يحيى محمد
لقد إستدل الفقهاء ببعض الأدلة التي تفيد عدم جواز الرجوع إلى المرأة في التقليد، وكذا مثله في القضاء والزعامة العامة. فمن ذلك إعتماد الفقهاء الشيعة على مشهورة أبي خديجة الذي نقل عن الإمام الصادق قوله: «إياكم.. أن تحاكموا إلى أحد من هؤلاء الفساق، إجعلوا بينكم رجلاً قد عرف حلالنا وحرامنا فإني قد جعلته عليكم قاضياً، وإياكم أن يخاصم بعضكم بعضاً إلى السلطان الجائر»، فهي دالة على أخذ الرجولة في باب القضاء، وحيث أن منصب الفتوى ليس بأقل مستوى من القضاء، فهو إن لم يكن أرقى منه فإنه في مستواه، إذ القضاء حكم بين إثنين أو جماعة رفعاً للتخاصم، بينما الفتوى حكم كلي يبتلي به عامة المسلمين، لذا فالرجولة معتبرة في باب الفتوى بالأولوية.
ولوحظ على هذه الرواية أنه لا دلالة لها على أخذ عنوان الرجولة شرطاً في القضاء لمجرد ذكر «إجعلوا بينكم رجلاً». فالرواية - كما هو واضح - بصدد وضع حكم في قبال ما يحاكم به الآخرون إلى أهل الجور، ولما كان المتعارف في القضاء هو جنس الرجولة؛ لذا فإن أخذ هذا العنوان إنما من باب الغلبة لا من جهة التعبد، خاصة وأن الرواية ليست بصدد الجنس في تحديدها للحكم، وليس هناك ما يدل على قصد التعيين.
يضاف إلى أن الرواية جاءت بخصوص القضاء، فالتعدي إلى باب الفتوى يعد من القياس المفتقر إلى إتحاد المناط. واذا كان لبعض المتأخرين من الاتجاه الشيعي توظيفاً للقياس بتمديد الحكم في شرط الذكورة من موضوع القضاء الى موضوع الفتوى؛ فان الحال لدى البعض في الاتجاه السني ينعكس، حيث القياس من الفتوى الى القضاء، وان النتيجة فيه منعكسة كذلك، أي أنها ليست لصالح الشرطية وانما لصالح نفيها. فقد ذهب الامام الطبري الى ان الذكورة ليست شرطاً في القضاء لأن هذا الأخير هو كالافتاء لا يشترط فيه الذكورة([1]).
كما إستدل الفقهاء بمقبولة عمر بن حنظلة، إذ ورد فيها: «ينظران من كان منكم ممن قد روى حديثنا ونظر في حلالنا وحرامنا وعرف أحكامنا..»، وهي ضعيفة السند، كما لا دلالة لها على المقصود بمثل ما سبق بخصوص رواية أبي خديجة.
ومثل ذلك يمكن أن يُستدل بما جاء عن النبي (ص) قوله: «لا يفلح قوم وليتهم إمرأة»، وفي حديث آخر: «لا تتولى المرأة القضاء»، وأيضاً ما جاء في وصيته لعلي بقوله: «يا علي ليس على المرأة جمعة... ولا تولي القضاء»، وكذا ما جاء في كتاب (الإختصاص) لرواية مرسلة عن إبن عباس عن النبي (ص) أنه قال: «خُلقت حواء من آدم، ولو أن آدم خُلق من حواء لكان الطلاق بيد النساء ولم يكن بيد الرجال»، وحين سُئل النبي هل أنها خُلقت من كلّه أو من بعضه فإنه أجاب: «بل من بعضه، ولو خلقت حواء من كلّه لجاز القضاء في النساء كما يجوز في الرجال»، وما جاء في نهج البلاغة عن الإمام علي أنه قال: «النساء نواقص الإيمان، نواقص الحظوظ، نواقص العقول»، وكذا انه قال: «إياك ومشاورة النساء فإن رأيهن إلى أفن..»([2]).
