسبب وغيرها من المفاهيم التي ألفتها الفلسفة والعلوم، فهي بالتالي وريثة الدين، وانه لا توجد الا عقلية واحدة شمولية، وان الاختلاف بين الذهنيتين السالفتي الذكر انما هو اختلاف في الدرجة وليس النوع.[3]
وما يفاد من ذلك هو ان نظام المعرفة لدى البشر يجري وفق قواعد وقوانين عامة مشتركة، وهي وإن لم تكن موضع التفات لدى اغلب الناس بمن فيهم اصحاب التخصصات المعرفية المختلفة، وكذلك رغم كونها محدودة العدد؛ الا انها ذات آليات فاعلة في الوعي الباطن او اللاشعور، حيث يوظفها كل منّا في نتاجه المعرفي غير المحدود، ولولاها ما كان للبشر ان يمتلك القدرة والحرية على النتاج المفتوح، بل لكانت المعرفة لديه لا تخرج عن كونها انعكاسات مباشرة ومحددة للبيئة. في حين ان وجود هذا النظام الشامل، يجعل القدرة على التفكير وتوليد المعرفة غير متناهية، حيث تتم اليات الاستدلال والاستنتاج وإن كنا غير واعين بها. والمهم هو انها تنطلق من مبادئ واليات صحيحة يشترك في توظيفها المختص وغيره، سواء كان ذلك بوعي او بغير وعي. فمثلاً ان القياس المنطقي والاستقرائي يفهمه ويعمل به كل انسان بدلالاته المباشرة وإن لم يعِ قواعد اليات التحكم فيهما. فاغلب معارف الانسان قائمة على هذا النحو. كذلك فبفضل هذا النظام الفطري الذاتي، يستطيع الانسان ان يميز بين صحيح المعرفة وخطئها، فمثلاً انه من السهل عليه ان يدرك صدق القياس القائل: اذا كان كل انسان فان، وان محمداً انسان، فمحمد فان. بل ويدرك ان النتيجة في القياس السابق لو غيرت بنحو ما، مع بقاء المقدمة كما هي، فان القياس يصبح خاطئاً، مثلما انه يدرك خطأ القياس الذي يقول: بعض الحيوانات تغرّد، والحمار حيوان، لذا فالحمار يغرّد. وكل ذلك يعود الى ما للانسان من قدرة على التمييز بفعل ما يمتلكه من قواعد وآليات ذاتية قادرة على اداء الدور غير المتناهي في كل من التوليد والتمييز المعرفي؛ رغم انه في الغالب لا يعي كيفية ما يزاوله من الاداء المعرفي.
[1] كما يلاحظ ذلك في مثل قوله تعالى: {أفلا ينظرون الى الابل كيف خُلقت والى السماء كيف رُفعت والى الجبال كيف نُصبت والى الارض كيف سُطحت} الغاشية/17ـ 20. وقوله: {أفلم ينظروا الى السماء فوقهم كيف بنيناها وزيناها وما لها من فروج، والارض مددناها وألقينا فيها رواسي وأنبتنا فيها من كل زوج بهيج، تبصرة وذكرى لكل عبد منيب} ق/ 6ـ 8... الخ.
[2] المقدمة، طبعة المكتبة التجارية الكبرى، ص535ـ 536.
[3] يقول دوركايم في كتابه المشار اليه: ‹‹لم يكتفِ الدين باغناء فكر الانسان المكوَّن سابقاً له، بعدد من الافكار، بل عمل على تشكيل هذا الفكر. ان قسماً مهماً من معارف الانسان حتى والشكل الذي تبلورت فيه هذه المعارف يعود فضله الى الدين. تجدر الاشارة الى ان عدداً من المفاهيم الاساسية التي تهيمن على فكرنا تغرس جذورها في الدين: مفهوم الزمان والمكان والنوع والعدد والسبب والجوهر والشخصية، فهي الاطر المتينة للفكر›› ( فردريك معتوق: علم اجتماع المعرفة في الغرب، ضمن الموسوعة الفلسفية العربية، رئيس التحرير د. معن زيادة، معهد الانماء العربي، الطبعة الأولى، 1988م، المجلد الثاني، ص888ـ 889).