-
ع
+

التداولية الطاهية (قراءة في النسق التداولي لمشروع طه عبد الرحمن)

يحيى محمد

معلوم ان تاريخ الفلسفة يتميز بالحجاج العقلي. فهو العنصر الذي يكاد يكون ثابتاً على طول الممارسة الفلسفية، مع الاعتراف – غالباً - بوجود قضايا مشتركة واضحة البداهة تمثل اساس المعرفة. واحياناً رافق هذه الممارسة عنصر اخر هو الذوق الصوفي، وهو يعبّر عن الكشف الذاتي الخاص مثلما تعبّر القضايا البديهية عن الكشف العام. بل ان البعض اعتبر القضايا البديهية نابعة عن الذوق الصوفي ذاته.

وعادة ما يُستشهد بالطريقة الافلاطونية كدلالة على الذوق الصوفي، فيما ان الطريقة الارسطية دالة على الاستدلال العقلي المحض. ونجد ازدواج هذين العنصرين لدى افلوطين الذي جمع بين الطريقتين، ومن ثم انعكس ذلك على الكثير من الفلاسفة المسلمين، بل وبشكل صريح لدى المدرسة الاشراقية بزعامة السهروردي. لكن يبقى العنصر الاساس في الممارسة الفلسفية الخالصة هو الاستدلال العقلي المحض.

وعندما اضاف الفلاسفة عنصر الذوق الصوفي فذلك باعتبار ان المنظومة الصوفية مقاربة للمنظومة الفلسفية، وان الذوق الصوفي كاشف عن هذه المنظومة ضمن شروط عملية مألوفة لدى العرفاء، بغض النظر عن مصداقية ما يكتفى به من الكشف الشخصي لا العام. اما غير ذلك من مصادر معرفية اخرى فلا تعتبر فلسفية، وانما قد تكون علمية او دينية او غيرها، لا سيما فيما لو تناولت القضايا الجزئية دون الكلية، او ان المصادر والمناهج الاستدلالية التي اعتمدتها لم تكن دقيقة.

وقد جرب البعض ان يوفق بين العنصرين الفلسفي والديني فضلاً عن العرفاني؛ لكن النتيجة اسفرت عن التلفيق بدل التوفيق، كالممارسة التي زاولها صدر المتألهين الشيرازي والتي انتهت الى الاضرار بكل من الفلسفة والدين، حيث لكل منهما اشكاليته المختلفة عن الاخرى.

ويبقى اصل الممارسة الفلسفية يعبّر عن استخدام الاداة العقلية الدقيقة دون خلطها مع غيرها، او فرض الشروط الخارجية عليها بنمط من التقييد؛ كالذي مارسه المفكر المعروف طه عبد الرحمن، حيث اخرج الممارسة الفلسفية عن جوهرها، مع اخذ اعتبار تقلباته المعهودة في فهمه للقضايا الفلسفية، وان حديثه عن الابداع الفلسفي - كما في الترجمة - لا يمت الى الفلسفة بشيء. كذلك ان تقييده للابداع بالمجال التداولي هو اشتراط متناقض، حيث يستلزم الجمود والتقليد لا الابداع. لذلك سعى الى الالتفاف على المجال التداولي بادماج عناصر دخيلة حتى لو كانت شاذة ضمن هذا المجال.

وهذا ما سنسلط عليه الضوء في الفقرة التالية..

المجال التداولي وازدواجية المعنى

في (تجديد المنهج في تقويم التراث) الصادر عام 1994 تناول طه المجال التداولي للتراث بالتفصيل وعرّفه بأنه محل التواصل والتفاعل بين  صانعي هذا التراث. اي انه وصف لكل ما كان نطاقاً مكانياً وزمانياً لحصول التواصل والتفاعل. وحدد اسباب هذا التواصل والتفاعل بثلاثة: لغوية وعقدية ومعرفية. فكلما كانت الاسباب اللغوية مألوفة للمخاطب من حيث ممارستها كانت أفيد  والتأثير اشد. وكذا فيما يخص الجانب العقدي والمعرفي. ومن ثم انتهى الى ان المجال التداولي هو ظاهرة ثقافية اجتماعية تنبني على هذه الاسباب المخصوصة.

فالمجال من هذه الناحية يقوم مقام الدليل المرشد الذي يوجه سائر الظواهر الثقافية الاجتماعية فيما يتطرق اليها من التغيرات ويحملها على الدخول في التغير متى خالفت مقتضياته الاستعمالية، الامر الذي يجعله متغيراً هو الاخر. لكنه بالنسبة الى سواه من الظواهر الثقافية يقع في ادنى درجات التغير.

وبذلك يتصف المجال التداولي بالثبات “النسبي” دون ان يعود الى المطلقات. او انه ثابت بمعنى واحد ومتغير بمعنيين اثنين، فهو ثابت لانه يتضمن العناصر الموجهة للتحولات الثقافية حتى تؤتى ثمارها، وهو متغير لانه يبعث على التغير، حيث كل باعث على التغير هو متغير، كذلك لانه يعلق تغيره بالتغير الموجه للظواهر الثقافية التي تسترشد به.

 وعليه فالمجال التداولي رغم ثباته بموجب دوره التوجيهي؛ فانه يتغير باعتباره يحمل كل ما يرد عليه من ألوان الثقافة ومظاهر الحضارة على التبدل وفق مقتضياته التواصلية والتفاعلية، رغم ان تغيره يحصل بقوانين خاصة تختلف عن قوانين هذه الاشكال الثقافية والحضارية التي تفد عليه والتي يمارس عليها توجيهه.

هذا هو مفهوم المجال التداولي للتراث عند طه عبد الرحمن. ويمكن التعبير عنه بالمجال التداولي “الموضوعي” للتراث، اذ يصبح المجال كظاهرة ثقافية اجتماعية فاعلاً ومنفعلاً، فهو فاعل من حيث دوره التوجيهي، لكنه منفعل ايضاً باعتباره خاضعاً للتغير، ولا بد من ان تكون له علة او علل تجعله يتغير..

لكن السؤال الذي يرد في هذا الصدد: هل التزم طه بحدود هذا المعنى الموضوعي للمجال، ام انه تجاوزه الى معنى اخر مختلف؟

الحقيقة ثمة مؤشرات كثيرة تدل على ان هذا المفكر تجاوز المعنى الموضوعي للمجال الى معنى اخر مخالف. فقد تحدث عن المجال التداولي بالمعنى “الشخصاني” او الذاتي الذي يهدم المعنى الاول الموضوعي، وضمّن المعنى الجديد “وصايا ايديولوجية” يخاطب بها القارئ، ويدعوه الى الالتزام بجملة من القضايا بما لا يتناسب مع دراسة المجال التداولي كظاهرة موضوعية، فحوّل ما هو كائن الى ما ينبغي ان يكون، بل وجعل ما هو شاذ في التراث اقرب للمجال التداولي مما هو سائد، في حين يُفترض ان العكس هو الصحيح لخصوصية التواصل والتفاعل المتضمنة في مفهوم المجال بالمعنى الموضوعي كما مرّ معنا. لذلك فالانقلاب على المعنى الموضوعي جعل التعامل مع المجال التداولي يتخذ صبغة ذاتية ايديولوجية ضمن الافق الشخصاني للطاهية. وهو التناقض الذي سنلاحظه بوضوح.

المجال التداولي الشخصاني ومبدأ التفضيل

لنبدأ من نقطة مبدأ التفضيل الذي وصف به طه المجال التداولي، والذي تتفرع منه جميع القواعد التداولية، وقد صاغه اعتماداً على الاسباب الثلاثة للمجال، اي السبب العقدي واللغوي والمعرفي، وذلك كالتالي: ليس في جميع الامم امة اوتيت من صحة العقيدة وبلاغة اللسان وسلامة العقل مثلما اوتيت امة العرب تفضيلاً من الله. واشار الى ان هذا المبدأ لم يرد بالصيغة المذكورة اعلاه في نصوص التراث، لكن عناصره الثلاثة قد ذُكرت في النصوص؛ إما متفرقة او  مجتمعة. وسمى هذه العناصر باصول المجال التداولي.

ولكل من هذه الاصول الثلاثة قواعد ثلاث، فللاصل العقدي ثلاث قواعد، وكذا بالنسبة للاصل اللغوي والمعرفي. وكلها مستنبطة من مبدأ التفضيل.

ولسنا بصدد الجدل حول ما اذا كان مبدأ التفضيل بعناصره الثلاثة صحيحاً ام لا، فهو مفترض سلفاً من دون تحقيق، انما المشكلة التي نلاحظها هي ان صياغة القواعد الثلاث القائمة على مبدأ التفضيل جاءت كتوصيات مطلوبة دون ان تكون مستنبطة من المجال التداولي الموضوعي كظاهرة ثقافية اجتماعية ينبغي تسليط الضوء عليها خارج افق الوصايا الذاتية الشخصانية، ناهيك عن التفضيل المدعى. وهي من المفارقات، حيث يتحول المجال التداولي مما هو ظاهرة موضوعية الى اعتبارات ذاتية ايديولوجية. فقد حدد توصياته فجعل تحت كل اصل من الاصول الثلاثة ثلاث قواعد، وسمى القواعد الاولى لكل اصل بقواعد التفضيل، كما سمى القواعد الثواني بقواعد التأصيل، اما القواعد الثوالث فسماها بقواعد التكميل. واعتبر جميع هذه القواعد تستوفي الاحاطة بمقومات التداول.

وتنص قواعد التفضيل، اي القواعد الاولى لكل اصل، ما يلي: ففي العقيدة ثمة قاعدة الاختيار، وهي كما رسمها كالتالي: سلّمْ بان العقيدة التي لا  تنبني على اصول الشرع الاسلامي - قولاً وعملاً - لا تعد عقيدة مقبولة عند الله. وفي اللغة ثمة قاعدة الاعجاز، وتنص: سلّمْ بان اللسان العربي استعمل في القرآن الكريم بوجوه من التأليف وطرق في الخطاب يعجز الناطقون على الاتيان بمثلها  عجزاً دائماً. وفي المعرفة ثمة قاعدة الاتساع، وتنص: سلّمْ بان المعرفة الاسلامية حازت اتساع العقل بطلبها النفع في العلم والصلاح في العمل، ولا نفع في العلم ما لم يقترن بالعمل، ولا صلاح في العمل ما لم يقترن بطلب الاجل.

