-
ع
+

الاخلاق الطاهية (قراءة في النسق القيمي لمشروع طه عبد الرحمن)

يحيى محمد

قلّة هم المفكرون الذين أمعنوا في نحت المصطلحات اللغوية ضمن الممارسة الفكرية. واذا كان بعضهم يجعل من هذا الاهتمام وسيلة لتوسيع رقعة الفكر؛ فان منهم من يجعله غاية لا وسيلة؛ بتبرير ان الفكر محدَّد باللغة لا العكس، او ان اللغة هي التي تشكل طريقة ما نفكر به، وذلك تعويلاً على ما تقوله بعض اتجاهات النسبية اللغوية. بل ان منهم من يجد تبريراً لهذا الاهتمام استناداً الى اعتبار اللغة كائناً انطولوجياً يفكر ويتحدث بلساننا وليس العكس، كما في فلسفة المفكر الالماني مارتن هايدجر الذي أسس العلاقة اللزومية بين اللغة والوجود؛ مثلما تلخصه عبارته الشهيرة “اللغة مسكن الكينونة”، دون ان تكون اداة ووسيلة للتواصل مع العالم الخارجي، ومثله المفكر الفرنسي جاك دريدا الذي جعل من اللغة نظاماً وجودياً حاملاً للنقائض والإحالات المرجئة.

ويُعدّ المفكر المغربي المعروف طه عبد الرحمن من القلائل الكبار الذين اسهبوا في الاهتمام اللغوي في معالجة القضايا الفكرية والفلسفية بغية توسعة آفاقها. بل يتفق جميع من قرأ وكتب عن هذا المفكر بتميزه بهذا الجانب من نحت المصطلحات واشتقاقها او تشقيقها مع كثرة انشاء المفاهيم، ويظهر اثر ذلك لدى كافة مؤلفاته ودراساته. وبعضهم اعتبر هذه الميزة ايجابية، فيما اعتبرها البعض الاخر سلبية. فهي سمة بارزة في تفكيره بحيث غطّت على كافة انتاجه المعرفي. وقد تعطي انطباعاً بقوة الفكر احياناً، والضعف في احيان اخرى.

فاذا كان نحت المصطلحات وابداع المفاهيم وتمييز بعضها عن البعض الاخر هي علامة كل علم متقدم، بل انها تشكل اهمية بالغة للفلسفة، حتى ان البعض مثل المفكر الفرنسي جيل دولوز اعتبر ابداع المفاهيم يمثل سمة الفلسفة التي تُعرف به.. فاذا كان هذا هو جانب القوة في ابداع المفاهيم والتمييز فيما بينها؛ الا ان هذا الحال قد يعكس ضحالة الفكر وضعفه حينما تتخذ العملية طابع الابتذال لكثرة الاستعمال الانشائي لادنى مناسبة، وانها تتبع التعريفات والتوصيفات من دون تحليل.

وحقيقة ان الاسلوب اللغوي الذي اختطه طه عبد الرحمن يحمل كلا الجانبين من القوة والضعف، وربما اغلب انشاءاته واشتقاقاته وتفريعاته كانت لادنى مناسبة من دون اهمية معتبرة، فهي سمة بارزة في مجمل كتبه، حتى انها احياناً تعبر عن مجرد تعريفات وتوصيفات ذهنية يراد اسقاطها على الواقع من دون تحليل ولا اثبات. بل انه قد زاول في احيان كثيرة اشتقاق الفاظ غير متداولة بدل الالفاظ الشائعة الاستخدام مع عدم تغير المعنى، وهي سمة تبتعد نسبياً عما دعا اليه من استخدام المجال التداولي للغة. وكانت هذه الحالات قد غلّفت نتاجاته واعاقت مواصلة التفكير النظري بسلاسة، حتى يجد القارئ الفاحص انه لم يحصل على شيء كثير الفائدة، بل انها سترت حالة الارتباك وعدم الضبط الفكري فيما اراد التوصل اليه من نتائج.

والاهم من ذلك ان هذا المفكر كثيراً ما استخدم الفاظاً معيارية ذات سمة انفعالية بما لا يليق بمفكر ان يتورط بمثل هذا الاستخدام. واحياناً تعبر الالفاظ التي استعملها في المجال الفكري عن حالة من “العنف الانفعالي”، وكأنه داخل في معركة الضد للضد، كما جاء في كتابه (سؤال الاخلاق) وهو يصوّر العداء المفترض بين النظام العلمي والنظام الاخلاقي الديني، حيث استخدم الفاظاً “انفعالية” مثل: سلطان البطش والبأس والاغتصاب والبغي، وذلك على شاكلة اللغة المستخدمة لدى عدد من اقطاب ما بعد الحداثة وبعض آبائها من امثال الاديب المتفلسف نيتشه.

وفي حوار له ضمن (حوارات من اجل المستقبل) الصادر عام 2000 كشف عن ان سبب طلبه للكلمات والتراكيب غير المستخدمة هو نفوره من الابتذال اللغوي، ولأنه في الصغر كان يمارس الابداع الشعري والاهتمام بالحرف ومن ثم عجائب اللغة. وافاد في حواره انه اتّبع في كتاباته الفلسفية طريقة خاصة سماها الكتابة الاستدلالية، والتي تتضمن ممارسة فلسفية بنائية او تركيبية؛ مثل كتابات عمانوئيل كانت والتآليف الانجلوسكسونية المعاصرة، كذلك كتابات كبار علماء اصول الفقه مثل الغزالي في (المستصفى).

وبالفعل انه استخدم الكتابة الاستدلالية في بعض من كتبه ودراساته النقدية، لكنه لم يتبع دائماً هذا الاسلوب في الاستدلال، ولم يعطِ العقل النظري حقه كما فعل الفلاسفة الابستمولوجيون.

يمتلك طه عبد الرحمن مزاجاً يوحي للقارئ انه يميل الى التفرد والثقة التامة فيما يقدّمه من كتابات وافكار، وكأنه يحمل رسالة سماوية خاصة لا تقبل التشكيك في الابداع الفلسفي والديني لانقاذ الامة الاسلامية من الجهل والتخلف، وذلك بدل الرؤى التي يصفها بالمقلدة لدى الباحثين والمفكرين العرب، بل ويتصف بالشجاعة والجرئة الفائقة في مخالفة السائد من الافكار. لذلك قلما يتفق مع رؤى الاخرين حتى مع تلك التي يبدو صوابها او وضوح صدقها.

وقد تنبع هذه الحالة إما عن خلفية سايكولوجية، او عن رؤية ثاقبة، او عن خلل في التفكير. ولو أبعدنا الخلفية السايكولوجية عن دائرة الضوء، واردنا ان نشخص حالة التفكير المترددة بين الرؤية الثاقبة والخلل في التفكير؛ فسنجد أمامنا عدداً من الهيئات التي تتحدد فيها العلاقة بين الرؤية الثاقبة والعدة المعرفية الكافية، وهي ما ينقسم حولها البشر الى اربعة اصناف كالتالي:

من البشر من يمتلك العدة المعرفية الكافية لكن من دون رؤية ثاقبة.

ومنهم على العكس، من يمتلك الرؤية الثاقبة لكن من دون عدة معرفية كافية.

كما منهم من لا يمتلك العدة المعرفية ولا الرؤية الثاقبة.

اخيراً منهم من يمتلك العدة المعرفية والرؤية الثاقبة معاً.

ومن المؤكد ان طه عبد الرحمن لا ينتمي الى الصنفين الثاني والثالث، فعدته المعرفية واسعة تستوعب كلاً من الاتجاهات العامة لتراثنا المعرفي والفكر الحديث، لا سيما مجالات اللغة والمنطق والفلسفة. ويبقى انه إما ان ينتمي الى الصنف الاول، او الى الصنف الاخير.

ويبدو لي انه ينتمي الى الصنف الاول، وهو انه يمتلك العدة المعرفية الكافية لكن من دون رؤية ثاقبة، وعلى نحو الخصوص انه يحمل خللاً في التفكير رغم ذكائه الحاد. ويبرر هذه النتيجة ان رؤاه اتصفت بكثرة المفارقات وتقلبات الاراء واضطراب الفكر من دون ضبط. حتى خُيّل اليّ ان الرجل كان يتأمل فيكتب بلا مراجعة، فتظهر المفارقات والتقلبات وغياب الضبط من دون ان تُلاحظ. وهي حالة تُذكِّر بتناقضات المفكر المصري الراحل حسن حنفي كما عرّاها المفكر السوري الراحل جورج طرابيشي. فكلاهما مصابان بداء المفارقات والتقلبات، وان الثابت لديهما يكاد يكون التغير والتحول على طول الخط[1].

وللانصاف ان المفارقات والتقلبات تطارد الكاتب عبر الزمن، ويصعب التخلص منها، لكن كثرتها هي المشكلة، حيث غالباً ما تصيب اؤلئك الذين يسهبون في الكتابة ولا يسعهم الوقت للتدقيق ومراجعة ما يقدّمون. وقديماً يُذكر ان الشيخ ابن المطهر الحلي (المتوفى عام 726هـ)، والموصوف لدى علماء الشيعة بالعلامة، كان ممن ينطبق عليه هذا الوصف بكثرة التناقضات والتقلبات، وقد فُسِر هذا الحال لغزارة ما كان يكتب. كذلك كان قبله الشيخ ابو جعفر الطوسي (المتوفى عام 460هـ).

وقد تكون كثرة المفارقات نابعة عن الغموض الذي يلفّ الموضوعات المطروحة للبحث، وهي حالة يشهد عليها تاريخ الفكر الفلسفي عند معالجته للقضايا الميتافيزيقية؛ مثل تلك التي اطرها عمانوئيل كانت في اربع نقائض. بيد ان هذه النقائض تعود الى اطراف متعددة دون ان تصدر عن شخصية فكرية بعينها، رغم ان (كانت) اراد ان يصورها بانها نابعة عن طبيعة العقل البشري، اي انها نقائض لهذا العقل، ومن ثم لا بد ان ترسوا على سواحل تاريخ هذا الفكر[2].

كما ثمة مفارقات قد تنقلب الى تلفيقات، وذلك بفعل محاولات الجمع بين ظواهر حقول المعرفة المتضادة، كتلك التي سقط في شراكها الفيلسوف الاشراقي صدر المتألهين الشيرازي عند محاولاته التوفيق بين الفلسفة والشريعة[3]. وثمة اسباب اخرى مختلفة تؤدي الى المفارقات والتقلبات.

وبالنسبة الى فكر طه عبد الرحمن فيبدو لي ان هاجس الرغبة في تقديم الاطروحات الجديدة للقضايا الفلسفية لدى كتاباته الكثيرة ضمن ذات المشروع؛ هو من اهم العوامل التي جعلت هذا الفكر يعاني من سعة المفارقات والتقلبات.

وعموماً ما سنشهده هو ان الاطروحة الطاهية تتسم بالقلق والاضطراب الفكري. وهي معلقة في الهواء من دون اساس معرفي محكم. فمن جانب انها تفضي الى التشكيك والرهان على نسبية المعرفة، فهي في الغالب تنكر وجود معارف عقلية يقينية مطلقة باستثناء القضايا الاخلاقية المتحدة مع الجوانب الدينية. كما من جانب اخر يظهر فيها احياناً بعض الافتراضات التي ليس عليها دليل معتبر، كما وتجعل الاستدلال على بعض الاخبار الروائية يتصف باليقين بما لا يتصف به الاستدلال على المسألة الالهية ولا الضرورات العقلية. حيث تميل الى عدم الاعتراف بالبديهات والاوليات المحكمة، وهي فرضية تفضي الى ان لا يكون للحقائق ولا الحق والباطل من معنى، بل ما يطرح يمثل نسقاً من انساق فكرية متعددة بلا حدود، رغم ان هذا النسق يتصف بالفجوات والتناقضات المفتوحة.

لقد تقبّل طه الفلسفات المعارضة للدعوى القائلة بوجود افكار عقلية مشتركة يتفق عليها البشر، ومنها افتراضات العقل الاولية وقواعده المنطقية وعلى رأسها مبدأ عدم التناقض. واستلهم هذه المعاني من خلال دراسته للمنطق الحديث، فضلاً عن تأثره العميق بفلسفة عمانوئيل كانت في نقده للعقل الخالص واكتفائه بالنظرية الحسية لدى البحث الابستمولوجي. لكن عمانوئيل كانت عوّض نقده للعقل النظري باللجوء الى العقل العملي المتمثل بالجانب الاخلاقي، فيما ان طه عوّض عزوفه عن العقل النظري باللجوء الى الاخلاق المصطبغة بالدين او المتحدة به، مع تشربه بالعرفان الصوفي وتأثره بعدد من علماء التراث من امثال ابي حيان التوحيدي والغزالي وابن تيمية وابن خلدون.

***

واشير الى انه لم يكن في نيتي مواجهة مشروع طه عبد الرحمن بخلاف مشاريع ثلاثة سابقة عرّضتها للنقد عن قصد ونية مبيتة، وهي تعود الى كل من: محمد باقر الصدر في مشروعه الابستمولوجي (الاسس المنطقية للاستقراء)[4]، ومحمد عابد الجابري في مشروعه الموسوم (نقد العقل العربي)[5]، وعمانوئيل كانت في كتابه العالمي الشهير (نقد العقل المحض)[6].. فالذي جعلني اضطر للكتابة عن مشروع طه هو ما فرضته دراستي حول (فلسفة النظام الاخلاقي) والتي لم تكتمل بعد[7]، اذ شعرت بضرورة عرض نظريته في هذا المجال مع مناقشتها، الا انه عندما توسع البحث وجدت نفسي مضطراً لعرض مجمل مذهبه بشكل مستقل، خاصة وان المدار الاخلاقي يمثل قطب الرحى في مشروعه الفكري، فهو متشابك مع المدارات الاخرى المعرفية والوجودية والدينية والثيولوجية او الكلامية. وحاولت قدر الامكان ان لا اتوسع في طرح كافة مفاصل ما كتبه، بل حددت النقاط الاساسية مع التركيز على المفارقات التي صادفتها خلال البحث. لذلك بدا اهتمامي بالنسق الطاهي ان كان متناقضاً ام متسقاً اكثر من اي اهتمام اخر. لكن دون الرغبة في استقصاء الثغرات والاخطاء هنا وهناك، ولا الدخول في المعارضات الهامشية او تلك التي يكثر فيها الجدل دون طائل. ومن ثم توصلت الى ان هذا المشروع مضطرب ويفتقر الى الضبط لكثرة المفارقات والتقلبات.

وانبّه اخيراً الى ان ما طرحته من نقد انما يتعلق بالفكر الطاهي ولا مساس له بشخص طه الانسان، حيث أكنّ له تمام المحبة والاحترام.

وهذه اولى مراجعاتي حول فكره..

الانسان والاخلاق

وضع طه عبد الرحمن عدداً من الكتب التي تعالج الجانب الاخلاقي والعملي من الفكر الانساني، وكان ابرزها كتاب (سؤال الاخلاق) وقبله (العمل الديني وتجديد العقل). فقد وصف ما جاء في (سؤال الاخلاق) الصادر عام 2000 بانه عمل حداثي وتجديدي، وجعله يندرج ضمن ما يسمى بفلسفة الدين. واعلن انه قد اتى بشيء على غير مثال سابق، وهو بذلك عمل تجديدي. ومثل ذلك اعلن في تمهيد كتابه الاخير (السيرة النبوية والتأسيس الاخلاقي) والذي صدر خلال الشهر السابع من السنة الجارية 2024، بانه وضع فلسفة اخلاقية على غير مثال سابق، سماها الفلسفة الائتمانية.

في حين سبق له ان اعلن في كتاب (العمل الديني وتجديد العقل) الصادر عام 1989 بان الفكر، لأي كان، يعتمد على نماذج سالفة او سابقة يرجع اليها في تحصيل المعرفة وتبليغها. او ان الفكر لا يستقيم الا بالارتكاز على ما سلف من نماذج المعرفة.

ويعتبر كتاب (العمل الديني وتجديد العقل) النبتة الاولى التي غرسها صاحبها في الفكر الاخلاقي، وكذلك التجربة الصوفية، والذي مهّد الى مراحل متطورة تصب في المشروع الطاهي، كما في مؤلفاته: سؤال الاخلاق وروح الدين والتأسيس الائتماني لعلم المقاصد وسؤال السيرة الفلسفية وغيرها. وهو مشروع قائم على النظرية الاخلاقية الدينية وفق المشرب الصوفي.

فمن وجهة نظر هذا المفكر انه لا بد من بناء حضارة جديدة استناداً الى الاخلاق، مشيراً الى غياب كلي للمساعي في تجديد النظر في الاخلاق الاسلامية بما يضاهي الفلسفات الاخلاقية الغربية الحديثة، مؤكداً على انه لا شيء اخطر على الانسان من الاخلاق، رغم تقييده لها بالدين كما سنلاحظ..

لقد ربط طه الاخلاق بكل من الانسان والدين والوجود والمعرفة الكونية وغيرها مما لا ينفك بعضها عن البعض الاخر. لذلك كان لا بد من استعراض هذه المباحث كالتالي..

