يحيى محمد
بحسب منطق حق الملكية، كما يتمثل بالأشاعرة، لا مجال للقول بوجود التكاليف العقلية، إذ القول بهذه التكاليف يفضي إلى التناقض مع البداهة الأولية. لذلك قال الفخر الرازي كما في كتابه (محصل افكار المتقدمين والمتأخرين) أنه بحسب العقل لا يقبح من الله أي شيء في فعله، ويلزم منه أن لا يفرض عليه ثواب أو عقاب، وحيث لا يمكن القطع بالثواب والعقاب من جهة العقل، فإن وجوب التكليف الذي يتعلق به لا يمكن أن يقطع به أيضاً[1].
فمن الواضح أن مسألة الحسن والقبح قائمة على المعنى الخاص بالملكية، فحيثما وجدت ملكية مطلقة فالحق للمالك مطلق، فلا يُفرض عليه إقامة الثواب والعقاب، كما ليس هناك استحقاق للذم والعقاب لمن ترك الوجوب العقلي المزعوم، فكل ذلك يرتهن بقرار المالك، فما يختاره هو الحق؛ سواء اختار الذم والعقاب أو المدح والثواب أو غير ذلك.
كما قدّم الفخر الرازي وغيره دليلاً من الخطاب الديني يؤيد المعنى السابق من نفي التكليف العقلي؛ استناداً إلى قوله تعالى: ((وما كنا معذبين حتى نبعث رسولاً)) (الإسراء/15) [2].
وكان بعض أصحاب منطق الحق الذاتي يأول هذه الآية ويرى أن معناها هو «وما كنا معذبين بالأوامر السمعية حتى نبعث رسولاً هو العقل» كالذي أفاده العلامة الحلي خلافاً لظاهر النص[3].
مع هذا فعدم التعذيب لا يدل على عدم وجوب التكليف العقلي، فقد يجب التكليف على الفرد ويستحق على تركه العقوبة إلا أن الله يسقطها لفضله وكرمه. وهناك إحتمال آخر، وهو كون المقصود بالآية هو الأوامر السمعية دون العقلية، أي القضايا التعبدية التي لا تدرك بالعقل. وبالتالي فالآية ليست بصدد نفي التكليف العقلي كما هو واضح.
لكن ماذا بشأن مسألة وجوب النظر التي أثارت جدلاً كلامياً بين إتجاهي الدائرة العقلية؟
فقد ذهب أصحاب منطق حق الملكية إلى إعتباره واجباً سمعياً[4]، فهم لا يعترفون بالواجبات العقلية على إطلاق. بل يعدون الناظر لو استدل بالعقل سلفاً على معرفة الله وتوصل إليها لم يستحق بذلك ثواباً، ولو جحده بالنظر لم يستحق عقاباً، إذ كل ذلك موقوف على البيان الديني[5]. ونُقل عن أبي الحسن الأشعري إعتقاده بأن الله لو عذّب الناظر بإدخاله في النار لكان عدلاً، إذ هو كإيلام الأطفال في الدنيا، ولا يعد ذلك من العقاب، حيث استحقاق العقاب لا يكون إلا من تعلق به الأمر والنهي عبر الخطاب الديني ثم عصاه[6]. كما نُقل عن الأشعري قوله أيضاً بأن جميع الواجبات يحددها الشارع الديني جملة وتفصيلاً، وهي تبدأ أولاً بوجوب معرفة الله تعالى؛ بإعتبارها أصل المعارف والعقائد، ومنها تتفرع سائر التكاليف الشرعية الأخرى[7]. رغم أن هذا الرأي يفضي إلى الدور والمصادرة على المطلوب، فلو كان مصدر وجوب معرفة الله مستمداً من الخطاب الديني لعنى ذلك التسليم أولاً بحجية هذا الخطاب الذي يفيد الوجوب، لكن التسليم بحجيته قائم على إثبات معرفة الله، وفي ذلك دور واضح.
كما ينقل عن إبن فورك والجويني في (الإرشاد) أنهما يريان بأن القصد إلى النظر هو أول الواجبات، ونسب هذا القول أيضاً إلى الباقلاني، ومبرره هو توقف النظر على قصده، بمعنى تفريغ القلب عن الشواغل[8]. ويبدو على هذا الرأي النزعة العقلية، أي إعتبار القصد إلى النظر واجباً عقلياً، وهو ما ينافي البداهة الأولية لحق الملكية. لكن لو قيل أن القصد إلى النظر هو واجب سمعي مصدره الخطاب الديني، لأفضى ذلك إلى الدور الواضح، إذ من شأن هذا القصد أن يكون سابقاً على سائر الواجبات، وبالتالي يصبح قبول الخطاب الديني متوقفاً عليه، في الوقت الذي يكون منتزعاً عن هذا الخطاب، وهو الدور. وينطبق هذا الحال على القول الذي يراه الباقلاني من أن أول الواجبات هو: أول النظر، أي المقدمة الأولى منه، لتوقف النظر على أول أجزائه، نحو قولك: العالم حادث، وكل حادث لا بد له من محدث، فمجموع المقدمتين هو النظر، والمقدمة الأولى هي أول النظر[9].
