يحيى محمد
من الناحية المبدئية ليس الإجتهاد لدى الشيعة إنتاجاً معرفياً كما في القياس والإستحسان والمصالح المرسلة، بل هو فهم للنص طبقاً لشروطه الخارجية والداخلية، أي شروط السند والمتن، حيث وُضع الإجتهاد أساساً لهذه الإعتبارات؛ من حيث أنه يعني إفراغ الجهد والوسع لإستنباط الحكم من النصوص، كما تقرر صراحة لدى المحقق الحلي (المتوفى سنة 676هـ أو 726هـ)، مما يعبر عن إمتداد لما آل إليه النظر السني.
وبالفعل يعترف بعض المعاصرين من فقهاء الشيعة بهذا الامتداد. فقد كسب مفهوم الإجتهاد لدى السنة معنىً جديداً، كما عند الغزالي (المتوفى سنة 505هـ)، وأخذ الإستعمال بمعنى الرأي والقياس يقل ويضعف منذ ذلك الحين ليتجه أكثر إلى المجاهدة العلمية في طلب الأحكام، فحينها وبعد «هذا التحول والإنقلاب بدأت الكلمة تأخذ طريقها إلى فقه الشيعة أيضاً»)[1].(
لكن مفهوم الإجتهاد لدى الشيعة لا يعطي مدلول الإمتداد لما آل اليه النظر السني فحسب، وإنما هناك جانب الإنفصال عنه في الوقت نفسه. فقد كانت آلية إستنباط الحكم من النص مقررة منذ بداية التنظير لدى الإتجاه الشيعي، بالرغم من وجود تحفظ على لفظة (الإجتهاد)، حيث في تلك الفترة كان هذا الإصطلاح حاملاً للمعنى الذي يتعامل به الإتجاه السني، كمرادف للقياس وما على شاكلته، والذي يخص القضايا غير المنصوص فيها. لهذا كانت عبارات المنظّرين من قدماء الشيعة تفوح برفض الإجتهاد وتحريم العمل به، كما هو الحال عند المفيد والشريف المرتضى والشيخ الطوسي.
مع ذلك فهناك إختلاف فيما تفضي إليه آلية فهم النص في عملية إستنباط الحكم الشرعي. فبعض العلماء يعتقد بأن هذه الآلية تفضي إلى القطع أو العلم، بما يجعل التطابق بين الفهم والنص تامة، كما هو الحال مع رأي الشريف المرتضى وابن ادريس الحلي وإبن زهرة والمحدث محمد أمين الإسترابادي وأتباعه. بل لا يستبعد القول ان هذا هو مسلك جميع المتقدمين من الامامية حتى مجيء المحقق الحلي، او ابن اخته الملقب بالعلامة الحلي، خلال القرنين السابع والثامن الهجريين، باستثناء البعض كالشيخ الطوسي.
ويؤيده ان الامدي الشافعي (المتوفى سنة 631هـ) كان يضع الامامية ضمن الاتجاهات التي لا ترى للمخطئ في الاجتهاد عذراً يسامح عليه، بتبرير مفاده انه ما من مسألة الا والحق فيها متعين وعليه دليل قاطع، فمن أخطأه فهو آثم غير كافر ولا فاسق، وهو الرأي المنسوب الى بعض المعتزلة مثل بشر المريسي وابن عُليه وابي بكر الاصم، كذلك نفاة القياس كالظاهرية والامامية([2]).
لكن على خلافهم ذهب الإتجاه العام من الشيعة، كما هو الحال مع المتأخرين، حيث تقرر بأن آلية الفهم غالباً ما تفضي إلى الظن بالحكم الشرعي، وبالتالي فهم لا يمانعون من الإقرار بوجود خلخلة واسعة في علاقة التطابق بين الفهم والخطاب الديني.
