يحيى محمد
يلاحظ في الإتجاه الشيعي أن المجتهدين أنفسهم يمارسون أحياناً طريقة الترجيح بين الآراء الفقهية، فيزاولون بذلك اسلوب النظر من دون تمييز له عن نهج الإجتهاد. فالفقيه يعرض الآراء المتعلقة في المسألة؛ فإما أن يُبدي قناعته الكلية ببعض هذه الآراء، أو يرجح بعضها على البعض الآخر من حيث الظن والاعتبار، أو يكون له رأي جديد فيها. وتقتضي ممارسة الترجيح لدى الفقيه لحاظ الأدلة التي يطرحها الفقهاء الآخرون، وبالتالي فهو يزاول طريقة النظر بما يتضمن مفهوم الإجتهاد. ومن ذلك ما يوصي به المحقق الحلي بقوله: «اكثِرْ من التطلع على الأقوال لتظفر بمزايا الاحتمال، واستنفض البحث عن مستند المسائل لتكون على بصيرة فيما تتخيره»[1].
ومن الناحية المبدئية لا يجعل الإتجاه الشيعي لطريقة النظر أو الترجيح مرتبة خاصة. فهو يقسم أعمال المكلفين إلى ثلاثة أقسام، هي الإجتهاد والتقليد والإحتياط. فكما ذكر السيد الخوئي أن العقل مستقل بلزوم تحصيل العلم بالفراغ عن الذمة، من حيث إدراكه لدفع الضرر المحتمل بمعنى العقاب، وأن دفع الضرر أو تحصيل العلم بالفراغ عن الذمة لا يتحقق إلا عبر أحد تلك الأقسام الثلاثة[2].
لكن إذا كان الإجتهاد والتقليد والإحتياط بعضها يقع في عرض البعض الآخر من حيث العمل والوظيفة، إذ لا بد للمكلف أن يأتي بواحد منها؛ فإن الأمر من حيث المرتبة ليس كذلك، إذ إن مشروعية التقليد لا تكون إلا بالإجتهاد، فالمقلد لا يصح له أن يقلّد ما لم يجتهد بذلك، وإلا تسلسل الأمر أو دار. كذلك الحال مع الإحتياط، فهو لا يصح ما لم يقم على الإجتهاد. لهذا يُذكر أنه لا يجوز للمقلد الإحتياط قبل الفحص عن مذهب مجتهده، وإن كان يجوز له ذلك بعده. وعليه إشتهر لدى علماء الإمامية «أن عبادة تارك طريقي الإجتهاد والتقليد غير صحيحة وإن علم إجمالاً بمطابقتها للواقع، بل يجب أخذ أحكام العبادات عن إجتهاد أو تقليد»[3].
هكذا يصبح المحور الأساس الذي يدور عليه التكليف في النظر الشيعي هو الإجتهاد. فهو الأصل الوحيد الذي يتصدى «لتحصيل القطع بالحجة على العمل، لأن به يقطع بعدم العقاب على مخالفة الواقع»[4]. ومع ذلك لا يلغي الإتجاه الشيعي بعض الأقسام العملية للمكلف والتي لا ترجع إلى الصور الثلاث المذكورة. فهو لا ينكر أثر وجود العلم الوجداني عند العامي وغيره، وهو العلم بمطابقة عمل المكلف لواقع الحكم الإلهي، كما يحصل في الضروريات والقطعيات والمسائل الواضحة. فهي وإن كانت قليلة جداً[5]، لكنها في جميع الأحوال تتجاوز حدود التقسيم المبدئي لعمل المكلفين، ومن ذلك تجاوزها لممارسة الإجتهاد والتقليد.
مهما يكن، فمن المتفق عليه في النظر الشيعي انه لا ينبغي للعامي أن يكون مقلداً في جميع الأحوال، كما في موارد علمه الوجداني الخاص، وفي الضرورة والإجماع والدليل القاطع، وفيما لو وجد أمامه نصاً صريحاً خلاف رأي المجتهد، فضلاً عما يتعلق بتشخيص الموضوعات وفهم المعاني العرفية، حيث لا يقلد المجتهد إلا فيما يحكيه عن الشارع الإسلامي[6].
بل برأي عدد من العلماء، ومنهم الخوئي، إن العامي لو كان متمكناً من الإستنباط في مسألة ما من المسائل، كمسألة الأعلم، وأدى نظره إلى عدم جواز تقليد غير الأعلم؛ فإنه على هذا يجوز له مخالفة من يقلده ولم يجز له الرجوع إلى غير الأعلم[7]، وذلك للزوم اتباع العامي لعلمه ونظره فيما يعرفه من الحكم، ولا يجوز له الرجوع إلى الغير[8]. ومثل ذلك ما ذكره الآخوند الخراساني من أن المقلد لو إلتفت إلى الخلاف الحاصل بين العلماء حول وجوب تقليد الأعلم فإستقل عقله ورأى أنه لا فرق في التقليد بين أن يكون للأعلم أو غيره؛ ففي هذه الحالة لا يجب عليه تقليد الأعلم، وعليه إتباع ما آل إليه علمه[9]. وقد أقر بذلك الفيروز آبادي صاحب (عناية الأصول) وإن كان بنظره أن العامي لو إستقل بعقله فسوف لا يترجح عنده إلا الأخذ بقول الأعلم، نظراً إلى كونه سيتبع الأقوى ظناً[10]. وهو تعسف، إذ لا دليل على ما يمكن أن يؤول إليه نظر المقلد أو العامي. لذلك رأى الشيخ الأصفهاني أن التعويل على مقالة الأخذ بقوة الظن التي يترتب عليها تعيين الأعلم للتقليد باعتباره أقوى ظناً من غيره.. هذه المقالة ممنوعة على إطلاقها، حيث أن «المقلد قد يقف على مدارك الفريقين فيترجح في نظره فتوى المفضول»[11].
