-
ع
+

عادة الله في تفسير المعرفة عند الاشاعرة

يحيى محمد 

في عدد من الدراسات اوضحنا بان نزعة الاشاعرة  تنتمي الى منطق (حق الملكية)، حيث الاعتقاد بان الحق الالهي مطلق؛ بسبب ملكيته المنفردة في خلقه من دون شريك، وبالتالي جاز له التصرف بهذا الخلق حيث يشاء. وذلك على خلاف منطق (الحق الذاتي) كما لدى المعتزلة وغيرها، حيث الاعتقاد بان الحق الالهي لا يتأثر بالشروط الخارجية كالملكية وغيرها، وبالتالي فالحق الالهي ليس مطلقاً من الناحية المبدئية خلافاً للرؤية الاشعرية.

وينسجم مع التوجه القبلي لمنطق حق الملكية قاعدة الاشاعرة القائلة: (لا مؤثر في الوجود إلا الله). وهي التي يترتب عليها اشياء عديدة، منها ما يتعلق بتفسير المعرفة، حيث الاعتقاد بان حدوث العلم عقيب النظر هو حدوث قائم على العادة، أي تجري عادة الله بأن يُحدث العلم عقيب النظر، كحصول الشبع عقب الأكل، والري عقب الشرب. فالمؤثر في وجود العلم هو الله تعالى استناداً الى القاعدة الانفة الذكر.

وقد احتج الاشاعرة على ذلك بأن الإنسان لا يفعل إلا ما هو قادر عليه، وأن قدرة الإنسان لا توجد قبل مقدورها. فإذا ثبت هذا الأصل بطل أن يكون العلم الواقع عقب النظر من فعل الإنسان، لأنه لو كان من فعله لوجب أن يكون قادراً عليه بقدرة تقارنه، أو تقارن القدرة على سببه المتمثل في النظر، وهو محال لأنه يوجب تقدم القدرة على مقدورها[1].

لكنّ بسْط فكرة العادة على قضية العلم والنظر يسفر عن بعض المحاذير، منها العجز عن إثبات المسألة الإلهية وما يترتب عليها من المسألة الدينية، إذ يتوقف إثبات المسألة الإلهية على التسليم بفكرة العادة والفعل الإلهي المطلق؛ طبقاً لذلك البسط والتعميم، مع أن هذه الفكرة تتوقف على إثبات المسألة الإلهية، فيحصل الدور والتسلسل الباطل.

وادعى الأشعري أن حدوث العلم إنما يجري بلا وجوب منه تعالى ولا عليه، مع أن القول بالوجود من غير وجوب يعني عند البعض ترجيحاً بلا مرجح. في حين يتم حصول العلم بعد النظر عند المعتزلة بالتوليد، فالناظر يخلق النظر فيتولد منه فعل آخر من غير صنع الله عقيبه، كحالة حركة المفتاح عند حركة اليد.

وهو موقف يخالف موقف الفلاسفة الذين اعتبروا حصول العلم بعد النظر جاء بالإعداد، فالنظر الذهني هو علة معدة غير حقيقية، فإذا تم استعداد الذهن لقبول العلم بهذا الإعداد؛ تفيض عليه النتيجة من مبدأ الفيض وجوباً. فعلى رأي الفلاسفة أن العقل الفعال المسمى (واهب الصور) هو الذي يهب الإنسان الضرورات الأولية للعلوم على ما صرح به الفارابي، فهو يمنح الإنسان «قوة ومبدأً به يسعى أو به يقدر الإنسان على أن يسعى من تلقاء نفسه إلى سائر ما يبقى عليه من الكمالات. وذلك المبدأ هو العلوم الأول والمعقولات الأول التي تحصل في الجزء الناطق من النفس»[2].

وعند القاضي عبد الجبار الهمداني من المعتزلة إن العلم البشري - باستثناء ما يتعلق بالضرورات - يأتي بفعل التوليد من خلال النظر، وبالتالي فلا علاقة له بقوة أخرى خارجية، سواء كانت عقلاً فعّالاً كما يقول الفلاسفة، أو الله كما يرى الأشاعرة، بل يجري ذلك بصنع من الإنسان ذاته عبر بعض الشروط. فكما قال: «لا يمتنع فيما نوجده متولداً من شروط يحتاج إليها، ثم الشرط تارة يرجع إلى الوجود وتارة إلى الإيجاب، فإذا تكلمنا في أن النظر مولّد للعلم فالشرط في توليده له وإيجابه هو أن يعلم الناظر الدليل على الوجه الذي يدلّ، والشرط في وجوده أن لا يكون عالماً بالمدلول لأنه لو علمه لتعذّر عليه النظر، فصار كل ما يصح وجود السبب من دونه فهو شرط في الإيجاب، وصار كل ما لا يصح وجوده فهو شرط في الوجود»[3].