كما تنص قواعد التأصيل، وهي الثواني لكل اصل، ما يلي: ففي العقيدة ثمة قاعدة الائتمار، وتنص كالتالي: سلّمْ بان الله واحد مستحق للتقديس والتنزيه والعبادة دون سواه؛ متبعاً تعاليم الرسالة التي بعث بها نبينا الاكرم محمد. وفي اللغة ثمة قاعدة الانجاز، وهي تنص: لا تنشئ من الكلام الا ما كان موافقاً لأساليب العرب في التعبير، وجارياً على عاداتهم في التبليغ. كما في المعرفة ثمة قاعدة الانتفاع، وهي: لتكن في توسلك بالعقل النظري، طلباً للعلم بالاسباب الظاهرة في الكون، منتفعاً بتسديد العقل العملي.

كما تنص قواعد التكميل، وهي الثوالث لكل اصل، ما يلي: ففي العقيدة ثمة قاعدة الاعتبار، وهي: سلّمْ بان كل ما سوى الله لا يكون الا بمشيئته ولا يحفظ الا بمنّته؛ معتبراً مقاصده في احكامه ومعتبراً بحكمته في مخلوقاته. وفي اللغة ثمة قاعدة الايجاز، وهي: لتسلكْ مسلك الاختصار في العبارة عن مقاصدك؛ مؤدياً هذه المقاصد على الوجه الذي يسهل به وصلها بالمعارف المشتركة، ويحمل على استثمار هذه المعارف اقصى ما يكون الاستثمار. وفي المعرفة ثمة قاعدة الاتباع، وهي: لتكن في توسلك بالعقل الوضعي، طلباً للعلم بالغايات الخفية للكون، متبعاً اشارات العقل الشرعي.

نقد قواعد التفضيل

بداية يمكن ملاحظة ان بعض القواعد السابقة التي وصى بها طه لم يلتزم بتطبيقها، لا في كتابه الذي تضمنها، ولا في سائر كتبه الاخرى، مثل قاعدة الايجاز في اللغة. بل ان هذه القاعدة لم يعمل بها صنّاع التراث في المجال المعرفي، فقد اشتهروا بكثرة ايراد الاحتمالات والافتراضات المختلفة حول المطالب مهما كانت مستبعدة او منفية، وهو ذات الحال الذي تميّزت به كتابات طه؛ لا سيما في افتراضاته اللغوية ومناقشاتها؛ الى درجة انها تعمل على تشتيت ذهن القارئ عن المطالب المطروحة.

كذلك ثمة جدل تراثي كبير حول قاعدة الاختيار في العقيدة. فأصول الشرع الاسلامي التي تنبني عليها العقيدة هي محل اختلاف بين المدارس التراثية، وبالتالي اي عقيدة واصول شرع يوصينا بها هذا المفكر؟ هل العقيدة السلفية ام عقيدة المعتزلة ام الاشاعرة ام الامامية ام غيرها؟

ونشير بهذا الصدد الى ان طه قد استعار مضمون هذه القاعدة من كتاب (الرد على المنطقيين) لابن تيمية، كما استعار مضمون عدد من القواعد الاخرى من ذات الكتاب المشار اليه ومن فتاوى هذا الشيخ. وعليه هل اراد بذلك اعتبار المنهج التيمي هو العقيدة الصحيحة التي يرضى بها الله دون سواها؟ وهل يجوز رسم هيكلية المجال التداولي اعتماداً على منهج تراثي محدد دون سواه؟!

والاهم من ذلك ان الوصايا الطاهية بقواعدها التفضيلية ما هي الا نزعة شخصانية ايديولوجية لتحديد المجال التداولي دون ان يكون لها علاقة بدراسة هذا المجال موضوعياً. فثمة مفارقة بين المجال الموضوعي كما تم تحديد مفهومه في بداية الامر، وبين هذا المجال الذاتي الايديولوجي.

كما ثمة مفارقة اخرى، وهي ان طه تعامل مع عدد من قضايا اصول المجال التداولي تعامل الثوابت المطلقة. في حين اقر في تعريفه للمجال التداولي بانه متغير، وان كان تغيره بطيء مقارنة بسائر الظواهر الثقافية الاجتماعية التي يعمل على توجيهها وتغييرها. لذلك كيف يمكن التوفيق بين اعتبار المجال متغيراً، وبين تعامله مع هذا المجال بشكل مطلق وثابت كما في الوصايا السابقة؟ والتي تفضي الى اعتبار الاصول ثابتة ومطلقة.

وحقيقة ان اعتبار المجال التداولي متغيراً لا يتسق مع ثوابت الاصول الثلاثة التي سلّم بها هذا المفكر من منطلق مبدأ التفضيل، وبدون ذلك لا يصبح لهذا المبدأ قيمة معيارية مطلقة، لا سيما فيما يخص العقيدة. فإما ان المجال التداولي متغير، وبالتالي تتغير مضامين عناصره واصوله الثلاثة مهما كان التغير بطيئاً، او ان مضامين هذه الاصول ثابتة وبالتالي لا بد من ان يكون المجال التداولي ثابتاً هو الاخر.

هكذا فالتناقض السابق يجعل الاطروحة الطاهية في مأزق، وهو يعبر عن مفارقة ازدواج الجمع بين الطرح الموضوعي للمجال التداولي والطرح الشخصاني له.

كما من المفارقات ان طه فرض عدداً من المعايير التي تحدد ما هو قريب عن المجال وما هو بعيد عنه وفق الرؤية الشخصانية. فقد ميز بين العلوم الاصلية من حيث قربها وبعدها عن المجال وفق النجاح في توسيع افاق الاستثمار وأبعاد الاثمار فيه دون ان تحدده النشأة فقط. فاعتبر العلم المنقول قد يكون اقرب الى مجال التداول من العلم المأصول، وذلك متى كان قادراً على فتح باب الاستشكال الوظيفي والمضموني الذي يعمل العلم على سدّه تماماً. وبالتالي فكل علم منقول امكنه تحصيل هذه القدرة؛ هو اولى بالقرب من المجال؛ سواء كان علماً منقولاً او مأصولاً. ولا تشفع للمأصول نشأته الاولى الا ان يستعيد هذه القدرة، وعندها لا يضاهيه اي علم منقول لانه يتمتع بحق السبق التداولي على ما دونه.

ومع ان ظاهر هذا الكلام هو الكشف عن المعنى الموضوعي للمجال التداولي؛ لكن حقيقة الموقف هي ان طه استهدف المعنى الشخصاني للمجال فيما يتعلق بالقدرة على التوسع في استثمار الوظائف واثمار المضامين من دون اعتبار لما هو موضوعي قائم على التفاعل والتواصل كما يفرضه المجال كظاهرة ثقافية اجتماعية.

فقد اعتبر الجانب الاخلاقي والعملي هو ما يحدد القرب والبعد من المجال التداولي، بل واشترط قيمة اليقين في ان تتصف به عناصر المجال التداولي واصوله. وكما صرح بانه قد تكون الاخلاق اقرب الى المجال التداولي من علم الكلام، بناء على ما فتحته من افاق العمل، فيما كان يكتفى فيه بالنظر المجرد في علم الكلام. كما قد يكون مستوى اصول الفقه اقرب الى مجال التداول الاسلامي من مستوى فروع الفقه باعتبار جمود الفقه على جزئيات خلافية لا غنى فيها.

وكما يلاحظ ان طه لم يهتم – هنا - بمدى سعة التفاعل والتواصل وفق ما يتطلبه المجال التداولي الموضوعي، بل وضع شروطاً اخرى ذاتية مفروضة على هذا المجال، ومن ذلك شرطه للجانب العملي مقارنة بالجانب النظري المجرد كما لدى علم الكلام، كذلك شرطه في ان لا يصبح العلم محل خلافات جزئية لا غنى فيها كما في علم الفقه مقارنة باصوله، رغم ان الكثير من خلافات علم الفقه عائدة الى الخلافات المتعلقة باصوله، بل كان الاولى ان يعتبر علم الفقه اقرب للمجال التداولي من هذه الاصول، لسبق وجوده ولسعة تفاعله ومقدار حضوره ولكونه يمثل الغاية مقارنة بالاصول التي هي مجرد اداة وسيلة لهذه الغاية. بل اكثر من ذلك انه يمثل جانب العمل التام بما لا يرقى اليه علم الاصول الذي يكثر فيه الجانب النظري التجريدي.

كما اضاف شرطاً ذاتياً اخر، وهو ان تتصف عناصر المجال التداولي لتراثنا باليقين، أما الظنون فقد وصفها بالفساد. وهو امر في غاية الغرابة، حيث ان اغلب معارف التراث اجتهادية تفيد الظنون لا اليقين. لذا فأي تراث ومجال تداولي يتحدث عنه هذا المفكر؟!

فقد اعاب على مفكري الاسلام وبعض علمائه ممن قرروا ظنية بعض المعارف الشرعية، مع اعترافه بانهم اوجبوا العمل بما هو ظني، معتبراً هذا الموقف في غاية الفساد، لذلك قرر بان “الحكم الشرعي والعقدي اولى باليقين من الحكم الوضعي متى اخذنا بعين الاعتبار خاصية الثبات التي ينفرد بها الاول وخاصية التغير التي تلازم الثاني”.

مع ان اغلب الفقهاء وعلماء الاصول يصرحون بان معظم الاحكام الشرعية ظنية، لا سيما وان علم الفقه قائم على اخبار الاحاد، وهي ما تفيد الظن، دعك عن ظنية المتون.. كما ان النظرة التحليلية لسائر العلوم التراثية تكشف عن انها اجتهادية ظنية، وان الاصول التي تقوم عليها هي اصول متنازع حولها؛ كما في علم الكلام والعقائد. فهذا هو صلب ما يتعلق بالمجال التداولي للتراث بالمعنى الموضوعي، ولا قيمة لمعناه الذاتي القائم على التحكمية الشخصانية وما تفرضه من انغلاق. كما ان اشتراط طه لخاصية الثبات في الحكم الشرعي والعقدي يناقضه ما سبق ان اعتبر المجال التداولي يتصف بالتغير البطيء.

