يحيى محمد
هناك من العلم ما يخلو من الدليل مطلقاً، وفيه يتساوى العالم المختص وغيره. ذلك اننا نجد قضايا لا تخضع الى اعتبارات الدليل رغم انها موضع ايمان يتساوى فيها المختص وغيره عادة. ولست اقصد بذلك البديهيات وضرورات العقل والادراكات المباشرة للعلم الحضوري، وانما بعض القضايا الخارجية التي يعجز البرهان عن ان ينالها. فهي محض اعتقاد وجداني يتفق عليها الناس وإن اختلفوا في مراتبهم الثقافية والعلمية. ومن ذلك قضية الواقع الموضوعي العام، حيث ليس من الممكن الاستدلال على صدقه واستبعاد ان يكون مجرد احساس نفسي كالذي يحدث في المنام. فمن المحال على الدليل العلمي استبعاد ما يفترضه احدنا ويقول ان هذه الحياة مجرد حلم طويل ليس في قباله ما نطلق عليه الواقع الموضوعي. فمثل هذه القضية ليست من القضايا العقلية الضرورية او البديهية كما ذهب الى ذلك الفيلسوف الطباطبائي صاحب (الميزان) وتابعه في ذلك المفكر الصدر في (فلسفتنا)[1]، كما انها ليست استقرائية مثلما آل اليه اعتقاد هذا الاخير في (الاسس المنطقية للاستقراء).[2] انما هي قضية وجدانية صرفة لا تخضع الى منطق الضرورة ولا الى منطق الدليل. فمن الناحية العملية نجد انفسنا ملجئين بالغريزة الى توكيد الواقع الموضوعي دون التأثر بأي شك قد يفرضه المنطق علينا.[3] وهنا تتجلى اعظم آيات الرحمة الالهية، حيث لولا هذه الغريزة الملجئة لكان منطق الشك قد القى بظلاله علينا وجعلنا في شقاء دائم غير منقطع. ورحم الله الغزالي حينما قال: ‹‹من ظنّ ان الكشف موقوف على الادلة المحررة فقد ضيّق رحمة الله الواسعة››[4].
وعلى نفس الشاكلة نواجه بعض القضايا الميتافيزيقية التي نراها واضحة وضوحاً شافياً وإن لم يتحقق لدينا البرهان عليها. ومن ذلك قضية نفي التسلسل غير المتناهي للعلل الفاعلة. فرغم محاولات الفلاسفة من وضع العديد من الادلة الصناعية لهذا الغرض، ومن المتأخرين من اوصل هذه الادلة الى عشر كما فعل صدر المتألهين وإن ناقش بعضها ونقدها[5]، فرغم ذلك يمكن القول انصافاً انه لا يوجد فيها ما يرضي الوجدان ويقطع دابر الشبهة. ومع انه لسنا هنا بصدد مناقشتها، ولعلنا سنقوم بذلك في دراسة خاصة، لكنا نقول: ان كلاً من قضيتي الاصل النهائي والتسلسل غير المتناهي كلاهما يستمدان نفس القدر منطقياً من فكرة الازلية. وبالتالي فليس لدينا دليل صناعي يمكننا به ابطال التسلسل او اثباته. فتصور الازلية في حد ذاته يتيح الامكان لكلا القضيتين المتعارضتين. اذ الازلية عبارة عن وعاء وجودي لا نهائي، كما قد يشغله الواحد الاصل، فكذا قد يشغله الكثير المتسلسل بلا فرق بحسب الحد المنطقي. لهذا لم يمنع الفلاسفة - ذاتهم - فكرة التسلسل في العلل او الاسباب العرضية التي لها صفة الإعداد الشرطي طبقاً لذات المبدأ من الازلية، بل ان مفاد مذهبهم هو القول بهذا، وقد سبق ان اشار ابن رشد الى ذلك النوع من التسلسل عندما حاول التفرقة بين العلل العرضية والعلل الذاتية، حيث اعتبر ‹‹أن الفلاسفة يجوزون وجود حادث عن حادث الى غير نهاية بالعرض إذا كان ذلك متكرراً في مادة منحصرة متناهية مثل أن يكون فساد الفاسد منهما شرطاً في وجود الثاني فقط ..››[6]. فالفلاسفة أجازوا التسلسل في العلل العرضية، لكنهم منعوه في العلل الذاتية، رغم ان المآل واحد، وان الوعاء هو هو، لا فرق بين ان يشغله واحد او كثير، عرضياً كان او ذاتياً.