والملاحظ أن جميع هذه الروايات بغض النظر عن سندها لا تتعلق بالفتوى، إذ أنها جاءت بخصوص الولاية والقضاء، وبعضها لا دلالة لها على حرمة التولي.
وعلى العموم ذهب اغلب الفقهاء في الوسط الشيعي الى المنع من تقليد المرأة، طبقاً للاعتبارات السابقة. لكن عدداً قليلاً من الفقهاء، كبعض المعاصرين، ذهبوا إلى جواز تقليدها وعدم إعتبار الرجولة شرطاً في التقليد. فقد ذكر المرحوم السيد محسن الحكيم أن إعتبار الرجولة «ليس عليه دليل ظاهر غير دعوى إنصراف إطلاقات الأدلة إلى الرجل وإختصاص بعضها به. لكن لو سُلم فليس بحيث يصلح رادعاً عن بناء العقلاء. وكأنه لذلك أفتى بعض المحققين بجواز تقليد الأُنثى والخنثى»([3]). كما صرح السيد الشيرازي بأن في إشراط الرجولة خلافاً، إذ إستدل من قال بجواز تقليد الأُنثى والخنثى بالإطلاقات والعمومات وعموم بناء العقلاء من غير رادع([4]). كما أن الفيروز آبادي صاحب (عناية الأُصول) صرح بعدم وجود ما يدل على إعتبار الرجولة - فضلاً عن طهارة المولد والبلوغ - في المرجعية، لكنه مع ذلك أخذ بالإحتياط بدعوى تسالم الأصحاب عليها([5]). وفي الوقت الحاضر ذهب السيد محمد حسين فضل الله إلى جواز تقليد المرأة([6]). كما ذهب الشيخ محمد مهدي شمس الدين إلى مثل ذلك، معطياً للمرأة الأهلية التامة لتولي رئاسة الدولة والسلطة السياسية وكل ما يصلح له الرجل([7]).
وتجدر الاشارة الى أن هناك خلافاً في الوسط السني حول شرط الذكورة في القضاء، وإن أجمع العلماء - تقريباً - على هذا الشرط في الامامة الكبرى. فقد ذكر ابن رشد الحفيد بأن الفقهاء «اختلفوا في اشتراط الذكورة، فقال الجمهور: هي شرط في صحة الحكم. وقال ابو حنيفة: يجوز ان تكون المرأة قاضياً في الاموال. وقال الطبري: يجوز ان تكون المرأة حاكماً على الاطلاق في كل شيء.. فمن رد قضاء المرأة شبهه بقضاء الامامة الكبرى، وقاسها ايضاً على العبد لنقصان حريتها، ومن اجاز حكمها في الاموال فتشبيهاً بجواز شهادتها في الاموال. ومن رأى حكمها نافذاً في كل شيء قال: ان الاصل هو ان كل من يأتي منه الفصل بين الناس فحكمه جائز الا ما خصصه الاجماع من الامامة الكبرى». وقد اعتمد الجمهور في اعتبار الشرط على الحديث النبوي كما رواه البخاري في صحيحه: «لن يفلح قوم ولوا أمرهم إمرأة». وايضاً «فان القاضي يحتاج الى مخالطة الرجال من الفقهاء والشهود والخصوم، والمرأة في الاصل ممنوعة من المخالطة التي لا ضرورة لها». وقد اعتبر ابن حزم الحديث المذكور دالاً على الخلافة لا القضاء، وروي ان عمر بن الخطاب ولى الشفاء - وهي إمرأة من قومه – السوق([8]).
