يحيى محمد
اعجب ممن يدعي ان العقل عاجز عن إدراك المصالح الدنيوية، إذ هل للعقل وظيفة أخرى أهم من إدراك مثل هذه المصالح؟! وهل يعقل ان تكون هذه الهبة الإلهية موضوعة فقط لقراءة الخطاب والبحث عن مصالح الآخرة؟!
لا شك أن ما جاء به الشرع حول المصالح الدنيوية لا يفسر الا على نحو الإمضاء والتبعية للوجدان العقلي، كالذي يدل عليه المنهج الإستقرائي. ولا شك ان الفائدة من ذكر الشرع لها ليس لاجل التوكيد والتنبيه والتذكير فحسب، بل الأهم من ذلك ما في الشرع من توعد بالعقاب لغرض الردع عن الانحراف، ذلك لأن النفوس تخاف - في الغالب - مما يتوعد به الشرع ولا تخاف مما تستهجنه النفوس والعقول، فترتدع بسبب الأول دون الثاني. وبهذا تتبين حكمة الشرع من ذكر المصالح الدنيوية رغم ان العقل قادر على إدراكها. الأمر الذي يحل الاشكال الذي طرحه الشاطبي في وجه العقل، وهو أنه لو كان قادراً على إدراك المصالح لما كانت هناك فائدة من ذكر الشرع لها.
فقد امضى الشرع جملة من المصالح كانت معهودة في الجاهلية باعتبارها محمودة تتقبلها العقول، وكان منها: الدية والقسامة والقراض وكسوة الكعبة والاجتماع يوم العروبة - الجمعة - للوعظ والتذكير... الخ[1]. كما نهى عن جملة أخرى من العادات والأعراف المنحرفة آنذاك؛ يشهد عليها الوجدان بالقبح والفساد، كتحريمه للغزو الداخلي واستباحة الأموال والأعراض والربا واسترقاق المدين والنهي عن الغرر في التعاقدات، كالنهي عن البيع بالمنابذة والملامسة والقاء الحجر وبيع الملاقيح والمضامين وبيع ضربة القانص والغائص وما إلى ذلك[2].
نعم ربما يستثنى من ذلك بعض الأمور التي لا ندرك مغزاها إلى اليوم على وجه القطع واليقين، مثل علة عدم إلغاء الشريعة لنظام الرق، مع أنها تتبنى اصالة تساوي الناس وتحث على تحرير الرقبة وتضيّق من منابعها، بل ويظهر أحياناً من بعض النصوص أنها تستهجن حالة ذلك النظام. وقد ورد عن الإمام علي (ع) قوله: (لا تكن عبداً لغيرك وقد خلقك الله حراً)، وقوله ايضاً: (ايها الناس ان ادم لم يلد عبداً ولا امة وان الناس كلهم احرار). وعن عمر بن الخطاب قوله: (متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم امهاتهم احراراً).
مع ذلك يمكن حل هذا المشكل عبر مقاصد الشرع التي تعالج - أحياناً – تناقضات ما تفرضه الظروف والأحوال المختلفة. فمثلاً فيما يتعلق بموقف الشرع من المشركين نرى نصوصاً تدعو إلى المسالمة معهم ما لم يبادروا إلى الاعتداء، وفي القبال نجد نصوصاً أخرى تحث على قتالهم وإن لم يقاتلوا. واذا كان الظاهر من هذه النصوص هو التعارض والتناقض فإن واقع الأمر يثبت العكس مع أخذ اعتبار المقاصد الشرعية. فالامر بقتل المشركين والنهي عن قتلهم لا يمكن ان يكون معلولاً للشرك ذاته كموضوع، وذلك لحصول التناقض بين الأمر والنهي على الموضوع الواحد. أما لو حملنا الأصل على المسالمة كما هو واضح من النصوص الغزيرة، واعتبرنا في الوقت ذاته ان قتال المشركين جاء لبعض الطوارئ الخاصة؛ لأصبح الأمر مفهوماً. وبالفعل يمكننا تفهم علة قتال هؤلاء بما ورد في ذيل الآيات التي حثت على ذلك، والتي منها تبيان ما في قلوبهم من الخيانة والعداوة[3]. الأمر الذي يكشف عن ان القصد في القتال إنما جاء للوقاية وحفظ سلامة المجتمع الإسلامي، سيما وقد كان فتياً.