وقد تكرر مثل هذا التحكم الشخصاني عندما اتخذ موقفاً خاصاً ازاء قِدم العالم، حيث لم يلتزم بالمجال الموضوعي السائد في التراث، وانقطع عن احد اصوله التداولية، ورجح عليه الموقف الشخصاني.

وكما اشار الى ان القول بقِدم العالم هو معنى منقول ومنقطع عن احد الاصول التداولية للتراث، وعلى شاكلته القول بعدم معرفة الله للجزئيات كالذي طرحه ابن سينا واتباعه من الفلاسفة المسلمين، حيث اعتبرهما مخالفين للشرع الاسلامي كما في (حوارات من اجل المستقبل) الصادر عام 2000. وبخصوص قِدم العالم اعتبر ظاهر الفكرة غير مألوف ويثير الشبهات ويفسد مسالك التواصل والتفاعل. فهو منكر باعتباره يخالف العنصر الاصلي، وهو حدوث العالم. لكنه في الوقت ذاته اعتبر الحدوث من العدم باطلاً، انما الحدوث من شيء، اي الحدوث النسبي، فللعالم حدوث نسبي، حيث ظاهره العرضي حادث وجوهره قديم. وهو يعني “ان العالم موجود وجوداً جوهرياً متحركاً حادثاً حدوثاً نسبياً”، معتبراً هذا الحكم اقرب الى ان تتقبله العقول لظهور اسباب الصلة بينه وبين العناصر التداولية، وهو من المنقول الموصول الذي ينزل منزلة المأصول، اذ يتضمن ما يأخذ به اهل المجال التداولي، وهو ان (العالم محدث)، كما يتضمن مفهوم (الوجود الجوهري) الذي يقبل المخاطب وصفه بـ (القِدم)، ويحتوي كذلك مفهوم (الحركة) الذي انس المخاطب بان يقرنه بمعنى الدوام، حتى انه يكاد لا يرى في القِدم المنسوب الى العالم الا دواماً في الحركة لا نهاية له.

وهنا يصبح التقابل بين القِدم والحدوث هو تقابل بين النوعي والجزئي، فالعالم من حيث النوع قديم، ومن حيث الشخص والجزئي حادث. وهو المعنى الذي اراد طه تقريبه من خلال المقابلة بين الكل والاجزاء، حيث يتم قبول الاعراض الجزئية ان تكون حادثة دون قبول ان يكون الجوهر الكلي حادثاً، انما يستحق ان يكون قديماً.

وهو القول الذي سبق اليه بعض المتشرعة من امثال ابن تيمية. فقد اعتقد أن الحوادث الكونية لا بداية لها، وهو إقرار بأزلية الأشياء من حيث النوع لا الأفراد. فبرأيه أن كل فرد حادث يسبقه فرد حادث قبله وهكذا من غير بداية محددة، وهو ذات ما يقره الفلاسفة. ومع أن ما ورد في التراث من وجود عدد محدود من الأشياء قد سبق خلقها قبل السماوات والأرض، إلا أنها تعد بحسب هذا الرأي ليس لها بداية بإطلاق، ومن ذلك العرش، حيث نقل الدواني عن إبن تيمية أنه اعتقد بقِدم العرش من حيث النوع، أي أن كل عرش يسبقه عرش آخر قبله دون بداية محددة، وذلك ليثبت بأن الله فاعل أزلاً وأنه مستقر من عرش إلى عرش أزلاً أيضاً. وقد نسب إبن تيمية نظريته إلى أئمة السنة والحديث، ونقل عن بعض من وُصفوا بالمشبهة بأنهم قائلون بإثبات حوادث لا أول لها. كما نقل بعض أتباع إبن تيمية ما قاله عثمان بن سعيد الدارمي: «كل حي فعال، ولم يكن ربنا تعالى قط في وقت من الأوقات معطلاً عن كماله، من الكلام والإرادة والفعل»[1].

ويعد هذا المنقول من الشواذ، حيث لم ينقل عن غيره من السلف ما يفيد النص الصريح في إثبات حوادث لا بداية لها. بل ليس من البيانيين قبل إبن تيمية من يثبت ذلك بشكل واضح لا غبش فيه. فإن من يعزى إليهم القول بذلك هم الفلاسفة. لذلك شنّع عليه الخصوم وعدّوه متأثراً بهم لكثرة الإهتمام بمباحثهم والرد عليهم، كالذي جرى عليه الحال مع الغزالي الذي قيل فيه إنه أمرضه (الشفاء)، ووصفه معاصره أبو بكر بن العربي في مقولته الشائعة: شيخنا أبو حامد دخل في بطون الفلاسفة ثم أراد أن يخرج منهم فما قدر. وهو القول الذي إستعان به إبن تيمية في الرد على الغزالي، مع أنه في رأي المخالفين قد وقع بما وقع به سابقه. وعادة ما ينسب مثل هذا الإعتقاد إلى الملاحدة، ومن ذلك ما قاله أبو يعلى الحنبلي في (المعتمد): الحوادث لها أول ابتدأت منه خلافاً للملاحدة. وكان من ضمن ما أُحتج به على إبن تيمية أنه قد ابتدع فكرة لم ترد عن أهل البيان بإستثناء بعض الشذوذ، وبنظر البعض أنها مخالفة للإجماع، بل وأن الإجماع على تكفير من يقول بها، كالذي حكاه الشيخ عياض وغيره. كما قال إبن دقيق العيد بأنه وقع هنا من يدعي الحزق في المعقولات ويميل إلى الفلسفة وظن أن المخالف في حدوث العالم لا يكفر لأنه من قبيل مخالفة الإجماع، وتمسك بقولنا إن منكر الإجماع لا يكفر على الإطلاق حتى يثبت النقل بذلك متواتراً عن صاحب الشرع. ثم قال: وهو تمسك ساقط إما عن عمي في البصيرة أو تعام؛ لأن حدوث العالم من قبيل ما اجتمع فيه الإجماع والتواتر بالنقل[2].

***

نعود الان الى طه عبد الرحمن، حيث ينتهي الى ان الحدوث من العدم باطل، انما الحدوث من شيء، او الحدوث النسبي، اي ان ظاهره العرضي حادث وجوهره قديم كالذي قرره في (تجديد المنهج في تقويم التراث). لكن المفارقة تأتي بعد حوالي عشر صفحات، اذ صرح بان الخالق في المجال الاسلامي هو من يخلق شيئاً من لا شيء، خلافاً للصانع وفق المجال اليوناني الذي يصنع شيئاً من شيء. وهو تصريح لا ينسجم مع ما سبق ان اعتبر بان الحدوث من العدم باطل، انما الحدوث من شيء.

وحقيقة تعتبر فكرة خلق الاشياء من العدم او اللاشيء هي السائدة لدى المجال التداولي الاسلامي، وليس تلك التي فرضها طه وفق المجال الشخصاني. فاغلب اهل التراث لا يقرون الحدوث النسبي، انما يعتقدون بالحدوث المطلق، اي خلق الشيء من العدم من دون وجود شيء اخر قديم. بل ان اقراره بقِدم العالم على سبيل الجوهر او الكل هو ايضاً مما يعتبره اغلب علماء التراث الاسلامي بانه مخالف للشرع.

مجمل الملاحظات النقدية

عموماً ثمة عدة ملاحظات نقدية تلوح فكرة المجال التداولي وفق الطرح الطاهي، وهي كالتالي:

سبق ان لاحظنا بان طه لم يتحدث عن المجال التداولي بوصفه ثقافة واقعية تحتاج الى الرصد والتحليل، فرغم تعريفه له وفق هذا البعد الوجودي الموضوعي؛ لكنه اخضعه الى البعد المعياري وفق صيغة ما ينبغي ان يكون، او وفق حالة مثالية شخصانية اعتبرها هي الانسب والاقرب. ولو انه اخضع المجال التداولي تحت مبضع المنظور الموضوعي لافضى الامر الى ان يجعل ضمن هذا المجال ظاهرة التضليل والتكفير ضمن الاصل العقدي، بل ولضمّنه كل التناقضات التي يحملها التراث. فالمجال التداولي بمثابة الدائرة الواسعة التي تحمل في طياتها مختلف الدوائر العلمية والمذهبية والفلسفية والادبية وغيرها مما لها علاقة بالفكر والمعرفة، وهي دوائر متغيرة بشكل او بآخر، وبعضها يكون اكثر تداولاً من البعض الاخر ضمن فترة زمنية من دون ثبات، حيث قد ينقلب ما هو اكثر تداولاً الى مستوى ادنى وبالعكس.

وعليه كان ينبغي ان يلتزم صاحب اطروحة المجال التداولي للتراث بالحد الموضوعي للتعريف الذي افترضه دون ان يحوله الى صورة مثالية مفترضة ومقطوعة الصلة عن واقع التراث ذاته. وسبق ان اشرنا الى نموذجين دالين على هذا الحال، احدهما يتمثل بموقفه من ظنون الاحكام الفقهية، والاخر يتمثل بتبنيه لفكرة الحدوث النسبي، وكلاهما لا ينسجم مع تعريفه للمجال التداولي للتراث. فالتعريف دال على وجود ظاهرة موضوعية تحتاج الى التحديد والتحليل من دون ان يُفرض عليها شيء وفق مشتهيات المحلل وتحكماته الشخصانية.

ان تقسيمه المذكور لاصول المجال التداولي ينقصه بعض العناصر الاخرى، فمثلاً لا تنفرد العقيدة في ان تشكل عنصراً دون ما يناظرها من عناصر دينية اخرى مثل الاحكام الشرعية، بل كل ما يعود الى المصدر الديني. وكان الاولى ان يقول بالاصل الديني من دون تضييق.

كذلك ان العنصر المعرفي الذي يشكل ثالث اصول المجال التداولي هو ما يمثل المعرفة الاجتهادية المبنية على العقيدة باستخدام اللغة كما جاء في تعريفه له، حيث عرف الاسباب المعرفية بانها تلك المضامين الدلالية والطرق الاستدلالية المتوسلة باللغة والمبنية على العقيدة. في حين ثمة معارف اخرى منفصلة عن الجانب العقدي والديني عموماً، وقد اهملها رغم انها تدخل ضمن المجال التداولي للتراث، مثل العلوم الطبيعية المعتمدة على النظر والتجارب.