رأي الخوئي في الموضوع
بحسب رأي السيد الخوئي أن مقتضى إطلاق الأدلة الشرعية والسيرة العقلائية عدم الفرق بين النساء والرجال. لكن مع هذا فإنه عدّ الرجولة شرطاً في المرجع دون أن يسوّغ تقليد المرأة، وذلك إستناداً إلى ما أطلق عليه (مذاق الشارع) لأن الوظيفة المرغوبة للنساء هي التحجب والتستر وتصدي الأُمور البيتية دون التدخل فيما ينافي تلك الأُمور، في حين «أن التصدي للإفتاء ـ بحسب العادة ـ جعل للنفس في معرض الرجوع والسؤال لأنهما مقتضى الرئاسة للمسلمين، ولا يرضى الشارع بجعل المرأة نفسها معرضاً لذلك أبداً؛ كيف ولم يرضَ بإمامتها للرجال في صلاة الجماعة، فما ظنك بكونها قائمة بأُمورهم ومديرة لشئون المجتمع ومتصدية للزعامة الكبرى للمسلمين». وهو قد إعتبر ذلك مرتكزاً قطعياً في أذهان المتشرعة يقيّد إطلاق الأدلة الشرعية ويردع عن السيرة العقلائية الجارية في رجوع الجاهل إلى المختص؛ رجلاً كان أم إمرأة([9]).
لكن من الواضح أن ما أفاده الخوئي ليس صحيحاً بالمرة. فمن جهة إنه لو سلمنا بالدليل الذي قدمه لكان تحريم الرجوع الى المرأة في الإفتاء مقتصراً على المقلّدين من الرجال دون النساء، مع أنه حرم ذلك كلياً. أما من جهة أُخرى فهو أن الرجوع إلى المرأة في الإفتاء ليس فيه أيّ أثر من الآثار المضادة للستر والتحجب، وإلا لكنّا نعد الإتصال بالنساء لقضاء أغراض مشروعة؛ مثل الرجوع إلى المعلمة أو الطبيبة حراماً. كيف وقد إشتهرت العديد من النساء في زمن النبي بمشاركتهن على مسرح الحياة الإجتماعية، ومنهنّ اللواتي شاركن في الحروب التي خاضها النبي لأجل تضميد الجرحى؟!.
على أن عمل المرأة في سلك المرجعية لا يُضاد وظيفتها الأساسية المتعلقة بتدبير المنزل، إذ ليس كل النساء من تفكر أن تكون مرجعاً، مثلما ينطبق الحال على الرجال، والإستثناء لا يكون مزاحماً للقاعدة العامة، مادمنا نسلّم بأن عمل المرأة خارج المنزل ليس في حد ذاته حراماً، وأن الرجوع إليها في السؤال والإستفسار والحديث إن لم يكن فيه أثر من آثار الفساد ليس فيه حظر شرعي هو الآخر. فكيف إذا ما كانت في سن كسن الشيخوخة الذي يغلب على المراجع؛ فأيّ أثر لذلك على هتك الستر والحجاب؟!
ولا يُستبعد أن تكون وجهة النظر هذه متأثرة بالأعراف والتقاليد التي سادت مدة طويلة، سيما أن الظروف التاريخية والإجتماعية كان لها دور هام في إضعاف شأن المرأة وإظهارها بمظهر سلبي يصل أحياناً إلى جعلها بموضع شبيه بالبهيمة؛ كدلالة على غريزتها وغباوتها في الوقت نفسه([10]).
هكذا نخلص إلى أنه لا يوجد نص شرعي يدين المرأة على مزاولتها النشاط خارج حدود المنزل؛ فلم يحرّم خروجها ولا إتصالها بأخيها الرجل ولا صلاتها معه في مسجد واحد. أما عدم جواز إئتمام الرجال خلفها في الصلاة، فلا يوجد دليل قطعي عليه، والمرجّح أنه متأثر بالظروف البيئية القديمة. لكن مع ذلك لو صحّ الحكم فربما يعود إلى أن حركات المرأة لا تليق بالمقام أمام الرجال وسط أعرافنا التقليدية، أو يعود إلى فارق القيمومة التي يمتاز بها هؤلاء عليها، أو أنه أمر تعبدي نجهل سببه تماماً. وهو يختلف عن حال الرجوع إليها والإستفادة منها في المسائل الشرعية، مثلما تجوز شهادتها والرواية عنها، خاصة إذا ما توفرت الوسائل التي تُغني الرجوع إليها مباشرة كما هو حال عصرنا الحالي. وعليه لا مجال للقياس بين الصلاة ومنصب الإفتاء والقضاء. أما القيادة العامة فربما يختلف أمرها بعض الشي. لكن مع الأخذ بعين الإعتبار ان الوسائل الحالية، مثل كفالة الدستور والتشريعات القانونية وهيئة المستشارين والمختصين وغير ذلك، كلها تتيح للفرد، ذكراً أم أنثى، أن يمارس القيادة من دون عائق.