***

عرّف طه الانسان بانه كائن اخلاقي. فالميزة الفريدة التي رآها فيه هي الاخلاق دون غيرها من الخصائص الاخرى. فهي السمة الوحيدة التي يمتاز بها عن الحيوان. وظل يكرر هذا المعنى حتى في كتبه الاخيرة كما في (سؤال السيرة الفلسفية) الصادر عام 2023. فوجود الانسان يصاحب وجود الاخلاق وانه لا انسان بغير اخلاق، ومن ثم فالطبيعة البشرية هي طبيعة اخلاقية، وانها ذات رتب متعددة، وان الاخلاق هي بعدد افعال الانسان الى ما لا نهاية. لذا قد يكون الفرد انساناً اكثر من الاخر. كما ان هوية الانسان ليست ثابتة، فهي في تحول من طور الى اخر. ونفى بهذا الصدد ان يكون احد تكلم عن ذلك، واعتبر الحاجة تدعو الى انشاء نظرية اخلاقية يكون من اصولها الجمع بين شرطي الاخلاق والانسانية، حيث الاخلاق هي ما به يكون الانسان انساناً، وانها الاصل الذي تتفرع عليه كل صفات الانسان من حيث هو كذلك، كالذي جاء في (سؤال الاخلاق).

لقد نفى هذا المفكر ان يكون العقل المجرد هو ما يميز الانسان عن الحيوان كما جرى التعريف التقليدي بذلك، واعتبر اختلاف العقل بينهما هو اختلاف بالدرجة، حيث ان العقل موجود ببعض النسب في الحيوان، خلافاً لخاصية الاخلاق التي ينفرد بها الانسان دون ان يشاركه الحيوان فيها. ومن ثم اعتبر المعيار الذي يحدد التفرقة بين الانسان وغيره هو ان (الانسان حي عامل)، في قبال ما تقوله الفلسفة اليونانية بان (الانسان حيوان ناطق).

وسنرى ان ما يقال بشأن الاخلاق لا يختلف عما يمكن قوله بشأن العقل، فهو ذو رتب مختلفة وان له قابلية على التحولات غير المتناهية. وهو في بعض دراساته المتأخرة – كالتأسيس الائتماني لعلم المقاصد - اشار الى ان العقل والارادة هما قوام الخاصية الانسانية. لكن يُفترض ان العقل الذي قصده – هنا - ليس العقل النظري المجرد كما سنعرف.

العقل والاخلاق

من حيث التفصيل اعتبر طه ان العقل المجرد لا يحقق انسانية الانسان بما هو انسان، بل ما يحقق ذلك هو ما اطلق عليه العقل المسدد، واكمل منه العقل المؤيد. فهذه ثلاثة اصناف للعقل وفق تقسيماته التي ألِفَ استخدامها منذ كتابه (العمل الديني وتجديد العقل) وحتى كتبه الاخيرة مثل (سؤال السيرة الفلسفية) و(السيرة النبوية والتأسيس الاخلاقي)، وذلك على عكس التراتب التفاضلي الذي طرحه المفكر الراحل محمد عابد الجابري في تصنيفه الثلاثي لنظم العقل، حيث جعل النظام البرهاني في القمة كعقل منشود، وأقل منه النظام البياني، ثم النظام العرفاني الذي يعزو له سبب انحدارنا وتخلفنا الحضاري، ووصفه بالاوصاف السلبية كاللامعقول والعقل المستقيل، خلافاً لرؤية طه الذي اعتبره العقل المنشود – كما في صيغته المعتدلة - ووصفه بالاوصاف الايجابية وسماه بالعقل المؤيد. ولدى طه ان العقل المجرد، اي المجرد عن القيم، اوسع من النظام البرهاني كما اراده الجابري، وان العقل المسدد، اي المسدد بالقيم، لا يساوي النظام البياني – المتضمن لعلم الكلام وغيره - عند الجابري.

هذا بالاضافة الى ان تصنيف الجابري متعلق بالنظم البنيوية اكثر منه تصنيفاً للعقول، فهي نظم متكاملة تتفاوت في المعارضة والاختلاف[8]. أما تقسيم طه فمعني بالعقول دون النظم البنيوية المتكاملة، فهي تعبّر عن ادوات واساليب للتفكير، وان بعضها يتضمن البعض الاخر ويزيد عليه، لكنها مع ذلك محملة ببعض البنى الاعتقادية، وتتفاوت في المعارضة والاختلاف.

وبحسب ثلاثية طه للعقل، فان الاول منها يخلو من الخاصية الاخلاقية والعملية، وقد عرّفه في (سؤال السيرة الفلسفية) بانه العقل الذي ينتزع المعقولات من المحسوسات. لكنه نفى في محل اخر ان يكون قصده من هذا العقل هو انتزاع المعقول من المحسوس. أما الاثنان المتبقيان فهما اخلاقيان، احدهما اكمل من الاخر. لذلك فهو يعرّف الانسان – كما في (سؤال الاخلاق) - بانه يمتلك عقلاً مسدداً، فيما يعرّف الانسان الكامل بانه يمتلك عقلاً مؤيداً. هذا على الرغم من انه يقيد العقل المسدد – كما سنعرف - بقيامه على اصول الشرع، فكيف يكون تعريفاً للانسان عامة؟

على ان تسمية العقلين المسدد والمؤيد هي نفسها عبارة عن العقل الاخلاقي (الشرعي) والعقل الذوقي (الصوفي). لكن يعود الاصل في اختيار طه لهذه التسمية الى ما ورد في بعض كتب التراث من ان الفضائل او السعادة التوفيقية اربع، هي: الهداية والرشد والتسديد والتأييد، كالذي اشار اليه في (تجديد المنهج في تقويم التراث) الصادر عام 1994. وجاء في تعريف التسديد - كما في (الذريعة الى احكام الشريعة) للراغب الاصفهاني - انه تقويم ارادة الانسان وحركاته نحو الغرض المطلوب، وتعريف التأييد هو تقوية امر الانسان بالبصيرة من داخل، وتقوية البطش من خارج.

وعلق طه على هذه الفضائل فاختصرها بان معنى الهداية عام، وان الفضائل الاخرى اخص منها، وان التسديد اخص من الرشد، وان التأييد مستقل عن التسديد، وبذلك يمكن الحصول على قسمين من الفضائل التوفيقية هي: التسديدية، ولها تعلق بتحصيل الهداية في تبيّن المقاصد. والتأييدية ولها تعلق بتحصيل الهداية في استعمال الوسائل. ومن ثم استخلص من ذلك نوعين من اليقين؛ هما اليقين التسديدي واليقين التأييدي، بالاضافة الى اليقين المتعلق بالعقل المجرد اليوناني. بل وحوّل هذه الخصائص الى عقول، لكل عقل امتيازاته التي تجعله مختلفاً عن الاخر.

وهو في (سؤال الاخلاق) اضفى اوصافاً على هذه العقول الثلاثة مستمدة من احدى الايات القرآنية الكريمة، فاعتبرها تتميز بالحكمة والموعظة الحسنة والمجادلة بالحسنى، وفق الاية الكريمة: ﴿ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ﴾ (النحل\ 125). فالعقل المؤيد يوصف بـ (الحكمة)، والعقل المسدد بـ (الموعظة الحسنة)، أما العقل المجرد فيوصف بـ (المجادلة بالحسنى).

كما اعتبر التقسيم في الاية يوافق اطروحته في العقل، حيث الاخير على ثلاث مراتب: اعلاها العقل المؤيد الذي يختص به صاحب الحكمة، واوسطها العقل المسدد ويختص به صاحب الموعظة الحسنة، وادناها العقل المجرد ويتميز به صاحب المجادلة بالحسنى.

هذا على الرغم من ان طه يصف العقل المجرد باليوناني كالذي اشرنا اليه قبل قليل، فكيف يتميز به صاحب المجادلة بالحسنى وفق الوصف القرآني وما يوحي به من مدح؛ خلافاً لما اراده هذا المفكر. كذلك انه في (سؤال السيرة الفلسفية) اعتبر صاحب العقل المسدد مؤتمن على “الحكمة”، فيما ان صاحب العقل المؤيد يعلو على ذلك بامتلاكها، اي ان للعقل المسدد علاقة غير منقطعة عن الحكمة، بخلاف تصوره السابق في (سؤال الاخلاق).

كما سبق له في (العمل الديني وتجديد العقل) ان وصف العقل المؤيد بانه مقرّب، والعقل المسدد بانه قربائي، والعقل المجرد بانه مقارب.

واذا كان تعريف العقل المجرد بانه ذلك الذي يخلو من العمل، فان تعريف العقل المسدد هو ذلك الذي اهتدى الى معرفة المقاصد النافعة. او هو العقل الذي يبتغي به صاحبه جلب منفعة او دفع مضرة، متوسلاً في ذلك باقامة الاعمال التي فرضها الشرع. فهو عقل مجرد وقد داخله العمل الشرعي، اذ بدخول العمل فانه يلبس اوصاف التسديد العملي.

وعلى هذه الشاكلة جاء وصف العقل المسدد كما في (سؤال السيرة الفلسفية) بانه العقل الذي يزدوج فيه البعد النظري بالبعد العملي ازدواجاً يعسر معه التمييز بينهما، بل يعسر تحديد اين يبدأ اي منهما واين ينتهي. فالناظر بواسطة هذا العقل يفكر بمقولات عملية، والعامل على العكس يعمل بمقولات نظرية. لكن كما سنلاحظ ان طبيعة هذا العقل في كتابه المشار اليه تختلف عما جاء في كتبه السابقة.

وعلى العموم يقوم العقل المسدد، كما في (العمل الديني وتجديد المنهج)، على اركان ثلاثة اساسية: موافقة الشرع، واجتلاب المنفعة، والاشتغال. وهو ما اصطلح عليه الفقهاء والاصوليون بالعقل غير المستقل او المقيد، حيث يقوم على اصول الشرع. وسماه طه بالمسدد بدل المقيد حيث تبعيته للشرع تجعله قادراً على ادراك مصالحه الدنيوية والاخروية، لذلك فهو مسدد، واحياناً يطلق عليه العقل المسدد بالقيم او قيم الشرع. ويسمى ايضاً بالسمع، معتبراً ان اهل السمع واصحاب العقل المسدد افضل من اهل العقل المجرد او النظّار. والفقهاء هم اهل السمع او العقل المسدد خلافاً للنظّار مثل المتكلمين.

ويعبّر طه عن هذه العقول بالعقلانيات كما جاء في (العمل الديني وتجديد العقل)، ومن ثم اكّده في (الحوار اُفقاً للفكر) الصادر عام 2013. فالعقلانية المجردة هي المجردة عن الممارسة العملية، وبالخصوص الممارسة الدينية والعمل الشرعي، معتبراً العقلانية بهذا المعنى ليس لها يقين لا في دفع المقاصد المختارة، ولا في نجاعة الوسائل المحددة لبلوغها. اما العقلانية المسددة فهي مسددة لان صاحبها اخذ قيمه من نصوص الوحي رغم انه تعثر في اتخاذ الوسائل الموصلة الى تحقيق تلك القيم، حيث يظن انه اقتبس هذه الوسائل من هذه النصوص المنزلة، لكنه في الحقيقة اقتبس ظاهرها وفاته جوهرها. في حين ان صاحب العقلانية المؤيدة يأخذ مقاصده وقيمه من الشرع ويحصل اليقين في نفعها، كما يأخذ منه الوسائل التي توصله الى هذه القيم؛ محصلاً اليقين في نجاعتها.

ويستند طه في تحديده لمضمون العقل المسدد الى النص الديني من حيث مزاوجة العقل بالعمل، تمييزاً له عن العقل النظري المجرد. وهو ذاته العقل الفقهي وما على شاكلته. كما انه هو ذاته الذي يميز الانسان عن الحيوان، بفعل تضمنه للجانب العملي او الاخلاقي. حيث العمل هو جملة سلوكيات او تصرفات توصف بالحسن والقبح او الخير والشر، لذا فهي داخلة في باب الاخلاق، كالذي قرره في (الحوار اُفقاً للفكر).

ولا ادري كيف يستقيم اعتبار العقل المسدد هو ما يميز الانسان عن الحيوان، وفي الوقت ذاته انه يتمثل بالعقل الفقهي وما على شاكلته، بل وانه لا تكون العقلانية مسددة الا اذا اخذ صاحبها قيمه من نصوص الوحي؟. فهذه المفارقة لا تجد لها حلاً حتى مع اعتقاد طه بان الانسان كائن حي متدين، وان الهوية الانسانية هي في حقيقتها هوية دينية، وانه لا انسان بغير دين؛ لا سيما انه يعول على التوحيد بين الاخلاق والدين، كما سيأتي بيانه لاحقاً.

على ان طه لا يتوقف عند حد العقل المسدد، بل اضاف اليه العقل المؤيد الذي ادعى ان مصدره النص الديني ايضاً، من حيث البحث عن الوسائل الناجعة التي توصل الى القيم المقصودة كما هي محددة لدى العقل المسدد. وهو الحال الذي يختلف فيه عن مسلك الفقهاء، او من يعتبرهم اصحاب العقل المسدد. فعملية تحديد الوسائل التي يدل عليها النص الديني ليست هي موضع اتفاق بين الطرفين. بل حتى القيم المقصودة التي يدل عليها النص الديني هي ايضاً موضع اختلاف بين الفقهاء انفسهم، او بينهم وبين غيرهم من اتباع الفكر الديني، كما بينهم وبين الطاهية.

وعموماً انه عرّف العقل المؤيد، كما في (سؤال الاخلاق)، بانه العقل الذي اهتدى الى تحصيل الوسائل الناجعة فضلاً عن تحصيل المقاصد النافعة. فعند تحصيل الوسائل الناجعة يتم تجاوز مرتبة التسديد الى مرتبة التأييد. وهو العقل الذوقي (الصوفي) الذي خالط فيه العمل للنظر، وخالطت التجربة الحية فيه للعمل.

ورغم امتداح طه للعقل المسدد في كتبه التي سبقت (روح الدين: من ضيق العلمانية إلى سعة الائتمانية) الصادر عام 2011، حيث اعتبره قادراً على ادراك المصالح الدنيوية والاخروية، لكنه في الكتاب المشار اليه وصف اتباع هذا العقل بالطاغوت حيث يشرعون الاحكام الخاصة والعامة من عقولهم وليس من عند الله، كما سيأتي الحديث عن ذلك في مراجعة مقبلة. ثم عاد في كتابه (سؤال السيرة الفلسفية) ليجعل من العقل المسدد ممثلاً للفلسفة “الحقة” من دون ان يقيده بالشرع، بدلالة انه عدّ سقراط والانبياء قبل النبوة هم من ابرز من يمثلون هذا العقل.

وبالتالي نجد قلقاً واضطراباً في مفهوم العقل المسدد ومصاديقه، ففي مجمل كتبه اعتبر هذا العقل هو خاصية الانسان كتمييز له عن الحيوان، وفي الوقت ذاته اعتبره مقيداً باصول الشرع واخذ قيمه من نصوص الوحي، وهو من الغرابة، حيث ان ذلك يستلزم ان يكون مفهوم الانسان مرتبطاً بالوحي والشرع. كما عدّ ابرز من يمثل هذا العقل هم الفقهاء مع الاشادة باتّباعهم هذا النهج التسديدي رغم بعض المؤاخذات، وزاد على ذلك في (روح الدين) فوصمهم ومن على شاكلتهم من مصاديق هذا العقل بأنهم اصحاب طغيان او طواغيت.

في حين انه في (سؤال السيرة الفلسفية) جعل هذا العقل دون قيد الارتباط باصول الشرع ونصوص الوحي، واعتبر سقراط والفلاسفة الصدّيقين والانبياء قبل النبوة هم من يمثلون مصاديق هذا العقل وليس الفقهاء، وجميعهم ممتدح من دون جرح واعتراض. اذ رأى ان العقل المسدد يتمثل بالفلسفة “الحقة”، ومنها الفلسفة الاسلامية “الحقة” كما وصفها من دون ذكر نماذج فلسفية اسلامية تمثلها.

كما اعتبر الانبياء هم من يمثلون العقل المؤيد ويمتلكون الحكمة، ويوحي احياناً بانه لا يشاركهم في هذا التمثيل احد، كما في عبارته التي يشير فيها الى وجود “معرفة مؤيدة يتفرد بها النبي”. لكنه في احيان نادرة يوحي بان النبي يمثل نموذجاً على هذا التمثيل، كتصريحه بلفظ “كالنبي” وهو في معرض ذكره للعقل المؤيد، لا سيما انه يرى بان الحكمة لها اصل صوفي، اضافة الى تقريره - خلال مقارنة رؤيته برؤية المفكر الفرنسي بيير هادو – بان الصوفي هو من يروّض باطن نفسه، وانه ينبغي ان ينضبط الترويض بالعقل المؤيد الذي يترقى الى الاستعانة بالذات الالهية . لكن قد يقصد بذلك ان النبي هو من يمثل العقل المؤيد وبه ينبغي ان ينضبط ترويض الصوفي لباطن نفسه. وهو الاقرب وفق سياقات حديثه ما لم يعتبر المتصوفة انبياء كالذي عليه ابن عربي.

عموماً رأى طه كما في (سؤال العمل) ان اقصى ما يمكن تحقيقه بالعقل النظري المجرد هو اوصاف الاشياء وعللها الظاهرة دون التعدي الى ادراك مقاصدها الخفية خلافاً للتغلغل في العمل.

