يحيى محمد
إختلف الأُصوليون من أهل السنة حول وجوب تقليد الأعلم، وكانت مطارحاتهم في هذا الموضوع عن الأعلمية لا تتعدى أحياناً حدود البلد الواحد، وإن كانت أحياناً أُخرى يقصد منها الشمول والإطلاق([1]). فبعضهم قال بالوجوب وألزم العامي الإجتهاد في أعيان المفتين من الأورع والأدين والأعلم. ونُقل أن هذا هو مذهب أحمد بن حنبل وإبن سريج والقفال من أصحاب الشافعي وجماعة أُخرى من الفقهاء والأُصوليين؛ الذين إعتبروا أقوال المفتين في حق العامي تنزل منزلة الدليلين المتعارضين في حق المجتهد، فكما يجب على المجتهد الترجيح بين الدليلين فإنه يجب على العامي الترجيح بين المفتين. وأيضاً لأن طريق معرفة هذه الأحكام إنما هو الظن، والظن في تقليد الأعلم والأدين أقوى، فكأن المصير إليه أولى([2]).
وفي القبال ذهب القاضي أبو بكر وابن حاجب واكثر الحنابلة وجماعة من الأصوليين والفقهاء إلى التخيير والسؤال لمن شاء من العلماء؛ سواء تساووا أم تفاضلوا. وقيل أن هذا الإتجاه هو ما ذهب إليه أكثر علماء السنة([3]). وكانت حجتهم الرئيسية في ذلك هي سيرة الصحابة من حيث أن فيهم الفاضل والمفضول، ومع ذلك فقد كان الناس يتبعون ما حلى لهم منهم دون نكير، إذ لم يُنقل عن أحد من الصحابة والسلف تكليف العوام بالإجتهاد في أعيان المجتهدين، ولا أنكروا منهم إتباع المفضول والإستفتاء منه مع وجود الأفضل([4]). وقد إختار الآمدي هذا الرأي معتبراً أن العامي ليس بوسعه معرفة الأعلم دون معرفة مآخذ المجتهدين ووجه الترجيح فيه، الأمر الذي يخرجه عن العامية ويمنعه من جواز الإستفتاء، فكل ما بوسعه أن يعلم هو أنهم جميعاً من أهل الإجتهاد والإختصاص([5]).
***
أما في الساحة الشيعية فإن فكرة الأعلمية تُعد من القضايا المركزية لدى تفكير المتأخرين والمعاصرين، وذلك لما لها من علاقة بالمرجعية ونيابة الإمام الغائب.
وعموماً ذهب الغالبية من علماء الشيعة المتأخرين إلى وجوب تقليد الأعلم، وخالفهم في ذلك عدد من العلماء قالوا بعدم الوجوب، كما هو منسوب إلى جمع ممن تأخر عن الشيخ زين الدين العاملي المعروف بالشهيد الثاني، وحكاه إبنه الشيخ حسن عن بعض الناس([6]). كما ذهب بعض ممن تأخر عنهم إلى هذا الإتجاه، ومنهم الأصفهاني صاحب (الفصول الغروية)([7])، والنجفي صاحب (جواهر الكلام)([8])، والنراقي صاحب (مستند الشيعة)([9])، وجماعة من المعاصرين. كما نُقل أن هذا الرأي قد قال به المحقق ومال إليه الأردبيلي بحسب الظاهر([10]). لكن إن كان المقصود بالمحقق هو المحقق الأول (نجم الدين الحلي)؛ فالحقيقة أن ما نُسب إليه يخالف ما جاء عنه في كتاب (معارج الأُصول)، إذ قال بوجوب تقليد الأعلم عند الإختلاف([11]). وممن ذهب الى هذا الاتجاه من عدم وجوب تقليد الأعلم كل من الشيخ محمد رضا آل ياسين في حاشيته على كتاب (العروة الوثقى) والميرزا محمد التنباكي في رسالة (التقليد)([12]).
وذكر الفيروز آبادي صاحب (عناية الأُصول) إن القول بجواز تقليد المفضول قد ذهب إليه جملة من متأخري أصحابنا «حتى صار في هذا الزمان قولاً معتداً به»([13]).
مفهوم الأعلمية والخلاف حوله
لم يُعالج مفهوم الأعلمية ويحدد ضابطه إلا منذ فترة قريبة ربما لا تزيد على قرنين من الزمان. فقد إختلف الفقهاء حول هذا الضابط، إذ ذكر بعضهم في (المهذب) بأن الأعلمية هي من الموضوعات العرفية، لذلك فإن محتملات معانيها عبارة عن أربعة: فإما إن معنى الأعلم هو أن يكون أكثر علماً من غيره، أو أن يكون أكثر إستحضاراً للفروع الفقهية ومسائلها، أو يكون أقرب إصابة إلى الواقع، أو أنه أجود فهماً وأحسن تعييناً للوظائف الشرعية([14]).
