يحيى محمد
يتصور الكثير بأن الإعتماد على العقل في التشريع يفضي إلى نسخ الشريعة أو تعطيلها، ناهيك عن ان ذلك يثير في حد ذاته الاختلاف لارتفاع الضوابط. وقديماً كان السلف يمتعضون من ابداء الرأي الذي فيه رائحة العقل والبعد عن النص[1]، بل ويتحفظون أحياناً حتى من الرأي الذي يضطرون اليه في ابداء الفتوى، رغم أنه لا يستقل عادة عن النص، كالقياس مثلاً. وكان الإكثار في الرأي مدعاة لإحجام الاخرين عن صاحبه، كما هو معروف من موقف العلماء إزاء ابي حنيفة الذي اشتهر أنه يكثر العمل بالرأي وترك الأحاديث[2].
لكن اول محاولة مبدئية للتنظير في الموقف من مبادئ الإجتهاد والرأي نجدها لدى الشافعي. فقد كان هذا الإمام القرشي أول من استدل على المنع من التدخل العقلي، جاعلاً حدود الرأي لا تتعدى القياس باعتباره ظل النص وتابعه. ففي معرض نقده لمبدأ المصلحة والإستحسان اعتبر ان من استحسن فقد شرع، وقال: (انما الإستحسان تلذذ)[3]، وان (القول بما استحسن شيء يحدثه لا على مثال سبق)[4]. وعقد في كتابه (الأُم) باباً بعنوان (كتاب إبطال الإستحسان)[5]. والأدلة التي طرحها الشافعي بهذا الصدد هي ذاتها التي وظفها تلميذه داود الاصبهاني ضدّه في المنع من القياس، حيث وجدها تنطبق لا في منع المصلحة والإستحسان فحسب؛ وانما في مختلف ضروب الرأي التي منها القياس[6]. كذلك وسّع ابن حزم الاندلسي من دائرة الشبهة في نقضه للقياس والمصلحة والإستحسان[7]. فجميع هؤلاء استدلوا بكون الشريعة بيّنة وكافية في أحكامها لسد كل شأن من شؤون الحياة، فما من حادثة الا ولها حكمها بالنص، أو بدليل مستظل من نص كما يرى الشافعي. وبغير ذلك لا يبقى للحكم مصدر يعول عليه غير الأهواء والميول الذاتية، إذ لا ضابط للمصالح، وهي تتردد بين اعتبار الشارع لها وبين الغائه؛ كالذي صرح به الآمدي من الشافعية[8]. ويضيف البعض إلى أنه مثلما قد يغلب على العقل الهوى؛ فقد يخفى عليه وجوه الضرر والفساد[9].
كما ان الشاطبي الذي أقام تنظيراً واسعاً لمقاصد الشرع طبقاً للمصالح المعتبرة وجد نفسه في الوقت ذاته مضطراً إلى وصد الباب بوجه الممارسة العقلية، فعمد إلى نقد العقل بصورته المستقلة. فعلى رأيه ان العقل عاجز عن إدراك مصالح الدنيا من غير شرع، وذلك لإعتبارين: أحدهما أنه بالشرع لا العقل قد تبين ما كان عليه أهل الفترة (الجاهلية) من انحراف الأحوال عن الإستقامة وخروجهم عن مقتضى العدل في الاحكام. والثاني أنه لو كان للعقل قدرة تامة على إدراك جميع تلك المصالح لما كان الشرع بحاجة إلى ذكرها، ولاكتفى بذكر مصالح الآخرة فحسب. وبالتالي فقد انتهى إلى إقرار كون (العادة تحيل استقلال العقول في الدنيا بادراك مصالحها ومفاسدها على التفصيل) لكنه مع ذلك أقرّها (بعد وضع الشرع اصولها)[10]. بالإضافة إلى أنه اعتبر التعويل على العقل يقتضي ان يكون على حساب ما أمر به الله من العمل بالكتاب والسنة، فعلى رأيه أن احكامه تعالى لم ترد بما استحسنته النفوس واستقبحته[11]، اتساقاً مع ما ذهب اليه الأشاعرة من نفي الدلالة العقلية للحسن والقبح.