وحقيقة ان ادراك المقاصد من خلال العقل النظري ممكن. انما اراد هذا المفكر التغلغل في التجربة الصوفية لادراك المشاهدات الغيبية التي يعجز العقل المجرد عن مشاهدتها، وهي التجربة الغنوصية التي يؤكد عليها العرفاء.

فقد اشار في (العمل الديني وتجديد العقل) الى ان التجربة الخلقية المؤيدة تجمع بين العقل والغيب، وكذا بين العلم والاخلاق وفق النهج الصوفي. واركان هذه التجربة هي كما يلي:

1- ركن القدوة، حيث ان القدوة يتولى تخليق الانسان بالصلة بين العلم والاخلاق.

2- ركن الاشارة، حيث تتولى الاشارة تخليق الانسان بالصلة بين العقل والغيب.

واعتبر العقل المؤيد لا يرى شيئاً الا ويرى الحق فيه، ولا يعرف شيئاً الا ويعرفه به، بفضل التقرب بالنوافل. وهو الحال المعروف بوحدة الشهود، والذي يمثل لدى الصوفية – كما نرى - سلّم الترقي الى وحدة الوجود[9].

ووفق توصيفاته للعقول اعتبر ان غاية العقل المجرد هي معرفة الصفات، وغاية العقل المسدد هي معرفة الافعال واستمداد المقاصد والمعاني والقيم من النص الديني. اما غاية العقل المؤيد فهي معرفة الذوات. وحسِب انه لا سبيل الى معرفة الذات بطريقة النظر، حيث لا يوصل الا الى الصفات، ولا بطريق العمل حيث لا يوصل الا الى الافعال، بل لا بد من الجمع بين النظر والعمل والتجربة عبر الملابسة والتي تصل في اعلى مراتبها الى المباطنة الصوفية. حيث يرتقي العقل المؤيد الى استمداد الاسرار والانوار والارواح.

وبذلك يكون العقل المؤيد هو الوحيد بين العقول الثلاثة يمكنه الاحاطة بالاعيان الخارجية او الذوات المتشخصة في الوجود من خلال توظيف مفهوم الملابسة التي وردت على لسان العرفاء، ومن ذلك نقله لقول الغزالي في (المنقذ من الضلال): “التحقيق بالبرهان علم، وملابسة عين تلك الحالة ذوق”[10]، حيث اعتبر الملابسة وصفاً من اوصاف العقل المؤيد وهي تتضمن الاشتغال والتجربة الحية. والملابسة هي كالملامسة، لكن الاولى تحصل في التجربة الحية، فيما الثانية تحصل في التجربة الحسية.

أما المباطنة التي هي اعلى درجات الملابسة، ففيها يتم ادراك الذات فتكون دليلاً على الاوصاف والافعال. كما فيها يمكن ان يتعلق العبد بربه وان يكون سر هذا التعلق في قلبه هو الدال على كل شيء في نفسه وفي افقه، فتكون الذات دليلاً، والاوصاف والافعال مدلولاً.

***

اذاً، عرفنا ان طه منحاز الى العقل المؤيد او المسلك الذوقي الصوفي ورجحه على العقلين المجرد والمسدد، او ما نصطلح عليه بالنهجين العقلي و”البياني” مع بعض التحفظ، كما جعل العقل المسدد او “البياني” المتمثل لدى الفقهاء افضل من النهج العقلي كما يتمثل لدى المتكلمين والفلاسفة. وهو قد اعتبر العقل المسدد يحقق ما يتطلبه تعريف الانسان بخصلة العمل والاخلاق، خلافاً للعقل المجرد الذي يخلو من ذلك، رغم ان الابحاث الكلامية لا تخلو من الانشغالات بالقضايا العملية كتلك المتعلقة بقضايا الحسن والقبح والتكاليف الواجبة وغيرها. كما ان ابحاث اصول الفقه لا تخلو من الانشغالات بالقضايا النظرية المجردة، إما لتأثيرها على المباحث العملية للقضايا التكليفية، أو تأتي بفعل الاستطرادات الدخيلة.

التمييز بين العقل العملي والعقل المسدد

لقد عنى طه بالتجريد، كما في العقل المجرد، بانه الانقطاع عن العمل ونسيان قيمته الفعلية في توجيه النظر، وليس انتزاع المعاني وتنسيقها، اذ تتفاضل امكانات البناء النظري من حيث انعكاس العمل فيها ودرجة توغل اثاره في جنباتها، وبهذا يكون العمل مصححاً للنظر.

لكن حقيقة الحال ان قيمة العمل الفعلية في توجيه النظر هي في حد ذاتها مسبوقة بنظر العقل المجرد. فمن الناحية المنطقية ان العقل النظري المجرد هو الاساس الذي يستند اليه التفكير العملي بكافة ابعاده. فبالاضافة الى نمط التوليد المعرفي الذي يمارسه العقل المجرد؛ ثمة نمطان اخران، احدهما تفسيري، والاخر عملي مصلحي او نفعي باوسع معانيه. وفي النمط الاخير يكون العمل مخالطاً للنظر من دون امكانية فصله بشكل تام. ومثلما يستخدم النمط التفسيري في توجيه النمط المصلحي النفعي؛ فان العكس حاصل ايضاً كما في الطريقة العلمية المتبعة في العلوم الطبيعية والتي يدرجها طه ضمن العقل المجرد. وعندما يكون النمط المصلحي او النفعي تابعاً للشرع فانه يصبح عقلاً شرعياً، او مسدداً وفق اصطلاح هذا المفكر. وهو ينطوي ضمن مباحث العقل العملي.

مع هذا فقد ميّز طه بين هذين العقلين، فاعتبر العقل العملي شائع استخدامه لدى اتباع العقل المجرد، وهو يختلف عن العقل المسدد الاخص منه، واستدل على هذا الاختلاف، كما في (سؤال السيرة الفلسفية)، بان في العقل المسدد شرط ابتداء، وهو اصابة الهدف او نيل المطلوب، وليس كل عمل يصيب هدفه. كذلك فان القيم هي من تحدد العقل المجرد فيقتصر العقل العملي على تنزيل القيم على الواقع او تطبيقها في السلوك، في حين ان القيم في حالة العقل المسدد هي من استنباط العقل المسدد نفسه حيث يستنبطها من الصفات الالهية وتبقى محفوظة في الفطرة. فقيم العقل المسدد مأخوذة من الكمالات الالهية، بينما قيم العقل العملي مأخوذة من اجتهادات العقل المجرد.

وفي محل اخر من (سؤال السيرة الفلسفية) اثار التمييز بين هذين العقلين لاعتبارين، اولهما ان اهتمام العقل العملي بالقيم هو اهتمام بظواهر، والظواهر ترجع دلالاتها الى ذواتها، فلا يتعداها هذا العقل الى سواها، بينما اهتمام العقل المسدد بالقيم هو اهتمام بايات، والايات ترجع دلالاتها الى غيرها، فيتعين ان يتعداها الى سواها مما يعلو على جنسها. والاعتبار الاخر هو ان العقل العملي لا يطلب اصل القيم الا في الواقع مستنتجاً الوجوب من الوجود، وقد يعد بعضهم هذا الاستنتاج مغالطة منطقية بالاضافة الى ما يرثه من تنسيب وتذويت للقيم، بينما العقل المسدد يطلب اصل القيم من الكمالات الالهية، اذ تعتبر القيم معاني مشتقة من هذه الكمالات ومفطوراً عليها بحيث يرتفع عنها التنسيب، اذ الفطرة ولو انها من جهه الخلقة البشرية ذاتية؛ فان مضامينها من جهة الايداع الالهي حقيقية.

كما ذكر في معرض نقده للطبيب ابي بكر الرازي بان للعقلين النظري والعملي وجهين لحقيقة واحدة، وهي العقل المجرد، اي العقل الذي ينظر الى الاشياء بوصفها ظواهر مستكشفاً القوانين التي تنضبط بها وغير معني بالقيم والمعاني التي هي من وراء انضباطها بهذه القوانين، والعقل العملي عند الرازي يخضع ايضاً لهذا التصور التجريدي حتى ولو كانت القيم هي محل نظره، اذ يعد القيم هي الاخرى ظواهر نفسية تخضع لقوانين ينبغي كشفها كما تكشف قوانين الظواهر الجسدية.

وحقيقة ان ما ذكره هذا المفكر في التمييز بين العقلين العملي والمسدد لم يكن سديداً، فالعقل العملي هو اطار عام للمباحث المتعلقة بالقضايا العملية والسلوكية دون ان يتضمن اعتقادات نظرية محددة مثلما هو الحال مع العقل المسدد، وبالتالي لا تصلح المقارنة بينهما. وكل ما ذكره من صفات للعقل العملي، انما هي نتائج بعض النظريات الداخلة في اطار هذا العقل العام، وهي بالنتيجة لا تلزم عنه بالضرورة.

فالقيم الاخلاقية هي من اهم مباحث العقل العملي، ولا يمتنع اعتبارها نابعة عن كمالات الصفات الالهية. بل في دراستنا (فلسفة النظام الاخلاقي) اعتبرنا ان للنظام الاخلاقي الحدسي ارتباطاً لزومياً بعالم ميتافيزيقي مستقل عن العلاقة الاخلاقية التي نشهد ظواهرها الواقعية. وبالتحديد انه يشكل نوعاً اخر من صفات الوجود الالهي، فهو عنصر ثالث يضاف الى الصفتين الذاتية اللزومية والفعلية؛ كما في التقسيم اللاهوتي المتعارف عليه. فطبيعة هذا النوع من الصفات ليست لزومية كالصفات الذاتية، كما انها ليست من الصفات الفعلية الخاصة بالخلق والابداع، بل مصدرها الانحياز الالهي لما تتضمنه من نتائج خيرة وصالحة للعباد، لذلك فانها لا تتخذ طابع التعميم المطلق عند التنفيذ والتطبيق، بل تتبع قاعدة ما يحقق الخير والصلاح الاعظم. ويمكن التعبير عنها بالصفات الاخلاقية للاله كمصدر اساس لما نشهده من نظام حدسي متميز. فهي اخلاق الله التامة واسماؤه الحسنى، ومن طبيعتها انها تتصف بالكمال التام، ولوضوحها لا تحتاج الى تبرير او ردّها الى شيء اخر يفسرها. فهي الاصل في كل اخلاق دون ان تردّ الى ما سواها، مثلما وجود الاله هو الاصل في كل وجود دون ان يردّ الى ما سواه. وعليه تصبح الاخلاق الحدسية لدى البشر انعكاساً عن تجليات صفات الله الاخلاقية. فهي نفخة الله الروحية، وفطرته التي فطر الناس عليها، والأمانة التي حملها الانسان دون غيره من الكائنات المعروفة[11].

ومن الاخطاء المنهجية التي وقع فيها هذا المفكر ما جاء في تمهيد كتابه الاخير (السيرة النبوية والتأسيس الاخلاقي) من وضع ثلاثة مبادئ منهجية – كما وسمها - وبنى عليها نظريته الفلسفية في السيرة النبوية، وهي: التوسل بالتفكّر، واعتبار الايات، والمواثيق، وما يهمنا في هذا المجال هو التوسل بالتفكّر واعتبار الايات[12].

فمن حيث المبدأ الاول ميّز بين التفكّر والتفكير، فعرّف التفكّر بانه النظر في الاشياء باعتبار صلتها بالانسان جلباً لخير او دفع لشر، او هو النظر في الاشياء من اجل الانسان؛ كأن حقائقها مرتبطه بقيمه. اما التفكير فهو النظر في الاشياء لذاتها لا من اجل الانسان؛ كأن حقائقها مستقلة عن قيمه. لذا فالتفكير انما هو تجريد التفكّر من افقه القيمي. وعليه استنتج بان الاصل هو التفكّر بحيث يكون هو الفكر الفطري الذي يلازم الانسان في كل احواله العادية، في حين ان التفكير هو الفرع بحيث يكون هو الفكر الصناعي الذي يتكلفه الانسان في بعض الاحوال. وكلا الفكرين هو عمل العقل، الا ان العقل الذي يورث التفكّر هو العقل المسدد بالقيم، بينما العقل الذي يورث التفكير هو العقل المجرد من القيم.

يبقى المبدأ الثاني، وفيه ميّز بين الايات والظواهر، حيث اعتبر الايات هي الاشياء من حيث ان معانيها تتجاوز ظاهرها، او هي الاشياء في صلة ظاهرها بباطنها. اما الظواهر فهي الاشياء مردودة الى ظاهرها وحده، كأنه لا باطن لها بالمرة، فيلزم ان الظواهر انما هي تجريد الايات من بعدها المعنوي. واستنتج من ذلك ان الاصل هو الايات التي يتعامل الانسان الفطري معها، اذ دأب الانسان ان يتطلع الى ما لا يظهر من وراء ما يظهر، بينما الفرع هو الظواهر التي يتعامل الانسان الصناعي معها دون التطلع الى ما ورائها.

لكن من حيث التدقيق نرى ان المبدأ الاول المذكور هو مبدأ ابستمولوجي يتعلق بآلية المعرفة البشرية، في حين ان الثاني هو خاصية انطولوجية لها علاقة بتفسير الواقع الخارجي، ومن ثم فتحديدها قائم على المبدأ الاول.

ولو بدأنا بالمبدأ الابستمولوجي فسنلاحظ؛ ان التفكّر وفق الاشتقاق اللغوي والمقارب للمعاني القرآنية هو ابذال جهد اكبر في التفكير بالشيء لغرض التعرف على حقيقته. فالتفكّر هو زيادة في التفكير، والعلاقة بينهما ليست علاقة مقابلة، ولا انها علاقة اصل بفرع، كذلك ان التفكير امر طبيعي وليس صناعياً متكلفاً. وبالتالي فهما من سنخ واحد؛ الا ان احدهما اكثر جهداً وامعاناً من الاخر، والعقل الذي يُنشئِهما واحد غير متكثر، وعندما يكون موضوعهما الظواهر الموضوعية؛ فان العقل المناسب لهما هو العقل المجرد لا المسدد. وهو ذاته يمكنه عبر التفكّر ان يتوصل الى الحقائق الخفية خلف الظواهر، حيث الانتقال من الظاهر الى الباطن. ومن الطبيعي ان تكون البداية الفكرية ناشئة بالتفكير قبل ان تتنمى وتتركز فتتحوّل الى التفكّر والتدبر.

وعندما يستنتج المتفكّر ان وراء ظواهر الاشياء حقائق اخرى خفية، فحينها تمثل الظواهر ايات دالة على الباطن كالذي افاده طه بحق، وقد يكتفى بها عند عدم التوصل الى الباطن؛ فتصبح مجرد ظواهر فحسب من دون ايات. لكن سواء تم التوصل الى الباطن ام لا، فكل ذلك ينبعث عن التفكّر او زيادة التفكير والتعمق فيه، وهو الحال الذي يمارسه العقل المجرد، فهو الذي يسعى الى دراسة وفهم الظواهر بغض النظر ان كانت تدل على الباطن فتصبح ايات ام لا.

ويلاحظ مما قدمنا ان التفكّر ليس بالضرورة عبارة عن النظر في الاشياء باعتبار صلتها بالانسان جلباً لخير او دفعاً لشر، اي النظر لاجل الانسان ذاته والذي يورثه العقل المسدد كما يرى طه، بل هو النظر في الاشياء بما قد تدل على حكمة الله في خلقه، فيدرك المتفكّر ان وراء الظواهر حكمة دون ان تأتي عبثاً وباطلاً، وذلك بغض النظر عن مصلحة الانسان واعتباراته من الخير والشر. وهو الحال الذي توحي به عدد من الايات القرآنية الكريمة[13].

العقول الثلاثة وتقلب الرؤية

اشار طه في (سؤال السيرة الفلسفية) الصادر عام 2023 الى وجود طورين اساسيين مرت به رؤيته حول العقول الثلاثة وتحديداتها الاساسية، ثانيهما اغنى من الاول، وهما كالتالي:

الطور الاول: ويتمثل بالمرحلة السابقة على النظرية الائتمانية التي برزت منذ كتاب (روح الدين: من ضيق العلمانية إلى سعة الائتمانية) الصادر عام 2011. وفي هذا الطور يتصف العقل المجرد بانه العقل الذي ينتزع المعقول من المحسوس ويفصل النظر عن العمل. وان العقل المسدد هو العقل الذي يصل النظر بالعمل ويبث القيم النافعة والصالحة في الواقع. كما ان العقل المؤيد هو العقل الذي يجعل ظاهر العمل تابعاً لباطنه صورة وقيمة، ومتوسلاً بالوسائل الناجعة والمشروعة.

الطور الثاني: ويتمثل بالمرحلة اللاحقة على النظرية الائتمانية. حيث في هذه المرحلة يحتفظ العقل المجرد بمعناه في الطور الاول مع اضافة ان خوض هذا العقل في القيم لا يفيده في شيء؛ باعتباره يخل بشرط اساسي، وهو وصل القيم بالصفات الالهية وكمالاتها، اذ لا قيم بغير اعتبار لهذه الكمالات. وهذا الشرط هو بالذات ما يستوفيه العقل المسدد في الطور الثاني، اذ هو العقل الذي يحتفظ بمعناه في الطور الاول مع اضافة ان القيم مأخوذة من الكمالات الالهية. اما العقل المؤيد في الطور الثاني فيحتفظ بمعناه في الطور الاول مع اضافة ان القيم في صلتها بالكمالات الالهية تجعل العامل بها يتوجه بباطنه الى الذات الالهية نفسها مستدلاً على وجود الكمالات بوجود الذات التي هي اكمل الكاملين.