ان العقيدة التي افرزها طه بشكل خاص قد تلابست مع المعرفة واصبح من الصعب تمييز احدهما عن الاخر الا على نحو المجمل العام. فمثلاً انه جعل موضوع (قِدم العالم) ضمن العقيدة، لكنه قام في الوقت ذاته بتحليل هذا الموضوع بشكل لا يمكن اعتباره سوى معرفة اجتهادية، دون ان يكون عقيدة دينية خالصة.

ان التفضيل الذي تحدث عنه طه فيما يخص اصول المجال التداولي للتراث، ومنه ما يتعلق بالمعرفة، قد غفل عن ان المعرفة تتداخل فيها شوائب كثيرة لا تجعلها مفضلة. فهي ليست مستنبطة من اللغة والعقيدة او الدين فحسب، بل تلج فيها عناصر اخرى مختلفة، بيئية ونفسية وثقافية وعقلية وغير ذلك من العناصر. وهو ما يفسر لماذا كان التراث مزدحماً بالتكفير والتضليل. وعليه فأي تفضيل لثقافة تمتاز بهذه الصفة؟ مع اخذ اعتبار ان الجانب الموضوعي لعنصر المعرفة في المجال التداولي للتراث مشحون بالتناقضات الداخلية. ولا يخلو مجال تداولي لاي امة من مثل هذه التناقضات، فهي الحالة الطبيعية التي تعكس نقص الادراكات البشرية ومحدوديتها، مع ما يضاف اليها من الشوائب الدخيلة.

لقد اعاب طه على الدراسات المعاصرة التي سبقته في جعل التراث العربي الاسلامي تجزيئي بعضه يتفاضل على البعض الاخر، كما هي طريقة الجابري في نقده للعقل العربي، فيما ادعى ان الصحيح هو الاعتماد على ضرب اخر من تقويم التراث قائم على النهج التكاملي من دون تفاضل، فدعا الى التوجه الشمولي الذي يتضمن ضرورة تقبل التراث بوصفه كلاً متكاملاً ووحدة متناسقة من غير انتقاص لاي جزء من اجزائه، او التقليل من وظيفته.

هذا ما صرح به في (تجديد المنهج في تقويم التراث)، على الرغم من انه قام بتجزئة التراث وتفضيل بعضه على البعض الاخر، ومن ذلك تقسيمه للعقل الى نظري مجرد كما يتمثل في ممارسات علم الكلام، وهو من العلوم الاصيلة لا المنقولة او الدخيلة، والى عقل مسدد كما في علم الفقه، والى عقل مؤيد كما لدى الصوفية. وهي ثلاثة عقول يتفاضل بعضها على البعض الاخر. كذلك فانه قام بتفضيل علم اصول الفقه على الفقه، وعلم الفقه على علم الكلام، وهكذا..

سبق ان عرفنا بان طه قد حدد المجال التداولي بانه ثابت نسبياً، حيث يتصف بالثبات الذي يجعله يقع بالنسبة لما سواه من الظواهر الثقافية والاجتماعية في ادنى درجات التغير.. لكنه بعد حوالي ست سنوات اعاد تعريفه للمجال مخصصاً اياه بالتداول اليومي؛ معترفاً بانه متغير لا ثابت كما في (حوارات من اجل المستقبل)، خلافاً لما سبق تقريره في (تجديد المنهج في تقويم التراث).

ان بعض افكار طه واساليبه اللسانية تبتعد عن المجال التداولي نسبياً، كما يمكن عدّها مما ليس تحتها عمل ولا وراءها منفعة ولا استناد الى اصول الشرع، وهي المحددات التي اعتبرها تدخل ضمن المجال التداولي على صعيد المعرفة، كما جاء في احد حواراته ضمن (حوارات من اجل المستقبل)، ومن ذلك فكرته حول حدوث العالم النسبي واساليبه في التطويل اللغوي، بل واختياراته الكثير من الالفاظ الشاذة او غير المتداولة عادة.

ان الحفاظ على المجال التداولي، كما الاعتماد على الوصايا الشخصانية، ما هما الا دعوة للتقليد وقتل الابداع الفلسفي الذي ما فتئ طه يؤكد عليه.

المجال التداولي والابداع الفلسفي

عديدة هي اشارات طه الى ضرورة الابداع الفلسفي القائم على المجال التداولي، ومن ثم انشاء فلسفة اسلامية. ففي (سؤال السيرة الفلسفية) اتخذ منحى يختلف عما سبقه من كتب، اذ أقرّ بان السيرة هي اصل الابداع الفلسفي لا الفكرة في حد ذاتها، حيث التلبس بالافكار الحية من خلال لحاظ الاتساق بين الفكر والعمل. كما صرح بانه يحق لنا ان نضع تصوراً جديداً للفلسفة بحيث تكون متصلة بخصوصية الذات المسلمة، والعلامة البارزة لهذه الخصوصية هي التزام التوحيد، بالاضافة الى وجوب ان تتوسل هذه الفلسفة بعقل قادر على ان يستثمر هذه الخصوصية؛ مستوعباً ما يترتب عليها من نتائج تتعلق بتسديد الانسان في الحياة، حيث التوسل بالعقل المسدد.

واحصى بهذا الصدد سبعة شروط اعتبرها تفي ببناء فلسفة اسلامية حقة، وهي باختصار: غلق باب التقليد، واعادة النظر في مفهوم الفلسفة، والتثوير الفلسفي للمفاهيم، وكشف الثراء الفلسفي لمفهوم الفطرة، والتأكيد على الصلاح الكلي للانسان، والعناية القصوى بالقيم الاخلاقية، والتزام الصدق الكلي في الحياة.

وقبل ذلك كما في كتاب (من الانسان الابتر الى الانسان الكوثر) حدد ثلاثة شروط لبناء فلسفة اسلامية من خلال ما سماه بمسلمة “نقدية الفلسفة الاسلامية”. واغلب هذه الشروط معنية بنقد الاخر المختلف معه، وهي باختصار:

1ـ ان تتوجه الفلسفة الى نقد الفكر الفلسفي الذي يصادم المنظور الاسلامي للحياة.

2ـ ان تكون هذه الفلسفة حية، ولا حياة حقيقية لها الا اذا استمدت مضامينها وقضاياها من دائم تفاعلها مع الواقع العالمي، أحداثاً  وتحديات وآفاقاً.

3ـ ان تبني هذه الفلسفة نقدها للواقع العالمي على اهم مقوم يميز صبغتها الاسلامية، الا وهو الاخلاق بشقيها السلوكي والروحي.

وبغض النظر عن الاختلافات التي نجدها في كتابات طه حول عدد الشروط وماهيتها لبناء فلسفة اسلامية ناهضة؛ فانه يتحدث بالعمومات المعروفة فيما يسميها اخرون بانها عائدة الى علم الكلام الجديد، وليست من الفلسفة بالمعنى التقني.

وعلى العموم ان مراجعة كتب هذا المفكر تظهر ان غالبية اهتماماته حول قاعدة الابداع الفلسفي تُعنى بالربط بين الفلسفة والترجمة ضمن المجال التداولي. ففي حوار له ضمن (حوارات من اجل المستقبل) اعتبر الابداع الفلسفي يتحقق عبر الاتصال بالمجال التداولي والذي حدده بالتداول اليومي المتغير، وان تكون للمتلقي العربي القدرة على التفلسف، بجعل الفلسفة قريبة من حياته؛ بحيث يدرك مضامين الفلسفة كما يدرك المضامين المألوفة له، وبحيث يظهر تأثيرها في سلوكه اليومي. واعتبر ان ما يحقق ذلك  هو اتباع الترجمة التأصيلية للنص الفلسفي.

وعلى هذه الشاكلة صرح في (سؤال العمل) الصادر عام 2012 بوجوب خلق ابداعية حقيقية تتجاوز حدود المنقول الفلسفي اليوناني، واطلق على هذه الابداعية اسم “الابداعية الموصولة”، وعرّف الفلسفة الاسلامية المبدعة بانها الفلسفة التي تستند في ابداعيتها الى المأصول الاسلامي. واعتبر انه لما كان هذا المأصول نتاجاً للمجال التداولي الاسلامي الخاص، وان المنقول هو نتاج للمجال التداولي اليوناني، وجب ان تكون الفلسفة الاسلامية ذات الابداع الموصول هي الاخرى فلسفة تداولية صريحة. وككل فلسفة تداولية ينبغي ان تكون الكونية التي تتطلع الفلسفة الاسلامية للتحقق بها كونية مشخصة لا مجردة، وذلك على شاكلة ما كان الفيلسوف الالماني هايدجر يدعو اليه من فلسفة مشخصة لا تجريدية. واعتبر طه انه يجب تحصيل الاستقلال الفلسفي من خلال عاملين هما: 1- شرط حفظ المبادرة الفلسفية. 2- شرط الخصوصية التداولية.

وبخصوص حفظ المبادرة الفلسفية ذكر بان استقلال الفلسفة الاسلامية يتحقق بامور ثلاثة هي: 1- الانطلاق من الحقائق المأصولة المأخوذة من المجال التداولي الخاص. 2- الاقتدار على ادخال تحويلات على المنقول بما يفي بمقتضيات المجال التداولي. 3- اقتناص الحقائق غير المسبوقة التي هي ثمرة التفاعل بين المأصول والمنقول.

ويعود ما اشار اليه من ضرورة تحويل المنقول بما يتفق مع المأصول الى الجزء الاول من مشروع (فقه الفلسفة) الصادر عام 1995. ففيه حدد الابداع الفلسفي بتتبع خطوات معينة متعلقة بترجمة النصوص الفلسفية كأفكار بما يختلف عما جاء في (سؤال السيرة الفلسفية).

فقد اعتبر “فقه الفلسفة” بانه العلم الذي يزودنا بالمعرفة بدقيق آليات الممارسة الفلسفية والاحاطة بجليل تقنيات الانتاج والابداع فيها، حيث يمكن الارتقاء عبر هذا العلم من رتبة استعمال الفلسفة الى رتبة صنعها. واضاف انه لما كانت الفلسفة التي بين ايدينا هي فلسفة منقولة او حصيلة اعمال الترجمة؛ لذا فان اول ما ينبغي على “فقه فلسفة” ان ينظر فيه هو الصلة الموجودة بين الفلسفة والترجمة.

وبهذا المعنى اشتغل طه على الترجمة من اجل الابداع والقدرة على التفلسف.