وبذلك تتميز علاقة العلم بالنظر لدى الهمداني وعموم منطق الحق الذاتي بالثنائية المغلقة دون أن يكون معها طرف ثالث. الأمر الذي يتسق مع الأصل المولد بنفي الجبرية وتلافي الإشكالات التي ترد على منطق حق الملكية، والتي أبرزها التشكيك بالعلم الناتج عن النظر وعدم القدرة على إثبات المسألة الدينية كما عرفنا. فلدى هذا المنطق يتصف العلم الناتج عن النظر الصحيح بأنه علم صحيح بالضرورة[4]، ولولاه لكانت النتائج العلمية غير مؤكدة ومعرضة للتشكيك، ومنها تلك المتعلقة بتأسيس المسألة الدينية، باعتبارها قائمة على النظر ووجوبه، وبالتالي فإن بين هذه النظرية والأصل المولد جذوراً صميمة.

أما لو عدنا إلى رأي الأشاعرة حول علاقة العلم بالنظر، فسنجد أن فخر الدين الرازي يعتقد بأن حصول العلم عقيب النظر يتم بالوجوب تبعاً للعادة، أي جرت عادته تعالى بايجاب وجود العلم وإحالة عدمه، خلافاً للأشعري الذي لا يقول بالوجوب أصلاً. وعلى رأي الفخر الرازي أنه لا دخل للنظر في هذا الإيجاب، إذ إن العلم والنظر كلاهما معلولان لله واجبان به، خلافاً للفلاسفة، فحصول العلم لديه وإن لم يكن واجباً إبتداء فإنه ليس متأثراً بالنظر، إذ لا قدرة للعبد في التأثير[5].

لكن نُقل عن إمام الحرمين الجويني وإلكيا والغزالي في (المنخول) أنهم عدوا ما يعقب النظر من المعرفة ليس بعادة، بل لزوم ضروري، فالله يخلق النظر ومنه يلزم عنه العلم بالضرورة[6]. كما يلاحظ أن الباقلاني يقسّم العلم إلى علمين: علم نظر وإستدلال، وعلم إضطرار وضرورة. فالضروري ما لزم نفوس الخلق لزوماً لا يمكنهم دفعه والشك في معلومه، نحو العلم بما أدركته الحواس الخمس، وما ابتدأ في النفس من الضرورات. فالعلوم الضرورية لها طرق ستة، خمسة منها عن طريق الحواس الخمس، أما الطريق السادس فهو العلم المبتدئ في النفس، نحو علم الإنسان بوجود نفسه وما يحدث فيها من اللذة والألم والغم وما إليها، وكذا العلم بأن الضدين لا يجتمعان وأن الأجسام لا تخلو من الإجتماع والإفتراق، وكذا كل معلوم بأوائل العقول، وكذا العلم بأن الثمر لا يكون إلا من شجر أو نحل.. وكل ما هو مقتضى العادات[7].

وعلى ما يبدو أن الباقلاني يجعل العلوم العادية ضمن المعارف الضرورية، وإن كان ذلك لا يمنع كونها من فعل الله، ولو شاء لمنع أن تترتب النتيجة عن المقدمة في مثل هذه المعارف، وذلك إذا ما اعتبرنا النتائج مخلوقة بفعل الله، وليست متولدة عن نفس مقدماتها، كما هو مقتضى مذهب الاشاعرة. فهذا الاتجاه في حصول العلم يتفق ومبدأ الاشاعرة بأن لا فاعل في الوجود سوى الله، رغم ما يفضي إليه الأمر من الشك بقيمة المعرفة، إذ ما الذي يضمن صحة النتائج إذا ما كانت من فعل الله، وهنا نعود إلى مسألة الحسن والقبح، فهل يتوجب على الله أن يضمن صحة النتائج المترتبة على النظر، أم لا واجب عليه وفق مبدأ الاشاعرة، ومن ثم تصبح النتائج العلمية محل شك بما فيها نظرية هذا المذهب وتصوراته؟ إذ يصبح كل ما يترتب على المذهب المذكور من آراء ونتائج موضع شك؛ بإعتبارها تمثل عادة إلهية كسائر الأفعال دون وجود ضامن لصدقها.