وكذا يمكن أن يقال بصدد ما نجده من تضارب في الموقف من حرية الإنسان كما سبق توضيحه. لكن بلحاظ المقاصد والأصل العقلي يرتفع هذا التضارب. إذ الأصل المؤكد هو ان الناس احرار لانهم يصدرون عن نفس واحدة ويتساوون في الخلقة. أما علة إبقاء التمايز أو اقرار نظام الرق فمازالت غائبة عن الانظار[4]، ولا يقنع ما ذهبت اليه بعض التصورات الحديثة من ان المجتمع انذاك كان بأمس الحاجة للرق لاعتبارات العمل الاقتصادي المعني بتحقيقه، ولولاه ما استطاع ان تقوم للمجتمع قائمة[5]. وهو تصور ينطوي على مبالغة كبيرة، سيما ان الإسلام صنع في اوساط اهله ومريديه ارادة أمكنها ان تحقق الكثير من المعجزات بالعمل والجهاد والتضحية والايثار. ولعل من النماذج التي تشهد على عظمة الإسلام هو أنه جعل المؤمنين من أشد الناس امتناعاً عن الشيء الذي طالما سرى في عروقهم وخالط دماءهم، أي الخمرة التي كانت أقرب الأشياء إلى نفوسهم فأصبحت بعد الايمان من أبعدها وأكرهها.
على ان جهلنا لعلة عدم إلغاء نظام الرق لا يضر بسلامة التصور المنطقي من الناحيتين الوجدانية العقلية والشرعية كما سنبين أدناه:
طبقاً لمنطق الإستقراء وحساب الإحتمالات يمكن تفسير القضية الجزئية الشاذة بردها إلى الكلي المشترك مع إفتراض وجود بعض الأسباب التي ادت إلى ذلك الانحراف في تلك القضية عن الكلي. والطريقة التي نعول عليها هنا هي ذات طريقة المنهج العلمي المتبع في إثبات الظواهر الطبيعية وتفسيرها، فنحن إزاء عدد من الفرضيات كالتالي:
الفرضية الاولى: هناك خطأ في تعيين الكلي المفترض، بدلالة عدم انطباقه على الجزئي الشاذ. وما تعنيه مسألتنا حسب هذه الفرضية هو اننا اخطأنا اعتبار الشرع يطابق العقل ويلازم قراره، بدلالة قضيتنا الجزئية الشاذة، وهي ان ما اقره العقل من قبح نظام الرق لم يحكم به الشرع. إذاً بحسب هذه الفرضية أنه لا ملازمة بين العقل والشرع، فلكل طريقه ونتائجه المختلفة عن الآخر.
الفرضية الثانية: ان الخطأ متحقق في الجزئي الشاذ (عدم إلغاء الرق) لكون الكلي لا ينطبق عليه.
الفرضية الثالثة: انهما صحيحان معاً، لكن ما جعل الجزئي ينحرف عن الكلي هو لوجود أسباب خاصة غير معلومة دعته إلى ذلك. فلولا هذه الأسباب لخضع تحت طوق الكلي كبقية القضايا.
ولا يخفى ان الإفتراض الأول غير سليم باعتبار ان الكلي يحظى بقوة إحتمالية كبيرة بحسب الإستقراء، فلا يمكن التضحية به لمجرد وجود بعض الشذوذ. فمن الصعب قبول كون الشواهد المؤيدة للكلي دون غيره جاءت صدفة بلا ضابط يمحورها. كذلك لا يؤخذ بالإفتراض الثاني لعلمنا يقيناً ان ما ورد من شذوذ حول الجزئي هو صحيح. لذا ليس لنا من سبيل الا الأخذ بالإفتراض الثالث، وهو إفتراض وجود أسباب خاصة منعت انخراط الجزئي تحت حكم الكلي، سواء كنّا على علم بهذه الأسباب أم لم نكن.