والمعروف ان الترجمة تتبع اما طريقة النقل الحرفي للغة، رغم اخلالها بالمعنى احياناً، او طريقة النقل المضموني للغة حتى وان تم الاخلال بالحرفية اللغوية، وهي المعول عليها عادة لدى من يزاولون الترجمة باحترافية. وتقارب الاولى ما اصطلح عليه طه بالتحصيلية، والثانية بالتوصيلية، ورآهما غير صالحين في اكتساب القدرة على التفلسف، انما حدد صلاحيتهما في العلم، حيث تتضمن فيهما المعايير الموضوعية، مثل المعرفة العلمية. وهذا ما دعاه الى استبدالهما بطريقة ثالثة سماها الترجمة التأصيلية، حيث اعتبرها ترفع التعارض بين الفلسفة والترجمة، وتجتهد في نقل ما تثبت لديها موافقته لضوابط المجال التداولي المنقول اليه، وهي الضوابط المتمثلة بالاصول الثلاثة: اللغوية والعقدية والمعرفية، كما انها تحرص على ان لا يفوتها شيء مما ينفع في تقوية التفلسف عند المتلقي حتى لو اوجب تغطية الصفات الاصلية للمنقول، بل ومحوها بالمرة. لذلك سيستخدم المتلقي او المترجم كل آليات التخريج والتغطية؛ مثل الحذف والإبدال والقلب والاضافة والمقابلة، حتى لا يترك للنص الفلسفي الأصلي إلا الجزء الذي لا غنى له عنه، وسيستبدل عوض ذلك اوصافاً تداولية تُنهض المتلقي إلى العمل الفلسفي، لان العبرة – كما يرى طه - ليست الحكاية عن الغير وانما تمكين الذات من الممارسة الفكرية.

وقد برر هذا الاختيار وفقاً لمسلمة “تداولية الفلسفة” التي تقول بان الفلسفة هي على خلاف الرأي الشائع؛ ليست معرفة او ممارسة كونية خالصة، وانما تبني الكونية المقصدية على الخصوصية التداولية، حيث التفريق بين الجانب الكوني والذي سماه بالمكوِّن العباري؛ ويقصد به ما تشترك جميع مجالات التداول في الاخذ به، وبين المكوِّن الاشاري؛ ويقصد به ما تنعكس فيه خصوصية مجالات التداول بحيث يختلف باختلافها، كالذي جاء في (من الانسان الابتر الى الانسان الكوثر) الصادر عام 2016.

فهذه هي الفكرة الاساسية لطبيعة الترجمة التأصيلية، حيث تحوّل المكوِّن العباري العام الى المكوِّن الاشاري الخاص. لكن مشكلتها هي انها لا تحتفظ للنص الفلسفي الاصلي بشيء متأصل تقريباً، وهي اقرب الى تدميره وقتل صاحبه بما يتفق والاطار العام الذي سلكه بعض دعاة ما بعد الحداثة ونظريات الادب والتلقي من تغييب المؤلف او اماتته، كما هو شائع لدى الثقافة الفرنسية، حيث فتْح الباب امام التأويلات الذاتية بلا حدود ولا ضوابط معقولة[3]، وذلك على خلاف ما يفرضه المجال التداولي الاسلامي الذي يدعو اليه صاحبنا.

فقد اشار في نهجه المستعار الى ان منظري الترجمة مالوا الى جعل التأويل لا يتجاوز الحد الادنى. ورأى في المقابل ان هذا الرأي لا يخدم الغرض الذي اختاره للترجمة الفلسفية. وكشف عن ثلاثة وجوه تبين هذا النحو: اولها انه لا يمكن ضبط مقدار فتح باب التأويل، حيث لا وجود لمعايير محددة تضبط الاخير، وذلك لوجود عوامل ثقافية وذاتية متغلغلة في نفس كل مترجم لدى قراءته للنص الذي يريد فهمه وترجمته، ولا يمكن التغلب على ذلك. وثانيها ان ما يصدق من اوصاف التأويل على القراءة عموماً؛ يصدق بالاولى على الترجمة خصوصاً. فاذا كان تأويل النص يتراوح بين التناهي وعدم التناهي، وكانت الترجمة تأويلاً، لذا لزم ان تكون الترجمة هي الاخرى متراوحة بين التناهي وعدم التناهي. وثالثها هو ان الاجدر بالترجمة ان تأخذ بالتأويل غير المحدود طالما ان الغرض منها هو خدمة التبليغ (أو التواصل).

وبذلك رجح الاخذ بالرأي الشائع اليوم لدى ادبيات ما بعد الحداثة، حيث النص مفتوح للقراءة والتأويل بلا حدود، والذي يكشف عن عدم وجود ضبط لهذا النحو من التوجه. وهو بهذه الممارسة يخدم المجال التداولي لما بعد الحداثة وعلى الضد من المجال التداولي الاسلامي. او انه يسعى لانبات المجال الاول وزرعه في الثاني عنوة..

وبلا شك لو ان هذه الترجمة نجحت فستخلق فضاءاً من الفلسفة الموازية التي تتجاهل المجال الفلسفي الاصلي، على شاكلة المسلك الذي سلكه هايدجر حينما وضع فلسفة موازية للفلسفة الاصلية، وذلك من خلال التشبث بالمعنى اللغوي الاصلي للفظ الفلسفي، ومن ثم بناء الاشتقاق عليه وفتح المجال الى الانسياب في الربط كما يحلو للشاعر ان يفعله، بل وترجمته الى لغة اخرى من خلال التركيز على معان جديدة منتخبة لا علاقة لها بلغة الاصل ومفاهيمها، وذلك بما يتفق مع ما يريد المترجم التوصل اليه سلفاً، كالذي جرى على اشتقاق وتصريف لفظ (اللوغوس) اليوناني من خلال النظر الى اصله اللغوي العادي لا الاصطلاحي، ومن ثم ترجمة المفهوم المنتزع الى اللسان الالماني لتبدأ دورة مفاهيمية جديدة من الاشتقاقات والارتباطات التي تتحكم بها سلطة التوجيه القبلي لتكون مقطوعة الصلة عن الاصل اليوناني وفق مجالها الجديد.

فبفضل هذه السلطة القبلية انتهى هايدجر الى فرض المعاني الصوفية الوجودية على المفهوم المنتزع من الاصل اللغوي للوغوس ليوهم بان اللغة هي نظام وجودي محمل بالحقائق التي يستكشفها الشاعر بمشاهداته القلبية قبل ان يستمدها منه المفكر. في حين ان ما قام به يعبر عن الارادة القبلية التي حددها سلفاً وليس كما ادعى بان اللغة تحمل سر الوجود، او انها مسكونة بالكينونة الوجودية.

فقد اعتبر هايدجر ان المفاهيم الفلسفية هي معان مشخصة لا يمكن الحاقها بالاصطلاحات العلمية، لكونها ليست تصورات مجردة، بل لا بد من الحاقها بالاشارات الشعرية التي تنطوي وحدها على المعاني، لهذا دعا الى ان ينسب فلسفته الى الممارسة الفكرية لا المعالجة النظرية، حيث سعى الى تحويل الفلسفة من العلم الى الادب باسترسالاته اللغوية الباعثة على التصورات الصوفية.

فهذه هي طريقة هايدجر كما عرضها طه بالتفصيل المفيد كما في الجزء الثاني من مشروعه (فقه الفلسفة)، واخذ بتأييده واتبع خطاه، ولم يجد ما يعارضه فيها سوى ان هايدجر حصر الاقتدار الفلسفي على اللسانين اليوناني والالماني. وكما صرح بالقول: “على قدر ما اخطأ هايدجر في ان يقصُر النبوغ الفلسفي على اللسانين اليوناني والالماني؛ فانه اصاب في ان يعتمد رصيدهما الاشاري في بناء مفاهيمه الفلسفية تاثيلاً لها؛ حتى تحظى باسباب الاستشكال الفكري المستمر بحيث يكون لنا في هذا الفيلسوف العظيم في امته خير نموذج ينبه المتفلسف الغافل على الكيفية التي ينبغي ان يضع بها مفاهيم فلسفية تكون مؤثلة بحسب الامكانات الاشارية التي تختص بها لغته”.

ورغم ان طه اعتبر اللسان العربي غني في التفلسف بما لا يقتصر على اللسان اليوناني ولا الالماني، لكنه لم يستغل اعتبار اللغة العربية اولى في ان تحمل اسرار الوجود لاعتبارين، احدهما انها لغة الدين الاسلامي، وهو الدين الالهي، حيث ان الدين عند الله الاسلام، كما هو اعتقاده. كذلك فلأن من الممكن توظيف نظرية التوقيف في مصدر هذه اللغة بدل غيرها من النظريات مثل نظرية التواضع والاصطلاح، مثلما سبق للعديد من العلماء ان اختاروا هذا المذهب، لا سيما وانها تجد انسجاماً في تفسيرها للاية الكريمة: ((وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاء كُلَّهَا)) البقرة\ 31، حيث فُسّرت بان الله علم ادم جميع اسماء الاشياء، ألفاظاً ومعانٍ، اي علمه اللغة بتمامها. وهو ما ينسجم مع ما كان العرفاء يعتبرون اللغة حاكية عن الوجود، فكل حرف عربي يحمل سراً وجودياً، وكذا كل كلمة مركبة من الحروف لها دلالة على التركيب الوجودي بين الأشياء. وسبق للشيخ داود القيصري ان أشار إلى ان الحروف كلها دالة على المعاني الغيبية في مفرداتها ومركباتها، لأن الكلمات موضوعة بإزاء الحقائق الإلهية والكونية، وان الواضع الحقيقي هو الله تعالى، لذلك كان بين الأسماء ومسمياتها مناسبات حيث وضعت الألفاظ بإزائها[4]، ومن ثم كثرت التقابلات بين اللغة وحقائق الوجود واشتقاق الالفاظ بعضها من البعض الاخر لتعطي دلالات وجودية محددة وفق الرؤى القبلية. ويعتبر ابن عربي أكثر الممارسين لهذا النمط من التفنن بين جميع العلماء والمفسرين[5].