مع هذا فمن حيث الوجدان نجد ان فكرة التسلسل للعلل الذاتية مستبعدة في قبال فكرة الاصل الواحد. بل وان هذا الوجدان يتقبل فكرة تسلسل العلل العرضية، في حين ليس الامر كذلك مع العلل الذاتية رغم عدم وجود البرهان القاطع ضدها. فالوجدان يميل الى فكرة الاصل الاول بغض النظر عن التسلسل اللانهائي الذي يصدر عنه عرضياً، طالما ان الوجود محكوم بالازلية حتماً. فلدينا – هنا - ثلاثة تصورات متنازعة: احدها يقول بفكرة الاصل الاول مع بداية للحوادث، والثاني يقول بنفس هذه الفكرة لكن مع نفي البداية للحوادث. أما الثالث فلا يعترف بوجود الاصل وينظر الى جميع الحوادث والعلل بأنها تسلسلية لا تنتهي الى اصل محدد. ويلاحظ ان التصورين الاولين يقبلهما الوجدان لانهما ينطويان على نفس المآل من وجود اصل اول لا سابق له بخلاف التصور الاخير. لذا تجد أن الناس يتفقون على الاصل الاول سواء كان طبيعة او الهاً، في حين يصعب العثور على من يقول بوجود سلسلة لا تنتهي من العلل الذاتية. بل حتى من الناحية العلمية ان العلماء يتوقفون عند حد لبداية الحوادث الكونية، ويستهجنون البحث في توالي الحوادث الى ما لا بداية له.
وفي المحصلة انك إما ان تجد من يقول بوجود اصل مع ما يتبعه من علل عرضية متسلسلة لا نهائية كما يقول فلاسفتنا القدماء، او من يقول بوجود اصل ينتج عنه حوادث لها بداية كما هو قول الكلاميين من اهل الاديان السماوية، او من يقول بوجود حوادث تنتهي عند حد معين كما هو رأي الماديين، لكن ربما لا تجد من يقول بان علل الحوادث ليس لها اصل ولا بداية. وكأن الوجدان البشري – بهذا - لا يستوعب مثل هذا الفرض الاخير، رغم عدم وجود ما يبرهن على نفيه. أما تفسير ذلك فيعود الى ان الانسان يميل الى الفروض التي تتصف بالبساطة ويفضلها على الفروض الاكثر تعقيداً طالما تساوى الغرض بين الفرضين. ومبدأ البساطة هو من اهم المبادئ التي يقبلها العلم المعاصر، وهو غير معني بالتفتيش عن حقائق الامور الواقعية، او ما يطلق عليه التحقق، بل يؤخذ به لاعتبارات وجدانية ونفعية، وهي ان القضية البسيطة مرجحة على نظيرتها المعقدة حينما تتكافأ في النتائج[7]. الامر الذي يصدق على ما نحن بصدده. اذ لا فرق بين الاصل الاول والتسلسل غير المتناهي من حيث ان كلاً منهما يشغل الوجود الازلي، لكن التعويل على فكرة الاصل الاول يعني ان في هذا الاصل من آنات الزمان الوجودي ما يمكن اعتبارها بمثابة العلل غير المتناهية. وحيث ان الفرضين يحققان نفس النتيجة بلا اختلاف؛ لذا لا حاجة من افتراض التسلسل طالما تضمنته فكرة الزمان الوجودي للاصل الاول، وذلك لاعتبارات البساطة في هذه الاخيرة قياساً بنظيرتها السابقة.