ولدى أصحاب منطق الحق الذاتي شبهة كثيراً ما يطرحونها بوجه خصومهم من أتباع منطق حق الملكية؛ حول ما يعرف بشبهة افحام الأنبياء. ويصورونها كما يلي:
لو كان أصل الواجبات سمعياً، ومنها وجوب النظر، لأفضى ذلك إلى افحام الأنبياء وردّ رسالاتهم السماوية، وللزم عنه إسقاط التكاليف الشرعية بالكامل. فالذي تعرض عليه دعوة النبي بإمكانه أن يقول: (ما دام النظر لم يجب عليّ بعد فإني لست مستعداً لأن أنظر حتى لا تتم عليّ حجة صدق النبي وصحة رسالته). وهذا ما يؤول إلى افحام الأنبياء[10]. في حين لو كان النظر واجباً عقلياً لما أفضى الأمر إلى هذا الاشكال، بل لتمهّد الأمر إلى ابلاغ الحجة ودعوة الأنبياء[11].
لكن في القبال نجد لدى منطق حق الملكية شبهة معاكسة، ومفادها أن التسليم بوجوب النظر العقلي يفضي إلى الدور الباطل. فقد اعتبر الفخر الرازي - مثلاً - أن القول بوجوب النظر العقلي يتوقف على النظر حتى يثبت الوجوب، وهذا يلزم منه الدور. وبعبارة أخرى، لو وجب الاستماع للأنبياء عقلاً لأفضى ذلك إلى الدور، إذ لما كان وجوب النظر ليس ضرورياً بإعتباره يتوقف على مقدمات مفتقرة إلى انظار دقيقة، فالمكلَّف في هذه الحالة يجوز له أن يقول لا أنظر حتى أعرف وجوب النظر، ولا أعرف وجوب النظر حتى أنظر، أو يقول لا يلزمني النظر في معجزك حتى أعلم صدقك، ولا أعلم صدقك حتى أنظر في معجزك[12].
ومع ذلك فالبعض من أصحاب المنطق الأخير يرى أن الفرد سوف لا يخسر شيئاً لو استمع، إذ لو لم يستمع فمن المحتمل أن يقع في الهلاك من حيث لا يشعر. وكما صرح الغزالي فإن الاحتراز والنظر في الأمور وما تؤول إليه من العواقب هي من شيمة العقلاء[13]. لكن هذا الرأي لا يتسق والبداهة الأولية لحق الملكية، حيث إذا كان للمالك الحقيقي الحق المطلق في فعله دون قيود ولا شروط ولا غرض ولا غاية، فذلك لا يجعل من الاحتراز احترازاً، فما نعده احترازاً وإحتياطاً في الفعل؛ قد لا يسمح به المالك الحقيقي ويعاقب عليه. وبالتالي ليس في هذا المنطق ما يعرف بالاحترازات العقلية، فكل احتراز مصدره الخطاب الديني فحسب.
وهناك من أجاب على الشبهة التي طرحها الفخر الرازي في نفيه لوجوب النظر العقلي، كالذي ذكره العلامة الحلي، حيث حرر الشبهة وأجاب عنها قائلاً: «لا يقال هذا يرد عليكم، لأن وجوب النظر نظري، فللمكلف أن يقول لا أنظر حتى أعرف وجوب النظر، ولا أعرف وجوبه إلا بالنظر، ويعود المحذور، لأنا نقول: وجوب النظر وإن كان نظرياً إلا أنه فطري القياس»[14]. لكن الحلي لم يبين لنا كيف أن الإستدلال النظري على وجوب النظر فطري القياس، وربما كان منظوره الإستدلال القائم على وجوب دفع الضرر عن النفس، فيكون القياس كما يلي:
إن دفع الضرر المظنون - والمعلوم أيضاً - عن النفس واجب، وحيث أن ترك النظر يكون مظنون الضرر الأخروي لوجود دافع الخوف ولوجوب شكر المنعم، لذا كان النظر واجباً.