لقد حوّل هايدجر الفلسفة الى مبنى فكري اشبه بالادب، وذلك بالعودة للمفاهيم الى اصولها الاولى، معتبراً ان المعاني الفلسفية اخذت تنحرف عن المعاني الاصلية، دون ان يهتم بالبعد المعنوي للفلسفة ولا باستدلالاتها العقلية، بل رجح على ذلك البعد اللغوي وتشقيق ما بدا له من اشتقاقات وارتباطات انسيابية مفتوحة. وهي ذات الطريقة الادبية مهما اصبغ عليها هايدجر من بعد وجودي والتي توسعت افاقها لدى تلامذته واتباعه من رواد ما بعد الحداثة.

كذلك الحال مع النهج الذي اتبعه طه في ترجمته التأصيلية، حيث حوّل المعنى الفلسفي الذي يراعي الاستدلال والبحث عن الحقائق الكلية الى معنى اخر يتعلق بالادب والفكر وفق المجال التداولي. وفي الحالتين ثمة قتل للفلسفة ودفن لمقاصدها المعنية بالبحث عن الحقائق الكلية وفق طرق الاستدلال العقلية المتاحة.

لكن ثمة اختلاف بين مسلكي هايدجر وطه، فقد وضع الاول نصب اهتمامه على تحويل المفردة الفلسفية الى مفردة لغوية ليبني عليها منظومة فكرية موازية عبر الاشتقاقات والارتباطات اللغوية. في حين جعل طه اهتمامه منصباً على تحويل النص الفلسفي الى نص لغوي مغلق، يضاف الى اهتمامه الثانوي بتحويل المفردة اللغوية الى ما يقابلها من ترجمة تأصيلية، كالذي ابداه من اشارات في معرض استعراضه لمذهب المفكر الفرنسي دولوز، لكن في كلا الحالتين لم يذهب بعيداً في انتاج منظومة فكرية اشتقاقية جديدة مثلما فعل هايدجر. بل بقي حبيس الترجمة اللسانية وامكاناتها الاستشكالية بما لا يختلف من هذه الناحية عن الطريقة التي انتهجها شيخه الالماني.

فاذا كان المفكر الالماني قد نال غايته بالتوصل الى بناء منظومة فكرية عبر الترجمة؛ فان المفكر المغربي لم ينل هذه الغاية، بل ظل حبيس الترجمة بما تحمل من تشوهات. ورغم انه سعى الى بناء كيفية الابداع الفلسفي وفق المجال التداولي؛ لكن نهجه المغلق اضلّ الطريق، اذ لم يجعل من الترجمة التأصيلية منطلقاً لبناء مفاهيم ابداعية عبر جدلية التفكيك والتركيب لتنتج في النهاية منظومة جديدة تختلف تماماً عن النص الاصلي، كما وتختلف عن النص المترجم ذاته.

ولعل عذره انه لم يكن بصدد انتاج فلسفة محددة، بل كل ما اراد تبيانه هو الطريقة التي يمكن من خلالها انتاج فلسفة جديدة تتفق مع المجال التداولي، فكان ما قدّمه بمثابة كيفية اعداد المصنع المفهومي الذي يمثل الاساس لبناء خطاب فلسفي يتميز بالاستقلالية والجدة والاصالة من خلال التأليف بين الحقول المفهومية المختلفة، كالذي اكد عليه في خاتمة الجزء الثاني من (فقه الفلسفة). ومثل ذلك ما ذكره في حوار له ضمن (حوارات من اجل المستقبل) بان لغته التي وضع بها “نظرية في الابداع الفلسفي في غاية الدقة المضمونية والتقنية الاصطلاحية”، وذلك على خلاف لغته في وضع فلسفة مبدعة، حيث ليس فيها مثل تلك الدقة والتقنية، معتبراً ان لغته اقرب للعلم منها الى الفلسفة.

الترجمة التأصيلية والابداع الفلسفي

لتبيان كيفية الاقتدار والابداع الفلسفي اختار طه كوجيتو ديكارت ليطبق عليه الانماط الثلاثة للترجمة، وقد جاءت في ثلاثة فصول ضمن الجزء الاول من (فقه الفلسفة)؛ ابتداءاً من الترجمة التحصيلية، ومروراً بالترجمة التوصيلية، ومن ثم انتهاءاً بالترجمة المقترحة التأصيلية، وهي النمط الجديد الذي اعتبره يفي بشروط هذا الابداع.

وبحسبه تتمثل الترجمة التحصيلية للكوجيتو بالصيغة التالية: (أنا افكر، اذن فأنا موجود) مثلما طرحها محمود محمد الخضيري، والتي اعتبرها صيغة تتضمن بعض المخالفات للاصل الفرنسي، فحسِبها متكلفة حيث ان “تركيبها غير قصير وفهمها غير قريب”. واعتبر ان النقل الصحيح للصيغتين اللاتينية والفرنسية هي القول: (أنا افكر)؛ إن لم تكن اوفى بغرض ديكارت منهما، معللاً ذلك بان هذا التعبير - العربي - يجمع بين حصول التفكير الذي يخبر به لفظ (افكر)، وبين وجود الذات الذي يدل عليه لفظ (أنا)، وهو الجمع عينه الذي تفيده الصيغتان الاجنبيتان المشار اليهما. بل زاد على ذلك معنى اضافياً لمراد ديكارت تفي به اللغة العربية دون اللاتينية والفرنسية، وهو اظهار صفة الحدث التي يتصل بها التفكير لا الحالة.

اما الترجمة التوصيلية فتتمثل بهذه الصيغة: (افكر، اذن أنا موجود) كالتي طرحها نجيب بلدي، وبحسب طه انها تختلف عن سابقتها لكونها تحذف بعض العناصر المطولة للجملة، مثل لفظ ضمير المتكلم المنفصل “أنا” الذي اعتبر ذكره ثقيلاً على اللسان وغير مصون عن اللغو وزائد عن اللزوم، من حيث سبقه للفعل المضارع عند الابتداء. مع ذلك اشار الى ان آفة هذه الصيغة مازالت تحتضن تهويل بعض المعاني والحقائق التي يتضمنها المنقول، حيث تقع في تهويل أداة الربط “اذن”، ومثله لفظ “موجود”.

 فقد صرح بان من سمات التهويل في الترجمة العربية للكوجيتو استعمال لفظ “اذن”، حيث جميع النقلة لم يحذفوا هذا اللفظ كدلالة على الاستدلال؛ رغم ان ديكارت ما فتئ يؤكد بان الكوجيتو ليس استدلالاً منطقياً وانما هو استبصار حدسي.

كما اشار الى تهويل لفظ “موجود”، حيث اعترض عليه من جهات لغوية، فاعتبر صيغة الفعل من هذا اللفظ ادل على مقصود ديكارت، بل وان الفاظاً اخرى تفضله في اداء هذا المقصود، مثل: (الكون والشيء والذات والحق).  ومن ثم انتهى الى ان الترجمة التوصيلية وان اجتهدت في اجتناب الاخطاء اللغوية للترجمة التحصيلية فانها وقعت في اخطاء معرفية صريحة.

تبقى ترجمته التأصيلية المقترحة التي حددها بهذه الصيغة: (انظر تجد). وقد اختارها بعد ان استبعد صلاحية استخدام لفظ “الفكر” ومشتقاته للدلالة على ما يقابل معنى الكوجيتو.

فالترجمة المقترحة هي من وجهة نظر طه تمثل واحدة من الترجمات التأصيلية الممكنة، ووضعها بقصد اصلي هو تمكين المتلقي العربي من التفلسف. ففيها يتحول النص المترجم الى مجالنا التداولي بخلاف الترجمتين الاخريين.

وقد استقبل الباحثون العرب هذا النمط من الترجمة بالاعتراضات المختلفة. واجاب طه على بعض منها، بل وبرر فعله بالممارسة الهايدجرية كطريقة فلسفية قائمة على هذا النمط من التفكير اللغوي.

وقبل التعرض الى نقد هذه الترجمة، نلاحظ انه لا فارق بين الترجمتين التحصيلية والتوصيلية للكوجيتو، اي ان ما اعتبره طه بان ترجمة الكوجيتو التحصيلية هي حرفية بخلاف التوصيلية المعنوية؛ لا يعبر عن حقيقة الحال. حيث كلاهما قد اجتهدا في نقل المعنى والمضمون، وان حذف الضمير المنفصل (أنا) من الترجمة الثانية او ابقائه وفق الترجمة الاولى لم يغير من المعنى شيئاً، كما انه لا يخل باللغة، فليس بقاء الضمير المنفصل بالزائد او الشاذ او انه يسبب اي ضرر لغوي، فذكره متعارف عليه لدى الاستخدام العربي، سواء في النصوص الدينية او غيرها، حيث يبدأ الكلام بهذا الضمير احياناً عند استخدام الفعل المضارع.

والملاحظ ان الترجمة العربية لا تختلف عن الترجمة الانجليزية، سواء من حيث وجود لفظ الذات (أنا)، او من حيث لفظ (اذن)، بل وحتى لفظ (موجود) احياناً، ولفظ الذات احياناً اخرى. اي ان الترجمة الانجليزية هي بمثابة ما يعبر عنه طه بالتحصيلية. وربما اكثرها شيوعاً هي الصيغة التالية:

"I think, therefore I am"

وتأتي بعدها هذه الصيغة:

"I think, therefore I exist"

وثمة صيغ اخرى مقاربة لما سبق، او قليلة الشيوع..

***

لقد استخدم ديكارت لفظ (أنا) للاشارة الى الادراك الذاتي، وكانت كتاباته في هذا المجال مزدحمة باستخدام هذا اللفظ، حيث يعبر عن تجربته الفكرية الخاصة، كالذي نلاحظه بوضوح في كتاب (تأملات). بل ان الكثير من الباحثين الغربيين اعترضوا عليه في استخدامه للفظ الذاتي (أنا). فكما سنرى ان هذا الاعتراض انما جاء عن فيلسوف فرنسي معاصر لديكارت قبل ان يتكرر النقد ذاته لدى عدد من الباحثين الغربيين.

وللتفصيل استخدم ديكارت صيغاً مختلفة للتعبير عن مبدأ الكوجيتو. فاول صيغة ذكرها جاءت في كتابه (مقال عن المنهج) عام 1637، وهي تلك التي اشتهرت ضمن الترجمات الانجليزية والتي ركزت على (الأنا المفكرة I think). ثم اورد في (تأملات) عام 1641 عبارة تربط الشك بالوجود، وهي قوله: “لا يمكننا الشك في وجودنا حينما نشك”[6]. كما كرر هذه العبارة في كتاب (مبادئ الفلسفة) عام 1644[7].