لقد كانت الخلخلة في العلاقة بين الفهم والخطاب لدى المحقق الحلي مقتصرة على كل ما هو نظري وغير ظاهر من النص المباشر في الغالب، لكن الأمر عند المتأخرين إمتد إلى أكثر من هذا. فهو قد لاح ظاهر النص ولم يتوقف عند حدود الإطارات النظرية للنصوص. وتجاوز الأمر عند البعض فأخذ أبعاداً أوسع من ذلك؛ كالذي تحدثنا عنه في بعض الدراسات المستقلة([3]).
تبقى القضايا غير المنصوص فيها، أو التي يعجز إستنباطها بواسطة فهم الخطاب، وهي ما يتضمنها الإنتاج المعرفي، وقد تعامل معها فقهاء الامامية باعتبارات مختلفة. فاذا غضضنا الطرف عن الاتجاه الذي يتوقف دون ابداء رأي فيها، كما هو حال الاخباريين، سواء القدماء منهم او المتأخرين الذين نظّروا للطريقة الاخبارية، فان هناك ثلاثة مواقف مختلفة كالاتي:
الأول: وهو الموقف الذي عالج تلك القضايا وفق قاعدة القياس. ويعد أول المواقف الثلاثة من الناحية التاريخية، بل اكثر من هذا يعد اول ممارسة اجتهادية لدى الشيعة، كالذي ظهر لدى ابن الجنيد وابن أبي عقيل العماني. ومن الغرابة حقاً ان يحصل ذلك في وسط معبأ بكثرة الرواية والاخبار ونقد القياس والرأي والاستحسان وسائر صور الاجتهاد. واغرب من ذلك ان جماعة من أصحاب الائمة كانوا يعملون بذلك النوع من الاجتهاد، ومنهم من عُرف بقوة الوثاقة والجلالة، كالذي يطلعنا عليه الشريف المرتضى، وهو ان في رواة الشيعة من يقول بالقياس ويذهب اليه في الشريعة، كالفضل بن شاذان ويونس بن عبد الرحمن وجماعة معروفين([4]). ويؤيده اتهام الشيخ الصدوق للفضل بن شاذان بانه كان يعمل بالقياس([5]).
الثاني: وهو الموقف الذي اعتبر تلك القضايا عائدة الى قطعيات العقل، كالذي ظهر لدى المنظرين للفكر الشيعي في عصر الغيبة، وهم المفيد والمرتضى والطوسي، واستمر قروناً طويلة، اذ ساد الاعتقاد بجعل تلك القضايا عائدة إلى أحكام العقل كالبراءة والإستصحاب... الخ. ففي البداية كان المعتقد بأن هذه الأحكام هي احكام الهية قطعية، ثم مع مرور الزمن ظهر من يقول بأنها ظنية.
الثالث: انه بفعل الصراع الأُصولي الإخباري، وربما قبل ذلك بفترة، ظهر موقف ثالث، يعتبر تلك القضايا تدخل ضمن المعالجة العملية. وهو الموقف الذي ظهر في عصر وحيد الدين البهبهاني (المتوفى سنة 1206هـ) واستمر حتى يومنا هذا، إذ لم تعد هذه المدركات تمثل أحكاماً عقلية، بل عُدّت مجرد وظائف عملية أُطلق عليها (الأُصول العملية)([6])، حيث ليس من مهامها معرفة الحكم الشرعي وإدراكه على حقيقته، بل تنحصر وظيفتها في تعيين السلوك العملي للمكلف كي تبرأ ذمته من التكليف، أما الحكم الشرعي فيظل معلّقاً ومجهول الحال.
وبهذا الكشف أصبح الجهد الإجتهادي للشيعة مكرساً بدرجة واسعة نحو بحث هذه الأُصول الوظيفية، فتميزت بذلك عن الإتجاه السني لكونه قيّد الجهد بالكشف عن الحكم الشرعي فحسب.