عموماً ان التمييز بين العقلين المسدد والمؤيد - كما تم تصويره خلال الطور الثاني - هو ان العقل المسدد يصل القيم الاخلاقية بالصفات الالهية وكمالاتها المبلغ عنها؛ بحيث ترتقي على نتائجها في الواقع، بينما يقوم العقل المؤيد بوصل القيم بالذات الالهية فترتقي على اثار الكمالات في هذه النتائج الواقعية. وحينها يلزم ان خُلق الايمان يكون على ضربين: الايمان المسدد والايمان المؤيد.

وبعبارة ثانية، ان العقل المسدد يكتفي بالاستدلال بالصفات الالهية على القيم، اما العقل المؤيد فيستدل بالذات الالهية نفسها على هذه القيم. اذ يسبق الى صاحب هذا العقل “كالنبي” التوجه الى الذات الالهية وخطابها، بينما لا يسبق الى صاحب العقل المسدد الا التوجه الى الصفات وتبليغها.

كما زاد طه على ذلك بان المعرفة تمتلك نفس المراتب التي للعقل، فهناك معرفة مجردة، يتميز بها المتفلسف التجريدي، ومعرفة مسددة يختص بها الفيلسوف الصدّيق، ومعرفة مؤيدة يتفرد بها النبي. وكل معرفة عليا تتضمن ما دونها وتزيد عليها توسيعاً وتكميلاً، فيلزم ان المعرفة المسددة تتضمن تصورات واستدلالات كما تتضمنها المعرفة المجردة، غير انها تكون موسعة ومكملة، اما تصورات واستدلالات المعرفة المؤيدة فهي الاوسع والاكمل.

وحقيقة نجد تحولاً في الموقف ازاء العقول – وبالذات العقلين المسدد والمؤيد - كما جاء في (سؤال السيرة الفلسفية) مقارنة بما قبله من مؤلفات. فقد تمت اضافة بعض الحمولات النظرية، كما تم السكوت عن اشياء متعلقة بهما. فمن حيث الحمولة النظرية الادعاء بوصل القيم بالصفات الالهية وكمالاتها كما في العقل المسدد، ولا يبدو ان هذا الحال كان معهوداً خلال المرحلة اللاحقة على النظرية الائتمانية، بل ظهر اول ما ظهر لدى كتابه المشار اليه. ايضاً تم السكوت عن اشياء مثل ان العقل المسدد في كتابه الانف الذكر ممدوح من دون شائبة، وانه يخلو من التقييد باتباع الشرع، كما ان ممثليه عبارة عن الفلاسفة “الصدّيقين” والانبياء قبل النبوة. في حين اعتبر هذا العقل فيما سبقه من كتب ودراسات قائماً على اصول الشرع رغم حمله لبعض الشوائب، وان ابرز ممثليه هم الفقهاء الذين انتقدهم طه بمستويات مختلفة من النقد، اعلاها درجة هي تلك التي برزت في (روح الدين)، حيث اعتبر اعمالهم طغياناً. اما العقل المؤيد فهو ممدوح في جميع الاحوال، لكن اتباعه في (سؤال السيرة الفلسفية) هم الانبياء، كما سنسلط الضوء على ذلك فيما بعد، في حين قبل هذا الكتاب يتمثل اتباعه بالصوفية دون ذكر الانبياء.

وعلى العموم نجد في هذا التحول شيئاً من الارباك وعدم الضبط المعرفي.

العقلانية  وأشكالها

لقد احتفظ طه بمصطلح العقلانية، ومثلها الحداثة، وعدد من المصطلحات الاخرى الناشئة بفعل تطورات الثقافة الغربية دون ان يتجاوز اشكالياتها او يعمل على استبدالها بالفاظ اخرى مناسبة لثقافتنا العربية والاسلامية، بل اضاف اليها الفاظاً دالة على الخصوصية، فمثلما توجد عقلانية وحداثة غربية؛ توجد في قبالها عقلانية وحداثة اسلامية.. وهكذا صاغ مفاهيمه في هذا الاطار كرد فعل على المفاهيم الغربية من دون تجاوز.

ففي (سؤال الاخلاق) الصادر عام 2000، ووفق تصنيفه الثلاثي للعقل، ميّز بين مفهومين للعقلانية؛ احدهما يعود الى اليونان والغرب، والثاني يعود الى ما دعا اليه، فاعتبر المفهوم الاول يتمثل بالعقلانية المجردة عن الاخلاقية، وهي التي يشترك فيها الانسان مع الحيوان، والثاني يتمثل بالعقلانية المسددة بالاخلاقية، وهي التي يختص بها الانسان دون سواه. ونقد التقسيم القائل بان العقلانية هي نظرية وعملية، والاولى لا اخلاق فيها، والثانية تنبني على الاخلاق. حيث اعتبر العقلانية النظرية إن امكن وجودها فلا يمكن ان يتفرد بها الانسان. اما الثانية العملية فلا يجوز ان تكون النظرية اصلاً لها ولا في مرتبتها.

لكنه لم يتوقف عند هذا الحصر للعقلانية، فقد سبق له في (اللسان والميزان أو التكوثر العقلي) الصادر عام 1998 ان اشار الى وجود عقلانيات كثيرة ومفتوحة، واصطلح على ذلك بالتكوثر العقلي. واكد هذا المعنى بعد اكثر من عقد من زمان صدور هذا الكتاب، فقد صرّح في حوار له عام 2011 بانه اصبح على يقين بان العقلانيات اكثر من ان تحصى، ومن يريد ان يحصيها كمن يريد احصاء افعال الانسانية في كل ازمنتها وامكنتها. وبذلك اصبحت فكرة العقلانية سيالة منبسطة من دون حدود.

كذلك فان هذا المفكر لم يكتفِ بجعل الانسان والحيوان يشتركان في “العقلانية المجردة” كما في (سؤال الاخلاق)، بل اعترف في بعض كتبه – كما سنرى - بان العقل ينبسط على الحيوان والبكتيريا والخلايا ومجمل الكائنات الدقيقة فضلاً عن النباتات. لذا فهذا يعني انه اذا كانت العقلانية تصدق مع الحيوان مثلما تصدق مع جميع افعال الانسان؛ فلِمَ لا تصدق ايضاً مع هذه الكائنات من البكتيريا والخلايا والنباتات؟ فأي منزلق هذا الذي يؤدي اليه المفهوم الجديد للعقلانية غير المنضبطة والفاقدة للمعنى؟ وهل يمكن لشيء ما ان يميزها عن اللاعقلانية؟ بل هل يوجد شيء يمكن وصفه بانه لا عقلاني غير هذا المفهوم ذاته؟!

ثم ان طه في (سؤال الاخلاق) جعل من عقلانية الاسلام اسمى عقلانية ممكنة بفعل ما سماه، وفق بعض روايات الحديث النبوي، بشق الصدر وغسل القلب، وان عقل المسلم اسمى عقل ممكن. وطالب بتعريف غيرنا بواقعة شق الصدر وما اسماه باخلاق شق الصدر. ورأى ان من لم يسلّم نفسه لمثل هذه الجراحة وغسل القلب على سبيل المجاز لن يكون له من التجديد الجذري نصيب، حتى لو توهم انه جمع من الاخلاق ما جمع؛ لأنها لم تكن الا اخلاقاً فرعية وظاهرية، اي اخلاق قشور لا اخلاق جذور. حيث حادثة الشق تحقق الجمع بين العقل والقلب. واشار الى ان أحداث مثل الميثاق الاول – كما ورد في النص القرآني لآية الذر - وشق الصدر وتحويل القبلة هي ما تمثل اركان النظرية الاخلاقية الاسلامية، بل وتمثل عقلانية جديدة هي عقلانية الميثاقية في قبال العقلانية غير الميثاقية. فوراء الاولى افق الالوهية، في حين وراء الثانية افق الادمية.

وهنا يلاحظ ان العقلانيات كما في (سؤال الاخلاق) جاءت محددة وليست مفتوحة بلا حدود كالذي أكد عليه قبل وبعد هذا الكتاب.

بل اكثر من هذا انه في (سؤال الاخلاق) تمسك بالخيال مع العقلانية بتبرير مستمد من ان العقلانية الحديثة مبنية على جملة من الخيالات والمثالات التي تستند الى نظريات علمية. ورأى انه لا معنى للتفريق بين الخيال الممكن وغير الممكن بحجة ان التفريق بينهما يعود الى حكم العقل وحده، وهو برأيه غير معقول، اذ رأى ان العقل لا يستقل بنفسه وانما يزدوج بالخيال.

وزاد على ذلك في (الحق العربي في الاختلاف الفلسفي) الصادر عام 2006؛ فنقد متفلسفة العرب لفصلهم بين الاستنتاج والتخييل، واخراج القول عن وصفه التخييلي الى وصف استنتاجي.. لذلك دعا الى الفلسفة الحية التي توظف الجانب التخييلي من الدليل خلافاً للفلسفة الخالصة. واعتبر الدليل الفلسفي لا يكون دليلاً حياً حتى تزدوج بنيته الاستنتاجية المشتركة ببنية تخييلية خاصة. وانه لا بد من تقديم التخييل على الاستنتاج.

لذلك مجّد فعل ابن طفيل في حكاية (حي بن يقظان) الذي سلك الطريق التمثيلي والتخييلي بدل الطريق التجريدي الاستنتاجي كما سلكه ابن رشد ومن قبله ابن باجه. وتأسف على سد الطريق الذي فتحه ابن طفيل من قبل ابن رشد. واعتبر انه لولا ذلك لكان للفلسفة العربية اليوم شأن اخر. وهو في (سؤال السيرة الفلسفية) وصف عمل ابن طفيل بانه لبيان دور الفطرة في الوصول الى ما يوصل اليه الشرع.

لكن طه لم يتعرض الى الفكرة المحورية لحكاية ابن طفيل الدائرة حول الاتفاق الحاصل بين الفلاسفة والعرفاء، كما في النهج الاشراقي. فحكاية ابن طفيل تدعم المنحى الفلسفي اليوناني الذي يعارضه طه، وانها تجمع بين مسلك العرفان النظري والمنهج الفلسفي التقليدي من دون قطيعة. وكل ذلك لا ينسجم مع ما يدعو اليه هذا المفكر.

وسبق للجابري ان اخطأ هو الاخر في تصوير مسلك ابن طفيل، حيث صنّفه ضمن النظام البرهاني بمعية ابن باجة وابن رشد، متجاهلاً المنحى العرفاني الذي اكد عليه في مقدمة حكايته وفي ثنياها. والغريب والطريف في الوقت ذاته، ان الجابري وطه “تشطّرا ضرعيها” وتناصفا في الاخذ بما جاء به ابن طفيل!

ما الذي يميز الانسان عن الحيوان؟

سبق ان لاحظنا بان طه نفى ان تكون خاصية العقل المجرد هي ما تميز الانسان عن الحيوان، فهذا ما أكد عليه في العديد من كتبه. فذكر ان للحيوان بعض النسب من هذا العقل في اشتراكه مع الانسان. وقصد بذلك ان تجريد العقل لا يخلو من حس، حيث بهذه الخاصية يشترك مع الحيوان. وفي المقابل اعتبر الخاصية الجوهرية التي تميز الانسان عن الحيوان هي القيم الاخلاقية؛ لأن منبعها الفطرة الانسانية من دون ان ترتبط بالحس كما في العقل المجرد.

ورغم انه جعل القيم الاخلاقية هي ما تميز الانسان عن الحيوان دون العقل، لكنه مع ذلك اعتبر العقل المسدد هو ما يفي بهذا النحو من الانسانية دون العقل المجرد.

والسؤال الذي يتبادر في هذا الصدد: لماذا استخدم هذا المفكر لفظ “العقل” على الخاصية المسددة دون الاخلاق؟ اذ يمكن ان يصطلح على هذه الخاصية بالاخلاق المسددة، وفوقها الاخلاق المؤيدة، من دون ان يستخدم لفظ “العقل” في المفهوم كتمييز للانسان عن الحيوان. ويمكن ان يصطلح على المرتبة الاولى بالاخلاق المجردة، خاصة وانه في بعض حواراته اعترف بان الفعل النظري للعقل هو فعل خُلقي مثل سائر جميع افعال الانسان باعتباره يجلب لنا مصلحة او يدفع عنا مفسدة، وهو بهذا الاعتبار جعل الفعل النظري فعلاً خُلقياً، بل واعتبر العقل جزءاً من الاخلاق، وذلك خلافاً لما تم التأكيد عليه في مناسبات عديدة بأن العقل المجرد يخلو من القيم الاخلاقية.

مهما يكن يصبح التقسيم وفق ثلاثية الاخلاق يناسب اطروحة هذا المفكر دون ثلاثية العقل التي توحي بالتناقض.

كذلك انه يعرّف الانسان بامتلاكه للعقل المسدد، في الوقت الذي يعتبر هذا العقل قائماً على اصول الشرع واخذ القيم من نصوص الوحي، وبالتالي فهل العقل المسدد يعبر عن الانسان عامة ام يعبر عن الانسان المتدين؟ هذا ان لم نقل الفقهاء ومن على شاكلتهم قبل ان يتغير الحال في (سؤال السيرة الفلسفية)، حيث الفلاسفة الصديقون والانبياء قبل النبوة هم من يمثلون العقل المسدد.

وثمة مفارقات اخرى حول العلاقة بين الاخلاق والعقل كما سنرى.

أما الاستدلال المناط بعلاقة الانسان بالاخلاق دون العقل، كما اشرنا اليه سلفاً، فيمكن معارضته من جانبين، احدهما له علاقة بالقيم الاخلاقية، والاخر بالعقل المجرد، وذلك كالتالي:

1ـ المعارضة الخُلقية:

من حيث القيم الاخلاقية يمكن ان نلاحظ بان المعيار الذي اعتمده طه في الاشتراك العقلي ببعض النسب مع الحيوان؛ يصدق ايضاً مع الاشتراك الخُلقي بين الانسان والحيوان، بدلالة تصرف بعض الحيوانات بطريقة ايثارية واضحة ولو بنحو الدافع الغريزي، مثل بعض الطيور التي تتظاهر بأن أجنحتها مكسورة لتصرف نظر مفترسيها عن ذريتها، بل وقد تُعرِّضُ نفسَها للافتراس باطلاق صفارات انذار لانقاذ المجموعة. كما ان من الحيوانات من تعمل على الاضرار بنفسها لتقديم الفائدة للغير، مثل تلك التي تقوم بتحذير فرائسها كما تفعل بعض الأفاعي[14].. وبالتالي يمكن ان يُستنتج بان لها درجة منخفضة من الحس الاخلاقي.

وتأكيداً لهذه الناحية اعترف طه في (سؤال السيرة الفلسفية) بوجود نوع من الاخلاق لدى الحيوان. ففي معرض نقده لابن باجة ميّز بين الاخلاق الغريزية والاخلاق الفطرية. فالغريزة مشتركة بين الكائنات الحية، والفطرة تفرد بها الانسان لانها ناتجة عن معرفته الاولى بصفات ربه عندما اشهده على ربوبيته.. لذا فهناك نوعان من الاخلاق: احدهما نشأ عن الاستجابة لاستعدادات الغريزة، والاخر نشأ عن الاستجابة لقيم الفطرة. والحيوان لا يملك من الاخلاق الا الاخلاق الغريزية، حتى ولو كانت محمودة، اما الانسان فيختص بالاخلاق الفطرية، غير انه قد يملك من الاخلاق الغريزية نصيباً لاشتراكه مع الحيوان في بعض الاستعدادات الغريزية، وهي بالتالي افعال اضطرارية حتى ولو كانت مقبولة او مستحسنة، خلافاً للاخلاق الفطرية الناتجة عن افعاله الاختيارية.

كما اشار الى ان الحيوان على خلاف الانسان لا يتصور مفهوم القيمة حتى ولو ادرك الشيء الذي يحملها او تخيله في غيابه. والذي لا يتصورها لا يمكن ان يأتي بافعال خُلقية او فضائلية، وكل ما يأتي به هو افعال خَلقية او طباعية. فالحيوان لا فضائل خُلقية له؛ لأنه في افعاله يصدر عن قوة الغريزة لا الوعي بالقيمة.

لكن من حيث الواقع نجد ما يثبت عدم صحة هذا الرأي. فقد كشفت بعض التجارب العلمية التي اقيمت على اصناف من القرود انها تتصرف بدرجة من الوعي بالقيمة دون ان يكون تصرفها طباعياً او غريزياً بالمعنى المألوف. فقد لوحظ في مقالة مثيرة بعنوان: (القرود ترفض عدم المساواة في الأجر) عام 2003، ان بعض انواع القردة الذكية، مثل قردة الكبوش او السعدان القلنسوي، ترفض استلام مكافأة ناقصة مقارنة بنظرائها عند اداء نفس الجهد المطلوب. وتم الاستدلال من خلال هذه التجارب على وجود اصل في تطور اخلاق الانسان عن الحيوان[15].

وبلا شك ان هذه التجارب تدل على وجود شيء من الوعي يخص ما يمكن تسميته بالعدالة الانانية في قبال العدالة الايثارية، حيث فيها يتم رفض استلام المكافئات الناقصة مقارنة بالاقران، فيما الاخرون يتقبلون المكافئات العالية من دون مبالاة لنظرائهم.