ولا شك ان الرأي الأخير يمكن ان يكون موضعاً للاحتجاج - بغض النظر عن الدلالة العقلية للحسن والقبح - وذلك فيما لو كان هناك وضوح كاف في تفاصيل الكتاب والسنة. أما مع عدم هذا الوضوح فالامر مغاير، حيث ان الأخذ بإطمئنان النفس لم يعد في قبال ما يقره القرآن والسنة، بل في قبال ما ينقله الناقل وما يفتيه المفتي من حيث فهمه واستنباطه، وان هذا النقل وكذا الفهم لا يتجاوز في الغالب درجة الظن، ولا يرقى إلى حالة الإطمئنان، فضلاً عن ان يكون مضاهياً للقطع الوجداني.
كذلك اعتبر الشاطبي ان الإعتماد على العقول في تحديد المصالح يفضي إلى التضارب والاختلاف لعدم توفر الضابط، فعلى حد قوله أنه (لو ترك الناس والنظر لانتشر ولم ينضبط، وتعذر الرجوع إلى أصل شرعي. والضبط أقرب إلى الانقياد ما وجد اليه سبيل. فجعل الشارع للحدود مقادير معلومة واسباباً معلومة لا تتعدى، كالثمانين في القذف، والمائة وتغريب العام في الزنا على غير احصان.. الخ.)[12].
مع ذلك ان ما ذكره الشاطبي في بيانه الأخير لا يتسق مع ما نعلمه من كثرة الإجتهادات والتغييرات التي ظهرت في عصر الخلفاء الراشدين، كتلك التي مارسها عمر بن الخطاب قبال العديد من النصوص والسيرة النبوية، وكان على رأسها إجتهاده في مقدار عقوبة شارب الخمر وكيفية تنفيذها، وكذا حكم المؤلفة قلوبهم؛ مما عدّه الفقهاء مقبولاً لاعتبارات معينة ابرزها مراعاة المصلحة وتغير بعض الظروف. مما يعني ان الضبط يمكن ان يتحقق مع الإجتهاد العقلي اذا ما روعيت فيه اعتبارات التوافق العقلائي، أو خضع لالزام الشورى أو الاجماع.
وعلى صعيد الوسط الشيعي سبق ان أثار الشيخ الطوسي شبهة الإعتماد على العقل وأبطلها، وذلك وهو بصدد اقرار فقدان القرائن التي تصحح الأحاديث الموجودة، معتبراً أنه يلزم من ذلك ترك أكثر الأخبار والأحكام بحيث (لا يحكم فيها بشيء ورد الشرع به، وهذا حد يرغب أهل العلم عنه، ومن صار اليه لا يحسن مكالمته لأنه يكون معولاً على ما يعلم ضرورة من الشرع خلافه)[13]. وتابعه في هذا الأمر رجال الإمامية بلا خلاف.
وذكر الانصاري ان السبب في منع التعويل على الأحكام العقلية، هو (ان الركون إلى العقل فيما يتعلق بادراك مناطات الأحكام لينتقل منها إلى إدراك نفس الأحكام موجب للوقوع في الخطأ كثيراً في نفس الامر، وان لم يحتمل ذلك عند المدرك، كما تدل عليه الأخبار الكثيرة الواردة بمضمون: (ان دين الله لا يصاب بالعقول)، وانه لا شيء أبعد عن دين الله من عقول الناس)[14]. هذا في الوقت الذي عدّ قطعيات العقل المخالفة للدليل النقلي هي في غاية الندرة إن لم تكن غير موجودة بالمرة، وكما صرح بأن (ادراك العقل القطعي للحكم المخالف للدليل النقلي على وجه لا يمكن الجمع بينهما في غاية الندرة، بل لا نعرف وجوده، فلا ينبغي الاهتمام به في هذه الأخبار الكثيرة[15]، مع ان ظاهرها ينفي حكومة العقل ولو مع عدم المعارض، وعلى ما ذكرنا يحمل ما ورد من ان دين الله لا يصاب بالعقول)[16].