أخيراً تجدر الإشارة إلى أن الخوئي قد إعتبر جملة من القضايا ليس عليها دليل سوى ما أطلق عليه مذاق الشارع المرتكز في أذهان المتشرعة، كان منها ما يتعلق بشرط الإيمان، ومعناه عند الإمامية الاثنى عشرية أن يكون المرجع إثنا عشرياً خالصاً. فقد اعتبر أن المستفاد من ذوق الشارع عدم رضاه بزعامة غير المسلم والمؤمن، ويبدو أنه أراد بذلك روح الشريعة كما يتبين من الاستقراء العام لها.
[1] ابن رشد الحفيد: بداية المجتهد ونهاية المقتصد، دار المعرفة، بيروت، الطبعة السابعة، 1405هـ ـ1985م، ج2، ص463. والاحكام السلطانية، ص83. وزيدان، عبد الكريم: نظام القضاء في الشريعة الاسلامية، مؤسسة الرسالة، بيروت /دار البشير، عمان، الطبعة الثالثة، 1415هـ ـ1995م، ص31.
[2] الوسائل، ج18، أبواب صفات القاضي، باب 2، ص6. ومستدرك الوسائل، ج17، أبواب صفات القاضي، باب 2، ص241 . والجواهر، ج40، ص14. ونهج البلاغة، خطبة رقم 80، ص105، كذلك ص405.
[3] مستمسك العروة الوثقى، ج1، ص43.
[4] الإجتهاد والتقليد، ضمن موسوعة الفقه: ج1، ص216ـ217.
[5] عناية الأُصول، ج6، ص293 و294.
[6] انظر: المسائل الفقهية، ص16.
[7] انظر الحوار مع شمس الدين، في: صحيفة صوت العراق، العدد 176.
[8] نظام القضاء، ص30ـ31. وحول تولية الشفاء بنت عبد الله ذكر ابن حجر العسقلاني في ترجمتها أن عمر بن الخطاب كان يقدّمها في الرأي ويرعاها ويفضلها وربما ولاها شيئاً من أمر السوق (ابن حجر العسقلاني: الإصابة في تمييز الصحابة، تحقيق علي محمد البجاوي، نشر دار الجيل، بيروت، 1412هـ ـ 1992م، عن مكتبة المشكاة الالكترونية، ج7، فقرة 11373، ص727).
[9] الإجتهاد للخوئي، ص226.
[10] فعلى سبيل المثال ذكر الفخر الرازي في تفسيره لقوله تعالى: ((ومن آياته أن خلقَ لكم من أنفسكم أزواجاً لتسكنوا اليها وجعل بينكم مودة ورحمة، إن في ذلك لآيات لقوم يتفكرون)) الروم/ 21، وقال: «قوله ((خلق لكم)) دليل على أن النساء خُلقن كخلق الدواب والنبات وغير ذلك من المنافع، كما قال تعالى ((خلق لكم ما في الأرض))، وهذا يقتضي أن لا تكون مخلوقة للعبادة والتكليف، فنقول خلق النساء من النعم علينا، وخلقهن لنا وتكليفهن لاتمام النعمة علينا؛ لا لتوجيه التكليف نحوهن مثل توجيهه الينا، وذلك من حيث النقل والحكم والمعنى . أما النقل فهذا وغيره. وأما الحكم فلأن المرأة لم تكلف بتكاليف كثيرة كما كلف الرجل بها. وأما المعنى فلأن المرأة ضعيفة الخلق سخيفة، فشابهت الصبي، لكن الصبي لم يكلف؛ فكان يناسب أن لا تؤهل المرأة للتكليف، لكن النعمة علينا ما كانت تتم إلا بتكليفهن لتخاف كل واحدة منهن العذاب فتنقاد للزوج وتمتنع عن المحرم، ولولا ذلك لظهر الفساد» (التفسير الكبير، ج24 ، ص110).