الإجتهاد والعامل الزمني
لقد أخذ مفهوم الإجتهاد يتسع ويتمدد على حساب إفتراض التطابق بين الفهم والخطاب الديني، كما هو الحال لدى الدائرة السنية. فكلما إمتد الظرف التاريخي كلما عمل الإجتهاد على توسعة رقعة التفاوت بين الشيئين (في ذاته) و(لذاتنا) من الخطاب. فإذا كان عصر النص يحفل بالتصور القائم على التطابق؛ فان ما بعد هذا العصر، منذ العمل الفقهي المتواضع عليه سيما بعد عملية التنظير لدى الشافعي، بدأ التصور الآنف الذكر يهتز ويختل، حيث الإعلان عن تأسيس الإجتهاد ـ المفضي إلى الظن ـ فيما لا نص فيه، وهي أُولى مراحل إهتزاز تلك العلاقة بين الفهم والخطاب، وذلك ضمن حدود آلية الإنتاج المعرفي. لكن لم يتوقف الأمر عند هذا الحد، فمع مرور الزمن أخذت ظاهرة الإهتزاز والخلخلة تتسرب إلى فهم الخطاب مباشرة بعد أن كانت مقتصرة على الإنتاج المعرفي.
أما في الدائرة الشيعية فقد ساد الاعتراف بأن ما يفهم من الخطاب الديني في الفقه لا يتجاوز الظن غالباً، اذ ادرك الفقهاء انهم عاجزون عن تحصيل العلم أو القطع في الموارد الجزئية للفقه باستثناء القليل منها، فاكتفوا بالظن المعتبر، إذ الأصل في الظن هو عدم الحجية إلا ما خرج بدليل قطعي. ويقدر المفكر الصدر ان الاحكام القطعية لا تتجاوز الخمسة بالمائة من مجموع الاحكام الكلية([7]). كما قد اتسعت دائرة القضايا التي يجهلها الفقهاء في فهمهم للخطاب وتلك التي تدخل ضمن نطاق القضايا التي لا نص فيها، وهذا ما جعل علم الاصول يستغرق البحث - عندهم - فيما اطلقوا عليه (الأُصول العملية)، وهي التي لا تعنى بالكشف عن الحكم الشرعي، بل بابراء الذمة فحسب، فكثرت بذلك الفتاوى التي تعمل بالبراءة او الاحتياط.
كما ظهرت مناقشات إيبستمولوجية هامة جرت بخصوص إفتراض ما يعرف بدليل الإنسداد؛ كالذي ذهب إليه عدد كبير من المتأخرين، وهو لا يقتصر على إنسداد باب العلم بالأحكام، بل يفترض أيضاً إنسداد باب الظن المعتبر شرعاً، وهو المعبر عنه تارة بالإنسداد العلمي، وأُخرى بالظن الخاص، والمقصود به بالدرجة الرئيسية الإنسداد الخاص بحجية خبر الآحاد، لما أُثير حولها من شكوك ومشاكل معرفية، سيما أن مدار أغلبية موارد الأحكام الفقهية يتوقف على هذا الخبر.
وقد نقّح بعض المتأخرين من علماء الأُصول دليل الإنسداد بخمس مقدمات، لو أنها صدقت لكان يكفي العمل بمطلق الظن؛ طبقاً لأغلب القائلين بهذا الدليل، وهي كالتالي:
المقدمة الأُولى: حصول العلم الإجمالي بوجود الكثير من التكاليف في الشريعة.
المقدمة الثانية: إنسداد باب العلم والظن الخاص المعتبر شرعاً ـ باب العلمي ـ في أغلب هذه التكاليف.
المقدمة الثالثة: عدم جواز إهمال هذه التكاليف ولا ترك إمتثالها.
المقدمة الرابعة: عدم وجوب العمل بجميع تلك التكاليف الملتبسة بطريقة الإحتياط، بل عدم جواز ذلك، وأيضاً عدم جواز الرجوع في ذلك إلى الأُصول العملية ولا إلى فتوى العالم بحكمها.
المقدمة الخامسة: يعتبر ترجيح المرجوح على الراجح قبيحاً، وبالتالي لا يجوز ترجيح المشكوك والموهوم على المظنون.