وقريب من ذلك الى حد ما، يمكن ان يقال بشأن قضايا فلسفية لازالت تعد من المسائل الشائكة، مثل قضية الفضاء (الكوني) او الخلاء. فربما ان الوجدان يميل الى اعتباره غير متناهي الابعاد، مع وجود المادة المتناهية. حيث من الصعب ان يتصور العقل محدودية الفضاء وذلك للاشكال الذي يرد عما بعده، اذ كيف يمكن تصور ما هو خارج عنه؟! في حين يسهل على العقل ان يتقبل فكرة اللانهاية فيه. على ذلك فان الفكرة العلمية في تمدد الكون وانه شبيه بالمنطاد الآخذ بالتوسع والانتفاخ؛ ليست معقولة ما لم يكن تصور ذلك يجري ضمن فضاء غير متناه يسمح بعملية التوسع والتمدد[8]. وبالتالي فان فكرة اللانهاية في الفضاء هي كفكرة اللانهاية في الزمان الوجودي تعد من الوجدانيات التي يتقبلها العقل البشري، لكن لا باعتبار انها بسيطة وانما لكونها مفهومة مقارنة مع غيرها من الاطروحات المنافسة التي تفتقر الى حد ما نطلق عليه (المفهومية).
إن الامثلة التي عرضناها تؤكد لنا بان التصديق لا يتوقف دائماً على الادلة الصناعية، وان من الممكن ان يشترك في حقانية مثل هذا التصديق كل من المختص وغيره.
[1] الصدر، محمد باقر: فلسفتنا، دار التعارف، بيروت، ص 304ـ305.
[2] الأُسس المنطقية للاستقراء، دار التعارف، بيروت، الطبعة الرابعة، ص463.
[3] لاحظ: يحيى محمد: الاسس المنطقية للاستقراء/بحث وتعليق، مطبعة نمونه، قم، الطبعة الأولى، 1405هـ ـ 1985م، ص243 وما بعدها.
[5] صدر المتألهين الشيرازي: الحكمة المتعالية في الاسفار العقلية الاربعة، دار احياء التراث العربي، الطبعة الثالثة، 1981م، ج 2، ص144ـ167.
[6] ابن رشد: تهافت التهافت، المطبعة الكاثوليكية، بيروت، ص56ـ57.
[7] من ذلك انه قد استبدل التصور البطليموسي بالتصور الكوبرنيكي للنظام الشمسي بسبب بساطة هذا الاخير مقارنة مع الاول، وليس بحسب الصواب والخطأ. اذ اختزل كوبرنيكوس الدوائر الفلكية الصغيرة للنظام الشمسي من (80) دائرة كما افترضها بطليموس الى (34) دائرة فقط، اي انه تخلص من (46) دائرة صغيرة (لاحظ: ولترستيس: الدين والعقل الحديث، ترجمة وتعليق وتقديم إمام عبد الفتاح إمام، مكتبة مدبولي، القاهرة، الطبعة الأولى، 1998م، ص76 وما بعدها). كما لاحظ:
Hemple, Philosophy of Natural Science, 1996, current printing 1987, USA, p.41.
[8] من ذلك ان نظرية اينشتاين العامة تعترف بأن الكون آخذ بالتوسع، حيث ان التحول في الطيف الضوئي هو باتجاه الاحمر؛ مما يدل لدى العلماء بان المجرات والنجوم تبتعد عنا. مع هذا ان اينشتاين يري الكون منتهياً لكنه غير محدود، الامر الذي يفسر ظاهرة التوسع، وذلك شبيه بالمنطاد. فمن حيث انه منتهي يرى ان الذي يسير من نقطة معينة ويواصل سيره باستقامة فسوف يعود الى نفس النقطة مثلما يجري الحال على الارض، مع اخذ اعتبار ان سطح الارض له بعدان، في حين ان التحرك في الكون يجري ضمن ثلاثة ابعاد وليس على سطحه، كما انه ليس هناك شيء خارجه. لاحظ حول ذلك: ألبرت أينشتين: أفكار وآراء، ترجمة رمسيس شحاتة، الهيئة المصرية العامة للكتاب، 1986م، ص30. ولاحظ:
Russell, B. Human Knowledge, first published in 1948, Sixth Impression, London, 1976, p. 34.
تلك هي نظرية اينشتاين، مع ما يلاحظ ان فكرة التوسع لا تتسق مع مقولة عدم وجود شيء اخر خارج حدود المجال الكوني المذكور، اذ على الاقل لا بد من افتراض وجود الخلاء الذي يسمح بالتوسع. لكن تظل ان نظرية اينشتاين باعتبارها علمية فانه لا ينظر لها ان تعبر عن حقيقة الكون كما هو، خاصة وانه ينتابها بعض الشذوذ الذي لم تستطع تفسيره كغيرها من النظريات الفيزيائية.