يحيى محمد
ورد عن التابعين في ذم الرأي والقياس الكثير من النصوص، ومن ذلك ما جاء عن إبن سيرين قوله: «أول من قاس إبليس، وما عُبدت الشمس والقمر إلا بالمقاييس». وعن مسروق صاحب إبن مسعود قوله: «إني لا أقيس شيئاً بشيء إني أخاف أن تزلّ قدمي». وعن الشعبي أنه قال: لعن الله أرأيت. وعنه في جوابه لصالح بن مسلم في مسألة عن النكاح، إذ قال له: إن أخبرتك برأيي فَبُل عليه. وعنه أنه قال: ما جاءكم به هؤلاء من أصحاب رسول الله (ص) فخذوه، وما كان رأيهم فاطرحوه في الحش. ونُقل إنه قيل لجابر بن زيد: إنهم يكتبون ما يسمعون منك، قال: إنا لله وإنا إليه راجعون، يكتبونه وأنا أرجع عنه غداً. وعن سفيان بن عيينة أنه قال: إجتهاد الرأي هو مشاورة أهل العلم، لا أن يقول هو برأيه. وعن أبي سلمة أنه قال للحسن البصري: بلغني أنك تفتي برأيك، فلا تفت برأيك إلا أن يكون سنة عن رسول الله (ص). وعن أبي وائل شقيق إبن سلمة إنه قال: إياك ومجالسة من يقول أرأيت أرأيت. وعن إبن شهاب إنه قال: دعوا السنة تمضي، لا تعرضوا لها بالرأي. وعن عروة بن الزبير إنه قال: ما زال أمر بني إسرائيل معتدلاً حتى نشأ فيهم المولدون أبناء سبايا الأُمم، فأخذوا فيهم بالرأي فأضلوهم. وعن إبن شهاب إنه قال، وهو يذكر ما وقع فيه الناس من هذا الرأي وتركهم السنن، فقال: إن اليهود والنصارى إنما إنسلخوا من العلم الذي بأيديهم حين إتبعوا الرأي وأخذوا فيه. وعن إبن وهب إنه قال: حدثني إبن طيعة أن رجلاً سأل سالم بن عبد الله بن عمر عن شيء، فقال: لم أسمع في هذا شيئاً: فقال له الرجل: فأخبرني أصلحك الله برأيك، فقال: لا، ثم عاد عليه، فقال: إني أرضى برأيك، فقال سالم: لعلّي إن أخبرتك برأيي ثم تذهب فأرى بعد ذلك رأياً غيره فلا أجدك. وعن ربيعة إنه قال لإبن شهاب: إن حالي ليس يشبه حالك، أنا أقول برأيي من شاء أخذه وعمل به، ومن شاء تركه. وعن حماد بن زيد إنه قال: قيل لأيوب السخنياني: ما لك لا تنظر في الرأي؟ فقال أيوب: قيل للحمار ما لك لا تجترّ؟ قال: أكره مضغ الباطل. وعن الأوزاعي إنه قال: عليك بآثار من سلف وإن رفضك الناس، وإياك وآراء الرجال وإن زخرفوا لك القول. وعن سعيد بن عبد العزيز إنه كان إذا سُئل لا يجيب حتى يقول: لا حول ولا قوة إلا بالله، هذا رأي والرأي يخطئ ويصيب([1]).
كما من المعروف بأن الأئمة الأربعة كانوا لا يعولون على الرأي والإجتهاد إلا للضرورة. وقد نقل الحافظ ابن عبد البر والعارف الشعراني عن كل من الأئمة الأربعة أنه قال إذا صح الحديث فهو مذهبي([2]). ومن ذلك قول أبي حنيفة: «عجباً للناس يقولون إني أفتي بالرأي، ما أفتي إلا بالأثر». وقوله «إذا صح الحديث فهو مذهبي»([3]). كذلك قوله: «كذب والله وإفترى علينا من يقول: إننا نقدم القياس على النص، وهل يحتاج بعد النص إلى القياس»([4]). وقوله أيضاً: «نحن لا نقيس إلا عند الضرورة الشديدة، وذلك إننا ننظر في دليل المسألة من الكتاب والسنة أو أقضية الصحابة، فإن لم نجد دليلاً قسنا حينئذ مسكوتاً عنه على منطوق به»)[5]( . وقد كان هناك من يتهم أبا حنيفة بتقديم الرأي والقياس على الخبر، حتى كان الاوزاعي يقول: «أنا لا ننقم على ابي حنيفة انه رأى، كلنا يرى، ولكننا ننقم عليه انه يجيئه الحديث عن النبي (ص) فيخالفه الى غيره»)[6](، كذلك يتهمه سفيان بن عينية فيقول: ما زال أمر الناس معتدلاً حتى غيّر ذلك ابو حنيفة بالكوفة والبتي بالبصرة وربيعة بالمدينة)[7](.