2ـ المعارضة العقلية:

يلاحظ من الناحية العقلية ان سمة التجريد هي الاساس في التمييز بين الانسان والحيوان، اذ يشترك الانسان مع الحيوان في الحس والخيال والوهم والنفس، لكنه لا يشترك معه في التجريد، فالحيوان ليس له ادنى قابلية على انتزاع هذه السمة الخاصة، فهو لا يمتلك القابلية على تصور الكليات الذهنية ولا المعدومات ولا المفاهيم وغيرها من المجردات. وهذا ما جعل واضعي تعريف الانسان يقتصرون على العقل المجرد الذي لا يشاركه فيه الحيوان. بل ان هذا العقل هو الاساس الذي يتقوم به الوعي النظري والاخلاقي، كما انه الاساس الذي يتميز فيه الحق عن الباطل، ولولاه ما كان من الممكن التمييز بينهما أبداً. وسوف نسلط الضوء على هذه النقطة في مراجعة مقبلة ان شاء الله.

لذلك ليس من الصحيح ما ادعاه طه بوجود نسبة مشتركة بين الحيوان والانسان، فحالة انتزاع الكليات من الجزئيات الحسية ومن ثم انتزاع الاجناس من الانواع وهكذا الى اعلى مراتب التجريد هي ما يفتقر اليها الحيوان دون ادنى نسبة.

وحتى القول بوجود نسبة يحملها العقل المجرد من الحس، فليس هذا ما يحصل دائماً، فالتجريدات العالية الاجناس ذات السمة العدمية لا تحمل مثل هذه النسبة، مثل تصوراتنا للعدم المطلق، فهو من الموجودات الذهنية لكن دون ان يحمل شيئاً من الحس مثلما يحمله تصورنا للانواع الكلية كفكرة الانسان. واذا كان لهذه التصورات اسبابها الحسية غير المباشرة، فان هذه الاسباب انما هي اسباب شرطية وليست ذاتية، فالحس في حد ذاته لا ينقلنا الى مثل تلك التجريدات العالية.

كما ان بعض التصورات العقلية، رغم ان لها حقيقة موضوعية الا ان هذه الحقيقة ليست حسية ولا طبيعية، مثل تصوراتنا للضرورات العقلية، كالضرورة الرياضية والسببية العامة وغيرها من انواع الضرورات بما فيها الضرورة الاخلاقية. لذلك لا تنشأ هذه الضرورات في وقت مبكر لحياة الانسان رغم توفر الحس بشكل تام، وبحسب عالم النفس التنموي الفرنسي جان بياجيه فان الضرورة الرياضية مثلاً لا تظهر قبل سن الثالثة عشر من عمر الانسان تقريباً.

واكثر من هذا، لو اننا تخيلنا الاستغناء عن العقل المجرد، لاستحالت معارفنا ولما امكن التمييز فيما بينها، ولا حتى كان من الممكن ان نبني نظاماً قائماً على الاخلاق والعمل. لذا فمن المنطقي ان يتم الربط بين العقل والانسان مع ضرورة اخذ اعتبار خاصية الارادة، ومنها الارادة الاخلاقية، فضلاً عن الهيئة الجسمية. فالعقل والارادة هما الشرط الاساس لقيام الاخلاق، فلولاهما ما كان لها ان تقوم، لكنها تمثل الكمال الذي ينشده الانسان. وبالتالي فالعقل والارادة – بما فيها الارادة الاخلاقية - مع الهيئة الجسمية هي الخصائص التي يتميز بها الانسان، وان السمو الاخلاقي هو من اهم الكمالات التي يعيها هذا الكائن بفطرته.

وعلى العموم انه من الناحية الابستيمية الصرف ان العقل المجرد هو الاساس في تعرفنا على العقل العملي وتقدمه عليه من حيث النظر والاستدلال والتمييز وما الى ذلك بكافة اشكاله ومنه الاخلاقي، وليس العكس كما يدعي طه من دون دليل معتبر. فمن المحال قلب صورة العلاقة في تقدم العقل النظري على العملي بشتى اصنافه ونظرياته، سواء تم ذلك بوعي أم بغير وعي. ولا يعني ذلك المفاضلة بينهما، فالتكامل بين الوظيفتين واضح تماماً. لكن تكمن اهمية المعرفة المجردة الاساسية – ولو بغير وعي - في انها تمثل مفاتيح لتشغيل سائر المعارف الاخرى النظرية والعملية. وما مشروع طه عبد الرحمن الا أحد تطبيقات هذا المبدأ العام، فهو يستخدم اساليب العقل المجرد لتمرير اطروحته التي غايتها توهين وتهميش هذا العقل المؤسِس الذي يتكئ عليه.

ويا لها من مفارقة!

***

لقد اشرنا فيما سبق الى ان طه جعل العقل متكثراً ومنبسطاً على كافة الكائنات الحية بما فيها الكائنات الدقيقة كالخلايا والبكتيريا والنباتات وغيرها. ففي (اللسان والميزان أو التكوثر العقلي) الصادر عام 1998 حاجج بانه اذا كانت هناك كائنات اعقل من الانسان كما يرى الفلاسفة اليونانيون واتباعهم، وهي من ثم اولى بالعقلانية منه، فما المانع من ان تكون الموجودات الدنيا هي الاخرى عاقلة. ثم قال: “ويظهر لي ان دعوى خلو ما دون الانسان من العقل هي مجرد ظن وتخرص فلا تعتبر، واذا كان الامر كذلك فيجوز ان يوجد العقل حيث توجد الحياة، فتتفاوت العقول سعة وصحة بتفاوت الحياة طاقة ولطافة”.

لكن طه جعل من الممكن ايضاً افتراض ما ينافي قوله السابق، حيث اراد ان يبين بان الاصل في التكوثر العقلي يمكن ان يأتي من خلال واحد من امور ثلاثة، وقام بتعدادها ومنها الامر الذي ذكرناه سلفاً، كما ذكر امراً اخر وهو انه قد يكون العقل على فترات، فليس بالضرورة ان يلازم العقل صاحبه ملازمة لا فكاك معها. بمعنى ان العقل قد لا يكون وصفاً قائماً بالانسان على الدوام.

وموضع المنافاة بين الشاهدين هو ان جواز انفكاك العقل لدى الانسان لا يمنع منه الحياة، كما في حالة المجنون والمغمى عليه مثلاً. لكن هذه الحالة لا تتسق مع القول بامكانية تلازم العقل مع الحياة، فحيث ثمة حياة فثمة عقل، كما في النباتات والكائنات الدقيقة.

واذا كان طه في (اللسان والميزان) قد اجاز امكانية التكوثر العقلي وانبساطه على الكائنات الدقيقة والنباتات، فانه في (التأسيس الائتماني لعلم المقاصد) الصادر عام 2022، اكد هذا الاعتقاد، حيث ميز بين نوعين للعقل، احدهما سماه بالعقل الغريزي، وهو الذي يشترك فيه الانسان مع غيره من الكائنات الحية بما فيها الكائنات الدقيقة كالخلايا والبكتيريا والنباتات وغيرها، وهي تتفاوت بالرتب. والاخر اسماه بالعقل الفطري وهو المميز للانسان، وادعى انه لا يحصّله الا الانسان المؤمن بالشرائع؛ لان اصل هذه الشرائع عائد الى الفطرة، والفطرة لا تتصف بها التصرفات الا اذا اتبعت فيها شريعة من الشرائع، وابلغ التصرفات اتصافاً بها هي تلك التي تأتي على وفق اكمل الشرائع، وعلى هذا يكون الدين متضمناً لهذا العقل الفطري.

ومعلوم ان اطلاق اصطلاح العقل الغريزي على النباتات والكائنات الدقيقة غير مألوف. بَيْد ان الشاهد هو ان طه يجعل من العقول المتكثرة ما تنبسط على كافة الكائنات الحية ومنها الدقيقة. وسبق ان عرفنا بانه يجعل الانسان والحيوان يشتركان في “العقلانية المجردة”، وأشرنا وقتها بانه اذا كانت العقلانيات متكثرة ومفتوحة بلا حدود، حتى انها تشمل الحيوان مثلما تشمل جميع افعال الانسان، لذلك لِمَ لا تنبسط ايضاً على كل كائن حي يمتلك عقلاً بما فيها البكتيريا والكائنات الدقيقة والنباتات؟! ومن ثم انتهينا الى ان مفهومه عن العقلانية هو مفهوم غير عقلاني.

وما نضيفه هنا هو محاججته بانه اذا كان العقل يقترن بالحياة كما يؤكده هذا المفكر، ففي هذه الحالة لِمَ لا ينبسط هذا العقل ايضاً على كافة الجمادات او المواد التي لا تظهر فيها الحياة؟ لا سيما ان النص القرآني يشير الى ما تتسم به من ادراك[16]. ويصبح الادراك في هذه الحالة مرادفاً للعقل، فتنوعات الادراك ومراتبه هي ذاتها تنوعات العقل ومراتبه.

يضاف الى انه لو اعتقدنا بالتكوثر العقلي كما دعا اليه هذا المفكر؛ لكان من الممكن ايجاد عقول مفتوحة دون ان تتوقف على الثلاثة التي ذكرها، فقد تكون اكثر من ذلك، كما يمكن ان تتداخل فيما بينها فتصبح كثيرة من دون حد واحصاء.

كذلك انه اذا كان العقل الفطري يختص بالانسان المؤمن، وان العقل الغرائزي هو خاصية الكائنات الحية الاخرى، فما هي خاصية العقل المناطة بالانسان غير المؤمن؟ كيف يمكن لغير المؤمن ان يكون بلا عقل فطري رغم انه يمارس الفعل الاخلاقي حتى وان لم يعترف نظرياً بالفطرة الروحية والاصل الميتافيزيقي للاخلاق؟

بل ان هذا التقرير لا يتسق مع ما افاده في نفس كتابه (التأسيس الائتماني لعلم المقاصد)، حيث اعتبر الفطرة تتأسس على الاشهاد، وادعى انه مشترك بين البشر وفق تأويله لآية الميثاق او الذر، وانها اخذت تحتفظ وتستذكر هذا الميثاق، ولزم ان ترث بعض اوصاف الاشهاد، واهمها الميثاقية.

واكد هذا المعنى في عدد من كتبه، فاعتبر المسائل الاخلاقية العامة فطرية يشترك فيها كافة البشر. ومن ذلك انه في (سؤال السيرة الفلسفية) حسِب القيم الاخلاقية ليست قيماً ذاتية تختلف باختلاف الافراد والجماعات، بل هي قيم موضوعية ترتبط بما لا تدركه الحواس مما في باطن الانسان، وهو الفطرة. فالانسان فُطر على القيم الاخلاقية كفطره على الدين توحيداً لربه.

وقبل ذلك، وبالتحديد في (روح الدين) الصادر عام 2011 اعتبر الفطرة هي الذاكرة الروحية الغيبية التي خُلق بها الانسان اول ما خُلق. كما وقبل ذلك في (سؤال الاخلاق) عرّف الفطرة بأنها شعور اخلاقي يولد به الانسان في كمال خلقته.

وبذلك كان ينبغي ان يقرّ بان العقل الفطري عام يشترك فيه البشر، بغض النظر عن الاعتقاد بالشرائع، دون ان يكون خاصية المؤمن فحسب. وحتى مع قوله بان اصل الشرائع هو الفطرة، وان الفطرة والدين متطابقان كما جاء في (شرود ما بعد الدهرانية)، لا يمكن فهمه الا من حيث القيم العامة المشتركة التي تؤكد عليها هذه الشرائع. فهذه القيم هي ما يدركها الانسان بفطرته، سواء اعتقد بالشرائع والاديان ام لم يعتقد. ولا يوصف الشيء بانه فطري ما لم يكن متهيئاً للبصيرة والادراك المستقل دون اعتبار للعوامل الخارجية والكسبية، وذلك ضمن اطار العقل القبلي وفق تقديرات العقل النظري المجرد.

وثمة مفارقة اخرى ضمن ما ورد له من حوار ضمن (حوارات من اجل المستقبل) الصادر عام 2000، حيث اعترف بان القوى الادراكية للانسان على اختلافها متصلة بعضها ببعض، فلا توجد قوة حسية خالصة، ولا عقلية خالصة، ولا روحية خالصة، ففي القوة الحسية بعض من العقل، وفي القوة العقلية بعض من الروح، والعكس صحيح، واذا جاز وجود هذا الاتصال بين مختلف القوى الادراكية جاز ان تكون التجربة الروحية مكملة للنظر العقلي من دون انقطاع وانفصال.

واضاف بأن اعتبر الحدس والاستدلال بمنزلة لغتين او وجهين لحقيقة واحدة. واعتبر الحدس هو استدلال مطوي، وان الذوق هو عقل مطوي، كذلك ان الاستدلال هو حدس منشور، وان العقل هو عقل ذو منشور.

وكما يلاحظ في هذه الحالة انه لا يوجد تمايز بين القضايا الاخلاقية وغيرها مثلما ادعاه في عدد من مؤلفاته. فطالما ان القوى الادراكية بعضها ينطوي على البعض الاخر؛ فانه لا تمايز جوهري بين هذه القوى، انما يمكن القول بوجود تفاضل من دون تمايز جذري.

وحقيقة ان القضايا الاخلاقية لا تختلف عن الضرورات الاخرى في ان منشأها لدى الانسان لا يأتي الا بشكل متأخر من حياته الحسية. ففي مرحلة الطفولة لا تتولد هذه القضايا بشكلها الضروري رغم توفر الحس والخيال، لكنها تنبثق فجأة في بعض المراحل المتقدمة من عمر الانسان. واذا كان لبعضها السبق على البعض الاخر فالمتوقع ان القضايا المنطقية ومنها الرياضية تكون سابقة على غيرها لوضوحها التام.

والغريب هو ان طه استثنى من القضايا التي مردها الحس مسائل الاخلاق العامة التي اعتبرها فطرية دون ان يكون اساسها الحس، في حين اعتبر مصدر الضرورات الرياضية والمنطقية عائداً الى الحس ذاته، كما سنرى خلال مراجعتنا المقبلة. هذا على الرغم من ان هذه الضرورات اكثر وضوحاً من حيث الحدس العقلي والبعد عن الحس مقارنة بالمسائل الاخلاقية العامة.

الاخلاق والدين

لقد تفرّد طه عبد الرحمن بتوحيد الدين والاخلاق، فاعتبرهما شيئاً واحداً. فكل ما هو ديني هو اخلاقي، وكل ما هو اخلاقي فهو ديني. فلا دين بلا اخلاق ولا العكس. لكنه مع هذا اعتبر الأصل عائداً الى الدين، ناقداً من يتنكر ويتناسى الاصول الدينية للخطاب الاخلاقي. وهو الحال الذي اكده في عدد من كتبه وعلى رأسها (سؤال الاخلاق)، ومن ذلك قوله بان الاخلاق مستمدة من الدين المنزّل، والانسان بموجب اخلاقيته لا يستطيع التجرد كلياً من حال التدين اطلاقاً، لهذا وصف عبارة (الاخلاق العلمانية) بالتناقض، كالذي جاء في (روح الحداثة) الصادر عام 2006. رغم انه في بعض مواضع (سؤال الاخلاق) صرح بانه لا ينبغي للاخلاق ان تبنى على غير دين. وهو تصريح لا يتسق مع تأكيده للعلاقة الموحدة بينهما.

ان رد الاخلاق الى الدين يجعل تعريف الانسان اولى بان يكون كائناً دينياً قبل اعتباره كائناً اخلاقياً. والسبق هنا بحسب الرتبة لا الواقع الفعلي المفترض، حيث العلاقة بينهما موحدة وفقاً لهذا المفكر الثيولوجي. وفعلاً اعتبر انه لا انسان بغير دين، ومن ثم قيّد الاخلاق بالدين كما في عبارة (الاخلاق الدينية).

ومن وجهة نظر هذا المفكر ان بناء الاخلاق على الدين قد جاء وفق مسلمتين، احداهما مباشرة، حيث يتم فيها تلقي خبر الاخلاق من الوحي الالهي والتأسي بالرسول الذي جاء بهذا الوحي. اما الثانية فغير مباشرة، حيث يتم فيها اقتباس الاخلاق من الدين مع العمل على اخراجها عن وصفها الديني الاصلي او مع التستر على اصلها الديني كما يفعل العلماني والمادي والناسوتي والطبيعاني والتاريخي. لذلك رتّب على هاتين المسلمتين انه لا انسان بغير دين. وبالتالي يجوز تعريف الانسان بانه الكائن الحي المتدين. فالهوية الانسانية هي في حقيقتها هوية دينية. وعليه يتبين انه لا اخلاق بغير دين. فالاخلاق مستفادة من الدين ومستمدة منه، كما اظهر ذلك في عدد من كتبه.

