يحيى محمد
لا شك أن العمدة في مشروعية العمل بالإجتهاد هو الحاجة والضرورة مع فقد قرائن العلم واليقين، خاصة مع تجدد الحوادث التي لم يسبق لها وجود في عهد النص. فلولا ذلك ما كنّا نجد دلالة واضحة على حليته. وقد سبق لابراهيم القطيفي المعاصر للمحقق الكركي (المتوفى سنة 940هـ) أن أشار الى هذا المعنى بقوله: إن «الاجتهاد في مذهب الامامية ليس طريقاً جائزاً بالاصالة، وانما جاز للضرورة الحاصلة من غيبة الامام، وبعده أُجيز للمجتهد مادام قائماً بالمحافظة على الأدلة... والاجتهاد مقول بالتشكيك كما لا يخفى، ويتجزأ على المذهب المختار للاصوليين»([1]).
فمعاني الأخبار والأحاديث تعطي دلالة مخالفة للاجتهاد. فهي تنهى عن العمل بكل ما يفضي إلى الظن؛ سواء سُمي إجتهاداً أم قياساً أو رأياً أو غير ذلك من المسميات. والعجيب رغم أن الأُصوليين من الشيعة وجدوا نهياً واضحاً للأخبار على كل من الرأي والقياس والإجتهاد لكونها تفضي إلى الظن؛ فقد حملوها على بعض صور الإجتهاد التي يعمل بها الإتجاه السني؛ خاصة القياس، وكان أول من صرح بذلك المحقق نجم الدين الحلي([2])، وعاضده ابن اخته العلامة الحلي اذ يقول: «واما العلماء فيجوز لهم الاجتهاد باستنباط الاحكام من العمومات في القرآن والسنة وترجيح الاخبار المتعارضة، أما أخذ الحكم من القياس والاستحسان فلا»([3])، رغم أن دلالة الأخبار واضحة في النهي عن جميع أنواع الإجتهاد المفضية إلى الظن.
بل حتى المحقق الحلي أبدى في بعض كتبه شيئاً من التحفظ إزاء الاجتهاد والفتوى، كما في مطلع الفصل الاول من كتابه (المعتبر)، اذ ابدى عدم رضاه بالفتوى غير القطعية، فقال في وصيته: «انك في حال فتواك مخبر عن ربك وناطق بلسان شرعه، فما اسعدك ان أخذت بالجزم، وما أخيبك ان بنيت على الوهم، فاجعل فهمك تلقاء قوله تعالى: ((وان تقولوا على الله ما لا تعلمون)) وانظر الى قوله تعالى: ((قل أرأيتُم ما أنزلَ اللهُ لكم من رزقٍ فجعلتم منه حراماً وحلالاً، قل أاللهُ أذنَ لكم أم على الله تفترون)) وتفطن كيف قسّم الله مستند الحكم الى القسمين، فما لم يتحقق الإذن فانت مفتر»([4]).
وقد يدل هذا الكلام على عدم تقبل المحقق الحلي للفتوى ما لم تكن قطعية تنطق بلسان الشرع مما يطلق عليه الحكم الواقعي. كما قد يحمل كلامه الأخير على ان الفتوى غير مقيدة بالقطع، بل تتوقف على الاذن الشرعي فحسب، أي على القطع في الحجة ولو كانت الفتوى ظنية كما هو مسلك من جاء بعده من الفقهاء. حتى ذكر القمي في (قوانين الاصول) ان اثبات حجية ظن المجتهد يعتمد على الدليل القطعي وانه من الاصول الكلامية لا الاصول الفقهية، اذ اعتبر ان اغلب ما نطق به الشرع لا يفيد اليقين، ومع هذا قبل به الشرع، لذلك كان حجة([5]).
وزاد جماعة من الفقهاء في الطين بلّة، وادعوا أن الإجتهاد كان معمولاً به في عصر النص بتوجيه من قبل الأئمة، وذلك ليبرروا ما اضطروا إليه من ضرورة العمل به مادامت قرائن العلم والوضوح ذهبت مع ذهاب عصر النص. لذلك نجد موقفهم هذا يخالف تماماً موقف القدماء منهم؛ الذين «إدعوا أن من اللطف الواجب على الله أن يجعل على كل حكم شرعي دليلاً واضحاً مادام الإنسان مكلفاً والشريعة باقية»([6]).
من هنا نقول: كان الأولى بالأُصوليين أن لا يقفوا مثل ذلك الموقف المتناقض، وعليهم أن يتقبلوا جميع صور الإجتهاد المفضية إلى الظن من باب الضرورة والإضطرار وأن يرجحوا بعضها على البعض الآخر بحسب قوة الظن كما هي طريقة أغلب أصحاب دليل الإنسداد، وكما فعل بعضهم حين وجد ما يبرر العمل بالقياس؛ معتبراً أن النهي عنه إنما إقترن مع وجود النص والوضوح، أما مع غياب ذلك فلا فرق بينه وبين صور الإجتهاد الأُخرى المفضية إلى الظن. فقد وجّه الأنصاري ما مال إليه بعض العلماء من الشيعة في الأخذ بدليل القياس في مثل هذه الأزمنة المتأخرة عن عصر النص. وتحرير هذا الرأي يأتي من أن الدليل على حرمة القياس إن كان هو الأخبار المتواترة معنى في الحرمة؛ فلا ريب أن بعضها جاء في الرد على المخالفين في عصر الأئمة؛ باعتبارهم تركوا نصوص أهل البيت ورجعوا إلى إجتهاداتهم وآرائهم الخاصة. كما أن بعضاً منها يدل على حرمة القياس من حيث أنه ظن لا يغني عن الحق شيئاً. وبعض آخر يدل على الحرمة من حيث إستلزامه لإبطال الدين ومحق السنة؛ لإستلزامه الوقوع غالباً في خلاف واقع الحكم الإلهي. كذلك أن بعضاً آخر يدل على الحرمة ووجوب التوقف إن لم يوجد ما عداه، ولازمه الإختصاص بصورة التمكن من إزالة التوقف لأجل العمل بالرجوع إلى الائمة. لكن جميع تلك الوجوه من دلالات الأخبار لا تدل على حرمة العمل بالقياس عند عدم التمكن من العلم بالحكم ولا الطريق الشرعي إليه؛ بسبب الإنسداد الحاصل ببعد زماننا عن زمن النص. مما يعني أن العمل به جاء للضرورة والإضطرار إن كانت ظنيته أقوى من ظنية غيره من الطرق الكاشفة عن الحكم([7]).
[1] روضات الجنات، طبعة الدار الاسلامية، ج1، ص38ـ39 .
[2] انظر عبارته التي نقلناها خلال الفصل الأول من كتابنا هذا.
[3] مبادئ الوصول الى علم الاصول، نفس المعطيات السابقة، ص496 .
[4] الحلي، نجم الدين: المعتبر في شرح المختصر، مكتبة يعسوب الدين الالكترونية، مقدمة المؤلف. والمختصر النافع في فقه الامامية، تقديم محمد تقي القمي، دار الأضواء، بيروت، الطبعة الثالثة، 1405هـ ـ1985م، مقدمة محمد تقي القمي، ص ي.
[5] المحقق القمي: قوانين الاصول، طبعة حجرية، ص373 و450 .
[6] المعالم الجديدة للأُصول، ص93.
[7] فرائد الأُصول، ج1، ص253ـ254.