مع هذا فإن الأشاعرة لا تنفي وجود جملة من المعارف العقلية التي تدخل فيها المحالات. فقد اعتبر الغزالي في (تهافت الفلاسفة) أن هناك عدداً من القضايا المعرفية المحالة، والمحال عنده غير مقدور عليه، وقد حصرها بثلاثة أمور: إثبات الشيء مع نفيه، وإثبات الأخص مع نفي الأعم، وإثبات الإثنين مع نفي الواحد. فكل ما لا يرجع إلى هذه الأمور الثلاثة فليس بمحال، وما ليس بمحال فهو مقدور.

فمثلاً إن الجمع بين السواد والبياض محال، لأنّا نفهم من إثبات صورة السواد في المحل نفي ماهية البياض ووجود السواد، فإذا صار نفي البياض مفهوماً من إثبات السواد، كان إثبات البياض مع نفيه محالاً. كذلك لا يجوز كون الشخص الواحد في مكانين، لأنّا نفهم من كونه في البيت عدم كونه في غير البيت. وكذا نفهم من الإرادة عند الشيء هي طلب فيه إدراك، فإن فُرض طلب دون إدراك فهذا يعني أنه لم تكن هناك إرادة عند الشيء.

أيضاً أن الجماد يستحيل أن يُخلق فيه العلم، لأنّا نفهم من الجماد ما لا يدرك، فإن خُلق فيه الإدراك كانت تسميته جماداً بالمعنى الذي فهمناه محالاً. كذلك فإن مصير الشيء شيئاً آخر غير معقول، لأن السواد إذا انقلب كدْرة مثلاً، فالسواد إن كان معدوماً فهو لم ينقلب، ولكن إنضاف إليه غيره، وإن بقي السواد والكدرة معدومة فهو لم ينقلب أيضاً، بل بقي على ما هو عليه. وإذا قلنا إن الدم انقلب منياً، أردنا به أن المادة بعينها خلعت صورة ولبست صورة أخرى، حيث هناك مادة مشتركة تعاقبت عليها الصورتان. وإذا قلنا إن الماء انقلب هواء بالتسخين، وكذا العصا انقلبت ثعباناً، والتراب حيواناً، فمعناه أن المادة المشتركة خلعت صورة ولبست أخرى. لكن ليس بين العرض والجوهر مادة مشتركة، ولا بين السواد والكدرة، ولا بين سائر الأجناس، لذا فإن الإنقلاب فيها من المحالات[8].

ومن جملة المستحيلات عند الغزالي ما هو مستحيل على الله تعالى؛ كالمكان والجهة والصورة واليد الجارحة والعين الجارحة وإمكان الإنتقال والإستقرار، وقد أوجب فيها التأويل حسب الدليل العقلي، في حين اعتبر أمور الآخرة مما وعد بها الله ليست من المحالات على قدرته، وأوجب إجراءها على ظاهر الكلام وفحواه الصريح[9].

***

لقد تعرّضت الأشاعرة حول نفيها لعلاقة الضرورة، وكذا التأثير بين الأسباب والمسبَّبات في الطبيعة، إلى الكثير من النقد والتهم. فمن تهمة نفي الأساس الذي تقوم عليه علوم الطبيعة، إلى تهمة السفسطة ونكران الأصل العقلي، ومن ثم الوقوع في التناقض، بإعتبارها تثبت المسألة الإلهية بإعتمادها على هذا الأصل[10].

والواقع إن الأشاعرة تلتقي مع ديفيد هيوم وأغلب رواد المنطق التجريبي الحديث حول مسألة نكران الضرورة لعلاقة السببية الخاصة، وهي لا تفضي بالضرورة إلى بطلان المعرفة العلمية. كما أن هذا الإلتقاء بين الأشاعرة وأصحاب المنطق التجريبي لا يلغي مورد الإختلاف بينهما حول مبدأ السببية العامة، وهو المبدأ القائل بأن الحادثة لا بد لها من سبب ما، فالأشاعرة تسلم بهذا المبدأ خلافاً لأصحاب ذلك المنطق، بدلالة أنها تستدل على المسألة الإلهية عبر مبدأ إستحالة الترجيح من غير مرجح، وهو ما يعني إستحالة وجود حادثة ما من غير سبب. ومثلما يعبر الغزالي عن هذا المبدأ: إن كل حادث له سبب، هو مما يجب الإقرار به لأنه «أولي ضروري في العقل»[11].