وقد يتوهم البعض بان الاطروحة التي قدمها طه تتفق مع الرؤية الاشعرية في علاقة الاخلاق بالدين، سوى انها تتوسع بما تحافظ عليه الاشعرية من حدود فهم القضايا الاخلاقية. لا سيما انه في (بؤس الدهرانية) الصادر عام 2014؛ اعتبر الارادة الالهية هي الثابت المطلق الذي هو الاصل في كل قيمة. وخطورة هذه الفكرة هي انه اذا كانت الارادة الالهية هي الاصل في القيم، فما الذي يمنع ان يجعل الله القيم على خلاف ما هي عليه، كالذي تنتهي اليه الاشاعرة؟

ويؤيد هذا الوهم نقده للمتكلمين والفلاسفة في جعل الدين تابعاً للاخلاق، كذلك القول باستقلال الاخلاق عن الدين. واعتبر تذبذبهم دليل ضعف لا قوة. ووافق الفقهاء والاصوليين في تبعية الاخلاق للدين بموجب تسليمهم بان الدين جاء لينظم حياة الانسان في مجموعها، وان اعترض عليهم في عدم جعل الاخلاق ضمن المصالح الضرورية رغم انها اولى من غيرها.

لكن غاية ما ابتغاه هذا المفكر هو تجاوز الرؤى الكلامية، بما فيها الاشعرية، ومثل ذلك الرؤى البيانية لدى الفقهاء، ليصل في النهاية الى المنبع الصوفي القائم على الذوق العرفاني. لذلك امتهن التأويل دون ان يتوقف عند حدود ما يتطلبه النهج البياني، فجعل من الاخلاق والرؤية العرفانية من القبليات التي تُفرض على الفهم الديني، سواء وافقت الظاهر البياني للنص ام خالفته.

وهو من هذه الناحية قارب بين الفكر والاخلاق، فاعتبر الفكر فرعاً للاخلاق. ويمكننا ان نستنتج من ذلك ان الفكر فرع للدين، لتابعية الاخلاق لهذا الاخير.

لكن ما قد يؤاخذ عليه هو ان جزءاً من الفكر والعقل يعتبر متعالياً ومجرداً عن العمل والاخلاق، وهو الذي حسبه ادنى مراتب العقول الثلاثة (المجرد والمسدد والمؤيد)، على عكس ما كان يقوله الفلاسفة القدماء.

وقد يتجنب طه هذه المؤاخذة من حيث انه اراد بالفكر - هنا - هو التفكّر الذي يورثه العقل المسدد، لا التفكير الذي يورثه العقل المجرد، كما ميّز بينهما في كتابه الاخير (السيرة النبوية والتأسيس الاخلاقي).

وهو في (التأسيس الائتماني لعلم المقاصد) أقر بوجود ست قيم (اخلاقية) تتفاضل فيما بينها، وهي بحسب الترتيب التفاضلي: القيم الروحية التي تنزل الرتبة العليا ثم القيم العقدية، وبعدها القيم العملية، ثم القيم العقلية، فالقيم الحيوية، واخيراً القيم المادية التي تنزل الرتبة الدنيا. وهو قد اعتبر هذا الترتيب ائتمانياً.

ورغم ان هذا التقسيم يختلف عما ورد في (الحوار اُفقاً للفكر)، بل وكلاهما يختلف عما جاء في (تجديد المنهج في تقويم التراث) كما سنلاحظ، الا ان ما يهمنا منه هو اعتبار القيم العقدية اعلى رتبة من القيم العملية. هذا على الرغم من ان  المصدر الاساس لاثبات القيم العقدية هو العقل النظري كما نرى، وعليه ما مبرر ان تكون هذه القيم اعلى رتبة من القيم العملية؟

ومن حيث التفصيل اجرى طه تقسيمات على القيم الاخلاقية للعبدية التخيرية، حيث قسّمها الى قسمين رئيسيين، هما القيم الفطرية (او الاسمائية) والقيم الغريزية. والاولى هي القيم التي حصل عليها الانسان في عالم المواثقة، اما الثانية فهي تلك التي حصل عليها الانسان في عالم المعاملة، فتكون خادمة وتابعة للاولى. وقسّم الغريزية الى حيوية ومادية.

اما الفطرية فقد قسّمها الى نوعين: قيم التوحيد الاشهادي، وهو توحيد خطابي وحضوري، واعتبر المثال على هذا النوع هو فيما يسميه المتكلمون بالمعاني السبعة المستنبطة من الاسماء الحسنى، وهي الحياة والسمع والبصر والكلام والعلم والقدرة والارادة. وقد قسّمها بدورها الى فرعين: احدهما القيم العقدية وتشمل قيم الايمان وقيم العزم. والثاني القيم الروحية وتشمل قيم النية والاخلاص والاحسان.

اما النوع الثاني فهو قيم المسؤولية الائتمانية وهي اختيارية وعالمية، ومن امثلتها الوفاء بالعهد والرحمة والاحسان والعدل. رغم انه وضع الاحسان من ضمن امثلة قيم الروحية العائدة الى قيم التوحيد الاشهادي كما ذكرنا. وايضاً قسّم قيم المسؤولية الائتمانية الى فرعين: احدهما القيم العقلية وتشمل قيم النظر والعلم والمعرفة. والثاني القيم العملية وتشمل قيم الاداء والقضاءات والمهارات والفعاليات.

وبالنسبة الى القيم العقلية، فقد اراد طه بالعقلي – هنا - ليس العقل المجرد الذي قطع صلته بالقيم، وانما العقل الذي يضع في الاعتبار وجود القيم حتى ولو لم يلتبس بعد بما هو عملي، اذ لا يسلك من طرق النظر الا ما يفضي الى العمل، ومتى افضى الى العمل صار وصفاً للعقل المسدد.

والغريب ان طه جعل من ضمن القيم الفطرية تلك القائمة على القضايا التي هي محل استدلال وجدل، وليست خاضعة للمدركات العقلية المشتركة بين البشر. اذ لا يمكن اعتبار الشيء فطرياً ما لم يدرك ادراكاً مباشراً من دون كسب واستدلال. لذلك كان من الخطأ ان يضع القيم المتعلقة بالصفات الالهية السبعة وفق التصور الاشعري ضمن القيم الفطرية. وكذا هو الحال فيما يتعلق بالقيم العقدية، حيث انها مرتبطة بالاستدلال وليست فطرية، خلافاً للقضايا العملية المرتبطة اساساً بالجوانب الاخلاقية العامة، فالعمل - كما يقول طه على ما سبق ذكره - هو جملة سلوكيات او تصرفات توصف بالحسن والقبح او الخير والشر، ومن ثم فهي داخلة في باب الاخلاق. وهي واضحة من حيث الفطرة، لذلك حسِبناها مقدمة على العقدية وفق هذا الاعتبار.

وسبق ان اشرنا الى ان طه جعل القيم العقدية تشتمل على قيم الايمان وقيم العزم، في حين انه في (سؤال العمل) جعل الاعتقادات ضمن شعبة الايمان، كاحدى المفارقات، كما ادرج شعبة الايمان ضمن شعب الدين، كما سنعرف، وفي الوقت ذاته اعتبر الاخلاق اساساً للدين، وهو ما يعني ان القيم العملية (الاخلاقية) هي اساس المعتقدات او الايمان، ومن ثم كان يفترض ان تكون القيم العملية اعلى رتبة من القيم العقدية، مع اخذ اعتبار انه جعل كلا الصنفين من القيم ضمن القيم الاخلاقية، لكن من الواضح ان القيم العملية فطرية في حد ذاتها، في حين ان القيم العقدية حتى ولو جعلناها ضمن القيم الاخلاقية؛ فانها ليست فطرية خلاف ما ادعاه هذا المفكر، باعتبارها مستندة الى الدليل المتعلق بالجانب العقدي.

كما من المفارقات انه اعتبر من ضمن القيم الاخلاقية القيم العقلية والقيم الغريزية التي تتضمن القيم الحيوية والمادية، في حين قابل في (سؤال السيرة الفلسفية) بين القيم الاخلاقية من جهة، وبين هذه القيم المذكورة من جهة ثانية، فذكر بان القيم انواع كثيرة، بدءاً بالقيم الفكرية والمعرفية وانتهاءاً بالقيم الحيوية والغريزية، لكنه اعتبر القيم الاخلاقية افضل القيم باطلاق. فاشار الى عدة اعتبارات لهذه الافضلية، منها ان القيم الاخلاقية هي القيم التي تتحدد بها الاعمال الصالحة، ومنها انها موضوعية وفطرية، كما منها انها قيم كمال، وقيم الكمال لا تصدر الا عن الذات الكاملة.

فهنا نجد مقابلة بين القيم الاخلاقية من جهة، والقيم الحيوية والغريزية وغيرها من جهة ثانية، دون ان يجعل من هذه الاخيرة متضمنة في القيم الاخلاقية كما فعل في (التأسيس الائتماني لعلم المقاصد). بل ولم يجعل القيم الحيوية ضمن القيم الغريزية مثلما فعل في الكتاب الاخير. هذا على الرغم من ان المدة الفاصلة بين صدور الكتابين هي سنة واحدة لا غير، حيث صدر الاخير عام 2022، أما الاول فقد صدر عام 2023.

***

نعود الى ما كنا عليه.. فرغم ان طه رد الاخلاق الى الدين كما اوضحنا، لكنه مع ذلك لا يفهم الدين بغير الاخلاق الموسعة، لذلك لا يتردد في تأويل الاية القرآنية القائلة: ﴿وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ﴾، حيث اعتبر لفظة (ليعبدون) في الاية تعني ليتخلقون. بل اشار الى انه عمل على رد مفهوم الدين كله الى الاخلاق، وان الاخلاق في الاسلام هي الاصل في كل عمل، حتى انه عممها على كل الافعال التعبدية التي دعا الدين اليها لاجل تحصيل سعادة الانسان الاخروية ومنافعه الدنيوية، كالذي جاء في (سؤال الاخلاق). وفي كتاب (التأسيس الائتماني لعلم المقاصد) جعل الاخلاق اساس الاسلام، اي اساس عقائده وتشريعاته، مصداقاً للحديث النبوي: (انما بعثت لاتمم مكارم الاخلاق).

كما جعل الحياء اساس الاخلاق، والاخلاق اساس الدين. بل واعتبر الفطرة هي الحياء، وان الحياء شرط في كل اخلاق الاسلام، فلا اخلاق بغير حياء، فللعدل حياء وللاحسان حياء.. وهكذا. كما ربط علاقة الحياء بعلاقة الانسان بالله من حيث هي علاقة شاهد بمشهود.

وحقيقة ليس هذا بالربط المحكم بين المفاهيم الاخلاقية، بل هو نوع من الاسترسال الانشائي.

وعموماً رغم ان طه جعل للخطاب الاخلاقي اصوله الدينية كما اشرنا، لكنه فهِمَ القضايا الدينية وأوّلَها الى المعنى الاخلاقي. بل واعتبر الاخلاق اعم القيم الانسانية فتدخل تحتها القيم الايمانية وغيرها، كالذي جاء في (الحق الاسلامي في الاختلاف الفكري). فهو قد اعتمد على فهم محدد للدين كصنعة تقابله أفهام اخرى مغايرة.

ويمكن ان نتصور بان طه تعامل مع الدين والاخلاق تعاملاً صوفياً قائماً على الظاهر والباطن. فمن حيث الظاهر يكون الدين مصدراً للاخلاق، اما من حيث الباطن فان الاخلاق هي اساس الدين.

بل ان اعتباره للدين كله اخلاق؛ جعله يضع الخبر الديني بمختلف اشكاله ضمن الخبر العملي الاخلاقي لا العلمي. اذ حاول في (سؤال الاخلاق) ان يرجع كل ما هو وصفي الى عملي، بما في ذلك الخبر في المجال الديني، معتبراً الفصل بين الخبر الديني والقيمة الاخلاقية مستحيلاً.

وحقيقة ان الفهم الموسع للاخلاق ضمن دائرة الدين يجعل مفهوم الاخلاق فضفاضاً لا معنى له. فليس كل ما هو ديني اخلاقي، ولا العكس صحيح. فمن الدين ما له علاقة بالاخبار والوصف، ولا ينزل منزلة الاخلاق، كما منه ما يتفق مع الحدس الاخلاقي، ومنه ايضاً ما نعتبره يدخل ضمن الاخلاق الموضوعية غير الحدسية[17]. وهو ما يعني ان من الاخلاق ما يتقوم بها الدين اساساً، ولولاها ما قامت للدين قائمة.

علاقة الدين بالعلم

من العجب ان يجعل طه من الدين حاملاً لجميع العلوم، كما في كتاب (سؤال العمل) الصادر عام 2012، وذلك قبل ان يغيّر اعتقاده بعد عام من صدور هذا الكتاب، كما في (الحوار اُفقاً للفكر)، حيث اقرّ بان الوحي لم ينزل ليخبرنا عما يستطيع العقل المجرد ان يصل اليه من الحقائق الكونية باجتهاده ونظره، وانما ليذكرنا بالحقائق الاخلاقية التي فطرنا عليها. كذلك ما سجّله في (سؤال السيرة الفلسفية) حيث اعتبر دراسة الواقع هي من نصيب العلوم، وان الحقول المعرفية باستثناء الحقل الاخلاقي تعود الى مجال العلم، ومنها ما تتداوله الفلسفة المجردة، كما سنرى.  

أما في (سؤال العمل) فقد عمم ما يدخل ضمن الدين كل شيء، بما في ذلك العلوم الطبيعية والرياضية والحياتية والانسانية وغيرها. وهو يذكّر باعتقاد بعض القدماء – بالاضافة الى عدد من المعاصرين - أن القرآن يحتوي على جميع العلوم والفنون؛ كالعلوم الطبيعية والرياضية وغيرها، ومنهم العرفاء وعلى رأسهم الغزالي في كتابه (جواهر القرآن)، كذلك عالم اللغة والقراءات ابن الفضل المرسي (المتوفى سنة 655هـ). يضاف الى ما نقله الشاطبي عن جماعة يسلكون هذا المذهب[18].

لقد رأى طه في (سؤال العمل) ان علاقة العلم بالدين هي علاقة تداخل، حيث يكون العلم جزءاً من الدين، وكذا الايمان والعمل كلاهما جزء من الدين. بمعنى ان للدين ثلاثة اجزاء يتضمنها ويتقدم عليها تقدم الكل على الجزء، كما يعلو عليها رتبة. لذلك تقبّل مفهوم التعبد بالعلم؛ باعتباره جزءاً من الدين، وكلما توسع العلم توسع الدين.

لكن طه لم يأخذ بالحسبان ان العلم قد صحح الكثير من النظريات الدينية التي عول عليها العلماء المسلمون استناداً الى بعض النصوص، كتلك المتعلقة بعمر الكون والانسان. فكيف يكون موسعاً للدين، وهو يعمل في مثل هذه الحالة على تضييقه؟! هذا مع الاخذ بعين الاعتبار اننا نتعامل مع الفهم الديني لا الدين ذاته، وان ما يطرحه طه انما يتعلق بفهمه الخاص ضمن أفهام مفتوحة لا تنتهي. بل مرة اخرى ان هذا المفكر يجعل من الدين مفهوماً فضفاضاً، حيث يداخل المفاهيم بعضها ببعض بكلام مرسل من دون ضوابط وحدود.

ووفق هذا التداخل غير المنضبط اكد في (سؤال الاخلاق) بانه ينبغي لجميع العلوم بما فيها الطبيعية ان تخدم الحقيقة الشرعية الاسلامية من جهتين: اما انها كاشفة عن المقاصد الشرعية، او انها ضابطة للوسائل التي تمكّن من الكشف عن هذه المقاصد. حيث لا يكون العلم علماً من جانب الشرع ما لم يكن موصولاً بالحقائق التي اخبر بها الشرع او دلّ عليها.

وهذه من الصياغات الطاهية غير الدقيقة والتي لا تُفرض على العلم الطبيعي والرياضي، بل اذا كان الدين في الماضي هو مَن حدد العلم؛ فان العكس هو من اخذ زمام الامور اليوم، بمعنى ان للعلم سلطة تأثير جعلت الكثير ممن يتناول الدين يضطر الى اعادة تأويل النص الديني حين يبدو بينهما شيء من التعارض الظاهر، وهو امر لم يتعرض له هذا المفكر، بل يستفاد من كلماته انه لا تعارض بين الدين وبين المصادر المعرفية الاخرى وعلى رأسها العقل، كما سيأتي تفصيل ذلك خلال مراجعة قادمة. فالدين من وجهة نظر طه هو الحقيقة الاساسية التي تعمل على تصحيح المصادر المعرفية الاخرى، لكنه في الوقت ذاته يقوم بتأويل الدين استناداً الى هذه المصادر، فينقلب على ما يدعو اليه.

مع ذلك نذكّر بان ما نتحدث عنه انما هو الدين وفقاً للفهم البشري المفتوح، لا كما في ذاته. وان ما يطرحه طه من تصورات دينية قد جاءت وفق فهمه للدين في قبال الافهام الاخرى، رغم انه لم يعالج هذه الاشكالية صراحة، بل كما سنرى انه يوهم القارئ بان ما جاء به يستند الى الدين ذاته في قبال المصادر الاخرى المعارضة وعلى رأسها المصدر العقلي.

ثم ان طه لم يكتف بتوسعة مفهوم الدين، حيث جعل العلم متضمناً فيه كتضمن الجزء في الكل، بل اضاف الى ذلك توسعة العلم بحيث يشتمل على جميع العلوم الدينية والدنيوية كالطبيعية والرياضيات الخ، كالذي جاء في (سؤال العمل).