وهذا إن دلَّ على شيء فإنما يدل على المدى الذي آل اليه علم الأُصول من الكشف عن حدة إهتزاز علاقة التطابق وخلخلتها، وبالتالي التفاوت بين ما هو (في ذاته) وما هو (لذاتنا) من الخطاب.
فشتان بين الفهم الذي شيّده قدماء الفقهاء حول الخطاب وبين الفهم الذي إنتهى إليه المتأخرون. فبينما كان أولئك يبنون فهمهم على الوضوح والبيان وبالتالي التطابق مع الخطاب؛ نجد المتأخرين على العكس يقيمون التباعد بين الفهم والخطاب كلما إمتد بهم الزمان. وإذا كان مآل هؤلاء هو الوقوع في خندق (الإنسداد) والإعتراف بغياب الطريق الموصلة إلى البيان في الخطاب، أو اللجوء إلى الوظيفة العملية بعد اليأس من تحصيل صور البيان؛ فإن الأمر عند القدماء يختلف تماماً، إذ إن قرب عهدهم بعصر النص ومحدودية ما يحتاجون إليه من المسائل نسبياً جعلهم يتصورون أن تحصيل البيان والوضوح حالة مطلقة ثابتة، فادعى علماء الشيعة القدماء طبقاً لهذا «أن من اللطف الواجب على الله أن يجعل على كل حكم شرعي دليلاً واضحاً مادام الإنسان مكلفاً والشريعة باقية»([8]). وهو أمر يتشابه كثيراً مع ما حصل من تطور في علوم الطبيعة، إذ ساد الإعتقاد بوجود التطابق بين العقل والطبيعة قروناً طويلة، منذ اليونان وبعدها الحضارة الإسلامية، ومن ثم النهضة الحديثة، حتى بدأت أركان هذا الإعتقاد تتزعزع وتنهار شيئاً فشيئاً، منذ عصر التنوير، ومن ثم تفاقم الأمر وإتخذ منحىً علمياً ومنطقياً خلال عصرنا الحالي.
[1] مطهري، مرتضى: مبدأ الإجتهاد في الإسلام، ترجمة جعفر صادق الخليلي، مؤسسة البعثة في طهران، الطبعة الأُولى، 1047هـ، ص24.
[2] الامدي: الإحكام في اصول الأحكام، ج4، ص182. والبيانوني، محمد أبو الفتح: دراسات في الاختلافات الفقهية، مكتبة الهدى، حلب، الطبعة الاولى، 1395هـ ـ1975م، ص137.
[3] أنظر بهذا الصدد كتابنا: مدخل إلى فهم الإسلام، مؤسسة الانتشار العربي، 1999م، ص49 وما بعدها.
[4] مجموعة رسائل الشريف المرتضى، ج3، ص311. ومحمد مهدي بحر العلوم: الفوائد الرجالية، حققه وعلق عليه محمد صادق بحر العلوم وحسين بحر العلوم، نشر مكتبة الصادق، طهران، عن مكتبة يعسوب الدين الالكترونية، ج3، ص219. وانظر ايضاً كتابنا: العقل والبيان والاشكاليات الدينية، الفصل الخامس.
[5] الصدوق: من لا يحضره الفقيه، صححه وعلق عليه علي أكبر الغفاري، منشورات جماعة المدرسين في الحوزة العلمية بقم، الطبعة الثانية، 1404هـ، عن مكتبة يعسوب الدين الالكترونية، ج4، ص270.
[6] الصدر، محمد باقر: بحوث في علم الأُصول، تحرير محمود الهاشمي، المجمع العلمي للإمام الصدر، الطبعة الأُولى، 1405هـ، ج5، ص11.
[7] اقتصادنا، الطبعة الحادية عشرة، دار التعارف، 1399هـ ــ1979م، ص417.
[8] المعالم الجديدة للأُصول، ص92ـ93.