ومبدئياً إن ما عرضناه منطقي، إذ لا يصح تقليد العامي في الأساس ما لم يبنَ على إجتهاده ونظره من دون تقليد، وإلا تسلسل الأمر أو دار. لذلك يقال إن مسألة جواز التقليد ليست تقليدية، إذ لا بد أن تستند إلى إجتهاد المكلف أو قطعه وإطمئنانه[12].
ففي دراسة مستقلة بينّا أن هناك دليلين في حق العامي ينبغي الإستناد إليهما ليصح تقليده، وهما دليل الإرتكاز العقلائي ودليل الإنسداد. وفحوى الدليل الأول هو أن العامي يعي صحة الرجوع إلى أهل الإختصاص من الفقهاء مثلما يرجع العقلاء في الحرف والصنايع إلى أهل الخبرة والإطلاع، مع احراز العلم بعدم ممانعة الشريعة لذلك. أما فحوى دليل الإنسداد فهو أن كل مكلف يعلم بثبوت أحكام إلزامية في حقه، كما يعلم أنه غير مفوض في أفعاله بحيث له أن يفعل ما يشاء، وبالتالي فإن عقله يستقل بلزوم الخروج عن عهدة التكاليف الواقعية المنجزة بعلمه، وليس أمامه إلا الإجتهاد أو الإحتياط أو التقليد، لكن العامي ليس بوسعه الإجتهاد، كذلك فإن الإحتياط غير ميسور له لعدم تمكنه من تشخيص موارده، لذلك يتعين عليه التقليد للحصر الآنف الذكر[13].
ويلاحظ أن دليل الإرتكاز لا يخلو من إشكال يتعلق بالقياس، وكان الأجدر أن يقال دليل العقل من حيث ضرورة رجوع العامي إلى المختص فيما لا علم له به. لكن بغض النظر عن ذلك فإن هذا الدليل يمكن أن يوظف لصالح إثبات صحة التعويل على طريقة النظر لكل من بإستطاعته إستخدام هذه الطريقة كما سنعرف.
***
يظل أن نعرف بأن هناك جماعة من قدماء الإمامية أنكروا التقليد، وقد عوّل بعضهم على أن يكون جميع المكلفين منقادين إلى تحصيل العلم بالأحكام الشرعية وليس الظن، كما هو رأي إبن زهرة كالذي مرّ علينا سابقاً. ونُقل عن البعض الآخر أنهم يوجبون الإستدلال على العلم ومساءلة الفقهاء، وهي طريقة وإن لم تنقّح، لكنها تصب في ذات المجرى الذي ندعو اليه. فقد جاء عن «بعض قدماء الأصحاب وفقهاء حلب منهم القول بوجوب الإستدلال على العوام، وإنهم إكتفوا فيه بمعرفة الإجماع الحاصل من مناقشة العلماء عند الحاجة إلى الوقائع أو النصوص الظاهرة، أو أن الأصل في المنافع الإباحة وفي المضار الحرمة، مع فقد نص قاطع في متنه ودلالته، والنصوص محصورة». وقد ضعّف صاحب (المعارج) هذا الرأي وتابعه في النقد صاحب (المعالم)؛ فذكر أنه «قد حكى غير واحد من الأصحاب إتفاق العلماء على الإذن للعوام في الإستفتاء من غير تناكر، وإحتجوا في ذلك: بأنه لو وجب على العامي النظر في أدلة المسائل الفقهية لكان ذلك إما قبل وقوع الحادثة أو عندها، والقسمان باطلان. أما قبلها فبالإجماع، ولأنه يؤدي إلى إستيعاب وقته بالنظر في ذلك فيؤدي إلى الضرر بأمر المعاش المضطر إليه، وأما عند نزول الواقعة فلأن ذلك متعذر لإستحالة إتصاف كل عامي عند نزول الحادثة بصفة المجتهدين، وبالجملة فهذا الحكم لا مجال للتوقف فيه»[14].
مع أنه بحسب طريقة النظر تسقط مثل تلك المناقشة، حيث ليس المطلوب من العامي أن يتصف بصفة المجتهدين ولا أن يصرف عمره في طلب علم الفقه ويكون من أهل الخبرة والإختصاص، بل يكفيه أن يتعلم معالم الدين بصورة مجملة وتكون له بعض الخبرة في تفهم الآراء الفقهية، وبذلك يمكن أن تصبح لديه القدرة في ترجيح بعضها على البعض الآخر تبعاً للاطمئنان الوجداني.
[1] المحقق الحلي: المعتبر، المقدمة. كذلك: مقدمة محمد تقي القمي للمختصر النافع للحلي، ص ي.
[2] الإجتهاد والتقليد للخوئي، ص21.
[3] فرائد الأصول، ج2، ص506.
[4] الإجتهاد والتقليد للخوئي، ص19.
[5] نفس المصدر، ص199.
[6] عوائد الأيام، ص192. والفصول الغروية، ص416.
[7] الإجتهاد والتقليد للخوئي، ص368 .
[8] نفس المصدر السابق، ص249 .
[9] كفاية الأصول، ص542.
[10] عناية الأصول، ج6، ص242 .
[11] الفصول الغروية، ص423ـ424.
[12] الإجتهاد والتقليد للخوئي، ص18و19و83.
[13] الإجتهاد والتقليد للخوئي، ص83ـ84.
[14] معارج الأصول، ص197. ومعالم الدين، ص385ـ386.