ويبدو ثمة خلط في العلاقة بين العلم والدين، فالعلم جزء من الدين، لكن في الوقت ذاته ان العلوم الدينية جزء من العلم. ومن حيث التحليل ان العلاقة التي رسمها طه بين العلم الديني والدين هي علاقة تبعث على  الخلط وعدم الضبط. فالعلم الديني يمثل فهماً للدين او يتضمنه، لذا لو اعتبرناه جزءاً من الدين فسيصبح الفهم الديني جزءاً من الدين، وهو خلط بين وجودين: ما هو ذاتي، وما هو موضوعي. وبلغة عمانوئيل كانت هو خلط بين ما لذاتنا، وما في ذاته.

اما الدين فقد اعتبره اعم من الايمان، فالاصل في الدين هو الحياة الطيبة، والحياة الطيبة على ثلاث شعب: شعبة العلم وشعبة الايمان وشعبة العمل. فشعبة الايمان تدخل فيها كل الاعتقادات، وشعبة العلم تدخل فيها كل المعارف، وشعبة العمل تدخل فيها كل الافعال. لذا فالدين يشتمل على هذه الشعب الثلاث، وبعضها يتكامل بالبعض الاخر.

ويمكن ان يعمم هذا الحال على القيم الاخلاقية، فاذا كان ثمة توحيد بين الدين والاخلاق؛ فان الامر ينعكس على العلاقة بين الاخلاق وبين الشعب الثلاث التي يتضمنها الدين، اذ تصبح الاخلاق متضمنة لهذه الشعب؛ فيصبح العلم والايمان والعمل كلها جزءاً من الاخلاق. وهي ما تبعث على الخلط بين المفاهيم المختلفة.

الاخلاق الكونية والعقل المحلي

لقد اعتبر طه ان القيم الاخلاقية لا تنتزع من الجزئيات، حيث استثناها من بقية المعارف الاخرى ليعتبرها الاصل الغيبي المبثوث لدى النفس البشرية، كالذي اشار اليه في (بؤس الدهرانية) الصادر عام 2014، اذ اعتبرها مبثوثة في فطرة الانسان بواسطة النفخة الالهية، والفطرة هي الخلقة السليمة التي تجيء ابتداء على وفق قانون الدين الحق. ولما كان الانسان يحمل في باطنه هذه القيم بوصفها معينات لا مجردات، متلقياً لها من عالم روحي؛ وجب ان يكون هذا الباطن هو الفطرة. فالفطرة هي خلقة روحية، او انها تمثل الاخلاق كما جاء في (سؤال الاخلاق).

واستدل على ذلك كما في (بؤس الدهرانية) بان قيمة العدل – مثلاً - لم تتحصل في باطن الانسان بواسطة انتزاع صفات مشتركة للعادلة، فتكون القيم الاخلاقية معان منتزعة من الجزئيات، مثل ان العادل هو الاصل والعدل هو الفرع، بل على العكس، حيث العدل معنى قائم في باطن الانسان قبل علمه بالحالات العادلة.

وتأكيداً لهذا المعنى اعتقد في (شرود ما بعد الدهرانية) الصادر عام 2016 ان المجتمعات الانسانية على اختلافها تشترك في مجموعة ادنى من القيم الاصلية المحمودة والمذمومة، وسمى المحمودة بالمعروف والمذمومة بالمنكر.

وفي كتابه (الحق الاسلامي في الاختلاف الفكري) الصادر عام 2006 قسّم الاخلاق الى عامة وخاصة، والعامة مستمدة من الفطرة الادمية مثل خيرية العدل وشرية الظلم. مع اعترافه بعدم تصور وجود كونية شمولية حقة بغير اعتبار هذه القيم، والعمل على مقتضاها. اما القيم الخاصة فهي تختلف من امة لاخرى.

لكنه قبل ذلك، وبالتحديد في (سؤال الاخلاق) اعتبر الاخلاق الاسلامية كونية لا محلية، ووصفها بانها عميقة لا سطحية، وحركية لا جمودية، ومن ثم فهي الاخلاق الحسنى، لذلك جعل من الاسلام افضل الاديان.

وما قدمه بهذا الصدد يعتبر من المزاعم المرسلة بلا دليل، خاصة ان تقييده للاخلاق الكونية بقيد الاسلامية يجعل المشتركات الاممية مدينة الى الاسلام، فكيف يمكن التوفيق بذلك اذا ما كانت هذه المشتركات قد سبقت هذا الدين؟!

ومن الغريب ان ينفي هذا المفكر المشتركات العامة للفكر البشري خارج اطار الاخلاق الاسلامية. وربما لهذا السبب اعتبر دليل صحة الاسلام انما يأتي من الاخلاق لا الفكر المجرد. رغم ان من الفكر ما هو حدسي وما يفوق الحدس.

ولو قيل ان الاستدلال على قِدم الدين، وبالذات الدين الاسلامي، جاء من خلال الاية القرآنية: ﴿إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلامُ﴾ (آل عمران\ 19)؛ لقلنا ان هذا الاستدلال لا يعطي مشروعية بافضلية دين على اخر، حيث انها تعود الى دين واحد هو الاسلام.

ومن حيث التحقيق ان الوضوح الذي نجده لدى الاخلاق المشتركة بين البشر يجعل من الأوْلى الاعتراف بحدسيتها، اي انها نابعة من الحدس البشري، بغض النظر عن الدين وغيره من العناصر الخارجية.

***

وعموماً ان العنصر القيمي الذي استحوذ على تفكير طه جعله يرى كل شيء نابعاً عن الاخلاق، وان الاخلاق مصدرها الدين، واضاف الى ذلك ركناً ثالثاً هو العلم، فاصبح الحديث عن هذه الاركان الثلاثة متداخلاً من دون حدود واضحة.

فالدين كما يفهمه طه يختلف عن دين المتكلمين والفقهاء وغيرهم من المتشرعة (النظام المعياري وفق تصنيفنا)، ولا يجد له توافقاً الا مع دين العرفاء بمفاهيمهم الوجودية الخاصة، مع حرصه على التخفيف من هذه المفاهيم.

لذا فهو في (روح الدين: من ضيق العلمانية الى سعة الائتمانية) الصادر عام 2011، اعتبر الدين فطرة كذاكرة روحية غيبية، وانه لا دين حق غير اسلام الوجه لله وحده. لذا اوجب ان يكون الاسلام دين الفطرة بحق، اي هو ذاكرة التوحيد الكاملة. لذا وجب على المسلم ان يسعى الى اخذ فقهه الحي من هذه الفطرة نفسها، والا فلا اقل من ان يتخذ فطرته محكاً يختبر به ما يفتيه غيره. ومن ثم فالمسلم لا يحتاج الى صناعة الفقه بقدر ما يحتاج الى تزكية النفس.

الفطرة والنص الديني

لقد تضمن كتاب (الحوار اُفقاً للفكر) الصادر عام 2013 الاشارة الى ان كل انسان مفطور على القيم، وهي معان مشخصة وحية مبثوثة في روح الانسان مثل العدل والتقوى والرحمة، حيث يجدها الانسان في نفسه اصلية غير تابعة، وحية غير جامدة، وتامة غير ناقصة. لذا فهي ليست موجودة في عالم اخر خارج الواقع، وانما هي معان مودعة في روح الانسان او فطرته، وهو يتعامل بها في سلوكه اليومي، وقد نزلت بها الاديان السماوية التي اتت على وفق الفطرة. فالاديان لم تنزل بالاعداد او غيرها من المجردات وانما نزلت بالقيم المشخصة. واعتبر وظيفة الوحي هي ان يخبرنا بوجود هذه المعاني في فطرتنا ويرشدنا الى كيفية التصرف وفقها. فلم ينزل الوحي الينا لكي يخبرنا عما يستطيع العقل المجرد ان يصل اليه من الحقائق الكونية باجتهاده ونظره، وانما ليذكرنا بهذه الحقائق المعنوية التي فطرنا عليها.

لكنه في ذات هذا الحوار وفي ذات السياق ابدى ما يناقض ذلك حينما قال بان العقلانية الايمانية تنبني على مبدأ اليقين بحيث ينبغي للمؤمن ان يختار القيمة التي يحصل له اليقين في نفعها وان يختار الوسيلة التي يحصل له اليقين من نجاعتها. ثم تساءل: هل يمكن ان يصل المؤمن بنفسه الى هذه الوسائل التي يكون على يقين في نجاعتها، والى هذه القيم التي يكون على يقين من نفعها؟ وردّ على هذه الاسئلة بما يناقض ما سلف ذكره، وهو ان الجواب عليها يأتي من الممارسة الدينية نفسها، اذ نزل الوحي الالهي لكي يمد المؤمن بهذا اليقين المفقود عند غيره، فهو الذي يحدد له المقاصد والقيم التي يكون نفعها يقينياً، ويحدد له الوسائل والاسباب التي تكون نجاعتها يقينياً. اي ان اليقينية التي تنبني عليها العقلانية الايمانية مصدرها النصوص الدينية المؤسسة. فالقيم لا تستمد الا من النص الديني. وبالتالي لا يمكن للانسان ان يضع من عنده القيم الاصلية.

هذا في حين عاد وقال بان القيم لا توجد في خارج الانسان وانما في داخله، فليست هي من جنس المفاهيم المجردة كمفهوم العدد، بل هي معالم مشخصة تشخيصاً كاملاً ومودعاً في باطن الانسان؛ تنزل منه منزلة المنارات والمصابيح التي تنير له الطريق في الوجود، وتبين له سبيل السلوك في الحياة، ومنهج التصرف في الوقائع والاحداث.

لقد اعتبر طه القضايا الاخلاقية فطرية اعتماداً على النص الديني. حيث اعتبر النص اساس القول بفطرية القيم خلافاً للقضايا الاخرى التي لم يعرفنا بها، مثل الرياضيات والكونيات. وكأنه بهذا يمثل احد رجالات المنهج البياني، رغم انه ابعد ما يكون عن هذا المسلك.

ونجد في هذا المجال تناقضاً فيما نقلناه عنه في ذات السياق من الحوار. فهو يقول ان القيم الاخلاقية فطرية تنير للانسان طريقه، لكنها في الوقت ذاته مستمدة من النص الديني، اي لا يمكن التعرف عليها الا من خلال النص، فهو الذي يحدد هذه القيم والوسائل الناجعة في تحقيقها.

وحقيقة ان الجمع بين فطرية القيم ومصدرها النصي هو جمع متناقض. فاذا كانت القيم فطرية لكان من الممكن ادراكها بمعزل عن النص، وهو ما يستلزمه قوله السابق الذكر بان القيم مبثوثة في روح الانسان، حيث يجدها الانسان في نفسه اصلية غير تابعة.. اما اذا كان مصدر هذه القيم النص الديني، اي لا يمكن التعرف عليها بدون النص، فهذا يعني انها ليست فطرية، وانما منبعها النص ذاته. فالجمع بين فطريتها وبين تحديدها من قبل النص هو جمع متناقض. وكان الاولى ان يقول كما سبق للعديد من العلماء ان قالوا: بان النص ليس هو مصدر هذه القيم، بل هو ممضٍ لقرارات العقل (الفطري) دون ان يكون الاصل في تحديدها، كالذي تبناه علماء المعتزلة والزيدية وغالب الامامية الاثنى عشرية، بل وحتى المدرسة التيمية وبعض التوجهات الحنبلية[19].

ويذكّر هذا التناقض بما ذهبت اليه فرقة الاخبارية – من الامامية الاثنى عشرية - حول مصدر الاعتقاد بالمسألة الالهية، حيث سلموا بانها فطرية، لكنهم استدلوا على فطريتها اعتماداً على النص الديني، او الادعاء بتواتر الاخبار عن ائمة اهل البيت بما يفيد هذا المعنى، كالذي ادعاه مؤسس حركة الاخبارية محمد امين الاسترابادي[20]. وهي طريقة تستلزم الدور، فالمسألة الالهية تتوقف على اثبات فطريتها، والفطرة تتوقف على اثبات المسألة الالهية ومترتباتها الدينية.

ويشتد التناقض في هذا المجال عندما استدل طه على الفطرة بالنص الديني، رغم ان هذا النص او الدين عموماً يحتاج في حد ذاته الى دليل يثبت حقانيته. وسنرى انه يقر بالعجز عن تقديم دليل قطعي يحتج به في هذا المجال وغيره.

اسبقية الاخلاق على الوجود

لقد سبق ان عرفنا بان طه قد وحّد بين الاخلاق والدين، وانه اعتبر خاصية الانسان متمثلة بهذين العنصرين، لكنه عاد واضاف ملازمة اخرى بين الاخلاق والوجود، بل واعتقد بان الاخلاق سابقة على الوجود، الامر الذي يلزم عنه القول باسبقية الدين على الوجود.

ففي (شرود ما بعد الدهرانية) الصادر عام 2016 اشار الى انه في (سؤال العمل) ابطل الاعتقاد السائد بتقدم الوجود على الاخلاق، وادعى ان العلاقة بينهما متلازمة من دون اسبقية، وذلك بدءاً من الوجود في غيب الارحام ثم سيراً مع الوجود في عين الاعيان، حيث تقترن كل هيئة خَلقية بصيغة خُلقية على قدرها، والعكس بالعكس، فلا خَلق بغير خُلق ولا خُلق بغير خَلق. واضاف بانه ليس شرطاً في التخلق ان يشعر به الولد في رحم امه شعوره به بعد خروجه الى العالم والواقع، فما يسمى بالاستعدادات ليس في الاصل الا هذه الاخلاق الخفية.

فهذه هي الدعوى التي جاءت في (سؤال العمل)، وقد اعتبرها طه خطوة اولى مهدت لدعوى اخرى ابعد منها، واشار الى انه ارجأ الاعلان عنها الى حين الحصول على الادلة الكافية عليها، ومن ثم انتهى الى اليقين من صحتها، وهي الدعوى التي اثارها في (شرود ما بعد الدهرانية) والتي تقول بان الخُلق يتقدم على الخَلق زمنياً ومنطقياً، وقدّم حولها عدداً من الادلة التي وصفها بالائتمانية.

وخلاصة ما ذكر هي ان الله خاطب بني ادم مرتين: يوم الاشهاد ويوم الائتمان، وذلك قبل النشأة الاولى، وحمل هذا الخطاب الى الانسان – وهو لا يزال في عالم الغيب – قيمتين خُلقيتين هما الشهادة والامانة، وألهمه العلم بهما والعمل على وفق هذا العلم. واستنتج من ذلك ان اداء الشهادة وتحمل الامانة هما فعلان خُلقيان صريحان، وهو ما زال نوعاً من الكينونة قبل خلقه الذي هو اخراجه من عالم الغيب الى عالم الشهادة. واعتبر مفهوم الكينونة اقرب الى مفهوم الامر منه الى مفهوم الخَلق، وبالتالي فالانسان الغيبي هو كائن امري لا كائن خلقي، وان مدلول الكينونة يضاد مفهوم الوجود، حيث هذا المفهوم هو اقرب الى معنى الخلق منه الى معنى الامر. لذلك صح القول بان الانسان كائن امري، ولا يصح القول بان الانسان موجود امري. كما استدل من اية الميثاق او ما يسميها بالاشهاد، فاعتبر بان من الصحيح ان يقال بان الانسان الغيبي مأخوذ كما ورد في الاية، بدل القول بان الانسان الغيبي موجود، ثم ان هذا الانسان قد أُخذ من مأخذ مخصوص هو ظهور بني ادم وفق الاية الكريمة، لذا يلزم انه شيء كامن في هذا المأخذ المخصوص، واعتبر الكمون خلاف الوجود، اذ الكمون كينونة بالقوة، بينما الوجود كينونة بالفعل، وبهذا جاز القول بان الانسان الغيبي عبارة عن كائن كامن لا كائن موجود.

ثم انه جعل الاخلاق متقدمة على الخلق ومؤثرة عليه من وجوه، ومن اغرب ما استدل به على توقف الخَلق على الاخلاق وجوداً، هو ان المولود ما لم يتلق من ابويه اسماً يتخلق به فكأنه غير مولود، بل كأنه غير موجود، بل كأنه غير كائن، لأن تعين الاسم هو الذي يورث هذه الكينونة، والا فلا كيان له وإن صرخ..

وهو تعبير يقارب الفكر الهايدجري كما في مقولة هايدجر: ليس ثمة شيء موجود بدون تسمية. لكنه ليس بالدليل الذي يُطرح في مجال الفلسفة والفكر، وكان الاولى طرحه في محافل ثقافة الخيال الادبي خارج الاطار العلمي والمنطقي، وان الاخذ به يجعل من الممكن الاستدلال باي شيء على كل شيء، وهو ما دأبت الصوفية والباطنية استخدامه بغزارة قديماً، ومثقفو ما بعد الحداثة وآباؤهم حديثاً.

والغريب ان طه عاد في عام 2023 ليقرر ما كان يقوله في (سؤال العمل) وينقلب على ما استجد له من تقدم الاخلاق على الخَلق منطقياً وزمانياً كالذي جاء في (شرود ما بعد الدهرانية)، ففي (سؤال السيرة الفلسفية) حسِبَ مقولة (اسبقية الخَلق على الخُلق) هي دعوى ضمن عدد من الدعاوى التي اخذت بها الفلسفة المجردة، واعتبر ابطال الفلسفة المسددة لهذه الدعوات يمثل تقدماً فلسفياً كبيراً، اذ بها تُكتشف حقائق غاية في الاهمية لم تهتدِ اليها الفلسفة المجردة لجمودها على انفصال هذه الجوانب بعضها عن بعض: مثنى مثنى.