وسبق للشاطبي أن أكد بأنه لا اعتبار بمعارضة الجزئيات في صحة الكليات الثابتة بالإستقراء، لأن الجزئيات الشاذة لا ينتظم منها كلي ليعارض الكلي الثابت. واذا كان التعارض بين الجزئي والكلي هو تعارض من بعض الوجوه فإنه يمكن الجمع بينهما[6]. أما لو كان التعارض من جميع الوجوه والجهات بحيث لا يمكن الجمع بينهما فإنه لا بد من الحفاظ على الكلي الثابت بالإستقراء مع اعتبار ما يخالفه من النصوص الشاذة بأنها من المتشابهات التي يجب الوقوف عندها وإيكال علمها إلى الله[7]، إذ أن الأخذ بالجزئي سوف يفضي لا محالة إلى هدم الشريعة بكلياتها. وهو أمر منكر ومرفوض[8].
ومن الناحية المنطقية يمكن ارجاع هذه النتيجة إلى طريقة (جون ستيوارت مل) المسماة (طريقة العوامل المتبقية). إذ قدّم (مل) هذه الطريقة الجديدة ليضيفها إلى عدد من الطرق المنهجية في الكشف العلمي[9]. ويقصد بها أنه اذا كانت هناك ظاهرة مؤلفة من عدة أجزاء أمكن تفسير بعض منها وفقاً لعوامل محددة ضمن مبدأ عام وشامل؛ فإنه يمكن تفسير ما تبقى من الأجزاء الأخرى طبقاً لذلك المبدأ المفترض.
وبهذه الطريقة أمكن التنبؤ واكتشاف عدد من الظواهر الكونية. ومن ذلك ما تمّ اكتشافه من كوكب جديد اعتماداً على نظرية الجاذبية. إذ رغم تمكن هذه النظرية من تفسير الكثير من الظواهر الكونية، الا أنها واجهت شذوذاً لم يخضع لتفسيرها، وهو انحراف مدار كوكب (يورانوس)، الأمر الذي احتاج إلى نوع من التفسير بحيث لا يتعارض مع مبدأ الجاذبية المتبنى. لهذا افترض وجود كوكب آخر مجهول هو الذي يسبب حالة انحراف ذلك المدار. وفعلاً ان احد علماء الفلك استطاع ان يكتشف هذا الكوكب ويحدد مكانه، وهو ما اطلق عليه كوكب (نبتون). بل وتم اكتشاف كوكب آخر تبعاً لما لوحظ من وجود انحراف في مدار الكوكب المكتشف الأخير، فأُطلق عليه (بلوتو)[10].
كما استخدمت هذه الطريقة في الكشف عن غاز (الارجون)، إذ لوحظ ان غاز (الازوت) الموجود في الهواء يختلف في خواصه ومن ثم في تركيبه الكيميائي عن غاز الازوت النقي، فافترض ان هناك غازاً مجهولاً يختلط به فيسبب ذلك الفارق. وفعلاً تم اكتشاف هذا الغاز الذي اطلق عليه الارجون.
وبهذه الطريقة ايضاً استطاعت (مدام كوري) أن تكتشف (الراديوم)، إذ لاحظت ان بعض المعادن تحتوي على طاقة اشعاعية أكثر منها في المعادن الأخرى، فبحثت عن الظاهرة الخفية من خلال إفتراض وجود عنصر مجهول، حتى تم لها اكتشافه[11].
[1] الموافقات، ج2، ص307.