بينما ذهب الشيخ أحمد النراقي، إستناداً لبعض الروايات، إلى أن المراد بالأعلمية هو الأعلمية في الأحاديث وفي دين الله. فتارة تكون الأعلمية في الأحاديث بأكثرية الإحاطة بها والإطلاع عليها، وأُخرى بالأفهمية والأدقية وأكثرية الطور فيها، وثالثها بزيادة المهارة في إستخراج الفروع منها وردّ جزئياتها إلى كلياتها، ورابعها بزيادة المعرفة بصحيحها وسقيمها وأحوال رجالها وفهم وجوه الخلل فيها، وخامسها بأكثرية الإطلاع على ما يتوقف فهم الأخبار عليها من علم اللغة والنحو وغير ذلك، وسادسها باستقامة السليقة ووقادة الذهن وحسن الفهم فيها، وسابعها بأكثرية الإطلاع على أقوال الفقهاء التي هي كالقرائن في فهم الأخبار ومواقع الإجماعات وأقوال العامة ـ أهل السنة - التي هي من المرجحات عند التعارض، كذلك فهم القرآن. فالأعلم الذي يجب تقديمه بلا أدنى شك هو الأعلم بجميع تلك المراتب أو في بعضها مع التساوي في الباقي، وإلا فإنه يشكل الحكم بالتقديم، ومن ذلك يظهر ندرة ما يحكم فيه بوجوب التقديم البتة([15]).
وعند الأصفهاني صاحب (الفصول الغروية) أن مما يدخل ضمن (الأعلمية) هو أن يكون المجتهد أقوى من غيره في معرفة مضامين العلوم التي يتوقف عليها الإجتهاد، كالعربية والأُصول والرجال، مضافاً إلى أن تكون له إعتبارات قوة الحفظ، أو الذكاء، أو كثرة التأمل، أو كثرة الإطلاع، أو سعة الباع في الفكر والتصرف، أو إعتدال السليقة، أو زيادة التحقيق، أو التدقيق، أو أقدمية الإشتغال ومزيد الإستيناس. لكنه إستدرك بأن من الممكن أن يتحقق التعارض بين هذه الوجوه، لهذا فهو يرى أن إعطاء ضابط للأمر يعد متعذراً على الظاهر([16]).
ولدى اليزدي صاحب (العروة الوثقى) أن المراد بالأعلم هو أن يكون أعرف بالقواعد والمدارك للمسألة وأكثر إطلاعاً لنظائرها وللأحاديث، وكذلك أجود فهماً لهذه الأحاديث، وبالتالي فالحاصل هو أن يكون أجود إستنباطاً من غيره([17]).
ولدى الفيروز آبادي صاحب (عناية الأُصول) أن الأعلم هو من له ملكة أقوى وسلطة أشد في الإستنباط([18]). ومثل هذا ما ذكره محمد تقي الحكيم، حيث أن الأعلم بنظره هو أن يكون المجتهد أقوى ملكة من غيره في مجالات الإستنباط، لا الأوصلية إلى الواقع لعدم إمكان إحرازها في الغالب([19]).
ولدى محمد الجواد العاملي صاحب (مفتاح الكرامة) أن الفاضل هو من يتبع المآخذ ويصيب في الفكر، لكن الأفضل هو من له هاتين الخصلتين إلا أن خطأه أقل([20]).
أما الخوئي فإنه يعتمد في تحديد الأعلم على بناء العقلاء والعقل. فهو ينفي أن يكون معناه مستمداً من شدة الإقتدار في معرفة القواعد والكبريات أو المبادئ التي تُستنتج بها الأحكام؛ كما إذا كان المجتهد في المطالب الأُصولية أقوى من غيره، كذلك ينفي أن يكون المراد به أكثرية الإحاطة بالفروع والتضلع في الكلمات والأقوال، بل المراد بالأعلم عنده هو أن يكون المجتهد أشد مهارة من غيره في تطبيق الكبريات على صغرياتها وأقوى إستنباطاً وأمتن إستنتاجاً للأحكام عن مبادئها وأدلتها، وهو ما يتوقف على علمه بالقواعد والكبريات، وحسن سليقته في تطبيقه على صغرياتها، فلا يكفي أحدهما ما لم ينضم إليه الآخر. فمثل ذلك كمثل الطبيب الأعلم في نظر العقلاء، حيث أنه أعرف بتطبيق الكبريات الطبية على مصاديقها([21]).
وشبيه بذلك ما لدى صاحب (التهذيب)، حيث أن الأعلم عنده هو من كان أجود فهماً في تطبيق الفروع على مداركها وأجود إستنباطاً للوظائف الشرعية([22]).