وفي (تأملات) كشف عن استحالة ان يشك بوجوده الخاص. فحتى لو كان هناك كائن شديد القوة في المكر والخداع فانه يعجز عن ان يجعل الشاك لا شيء، بل تبقى قضية وجوده يقينة غير قابلة للتضليل والخداع[8].

كما عبّر عن هذه الرؤية بالترادف او البدل بين صيغتي الشك والتفكير في محاورته غير المكتملة، والتي كتبها سنة 1647 ضمن عنوان (البحث عن الحقيقة)[9]، حيث قال: “أنا اشك اذن أنا موجود، او الشيء نفسه: أنا افكر اذن أنا موجود”[10].

وفي هذه المحاورة قال ايضاً بلسان ايدوكس: انت موجود وتعرف انك موجود، وتعرف ذلك لانك تشك، ولكنك انت الذي تشك في كل شيء لا تستطيع ان تشكك في نفسك، فمن انت[11]؟

وكان اول من اثار نقداً لاستخدام الذات او الأنا في الكوجيتو، ومثل ذلك لفظة (اذن)، هو معاصر ديكارت الفيلسوف الفرنسي بيير جاسندي Pierre Gassendi الذي اعتبر صاحب الكوجيتو قد استخدم الانا سلفاً، في حين ان اقصى ما يحق لديكارت قوله هو ان “التفكير يحدث” وليس “أنا افكر”.

وعلى شاكلة جاسندي اعترض عالم الرياضيات والفيزياء الالماني جورج ليشتنبرغ Georg Lichtenberg بأنه بدلاً من افتراض وجود كيان يفكر، كان ينبغي لديكارت أن يقول: “التفكير يحدث”.

كما انتقد فريدريك نيتشه صيغة الكوجيتو لأنها تفترض وجود (الأنا) سلفاً. كذلك أكد الفيلسوف الدنماركي سورين كيركجارد هذا الخلل في الكوجيتو الديكارتي، ورأى ان الصيغة المنطقية السليمة للحجة هي أن الوجود مفترض بالفعل أو مفترض سلفاً من أجل حدوث التفكير، لا أن يُستنتج الوجود من هذا التفكير[12].

وحقيقة ان الكوجيتو يعبر عن دليل فطري لا يتفوق عليه دليل اخر. فهو يقدم الفكر على الوجود معرفياً، خلافاً للثبوت الذي يكون فيه العكس هو الصحيح. بمعنى ان الوجود سابق على الفكر ثبوتاً، فلا يمكن تصور الفكر بلا وجود، في حين يمكن العكس، حيث نفترض الوجود بلا فكر. لكن من دون الفكر من المحال معرفة ان كان ثمة وجود ام لا؟

فهذا هو فحوى ما يتضمنه النص الديكارتي، وهو بالضرورة لا بد ان يتخذ شكل (الأنا) من حيث انها الذات التي تفكر وتعي وجودها الخاص قبل وجود أي شيء اخر.

فالتفكير الذي يحصل؛ لا يحدث معلقاً في الفراغ، فهو ليس كالمثال الافلاطوني المستغني عن المحل الخاص، لذلك لا بد من التعبير عن (الأنا) صراحة او ضمنياً. كما لا بد من افتراض ان من دون التفكير لا يمكن اثبات وجود (الأنا).

ومعلوم ان كتابات ديكارت ممتلئة في التعبير عن تجربة ذاته المدرِكة واسترسالاته الطبيعية من دون حاجة للحجاج المنطقي، كما يلاحظ مثلاً في (تأملات)، حيث اظهر بان الكوجيتو هو مبدأ بديهي تام الوضوح وليس استدلالاً منطقياً، لذلك ردّ على ناقده جاسندي بهذا الخصوص. ورغم انه ابدا احياناً طابع الاستدلال المنطقي للكوجيتو، لكن من دون ان يخل بالطابع البديهي لهذا المبدأ. فالاعتراف ببداهة المبدأ لا يتنافى مع تضمنه للبرهنة المنطقية.

وبحسب بعض الباحثين ان لفظة (اذن) الدالة على الاستدلال المنطقي قد ظهرت في (مقال عن المنهج) سنة 1637، لكنها اختفت في (تأملات) سنة 1641، لتعود مرة اخرى في (مبادئ الفلسفة) سنة 1644. أما في (البحث عن الحقيقة) فقد اكد على عدم الحاجة الى المنطق وصياغة الحجج مكتفياً بانوار العقل والحس السليم[13].

مع لحاظ ان الاصوب هو ان تكون العلاقة ليست بين الفكر والوجود، ولا بين الشك والوجود، بل بين الادراك بكافة اشكاله ومستوياته والوجود. فالادراك مهما كانت صيغته فهو دال على الوجود، سواء تمثَلَ بالفكر او الشك او حتى مجرد التصور البسيط من دون حكم وتصديق. اذ الشك والفكر قائمان على التصور، ولولاه لما امكن الشك ولا الفكر. لذلك فمن الناحية المنطقية كان الاصوب تغيير صيغة الكوجيتو الى القول: (أنا اتصور فأنا موجود)، او القول: (أنا ادرك فأنا موجود). فكل ذلك يمثل الاساس الذي يقوم عليه الكوجيتو: (أنا افكر فأنا موجود.. او أنا اشك فأنا موجود). لكن ديكارت اعتبر الفكر يتضمن الشك والادراك والتخيل والتذهن والحس والارادة، وهو تعميم لحالة الفكر بجميع انشطته الادراكية، بل ويشمل حتى بعض القوى النفسية، كالارادة مثلاً[14].

مع هذا نقول انه من حيث الدلالة الحجاجية فان صيغة الشك هي المرجحة على غيرها، اي انها مبررة ضد اي افتراض ممكن للتضليل والتغليط، مثلما يمكن تبرير الناحية المنطقية المشار اليها سلفاً.

لقد كان ديكارت يبحث عن نقطة ارتكاز يقينة لا يمكن ان يتسرب اليها الشك باي شكل من الاشكال. فهي واضحة تماماً، وذلك ليبني عليها المزيد من الحقائق الوجودية. وقد مثّل على هذا الحال بارخميدس الذي طلب نقطة ثابتة لاجل تحريك الارض من مكانها الى مكان اخر[15].

وفي محاورته قال بلسان ايدوكس: “من خلال الشك المطلق، باعتباره نقطة ثابتة وغير متحركة، اريد ان استنبط معرفة الله، ومعرفتك، واخيراً معرفة كل الاشياء الموجودة في الطبيعة”[16]. كما اشار الى ان كل الحقائق تتعاقب الواحدة تلو الاخرى وهي متماسكة فيما بينها بالرباط نفسه. فالسر كله يكمن في البدء بالحقائق الاولى، وبالاكثر بساطة، والارتقاء بعد ذلك ببطء وعلى درجات حتى الحقائق الاكثر بعداً والاكثر تركيباً[17].

مع هذا فديكارت ليس بصاحب ابداع جذري في التعبير عن الكوجيتو، حيث سبقه في ذلك العديد من الفلاسفة، وكل ما سعى اليه هو جعل الوضوح في هذا المبدأ اساساً مشروعاً لمحاولة اثبات سائر الموجودات المشكوك بها؛ ابتداءاً من المسألة الالهية، ومنها الى العالم الموضوعي.

وربما يعود الاصل في الكوجيتو – بصريح العبارة - الى الفيلسوف اوغسطين اوائل القرن الخامس الميلادي، فقد قال في كتابه (مدينة الله): “فيما يتعلق بهذه الحقائق، لا أخاف على الإطلاق من حجج الأكاديميين عندما يقولون، ماذا لو كنتُ مخطئاً؟ لأنه إذا كنتُ مخطئاً، فأنا موجود”.

وقد كان ديكارت على علم بهذا السبق، واظهر عام 1640 شكره لأندرياس كولفيوس (وهو صديق معلم ديكارت: إسحاق بيكمان) على لفت انتباهه إلى أوغسطين. وقال بهذا الصدد: “إنني ممتن لك لأنك لفتّ انتباهي إلى مقطع القديس أوغسطين المتعلق بعبارتي (أنا أفكر، إذن أنا موجود). لقد ذهبت اليوم إلى مكتبة هذه المدينة لقراءته، ووجدت بالفعل أنه يستخدمه لإثبات يقين وجودنا.. أما أنا فأستخدم الحجة لإثبات أن هذا (الأنا) الذي يفكر هو جوهر غير مادي.. ومن السهل والطبيعي استنتاج أن الإنسان موجود لمجرد كونه يشك؛ إلى حد يمكن أن يكون قد خطر على بال أي كاتب”[18].

وحقيقة يجد الناظر في كتابات ديكارت في هذا المجال استحضاراً لبعض الافكار التي سبق طرحها على يد عدد من الفلاسفة القدماء، ابرزهم ابن سينا في نظريته “الرجل المعلق”، والغزالي في كتابه (المنقذ من الضلال).

خلل الترجمة التأصيلية

نعود الان الى الترجمة التأصيلية (انظر تجد)، فالملاحظ انها تحريفية مشوهة ومخلة بالمجال المعنوي المستخدم في الكوجيتو. وقد برر طه هذه الصيغة التحكمية بانها كفيلة بالابداع الفلسفي. وكان من نتائجها استبدال مجال النص الخاص بالكوجيتو الى مجال اخر بعيد. فالاول يتحدث عن شيء، والاخر يتحدث عن شيء مختلف تماماً. يضاف الى ان الترجمة لم تحتفظ بطابع الحدس الفطري في الاستدلال الحضوري كما يتضمنه الكوجيتو. فالاخلال في الترجمة هو اخلال مادي (مضموني) وصوري.

ونتساءل: لماذا هذا التحريف المتعمد وفق الطريقة الجديدة المستلهمة من الروح الهايدجرية؟ ولماذا كان لا بد من ان تتخذ خصائص التحريف والتغطية والحذف، بحيث لم تترك للنص شيئاً يمكن ان يُذكّر به؟

وأي فتح للابداع الفلسفي يمكن ان نجده في الترجمة المشوهة الدخيلة، وهي اقرب الى روح العبثية التي امتازت بها الكثير من ثقافات ما بعد الحداثة؟!