[2] الشاه ولي الله دهلوي: المسْوى شرح الموطأ، دار الكتب العلمية، بيروت، الطبعة الاولى، 1403هـ ـ1983م، ج2، ص29-30 . ومجموع فتاوى ابن تيمية، مكتبة النهضة الحديثة، مكة، 1404هـ، ج29، ص23 وما بعدها. ومصطفى الزرقاء: الفقه الإسلامي في ثوبه الجديد، دار الفكر، الطبعة السابعة، ج2، ص881-882.
[3] تمعن بهذا الصدد في الآية الثامنة من سورة التوبة حيث تصف المشركين وتقول: ((كيف وإن يظهروا عليكم لا يرقبوا فيكم إلاً ولا ذمة يرضونكم بأفواههم وتأبى قلوبهم وأكثرهم فاسقون)).
[4] لا شك ان الاعتراف بتمايز الناس إلى أحرار وعبيد قد حدا بالكثير من الفقهاء إلى جعل العبد في مرتبة الحيوان. فقد اعتاد الفقهاء أن يضمنوا كتبهم الفقهية مسألة بيع العبيد ضمن باب عنونوه (بيع الحيوان). انظر على سبيل المثال المصادر التالية: الطوسي: النهاية، ص408. والمحقق الحلي: شرائع الإسلام، مطبعة الاداب، النجف، الطبعة الاولى، 1389هـ ـ 1969م، ج2، ص55ـ61. وجواهر الكلام، ج24، ص136 وما بعدها. والهيثمي: مجمع الزوائد، موقع نداء الايمان الالكتروني، ج4. والأم، ج3، ص18.
[5] قد يقال ان عدم رفض الإسلام لظاهرة الرق يعود إلى احد هذين السببين أو كلاهما: الأول هو ان الظاهرة مرتبطة بما كان عليه نظام الحياة الاجتماعية من كثرة العيال وتعدد الزوجات ومن ثم سعة الانجاب وتكاثر الاولاد، مما يشكّل عبئاً ثقيلاً على أرباب الأُسر، لصعوبة تسديد الكفاية المعيشية والادارة الاجتماعية، فكان لا بد من الاعانة المجانية من الخدمة والعمل المنتج الذي يقدمه الرقيق. أما السبب الآخر فهو ان الاسترقاق في الأصل عبارة عن ضريبة يدفعها المحارب جراء حربه بدل قتله في عصر لم يتهيء له الوصول إلى عرف يتفق عليه المتحاربون أفضل مما كان عليه الحال.
[6] الموافقات، ج3، ص9-10.
[7] دافع الشاطبي عن الأصول المطردة العامة، واعتبر ما يخالفها في ظواهر النصوص من المتشابهات الموكول علمها لله، ذلك لأن الأصول علمت بالإستقراء على نحو قطعي بخلاف المخالف الخاص الذي دليله ظني فلا يعارض ما هو قطعي. يقول الشاطبي: (ان الشريعة اذا كان فيها اصل مطرد في اكثرها مقرر واضح في معظمها ثم جاء بعض المواضع فيها مما يقتضي ظاهره مخالفة ما اطرد فذلك من المعدود في المتشابهات التي يتقى اتباعها، لأن اتباعها مفضٍ إلى ظهور معارضة بينها وبين الأصول المقررة والقواعد المطردة، فاذا اعتمد على الأصول وارجئ أمر النوادر، ووكلت إلى عالمها أو ردت إلى اصولها، فلا ضرر على المكلف المجتهد ولا تعارض في حقه) (الموافقات، ج4، ص176 و230).
[8] الموافقات، ج4، ص174.
[9] توفيق الطويل: جون ستيوارت مل، دار المعارف، مصر، ص145ـ148 . ومحمود قاسم: المنطق الحديث ومناهج البحث، دار المعارف، مصر، الطبعة السادسة، 1970م، ص226.
[10] انظر: Hemple, carl G., Philosophy of Natural Science, current printing 1987, USA, p. 72.
[11] المنطق الحديث ومناهج البحث، ص228ـ229.