وقريب من هذا الجواب ما نصّ عليه نصير الدين الطوسي، فذكر بأن وجوب النظر عند المعتزلة ليس بمتوقف على العلم بالوجوب حتى يحصل الدور، بل إنهم قالوا بأن «دفع الضرر المظنون الذي لعله يلحق بسبب الجهل بالمنعم واجب في البديهة العقلية، وذلك لا يمكن إلا بمعرفته، وذلك لا يزول بترك النظر»[15].
والواقع أن القياس المذكور فطري متى أخذ على سبيل الاحساس الذاتي للفرد بغض النظر عن الجانب المنطقي، فعلى الأقل أنه من الناحية المنطقية لا يمثل الخوف ولا شكر المنعم دليلاً ظنياً أو قطعياً على وجوب النظر ما لم يكن هناك نظر سابق يبرر دلالة قرينة الخوف والشكر على وجوبه. فهذا النظر السابق ليس فطري القياس لإعتماده على جملة من القرائن المتعلقة بإثبات الخالق وصفاته. وعلى هذا يصبح وجوب النظر العقلي متوقفاً على نظر سابق، مما يفضي إلى التسلسل أو الدور.
أما فيما يخص شبهة افحام الأنبياء فمن الواضح أنها لو صدقت لكانت لا تدل بالضرورة على عموم وجوب النظر العقلي، بل على خصوص وجوب نظر الاستماع إلى قول الداعي الذي يدعي النبوة. ومن حيث التحقيق يلاحظ أن هذا الوجوب يتحلى بقدر من المنطقية؛ لأنه يتعلق بنوع القرائن الموضوعية وقدرها، كمعرفة ظروف الداعي واحواله الخاصة مع سلامة ظروف الفرد وخصائصه، كإن يكون متعقلاً دون إعاقة الموانع الطبيعية التي تحجب عن الاستماع إلى الداعي. فكلما كانت مثل هذه الظروف والأحوال مؤاتية للتبليغ والاستماع؛ كلما ازدادت قوة ترجيح تحقق استحقاق الذم والعقاب، ولا يعرف ذلك بمحض الإدراك العقلي الخالص. لذا كان من ضرورات تسهيل الدعوة أن يكون النبي على درجة عالية من الأخلاق، كالذي ينص عليه قوله تعالى: ((ولو كنت فظاً غليظ القلب لانفضوا من حولك فاعف عنهم واستغفر لهم وشاورهم في الأمر)) (آل عمران/159).
[1] تلخيص المحصل، ص58.
[2] المحصل، ص64. وتلخيص المحصل، ص58. والجويني: الإرشاد، ص11.
[3] أنوار الملكوت، ص8.
[4] الجويني: الإرشاد، ص11. وتلخيص المحصل، ص58.
[5] البحر المحيط، فقرة 81.
[6] البحر المحيط، فقرة 81.
[7] تلخيص المحصل، ص59، وبرهان الدين إبراهيم اللقاني: هداية المريد لجوهرة التوحيد، منتدى الأصلين الإلكتروني www.aslein.net، فقرة 14، لم تذكر أرقام صفحاته. ومحمد أمين الإسترابادي: الفوائد المدنية، طبعة حجرية قديمة، ص201.
[8] البحر المحيط، فقرة 22. والباجوري: شرح جوهرة التوحيد، شبكة روض الرياحيين الإلكترونية http://cb.rayaheen.net، لم تذكر أرقام صفحاته ولا فقراته. وحاشية العطار على شرح الجلال المحلي على جمع الجوامع، موقع الموسوعة الشاملة الإلكتروني http://islamport.com ، لم تذكر ارقام صفحاته ولا فقراته.
[9] شرح جوهرة التوحيد. وهداية المريد، فقرة 14. وحاشية العطار.
[10] والغريب ما ينقل عن الفقهاء انهم اعترضوا على تلك الحجة من وجوب النظر بالقول: إن الكافر لو قال أمهلوني لأنظر فأبحث فإنه لا يمهل، ولا ينظر، بل يقال له: أسلم في الحال، وإلا فأنت معروض على السيف. وقال إبن السمعاني في (القواطع) أنه لا يعرف في ذلك خلافاً بين الفقهاء، ونصّ عليه إبن سريج (البحر المحيط، فقرة 22. والسيوطي: صون المنطق والكلام عن فن المنطق والكلام، تعليق علي سامي النشار، دار الكتب العلمية، بيروت، ص172ـ173).
[11] تلخيص المحصل، ص58. وأنوار الملكوت، ص7.
[12] المحصل، ص65. وتلخيص المحصل، ص58. ومرهم العلل المعضلة، ص23.
[13] مرهم العلل المعضلة، ص24ـ25.
[14] أنوار الملكوت، ص7ـ8.
[15] تلخيص المحصل، ص65.