يحيى محمد
لم يتفق العلماء - كما هو معلوم - على رأي واحد حول تحديد الحكم الخاص بالتقليد إن كان يجوز أو لا يجوز. فقد ذهب القدماء - وقت ظهور المدارس الفقهية - إلى الحرمة. في حين مال أغلب المتأخرين إلى حليته.
ونُقل أن السلف ومنهم أصحاب المذاهب الأربعة كانوا ينهون عن الأخذ عنهم بالتقليد. فقد جاء عن ابن مسعود قوله: ألا لا يقلدن أحدكم دينه رجلاً إن آمن آمن، وإن كفر كفر. وقال: لا يكن أحدكم إمَّعة يقول: إنما أنا رجل من الناس إن ضلوا ضللت وإن اهتدوا اهتديت. وقال لرجل: لا تقلد دينك أحداً، وعليك بالأثر. وقال المفضل بن زياد: لا تقلد دينك الرجال فانهم لن يسلموا ان يغلطوا([1]). كما جاء عن ابن عباس انه قال: «ويل للأتباع من عثرات العالم، قيل كيف ذلك؟ قال: يقول العالم شيئاً برأيه ثم يجد من هو أعلم برسول الله (ص) منه فيترك قوله ذلك ثم تمضي الأتباع». ومن ذلك قول أبي حنيفة وأبي يوسف: «لا يحل لأحد أن يقول قولنا حتى يعلم من أين قلناه»([2]). أو قوله: «حرام على من لم يعرف دليلي أن يفتي بكلامي»([3]). وقول مالك: «إنما أنا بشر أُخطئ وأُصيب فانظروا في رأيي، فكل ما وافق الكتاب والسنة فخذوا به، وما لم يوافق الكتاب والسنة فاتركوه»([4]). وما اشار اليه الشافعي في رسالته([5])، وكذا ما قاله: «مثلُ الذي يطلب العلم بلا حجة كمثل حاطب ليل، يحمل حزمة حطب وفيه أفعى تلدغه وهو لا يدري»([6]). وقد نقل إسماعيل بن يحيى المزني عن الشافعي أنه كان ينهى عن تقليده وتقليد غيره لينظر فيه لدينه ويحتاط فيه لنفسه([7]). وجاء عن إبن حنبل إنه قال: «لا تقلّد في دينك أحداً... ما جاء عن النبي (ص) وأصحابه فخذ به، ثم التابعي بعد الرجل فيه مخير»([8]). وهو بذلك يفرق بين التقليد والإتباع. كما جاء عنه قوله: «لا تقلّدني ولا تقلّد مالكاً ولا الثوري ولا الأوزاعي وخذ من حيث أخذوا»، وقوله: «من قلة فقه الرجل ان يقلّد دينه الرجال»([9]). وقد شاع عن ابن حنبل ومذهبه عدم اقرار التقليد وان لكل انسان وسعه في الاجتهاد؛ خلافاً لما حصل لدى المذاهب الثلاثة الاخرى([10]). وكذا الحال مع مذهب الظاهرية التي أوجبت الاجتهاد على الكافة بمن فيهم العامة من الناس([11]). وقد كان ابن حزم يرى ان على كل من العامي والعالم حظه الذي يستطيعه من الاجتهاد([12]). وجاء عن عبد الله بن المعتمر قوله: «لا فرق بين بهيمة تنقاد وإنسان يقلّد»([13]). ونقل القرافي المالكي أن مذهب مالك وجمهور العلماء هو أنهم يقولون بوجوب الإجتهاد وإبطال التقليد([14]).
ومما يُذكر بهذا الصدد أنه كان مالك وعبد العزيز بن أبي سلمة ومحمد بن إبراهيم بن دينار وغيرهم يختلفون إلى إبن هرمز، فكان إذا سأله مالك وعبد العزيز أجابهما، وإذا سأله إبن دينار وذووه لم يجبهم، فتعرض له إبن دينار يوماً فقال له: يا أبا بكر لِمَ تستحل مني ما يحل لك؟ فقال له: يا إبن أخي وما ذاك؟ قال: يسألك مالك وعبد العزيز فتجيبهما وأسألك أنا وذووي فلا تجيبنا؟ فقال: أوقع ذلك يا إبن أخي؟ قال: نعم، قال: إني قد كبرتْ سني ودقّ عظمي، وأنا أخاف أن يكون خالطني في عقلي مثل الذي خالطني في بدني، ومالك وعبد العزيز عالمان فقيهان، إذا سمعا مني حقاً قبلاه وإن سمعا خطأً تركاه، وأنت وذووك ما أجبتكم به قبلتموه([15]).