كما اي اوصاف تداولية تشترطها الطاهية في صيغتها المترجمة، لا سيما ان اسلوبها شبيه باسلوب ما جاء في الانجيل[19]، بل ورغم وجود بديل عنها شائع لدى التراث كما سنعرف؟

فقد اورد طه صيغته المترجمة في الجزء الاول من (فقه الفلسفة) قبل ان يصادف نصاً تراثياً صريحاً بذات الصيغة، وهو بيت شعر لابن عجيبة يقول:

يا تائهاً في مَهمَه عن سره    انظر تجد فيك الوجود بأسره

لكن هذا الاستشهاد يبدو يتيماً وسط المجال التداولي للتراث[20].

اما عن الابداع الذي تحدث عنه هذا المفكر فهو اسم بلا مسمى، فقد اعتبر ان التوصل الى ترجمته (انظر تجد) يفتح باب الابداع بما يزيد عن اصلها اللاتيني او الفرنسي، فواضع الكوجيتو اراد اثبات وجود الذات (الأنا)، ثم استنتاج وجود الله ووجود العالم من هذا الاثبات الاول. في حين ان صيغة (انظر تجد) تفتح الطريق للاثبات من نفس الرتبة لهذه الموجودات الثلاثة (الذات والله والعالم)، بحيث يمكن القول: انظر تجد نفسك، وانظر تجد الله، وانظر تجد العالم. وكما قال في (الحوار أُفقاً للفكر): نحن امام عبارة نستطيع ان نستنتج منها ادلة ديكارت الثلاثة المعروفة بالسوية. ويبقى الباب مفتوحاً لترتيب هذه الادلة بحسب اعتبارات اخرى للمتفلسف؛ كأن يختار ان يقدم اثبات وجود الله باعتبار الاصل الذي يتفرع منه لاثبات الاخر وهكذا..

وحقيقة لا يوجد تكافؤ معنوي بين الدلالة التي يتضمنها كوجيتو ديكارت وعبارة طه التحريفية، فالكوجيتو مخصص لشيء محدد مرتبط باثبات الأنا الذاتية من خلال العلاقة الفطرية التي تربطها بالفكر. وتشكّل هذه العلاقة اليقين الذي لا يمكن الشك فيه ابداً، فهو نقطة ارتكاز يتأسس عليها اثبات المسألة الالهية اولاً، ثم العالم الموضوعي ثانياً، وكل ذلك بالادلة العقلية. في حين ان عبارة طه تفتقر الى العلاقة الفطرية مقارنة بالكوجيتو الديكارتي، كما انها لا تعبّر عن تحديد التسلسل الضروري في العلاقة بين الموجودات. فهي لا تنطلق بالضرورة من اثبات وجود الانا كأساس يقيني لاثبات البقية، بل لا علاقة للموجودات الثلاثة بعضها بالبعض الاخر من حيث الاثبات والاستدلال، فهي تتعامل مع الموجودات بنفس المستوى من دون اعتماد بعضها على البعض الاخر؛ خلافاً لما يفعله الكوجيتو في تقديم الذات او الأنا على غيره من الموجودات في الاثبات، كما ان ظاهر الترجمة الطاهية يخلو من طابع الاستدلال والاستنتاج.

مهما يكن فان مبدأ الكوجيتو هو ذو طابع الزامي حتمي لا يقبل الاحتمال باي شكل من الاشكال. فالاستنتاج المطروح يمكن اعتباره بديهياً من دون امكانية اخرى. في حين ان عبارة طه لا تحمل هذا الاساس الملزم، حيث تفتقر الى اللزوم بين النظر ووجدان الاشياء، او انه ليس فيها من اليقين والضرورة ما لدى الكوجيتو، حيث ان الناظر قد ينظر ولا يصل الى وجدان شيء، سواء كان الشيء موجوداً بالفعل او معدوماً، خلافاً للضرورة التي يتضمنها الكوجيتو.

فاقوى ما يمكن ان تدل عليه عبارة (انظر تجد) هي انها تفترض الشيء موجوداً سلفاً لكي يمكن التوصل اليه بالنظر، وان التوصل اليه قد يجني ثماره عند النظر وربما لا يجني. وذلك على شاكلة ما كان يصوره فيلسوف العلم هانز ريشنباخ في نهجه الوضعي لفهم العلم بالطريقة الاستقرائية براجماتياً، وقدّم مثالاً عليها يتعلق بصياد السمك الذي يضطر لإختبار جانب محدد من البحر كي يلقي شباكه، رغم أنه لا يعلم إن كان سيصطاد أم لا، لكنه يعرف أنه لو كان هناك سمك فما عليه إلا أن يلقي ما عنده في البحر[21].

من جانب اخر نلاحظ ان الصيغة الطاهية تقترب من المتعارف عليه في مجالنا التداولي بعبارة (من جَدّ وجد)، كما نجدها في كتب الادب والأمثال التراثية. وللاقتصاد اللغوي بالشكل الذي يفي بتلك الصيغة يمكن الاقتصار على العبارة التالية (جِدْ تجد)[22]. فهذه العبارة اوفق من الصيغة المقترحة لهذا المفكر، حيث انها تستند الى مصدر واحد يتعلق بالوجود: (جَدَّ - وجدَ). في حين ان الصيغة الطاهية لديها مصدران: (نظرَ، وجدَ).

كذلك لو ان طه استبدل “النظر” بمصطلح “الإبصار” لكان اوفق للمطلب الصوفي الذي يدعو اليه. وكما سبق للامام الغزالي ان قال: «من لم يشك لم ينظر، ومن لم ينظر لم يبصر، ومن لم يبصر ففي العمى والضلال»[23]. فللبصيرة مغزى صوفي، وهي اعلى درجة من “النظر” المتضمن للدلالة العقلية. كما ان الإبصار يُستخدم في الحالتين العينية المحسوسة والقلبية الباطنية.

مع هذا نقول ان كل ما سبق يمثل تحريفاً مشوهاً للكوجيتو الديكارتي، وبه تفقد الترجمة مبررها وجدواها بالتحول الى عبثية خالصة. اذ يمكن انشاء الصيغة الطاهية وما شاكلها بايسر الطرق دون حاجة للترجمة، فإن لم نكن قادرين على انشاء حكمة ابداعية جديدة فان من الممكن الرجوع الى تراثنا واحياء نصوصه ذات الحِكم البليغة، او تطويرها بشكل ما من الاشكال، عوض العبث الترجماتي الذي يراهن عليه طه والذي يقترب للادب بقدر ما يبتعد عن الافق الفلسفي وابداعه.


[1]  شفاء العليل في مسائل القضاء والقدر والحكمة والتعليل، ص156. وشرح العقيدة الطحاوية، فقرة (قوله: ما زال بصفاته قديماً قبل خلقه).

[2]  انظر حول ما سبق: يحيى محمد: النظام المعياري.

[3] انظر بهذا الصدد: يحيى محمد: علم الطريقة، الفصل الثامن.

[4]     القيصري:  مطلع خصوص الكلم، ج2، ص434-435.

[5]     للتفصيل انظر: يحيى محمد: النظام الوجودي.

[6]  رينيه ديكارت: تأملات، ترجمة كمال الحاج، الفصل الثاني، فقرة 4.

[7]  رينيه ديكارت: مبادئ الفلسفة، ترجمه وقدّم له وعلق عليه عثمان امين، ص92.

[8]  تأملات، الفصل الثاني، فقرة 4.

[9]  لقد نُشرت هذه المحاورة بعد وفاة ديكارت في (29 صفحة) من القطع المتوسط (انظر مقدمة المترجم مجدي عبد الحافظ للمحاورة، ص22.

[10] رينيه ديكارت: محاورة ديكارت: البحث عن الحقيقة بواسطة النور الطبيعي، ترجمة وتقديم مجدي عبد الحافظ، ص103.

[11] البحث عن الحقيقة بواسطة النور الطبيعي، ص90.

[12] انظر الاراء السابقة في:https://en.wikipedia.org/wiki/Cogito,_ergo_sum

[13] انظر: البحث عن الحقيقة هامش المترجم المرقم 12، ص112-113.

[14] تأملات، الفصل الثاني، فقرة 9.

[15] تأملات، الفصل الثاني، فقرة 2.

[16] البحث عن الحقيقة، ص90.

[17] البحث عن الحقيقة بواسطة النور الطبيعي، ص108.

[18] انظر:https://en.wikipedia.org/wiki/Cogito,_ergo_sum

[19] هذا ما استدل به بعض الباحثين، وهو ان الترجمة الطاهية (انظر تجد) قد جاءت على شاكلة الصيغة الواردة في انجيل متى ولوقا كالتالي: “اسألوا تعطوا. اطلبوا تجدوا. اقرعوا يفتح لكم” (انظر: أمير الغندور: حول نظرية الترجمة عند طه عبد الرحمن، ضمن مقالات مؤسسة مؤمنون بلا حدود، 2016م). انظر: https://www.mominoun.com/articles/-4600

[20] لقد عبّر طه في احد حواراته عن سروره بان جاءه شخص بعد صدور (فقه الفلسفة) يحمل اليه كتاباً يتضمن بيت الشعر المذكور، حيث وردت فيه ذات العبارة التي استخدمها في الترجمة، وهو كتاب (تقييدان في وحدة الوجود) لابن عجيبة (انظر: الحوار اُفقاً للفكر). ويتضمن البيت الشعري فكرة وحدة الوجود كالذي يفيده عنوان الكتاب.

[21]         نشأة الفلسفة العلمية، ص215. ايضاً: الاستقراء والمنطق الذاتي.

[22]         بحثنا في الشبكة العنكبوتية عن العبارة التي اقترحناها (جِدْ تجد) فصادف ان وجدناها مذكورة بالنص لدى احد دروس الخطيب السعودي علي القرني، اذ يقول: “أنت لا تعيش لنفسك، ويجب أن تقنع نفسك أنك لا تعيش لها، جِد تجد، ليس كمن سهر من رقد”. لاحظ: علي بن عبد الخالق القرني: دروس صوتية قام بتفريغها موقع الشبكة الإسلامية، الدرس 17، ص20. انظر:http://www.islamweb.net

[23] الغزالي: ميزان العمل، تحقيق وتقديم سليمان دنيا، دار المعارف بمصر، ص408 و228. كذلك: نظم التراث.

comments powered by Disqus