كما كان الإمام مالك يقول هو الآخر ما معناه: إنما أنا بشر أُصيب وأُخطئ، فاعرضوا قولي على الكتاب والسنة)[8](. وقال القعنبي: دخلت على مالك بن أنس في مرضه الذي مات فيه، فسلمت عليه، ثم جلست، فرأيته يبكي، فقلت له: يا أبا عبد الله، ما الذي يبكيك؟ فقال لي: يا إبن قعنب، ومالي لا أبكي؟! ومن أحق بالبكاء مني؟! والله لوددت أني ضُربت بكل مسألة أفتيت فيها بالرأي سوطاً، وقد كانت لي السعة فيما قد سبقت إليه، وليتني لم أُفتِ بالرأي)[9].(
ونُقل عن مالك العديد من الأقوال التي يبدي فيها توقفه دون ابداء رأي خشية من الفتوى. ومن ذلك انه قال: إني لأفكر في مسألة منذ بضع عشرة سنة فما اتفق لي فيها رأي إلى الآن. وكان إذا سئل عن المسألة قال للسائل: انصرف حتى أنظر فيها، فينصرف ويردد فيها، فقيل له حول ذلك، فبكى وقال: إني أخاف أن يكون لي من المسائل يوم، وأي يوم. وكان إذا جلس نكّس رأسه وحرك شفتيه يذكر الله ولم يلتفت يميناً ولا شمالاً فإذا سئل عن مسألة تغير لونه وكان أحمر فيصفر وينكّس رأسه ويحرّك شفتيه ثم يقول: ما شاء الله لا حول ولا قوة إلا بالله فربما سئل عن خمسين مسألة فلا يجيب منها في واحدة. وكان يقول من أحب أن يجيب عن مسألة فليعرض نفسه، قبل أن يجيب، على الجنة والنار، وكيف يكون خلاصه في الآخرة ثم يجيب؟! وقال بعضهم لكأنما مالك إذا سئل عن مسألة والله واقف بين الجنة والنار. وسأل رجل مالكاً عن مسألة وذكر أنه أرسل فيها من مسيرة ستة أشهر من المغرب، فقال له: أخبر الذي أرسلك أنه لا علم لي بها. فقال السائل: ومن يعلمها؟ قال مالك: من علمه الله. وسأله رجل عن مسألة استودعه إياها أهل المغرب، فقال: ما أدري ما ابتلينا بهذه المسألة ببلدنا ولا سمعنا أحداً من أشياخنا تكلم فيها. وعاد اليه الرجل في اليوم التالي يسأله عن المسألة، فقال له مالك: ما أدري ما هي. فقال الرجل: يا أبا عبد الله تركت خلفي من يقول ليس على وجه الأرض أعلم منك، فقال مالك: إذا رجعت فأخبرهم أني لا أحسن. وسأله آخر فلم يجبه، فقال له يا أبا عبد الله أجبني. فقال: ويحك تريد أن تجعلني حجة بينك وبين الله، فأحتاج أنا أولاً أن أنظر كيف خلاصي ثم أخلصك. وسئل عن ثمان وأربعين مسألة، فقال في اثنتين وثلاثين منها لا أدري. وسئل من العراق عن أربعين مسألة فما أجاب منها إلا في خمس. وسئل مرة عن نيف وعشرين مسألة فما أجاب منها إلا في واحدة، وربما سئل عن مائة مسألة فيجيب منها في خمس أو عشر، ويقول في الباقي لا أدري. ونقل عن ابن هرمز انه يقول: ينبغي أن يورث العالم جلساءه قول لا أدري، وكان يقول في أكثر ما يسأل عنه لا أدري، فذُكر ذلك لمالك فقال: يرجع أهل الشام إلى شامهم، وأهل العراق إلى عراقهم، وأهل مصر إلى مصرهم، ثم لعليّ أرجع عما أرجع أفتيهم به. وسئل عن مسألة أجاب فيها ثم قال مكانه لا أدري إنما هو الرأي وأنا أخطئ وأرجع وكل ما أقول يُكتب. وقال مالك عندما رأى أشهب يكتب جوابه في مسألة: لا تكتبها فإني لا أدري أثبت عليها أم لا. قال ابن وهب سمعته يعيب كثرة الجواب من العالم حين يسأل، وقال وسمعته عندما يكثر عليه من السؤال يكف ويقول: حسبكم من أكثر أخطأ. وذكر الشاطبي بأن الروايات عن مالك في لا أدري، ولا أحسن، كثيرة حتى قيل: لو شاء رجل أن يملأ صحيفته من قول مالك لا أدري لفعل قبل أن يجيب في مسألة. وقيل له إذا قلت أنت يا أبا عبد الله لا أدري فمن يدري، قال: ويحك أعرفتني ومن أنا وإيش منزلتي حتى أدري ما لا تدرون، ثم أخذ يحتج بحديث ابن عمر وقال هذا ابن عمر يقول لا أدري فمن أنا وإنما أهلك الناس العجب وطلب الرياسة)[10].(
أما الشافعي فهو معروف بموقفه المتشدد من الرأي في قبال النص، إذ إنه يعد الرأي أو القياس للضرورة صراحة، وقد نصّ في رسالته على ذلك، حيث يقول: «ونحكم بالإجماع ثم القياس وهو أضعف من هذا، ولكنه منزلة ضرورة لأنه لا يحل القياس والخبر موجود»)[11](. وقد نُقلتْ عنه أقوال عديدة بهذا الشأن؛ منها قوله: «القياس إنما يصار إليه عند الضرورة»)[12](، وقوله: «إذا وجدتم لي مذهباً، ووجدتم خبراً على خلاف مذهبي، فأعلموا أن مذهبي ذلك الخبر»)[13](، وقوله: «إذا صحّ الحديث فاضربوا بقولي الحائط». كذلك قوله: «إذا رويت عن رسول الله (ص) حديثاً ولم آخذ به فأعلموا أن عقلي قد ذهب». وقوله: «لا قول لأحد مع سنة رسول الله (ص)»)[14].( وقوله: كل مسألة تكلمت فيها صح الخبر فيها عن النبي عند أهل النقل بخلاف ما قلت فأنا راجع عنها في حياتي وبعد موتي. وقوله: ما قلتُ وقد كان النبي قد قال بخلاف قولي مما يصح فحديث النبي أولى، لا تقلدوني. وقيل أن رجلاً سأل الشافعي عن مسألة فأفتاه وقال: قال النبي (ص) كذا، فقال الرجل: أتقول بهذا؟ قال: أرأيت في وسطي زُنّاراً؟ أتراني خرجت من الكنيسة؟ أقول قال النبي (ص) وتقول لي: أتقول بهذا)[15](؟!