كما ذُكر أنه إضطجع ربيعة يوماً مقنعاً رأسه وبكى، فقيل له: ما يبكيك؟ قال: رياء ظاهر وشهوة خفية والناس عند علمائهم كالصبيان في إمامهم؛ ما نهوهم عنه إنتهوا، وما أُمروا به إئتمروا([16]).
لكن في القبال نُقل عن بعض المتقدمين ما ظاهره جواز التقليد، كقول محمد بن الحسن: «يجوز للعالم تقليد من هو أعلم منه، ولا يجوز له تقليد مثله»([17])، كذلك قول الشافعي في أكثر من موضع: قلته تقليداً لعمر.. وقلته تقليداً لعثمان.. وقلته تقليداً لعطاء([18]). لذلك روي عن الشافعي في رسالته القديمة أنه كان يجيز تقليد أيٍّ من الصحابة دون من سواهم. كما نُقل عن إبن سراج قوله: يجوز للعالم تقليد من هو أعلم منه إذا تعذّر عليه وجه الإجتهاد. بل روي عن أحمد بن حنبل وإسحاق بن راهويه وسفيان الثوري قولهم بجواز تقليد العالم للعالم مطلقاً. كما نُقل عن أبي حنيفة روايتان. ونُقل عن بعض أهل العراق قوله بجواز تقليد العالم فيما يفتي به وفيما يخصه([19]).
ولا شك ان بعض هذه الأقوال دالة على صحة التقليد حين العجز عن الوصول إلى حقيقة موقف الشرع، كما هو الحال مع قول الشافعي، اذ سبق أن عرفنا بأنه لا يقر التقليد مبدئياً. لذلك سوّغ إبن القيم الاضطرار الى مثل هذه الحالة من التقليد، ورأى أن غاية ما نُقل عن أئمة المذاهب هو أنهم قلّدوا في مسائل يسيرة لم يظفروا فيها بنص عن الله ورسوله، ولم يجدوا فيها سوى قول من هو أعلم منهم فقلّدوه. وقد عدّ هذه الطريقة هي فعل أهل العلم، وبالتالي فهي الواجبة لأن التقليد إنما يباح للمضطر([20]). لكنه من الناحية المبدئية لا يرى جواز تقليد أحد، بل ذهب كما ذهب إبن حزم بأنْ تُعرض أقوال الرجال على الكتاب والسنة ويؤخذ ما يوافقهما ويُعرض عما يخالفهما، معتبراً ذلك مما أمر الشرع به([21]). فبرأي ابن حزم ان العامي والعالم في ذلك سواء، وعلى كل واحد من الناس حظه من الاجتهاد بحسب وسعه، وخطاب الله للناس جميعاً دون تمييز بين عالم وعامي ((وما كان ربك نسياً))([22])([23]).
أما المتأخرون من الفقهاء فأغلبهم مال إلى جواز التقليد، بينما ذهب القليل منهم إلى التحريم، كإبن حزم في مختلف كتبه، وإبن تيمية وتلميذه إبن القيم، وقد ذكر الاخير في (اعلام الموقعين) واحداً وثمانين وجهاً على بطلان التقليد([24])، وكذا الحال مع أبي عبد الله بن خواز منداد البصري المالكي الذي عرّف التقليد بأنه الرجوع إلى قول لا حجة لقائله عليه وهو ممنوع في الشريعة، على خلاف الإتباع الذي عدّه مما ثبتت عليه الحجة([25]). ومما قاله بهذا الصدد: كل من اتبعت قوله من غير أن يجب عليك قوله لدليل يوجب ذلك فأنت مقلده، والتقليد في دين الله غير صحيح، وكل من أوجب عليك الدليل اتباع قوله فأنت متبعه، والاتباع في الدين مسوغ، والتقليد ممنوع([26]). وكذا هو رأي الامام الشوكاني كما في رسالته (القول المفيد في أدلة الإجتهاد والتقليد) وما بحثه في الفصل الثاني من كتابه (إرشاد الفحول)([27]). كما نُقل عن جمع من معتزلة بغداد أن العامي لا يجوز له أن يقلّد أو يأخذ بقول أحد إلا أن يبين له حجته([28]).