وأخيراً - وبسبب التحول السياسي عند الشيعة - فإن هناك من يرى أن من ضمن ما يدخل في ملاك الأعلمية هو أن يكون للمجتهد معرفة بأوضاع زمانه بالمقدار الذي له مدخلية في تشخيص موضوعات الأحكام الشرعية، كما هو رأي الولي الفقيه السيد علي الخامنئي. وقبله كان الإمام الخميني يرى أن من الواجب على المرجع أن يكون عالماً بالأُمور السياسية والعسكرية والإجتماعية والقيادية كافة([23]). فربما يكون ذلك داخلاً ضمن عنوان الأعلمية. وهو أمر له مساس بتأثير الواقع والحاجات الزمنية على الفهم الفقهي وتطويره. بل تبعاً لهذا التأثير لم يكتفِ بعض الفقهاء الجدد من التأكيد على شرطية معرفة الأُمور السياسية والإجتماعية والإقتصادية داخل النظام الإسلامي؛ إنما ذهب إلى أكثر من ذلك فاعتبر أن من لم يحرز مثل هذه الأُمور فليس بمجتهد بالمرة، وذلك باعتبار أن الفقه الشيعي حديث العهد بها، وهي تشكل ما يقارب (95%) من مجموع الأحكام الكلية.
فكما يقول الشيخ الجناتي: إن «مفهوم الأعلمية اليوم - حيث هناك نظام إسلامي قائم - هو غير مفهوم الأعلمية في السابق، ولأن الأعلم في السابق هو الذي يكون أعلم المجتهدين الآخرين في إطار مسائل الرسالة العملية والتي تشمل نوعاً ما على المسائل الفردية والعبادية وهي تشكل (5%) فقط من مجموع الأحكام، أما اليوم فالمجتهد الأعلم هو أعلم من سائر المجتهدين في جميع المسائل التي يحتاجها الفرد؛ سياسية، عبادية، إقتصادية، إجتماعية، بالإضافة إلى مسائل العلاقات الدولية والمسائل الحكومية. لهذا يجب أن تحرز هذه الأُمور في الشخص الذي يطرح باعتباره الأعلم، وبدونها لا يمكن أن نعتبره الأعلم. بل يمكن أن لا نعتبره مجتهداً؛ لأن أدلة الفروع الموجودة في الرسائل العملية واضحة ولا تحتاج إلى بذل الوسع والإجتهاد...إن الفقيه الذي لا يلم بالمسائل التي يواجهها النظام الإسلامي والتي تشكل (95%) من مجموع الأحكام، ويكتفي بالمسائل والأحكام الفردية والعبادية في حدود الرسالة العملية ـ التي تكررت مئات المرات ـ فقط؛ لا يمكن أن يكون مجتهداً مطلقاً»([24]).
[1] الإحكام للآمدي، ج4، ص457. وفواتح الرحموت، ج2، ص405.
[2] انظر بهذا الصدد المصادر التالية: المستصفى، ج2، ص391. والإحكام للآمدي، ج4 ، ص457ـ485. وفواتح الرحموت، ج2 ، ص405. والموافقات، ج4، ص292. والإعتصام، ج3، ص255.
[3] فواتح الرحموت، ج2 ، ص404 . والحبل المتين، ص6.
[4] الإحكام للآمدي، ج4 ، ص458.
[5] المصدر السابق، ص324 و458.
[6] معالم الدين، ص389 .
[7] الفصول الغروية، ص424.
[8] جواهر الكلام، ج40، ص45.
[9] مستند الشيعة، ج2، ص521.
[10] النراقي، ملا أحمد: مستند الشيعة في أحكام الشريعة، طبعة حجرية لم يكتب عنها شيء، ج2، ص521.
[11] انظر: معارج الأُصول، ص201.
[12] الجناتي، محمد إبراهيم: أعلمية الفقيه ومباني التقليد، مجلة التوحيد، العدد (79)، ص35.
[13] عناية الأُصول، ج6، ص246.
[14] شورى الفقهاء، ج1، ص289.
[15] مستند الشيعة، ج2، ص522. والمصدر السابق، ص289 .
[16] الفصول الغروية، ص424 . كذلك: خلاصة الفصول، ج2، ص55 .
[17] اليزدي، محمد كاظم: العروة الوثقى، وبهامشها تعليقات أعلام العصر ومراجع الشيعة الإمامية، مؤسسة الأعلمي ببيروت، الطبعة الثانية، 1409هـ ـ1988م، ج1، ص7ـ8 .
[18] عناية الأُصول، ج6 ، ص258 .
[19] الحكيم، محمد تقي: الأُصول العامة للفقه المقارن، مؤسسة آل البيت للنشر، الطبعة الثانية، 1979م، ص659.
[20] العاملي، محمد الجواد الغروي: مفتاح الكرامة في شرح قواعد العلامة، تصحيح محمد باقر الحسيني الشهيدي الكلپايكاني، مطبعة رنكين في طهران، 1378هـ، ج10، ص4.
[21] الإجتهاد والتقليد للخوئي، ص203 و204 .
[22] تهذيب الأُصول، ج2، ص119 .
[23] الخامنئي، علي الحسيني: أجوبة الإستفتاءات، العبادات، دار الوسيلة، الطبعة الثانية، 1415هـ ـ1995م، ص9 و8.
[24] أعلمية الفقيه ومباني التقليد للجناتي، مجلة التوحيد، نفس المعطيات السابقة، ص36.