أما إبن حنبل فهو أشد الأئمة الأربعة بعداً عن الرأي وأقربهم تمسكاً بالخبر ولو كان ضعيفاً، وهو السبب الذي جعل مقلديه قلة، كما نصّ على ذلك إبن خلدون)[16](. فمن الواضح إنه لا يستخدم القياس الا بدافع الضرورة، كوقوع حادثة تقتضي حكماً ما لدفع مضرة أو جلب مصلحة وليس هناك من نص ولا أثر، لذلك إنه ينفر من الإفتاء في القضايا المفترضة على خلاف توجهات الإمام أبي حنيفة)[17](. وكان يقول ما معناه: لا تقلدوني ولا تقلدوا مالكاً ولا الشافعي ولا الثوري ولا الاوزاعي، وتعلموا كما تعلمنا. كما يقول: لا تقلد دينك الرجال فانهم لن يسلموا أن يغلطوا)[18](. ويقول ايضاً: لا تكاد ترى احداً نظر في الرأي الا وفي قلبه دغل (فساد) )[19](. واكثر من ذلك نُقل انه كان يعد الرأي والقياس من الباطل في الدين، حتى اتهم القائلين بهما من المبتدعة الضلال)[20].(
[1] الإحكام في أُصول الأحكام، طبعة السعادة، ج6، ص49ـ59. وأعلام الموقعين، ج1، ص73ـ75. والإعتصام، ج3، ص241ـ249.
[2] ابن عابدين: حاشية رد المختار على الدر المختار، دار الفكر، 1421هـ ـ 2000م، بيروت، عن شبكة المشكاة الالكترونية، ج1، ص385.
[3] أبو حنيفة، ص455.
[4] أبو حنيفة، ص273.
[5] أبو حنيفة، ص273. وأعلام الموقعين، ج1، ص77.
[6] ابن قتيبة: تأويل مختلف الحديث، مطبعة كردستان العلمية بمصر، الطبعة الأولى، 1326هـ، ص63.
[7] الإحكام لإبن حزم، ج6، ص56.
[8] ملخص إبطال القياس، ص66. والإحكام، ج6، ص56. وأعلام الموقعين، ج1، ص75. والإعتصام، ج3، ص256. والموافقات، ج4، ص289.
[9] الإحكام لإبن حزم، ج6، ص57. وأعلام الموقعين، ج1، ص76.
[10] الموافقات، ج4، ص 285 وما بعدها. وابن فرحون: الديباج المذهب في معرفة أعيان علماء المذهب، شبكة المشكاة الالكترونية، فصل في تحريه في الفتيا (لم تذكر أرقام صفحاته).
[11] الرسالة، ص599.
[12] أعلام الموقعين، ج2، ص284.
[13] الملل والنحل، ص89. والإعتصام، ج3، ص256.
[14] أعلام الموقعين، ج2، ص282.
[15] أعلام الموقعين، ج2، ص285,
[16] تاريخ ابن خلدون، ج1، ص803.
[17] أعلام الموقعين، ج2، ص201. كذلك: الرويشد: قادة الفكر الإسلامي عبر القرون، مكتبة عيسى البابي الحلبي وشركاه، ص83.
[18] قادة الفكر الاسلامي، ص152.
[19] أعلام الموقعين، ج1، ص76.
[20] ابن ابي يعلى الحنبلي، ابو الحسين: طبقات الحنابلة، شبكة المشكاة الالكترونية (لم تذكر ارقام صفحاته)، ج1، مادة (أحمد بن جعفر بن يعقوب الاصطخري). ايضاً: العقل والبيان والاشكاليات الدينية، الفصل الخامس.