على ذلك شاع القول بأن ما موجود من بيان أو نصوص يكفي لسد وتغطية جميع ما يستحدث من واقع وقضايا، حتى بغير حاجة إلى الأحكام العقلية. وقد سبق ان اشار الشيخ ابو جعفر الطوسي إلى ما موجود من وفرة خبرية كافية لتغطية مسائل الأحكام كافة. وحديثاً رأى السيد الصدر ان البيان كاف في الشمول لتناول مختلف قضايا الأحكام حتى مع عدم الأخذ بالدليل العقلي النظري الذي يستند اليه الأصوليون ويخالفهم عليه الإخباريون[17]. كما ان السيد محمد تقي الحكيم صرح هو الآخر بأن الإمامية تعتبر أحكام الشريعة بمفاهيمها الكلية لا تضيق عن مصالح العباد ولا تقتصر عن حاجاتهم وبالتالي فانها مسايرة لمختلف الأزمنة والأمكنة، وان تأثير الزمان والمكان والأحوال إنما هو في تبدل مصاديق مفاهيم النصوص لا غير[18] . الأمر الذي يعني عدم الحاجة إلى الأحكام العقلية.
والى اليوم مازالت نزعة الاحجام والخوف من الممارسة العقلية في التشريع سارية، حتى عُدت خطرة على الشرائع السماوية، كالذي صوره الاستاذ عبد الوهاب خلاف وهو في معرض رده على الطوفي بقوله بأن (تعريض النصوص لنسخ أحكامها بالآراء وتقدير العقول خطر على الشرائع الإلهية وعلى كل القوانين)[19].
[1] انظر النصوص السلفية التي تهاجم الرأي في كل من: ابن حزم: الإحكام في أُصول الأحكام، مطبعة السعادة، مصر، الطبعة الأُولى، 1345هـ، ج6، ص49-59. واعلام الموقعين، ج1، ص73-75 . والاعتصام، ج3، ص241-249 .
[2] يلاحظ بهذا الخصوص: مدخل إلى فهم الإسلام، الفصل السابع.
[3] الرسالة، ص503.
[4] الرسالة، ص25.
[5] الام، ج7، ص313-320.
[6] تاريخ المذاهب الإسلامية، ص545.
[7] انظر رسالته المعنونة: ملخص إبطال القياس والرأي والإستحسان والتقليد والتعليل، تحقيق سعيد الأفغاني، مطبعة جامعة دمشق، 1379هـ ـ1960م. والإحكام في أُصول الأحكام، ج8، ص2ـ3. والمحلى، تصحيح محمد خليل هراس، مطبعة الإمام في القلعة بمصر، ج1، ص52 .
[8] الإحكام في أصول الأحكام، ج4، ص395.
[9] عبد الوهاب خلاف: مصادر التشريع الإسلامي في ما لا نص فيه، ص94-96.
[10] الموافقات، ج2، ص48 .
[11] الاعتصام، ج2، ص347 وما بعدها.
[12] الموافقات، ج2، ص309 .
[13] ابو جعفر الطوسي: عدة الأصول، تحقيق محمد مهدي نجف، مؤسسة آل البيت، الطبعة الاولى، 1403هـ ـ1983م، ج1، ص355. ايضاً: فرائد الاصول، ج1، ص187.
[14] فرائد الاصول، ج1، ص20-21.
[15] المقصود بها الأخبار الواردة عن أئمة أهل البيت التي تفيد أخذ الأحكام منهم، كقولهم: (حرام عليكم ان تقولوا بشيء ما لم تسمعوه منا).. (من دان الله بغير سماع من صادق فهو كذا وكذا).. الخ.
[16] فرائد الاصول، ج1، ص19-20.
[17] محمد باقر الصدر: الفتاوى الواضحة، دار التعارف، الطبعة السابعة، 1401هـ ـ 1981م، ج1، المقدمة، ص98 . كذلك: محمود الهاشمي: بحوث في علم الأصول، تقريراً لأبحاث السيد محمد باقر الصدر، المعجم العلمي للامام الصدر، الطبعة الأولى، 1405هـ، ج4، ص126ـ127.
[18] محمد تقي الحكيم: الأصول العامة للفقه المقارن، طبعة دار الاندلس، بيروت، الطبعة الاولى، 1963م، ص388.
[19] مصادر التشريع في ما لا نص فيه، ص103.