وابلغ من شدد على ابطال التقليد هو ابن حزم، سواء في العقيدة او الفقه، اذ رفض تقليد الأئمة والمذاهب جميعاً، ورأى انه لا فرق بين من قلّد هذا الإمام أو المذهب أو ذاك، بل جعل الإجتهاد نصيب الكل، وواجباً على الجميع، كلاً بحسب طاقته، ولو أدى ذلك إلى الخطأ في الإجتهاد، فهو يفضله على التقليد مع الصحة، وهذا الامر يشمل عنده حتى الرجل العامي. فعلى حد قوله: «من إدعى وجوب تقليد العامي للمفتي فقد إدعى الباطل وقال قولاً لم يأت به قط نص قرآن ولا سنة ولا إجماع ولا قياس، وما كان هكذا فهو باطل لأنه قول بلا دليل». بل على العكس رأى أن «التقليد كله حرام في جميع الشرائع أولها عن آخرها؛ من التوحيد والنبوة والقدر والإيمان والوعيد والإمامة والمفاضلة وجميع العبادات والأحكام». لذا فهو بالتالي يحرم تقليد أئمة المذاهب الأربعة والصحابة ومن على شاكلتهم، فصرح بالقول: «وليعلم أن كل من قلّد من صاحب أو تابع أو مالكاً وأبا حنيفة والشافعي وسفيان والأوزاعي وأحمد - إبن حنبل - و- داود - الأصبهاني رضي الله عنهم؛ إنهم متبرأون منه في الدنيا والآخرة». كما أنه ردّ على من يتمسك بالتقليد بقوله: «ما الفرق بينك وبين من قلّد غير الذي قلّدت أنت، بل كفّر من قلّدته أنت أو جهله، فإن أخذ يستدل في فضل من قلّده كان قد ترك التقليد وسلك في طريق الإستدلال من غير تقليد»([29]).
[1] صفة الفتوى، ص52. والقول السديد في كشف حقيقة التقليد، ص14 و15.
[2] أعلام الموقعين، ج2، ص112 و201.
[3] القحطاني، محمد عبد الله: البيان والتفصيل في وجوب معرفة الدليل (لم يكتب عنه شيء)، ص140.
[4] انظر حول ذلك المصادر التالية: ملخص إبطال القياس، ص66. والإحكام لإبن حزم، مطبعة السعادة، ج6، ص56 و149ـ150، وج2، ص122ـ 123. والموافقات، ج4، ص289. وانتصار الفقير السالك، ص194.
[5] الرسالة، ص42.
[6] أعلام الموقعين، ج2 ، ص200.
[7] أعلام الموقعين، ج2 ، ص200 . وحجة الله البالغة، ج1، ص155.
[8] أعلام الموقعين، ج2 ، ص200.
[9] المصدر السابق، ص201.
[10] تاريخ المذاهب الاسلامية، ص302.
[11] نفس المصدر والصفحة.
[12] النبذ في اصول الفقه، ص72.
[13] اعلام الموقعين، ج2، ص196.
[14] تنقيح الفصول في علم الاصول، الفصل الثاني من الباب التاسع عشر. وحقوق الانسان في الإسلام، ص225.
[15] أعلام الموقعين، ج2 ، ص198.
[16] المصدر السابق، ص196 .
[17] اعلام الموقعين ج2، ص258. والشالي القفال: حلية العلماء في معرفة مذاهب الفقهاء، حققه وعلق عليه ياسين احمد ابراهيم، مؤسسة الرسالة ببيروت - دار العقل بعمان، الطبعة الاولى، 1400هـ - 1980م، ج1 ، ص54.
[18] اعلام الموقعين، ص258 .
[19] المستصفى، ج2 ، ص384 . والإحكام للآمدي، ج4 ص430 .
[20] أعلام الموقعين، ج2 ، ص260.
[21] المصدر السابق، ص259 و213 .
[22] مريم/64.
[23] النبذ في أصول الفقه، ص72.
[24] أعلام الموقعين، ج2 ، ص206ـ279 .
[25] جامع بيان العلم وفضله، باب فساد التقليد ونفيه والفرق بين التقليد والاتباع. وأعلام الموقعين، ج2، ص197. والقول السديد، ص6.
[26] جامع بيان العلم وفضله، باب فساد التقليد ونفيه والفرق بين التقليد والاتباع.
[27] إرشاد الفحول، ص265 وما بعدها.
[28] الإحكام للآمدي، ج4، ص451. ومبادئ الوصول الى علم الاصول، ص479 .
[29] انظر المصادر التالية: الإحكام، مطبعة السعادة، ج1، ص17ـ19 و99ـ100، وج2، ص120 وما بعدها، وج5، ص121 وما بعدها، وج6، ص56 وما بعدها. والمحلى، ج1، ص59ـ60. كذلك: يفوت، سالم: إبن حزم والفكر الفلسفي بالمغرب والأندلس، المركز الثقافي العربي، الطبعة الأُولى، 1986م، ص159. علماً بأن العديد من نصوص إبن حزم الرامية إلى تحريم التقليد قد وردت في كتاب الإمام أحمد بن علي الجصاص (المتوفى سنة 370هـ) والذي سبقه بقرن من الزمان تقريباً (انظر: الفصول في الأُصول للجصاص، ج3، ص372 وما بعدها).