وبعبارة أخرى، تتضمن السببية نوعين من المفاهيم، أحدهما السببية العامة، وهي موضع الخلاف بين الأشاعرة والتجريبيين، والآخر السببية الخاصة التي تحدد ماهية السبب بعينه، كما لو اعتبرنا الحرارة سبب تمدد الحديد لا غيرها. فهذه العلاقة بنظر الفريقين الآنفي الذكر لا تتضمن الضرورة، بل هي مجرد تتابع إقتراني تفسرها العادة. ولا شك أن نفي الضرورة في هذه العلاقة لا يؤثر على إثبات المسألة الإلهية، خلافاً للعلاقة الأولى العائدة إلى مبدأ السببية العامة، كما هو واضح.

كما تعرضت الأشاعرة إلى تهم كثيرة، ومن ذلك أنها أُعتبرت من المذاهب اللاعقلية. فهناك من جعل الأشاعرة ضمن هذه المذاهب لكونها تعدّ مسائل الحسن والقبح راجعة إلى الخطاب الديني لا العقل. واعتقد البعض أنها عطلت العقل حتى في المجال العقائدي، بل واتهمها بالقضاء عليه مطلقاً[12]. كما رأى صاحب (فلسفة الفكر الديني) بأن علم الكلام الأشعري يوجّب الرجوع إلى الخطاب الديني من حيث الأصل والأساس، ويشمل هذا الأمر حتى موارد إستخدام النظر العقلي[13]. وجاء عن دي بور أن الأشعري لا يعتبر النظر العقلي المستقل عن الوحي سبيلاً لمعرفة الشؤون الإلهية، إنما يمكن للعقل أن يدرك وجود الله، ويظل العقل آلة للإدراك فقط، أما الأصل الوحيد لمعرفة الله فهو الوحي[14].

لكن هذه الإعتقادات لم تتدارك كون المذهب الأشعري قد تأسس تبعاً للفكرة العقلية الخاصة بحق الملكية قبل أي إعتبار آخر، وهو وإن أبعد العقل عن قضايا الحسن والقبح، إلا أنه قد اعتمد عليه في الكثير من القضايا النظرية، ومنها تلك المتعلقة بإثبات المسألة الإلهية، وهي على رأس القضايا الإعتقادية. كذلك فإن هذا المذهب قد شهد تطوراً في ممارسته للنشاط العقلي، بما فيها تنظيره لجعل العقل حاكماً على نص الخطاب، فقد إلتزم المتأخرون بالقانون الكلي للمعارض العقلي، وهو يتضمن عرض مسائل النص على العقل لينظر فيها؛ إن كانت تُقبل أو يُجرى عليها التأويل.

ورغم كل ذلك نرى أن طريقة المذهب الأشعري ينتابها الاضطراب، فلا هي عقلية كالذي عليه المذهب الإعتزالي وغيره، ولا هي بيانية كسائر الطرق البيانية. وهذا الإزدواج الذي لجأ إليه الأشاعرة أوقع الكثير منهم في شرك الشك وفقدان اليقين، وعلى أثر ذلك احتمى عدد منهم بالدائرة العرفانية للنظام الوجودي، خلافاً للمذاهب العقلية الأخرى، ولسان حالهم يقول كما يصرح الغزالي: «من لم يشك لم ينظر، ومن لم ينظر لم يبصر، ومن لم يبصر فهو في العمى والضلال»[15].


[1]  بدر الدين الزركشي: البحر المحيط، فقرة 20.

[2]  الفارابي: السياسة المدنية، ص71ـ72.

[3]  عبد الجبار الهمداني: المجموع المحيط بالتكليف، ج1، ص394.

[4]  الحلي: كشف المراد في شرح تجريد الإعتقاد، ص344.

[5]  عبد العلي الأنصاري: فواتح الرحموت بشرح مسلم الثبوت في أصول الفقه، ج1، ص24.

[6]  البحر المحيط، فقرة 21.

[7]  الباقلاني: الإنصاف في ما يجب إعتقاده ولا يجوز الجهل به، ص14.

[8]  الغزالي: تهافت الفلاسفة، ص197ـ199.

[9]  المصدر السابق، ص238.

[10] محمد حسن المظفر: دلائل الصدق، ج1، ص175ـ180. وإبن رشد: تهافت التهافت، ص519ـ523.

[11] الغزالي: الإقتصاد في الإعتقاد، ص43.

[12] محمد باقر الصدر: المعالم الجديدة للاصول، ص41ـ43.

[13] لويس غرديه وج. قنواتي: فلسفة الفكر الديني، ج3، ص214ـ215.

[14] دي بور: تاريخ الفلسفة في الإسلام، ص118.

[15] الغزالي: ميزان العمل، ص408 و228.

comments powered by Disqus