يبقى ان نشير الى ان الادلة اللغوية التي استخدمها طه في تقديم الاخلاق على الخَلق وانتزاعها من النص القرآني تفضي الى عكس ما اراد اثباته. اما الاستخدامات اللغوية التي استعان بها فيما تعارف عليه من القول دون غيره؛ فهي لا تنفع في الادلة الفلسفية.

فالادلة اللغوية المستفادة من النص القرآني قد تعطي دلالات معكوسة، حيث نجد في نفس اية الميثاق التي استخدمها في الدليل وما تلاها من آية انهما يصرحان بوجود جماعة من بني ادم هي من كانت موضوعاً للميثاق او الاشهاد، وليس جميع البشر بمن فيهم ادم الاب. اذ قال تعالى: ﴿وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آَدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ، أَوْ تَقُولُوا إِنَّمَا أَشْرَكَ آَبَاؤُنَا مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِنْ بَعْدِهِمْ أَفَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ﴾ الاعراف\ 172-173.

لذا كيف يمكن اعتبار هاتين الايتين دليلاً على ان للانسان مرحلة غيبية سابقة على خلقه، وهما ليسا بصدد جميع البشر ولا بخصوص ادم الاب الذي هو الاصل في نشأة الانسان؟ علماً بان أول من ألهم العرفاء بهذا المعنى الموسّع لآية الميثاق ودلالته على الاشهاد الصوفي هو الجنيد خلال القرن الثالث الهجري، كما سنعرف خلال مراجعة قادمة ان شاء الله.

كذلك ان القرآن الكريم يشير الى ان خَلق الانسان بدأ من طين قبل سريان النفخة الروحية فيه[21]، لذا كيف يمكن افتراض ان يكون له عالم روحي غيبي قبل عملية الخلق هذه؟

أما ادعاء طه بان الله خاطب بني ادم يوم الائتمان، ويقصد بذلك ما جاء في اية الامانة، فغير دقيق، حيث تخلو الاية من ذكر المخاطبة، خلافاً لاية الميثاق، اذ المخاطبة فيها صريحة. والاهم من ذلك ادعاؤه بان الانسان في هذا اليوم كان لا يزال في عالم الغيب، وهو عالم روحي، لكن كيف ينسجم هذا التصور مع ان عرض الامانة قد شمل السماوات والارض والجبال، وهي ليست من عالم الغيب؟ وكما جاء في قوله تعالى: ﴿إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُوماً جَهُولاً﴾ الاحزاب\ 72.

هذا بالاضافة الى ان القضايا اللغوية العامة لا تصلح في ان تقدم كأدلة فلسفية، فسواء عالم الامر او عالم الكينونة، كلاهما لا يمكن افتراضه من دون وجود، بمعنى ان لهما وجوداً خاصاً يختلف عن وجودنا الشهودي، وبالتالي فالاخلاق المفترضة في العالم الغيبي لا يمكنها ان تتحقق من دون تقدم اسبقية الوجود، وذلك بغض النظر عن طبيعة هذا الوجود.

وينطبق هذا الحال على علاقة الخَلق بالاخلاق، حيث لا تظهر الاخيرة الا بعد سنوات من عمر الانسان، فالخَلق سابق وممهد لظهور الاخلاق لا العكس، رغم ان الحدس الاخلاقي هو معرفة فطرية او قبلية دون ان يكون مكتسباً من الخارج.

وتُذكّر هذه المغالطة بما جرى للعرفاء والفلاسفة الاشراقيين من وصف يتعلق بالاعيان الثابتة، حيث اعتبرت منفكة عن الوجود ومتقدمة عليه، فهي في حيز الامكان العدمي ما شمت رائحة الوجود أزلاً وأبداً. او انه ليس لها إلا الشيئية الثبوتية، لا الشيئية الوجودية. لكن مع ذلك فان المقصود من نفي الوجود عن الاعيان الثابتة؛ هو نفي الوجود الخارجي او الجعلي عنها، فهي موجودة بوجود غيرها من دون جعل. اي انها من لوازم الاسماء والصفات الالهية، وهي موضع الشهود العلمي المعبر عنه بالفيض الاقدس، والمخاطبة بخطاب (كن)[22].

***

اذاً، خلاصة ما عرضناه هو ان طه اعتبر الدين مصدر الاخلاق، بل ومصدر العلوم قاطبة بما فيها الدينية كما في (سؤال العمل) قبل ان يغير رأيه في (الحوار اُفقاً للفكر) ومن بعده (سؤال السيرة الفلسفية)، كما انه اعتبر الاخلاق سابقة على الوجود، ومن ثم فان الدين يجب ان يكون سابقاً بالاولوية على الوجود.. وليس ثمة تكويناً معرفياً يمتاز بالكونية والشمول باستثناء الاخلاق، وهو ما يعني جعل العلم الديني ذا طابع كوني عام. اما بقية المعارف البشرية وفلسفتها فكلها محلية وليست كونية، مثلما سنلقي عليها الضوء خلال مراجعة مقبلة ان شاء الله.

الفلسفة والاخلاق

سبق لطه في الجزء الاول من مشروعه (فقه الفلسفة) الصادر عام 1995 ان وضع مدخلاً عاماً طرح فيه ما سماه “فقه الفلسفة”، حيث غرضه الوقوف على اسباب التفلسف، وموضوعه هو الظواهر الخطابية والسلوكية للفلسفة، حيث ينظر في الخطاب الفلسفي بما يقتضيه من ترجمات واقوال ومضامين، وينظر في السلوك الفلسفي بما يوجبه من هيئات وافعال وصفات توافق او تخالف هذه الترجمات والاقوال والمضامين.

فالصلة الجوهرية بين الخطاب والسلوك في الممارسة الفلسفية هي من وظيفة فقه الفلسفة. ومن ثم لا بد من النظر في كلام الفلاسفة وفي مطابقته لسلوكهم، بالاسباب التي يتوصل بها كلامهم الى انشاء مضامينه، ويتوصل بها هذا السلوك الى اتخاذ مظاهر موافقة لهذه المضامين، حيث يتعلق فقه الفلسفة بالاسباب الخفية التي تكمن وراء  الظواهر الجلية باثباتات الفيلسوف وتصرفاته.

فالنظر في الفلسفة يشمل جميع مناحي الممارسة الفلسفية قولاً وفعلاً لا انفصال بعضها عن بعض، بل في اتصالهما معاً، بحيث لا اعتبار بقول الفيلسوف حتى يتم النظر كيف هو عند الدليل، ولا اعتبار بدليله حتى يتم النظر كيف هو عند العمل، اذ القول بغير دليل في الفلسفة لا يقبل، والدليل بغير عمل فيها لا ينفع. وعليه فان المقتضى النظري لفقه الفلسفة هو ان تسند الاقوال الى الادلة، وتسند الادلة الى الافعال، ولا يجوز قطع بعضهما عن بعض باي حال. واعتبر ان فقه الفلسفة متى لم يدل على النظر في سلوكات اصحاب النصوص الفلسفية فسيخل بغرضه ويفقد جدواه.

أما منهج هذا البحث فهو مجموعة آليات اجرائية مستمدة من افاق علمية مختلفة، وفائدته الحصول على ملكة التفلسف والوصول الى الابداع الفلسفي الذي سنعود اليه في مراجعة قادمة.

لذلك اعتبر فقه الفلسفة يعود الى العلم لا الفلسفة، حيث يتصف بثلاث خصائص، وهي انه: علمي لا فلسفي وانه تكاملي لا تجزئي وانه عملي لا تجريدي. وهو الحال الذي وجد تأكيداً في الجزء الثاني من مشروعه، حيث صرح بانه يتعين علينا ان ننظر في الفلسفة كما ينظر العالم في الظاهرة رصداً ووصفاً وشرحاً. مؤكداً على ان الفلسفة ينبغي ان لا تكون قولاً فحسب، بل هي قول مزدوج بالفعل، وخطاب مزدوج بالسلوك، فنحتاج الى النظر فيها على هذا المقتضى. وهو النهج المسمى بفقه الفلسفة.

كما جاء هذا التأكيد في كتاب (من الانسان الابتر الى الانسان الكوثر)، حيث اشار الى ان فقه الفلسفة هو علم ينظر في آليات انتاج الفيلسوف لاقواله وافعاله قصد التوصل الى كشف بنيات هذه الاقوال والافعال، وتشمل هذه الآليات: الترجمة نقلاً وتحويلاً، والمفهوم اصطلاحاً وتأثيلاً، والتعريف تقريراً وتمثيلاً، والدليل استنتاجاً وتخييلاً، كما تشمل السيرة نموذجاً وشذوذاً.

وحدد اخراج آليات فقه الفلسفة باربعة مصنفات مستقلة، وعناوينها كالتالي:

1ـ الترجمة والفلسفة او فقه الترجمة الفلسفية

2ـ العبارة الفلسفية او فقه التعبير الفلسفي

3ـ المضمون الفلسفي او فقه التفكير الفلسفي

4ـ السيرة الفلسفية او فقه السيرة الفلسفية

وقد صدر المصنفان الاول والثاني. ثم صدر مؤخراً المصنف الاخير بعنوان (سؤال السيرة الفلسفية)، لكن طه لم يورد فيه ذكر مصطلح “فقه الفلسفة”، بل اكتفى بتحديد مجال الفلسفة ضمن اطار السيرة الاخلاقية، مع تمييزها عن مجال العلم بما يختلف عما جاء في مشروعه السابق. وكأنه بهذا الفعل قام بوأد هذا المشروع. اذ لم يعد الجزء الاول ولا الجزء الثاني منه صالحاً للانضمام في النظر الفلسفي بعد التحول الذي اجراه في (سؤال السيرة الفلسفية). وسنبين هذه النقطة خلال الفقرة التالية..

التحول الجديد في البحث الفلسفي

لقد ركز طه في (سؤال السيرة الفلسفية) على تحديد طبيعة الفلسفة ودائرة ما يبحث فيه الفيلسوف. ففي دراساته السابقة انتقد الفلاسفة باعتبارهم ينتهجون طريقة العقل المجرد، كما وضع “فقه الفلسفة” كعلم جديد لا يكتفي بدراسة آليات الانتاج الخطابي للفيلسوف، بل يضيف الى ذلك دراسة افعاله وسلوكه، حيث وسّع من مجال الفلسفة لتتضمن جميع مناحي الممارسة الفلسفية قولاً وفعلاً من دون انفصال. لكنه في الكتاب الاخير حاول ان يضع تحديداً جديداً للفلسفة بعيداً عن العقل المجرد وخطابه الفلسفي، كما وبعيداً عن دائرة ما يختص به “فقه الفلسفة”، فحصرها ضمن مجال محدد دون غيره من المجالات المتعارف عليها في الدراسات الفلسفية، بل واصطنع منها مذهباً بنيوياً مؤلفاً من اعتقادات مخصوصة لا تتناسب مع رسم ما ينبغي ان تتألف منه العلوم والفنون، ومنها الفلسفة. وقد حشد في هذا الكتاب جملة من التأويلات في دراسته للسيرة الفلسفية الخاصة ببعض الفلاسفة والانبياء، وعلى رأسهم سقراط الذي عدّه اول فيلسوف في تاريخ الفكر الفلسفي، كما ورجح ان يكون هو الاول في تشبهه بالنبي ابراهيم، وان هذا التشبه هو الذي جعل منه اول فيلسوف على الاطلاق. لكنه استدرك في خاتمة الكتاب فصرح بانه اذا صح ان سقراط هو اول فلاسفة اليونان تحققاً بالسيرة الفلسفية؛ فلا يصح انه اول من تفلسف وتسيّر، بل ذلك يعود الى ابراهيم (ع).

وحقيقة نواجه اربعة محاور من الخلل لدى التصور الطاهي للفلسفة مع بعض المفارقات، ويمكن ايضاحها كالتالي:

المحور الاول:

لقد ابدى طه تفريقاً متهافتاً بين الفلسفة والعلم اعتماداً على الحقل الاخلاقي كموضوع مميز، حيث حدد الفلسفة بانها ذات خاصية اخلاقية، خلافاً للعلم الذي يخلو منها. وبناءاً على ذلك جعل الفلسفة المجردة تنتحل طريق العلم في تحصيل المعرفة، دون ان تكون فلسفة حقيقية، لا سيما انه ادعى بانها اصبحت اليوم تابعة للعلم، حيث تسير على خطاه منهجاً وموضوعاً؛ كأنها جزء منه، اي باتت تخصصاً علمياً وانشغالاً مهنياً، لذا فقد تحولت الى ما اصطلح عليها بـ “علم الفلسفة”.

وأفاد بهذا الشأن بان العقل المجرد هو العقل الذي يختص العلم بالتوسل به غير مكترث بالقيم. بل حتى لو اكترث بها فلا يملك ان يخدمها في شيء، لكن لما استقل العلم عن الفلسفة لم يبق اي مبرر لوجود الفلسفة المجردة، وبالتالي وجب ان تحل محلها فلسفة اخرى تنتهج طريقاً غير طريق العلم في الوصول الى حقائقها، وما تلك الا الفلسفة المسددة المشتغلة بالاخلاق. ومن ثم فان العقل الذي تتوسل به هذه الفلسفة يرقى على العقل الذي يتوسل به العلم؛ فتقدر على ما لا يقدر عليه.

هكذا ان العقل الذي ينبغي ان يتوسل به الفيلسوف في اقامة دعاويه ليس هو العقل المجرد، اي العقل الذي ينتزع المعقولات من المحسوسات، بل هو العقل المسدد الذي يجعل المعقولات عبارة عن معمولات، ولا معمولات بغير اتخاذ قيم مخصوصة. فالفيلسوف الحق لا يعقل الامور الا على مقتضى التسديد؛ باعتبارها قضايا انسانية وليست راجعة للطبيعة. فالعالِم في قضايا الطبيعة يغني عن الفيلسوف، وخوض الفيلسوف فيها انما يأتي عرضاً بغية المزيد من الاعتبار لامور الانسان.

اذن من وجهة النظر الطاهية ان موضوع الفلسفة هو القيم لا الواقع، حيث الواقع تكفلت به العلوم. ومن ثم فالموضوع المعرفي للفلسفة ليس علماً موضوعياً يتوسل بالعقل المجرد، وانما هو معرفة فطرية تدور على الحقائق القيمية متوسلة بالعقل المسدد. وبالتالي فالفلسفة لها مفهوم محدد يتعلق بالاخلاق، بحيث يكون همها الاول والاخير في كل ما تشتغل به هو الانسان. اذ يتوجب ان يكون الفيلسوف فيلسوفاً في اخلاقه، بل وانه مصلح ديني بما يضاهي عالِم الدين. أما الحقول المعرفية الاخرى فقد تم حشرها ضمن مجال العلم، ومنها ما تتداوله الفلسفة المجردة.

ووفقاً لهذا التمييز حسِب اراء الفيلسوف تعكس ذاته بوجه من الوجوه؛ حتى ولو كانت تعبر عن حقائق مسلم بها عند غيره، اذ لا تُطلب فيها الموضوعية التي تُطلب في العلم؛ والا كانت عينه، وكان الفلاسفة عبارة عن علماء، وليس الامر كذلك. هذا على الرغم من انه اعتبر القيم الاخلاقية التي يشتغل عليها الفيلسوف هي قيم موضوعية وليست ذاتية لارتباطها بالفطرة.

على ان التمييز السابق بين الفلسفة والعلم هو تمييز لا يمت الى حقائق الامور بصلة، ويمكن ايراد عدد من الاشكالات المتعلقة به، كما في النقاط التالية:

وفق ما جاء في (سؤال السيرة الفلسفية) لم يعد البحث المتعلق بفقه الفلسفة صالحاً للاستخدام الفلسفي، فقد اتصف ببعض الخصائص التي لا تتوافق مع ما جاء في كتابه الاخير. فمن جانب انه سبق لطه ان صنفه ضمن “العلم”، في حين انه في كتابه الاخير عزل العلم بكافة مجالاته وافاقه عن الفلسفة، بما فيها تداول العقل المجرد للقضايا المعتبرة سابقاً ضمن الفلسفة، وبذلك يكون فقه الفلسفة وفق التصور الجديد غير معني بالفلسفة، حيث يكون مجاله كمجال الفلسفة القديمة ضمن العلم لا الفلسفة.

كما من جانب اخر ان فقه الفلسفة كان يبحث في المزاوجة بين الخطاب الفلسفي والسلوك الفلسفي معاً. في حين انه في تصوره الجديد اعتبر الفلسفة ليست معنية بالخطاب الفلسفي المشتمل على الترجمات والاقوال، وانما بالسلوك المعبر عنه بالسيرة الفلسفية.

وبهذا فان الجزئين المنشورين بعنوان (فقه الفلسفة) والخاصين بالترجمة والقول الفلسفي؛ لم يعودا ينتميان الى البحث الفلسفي.

ورد في (سؤال السيرة الفلسفية) مصطلح “علم الفلسفة” الذي عرّفه طه بانه يشتمل على الفلسفة المجردة التي باتت تخصصاً علمياً بعيداً عن التفلسف. لكن ذات هذا المصطلح قد ورد ذكره في بعض ابحاثه السابقة؛ مُعرّفاً اياه بانه علم جديد سعى الى تأسيسه لاكتساب القدرة على التفلسف المبدع والمستقل، وان موضوعه عبارة عن القول والفعل الفلسفيين. وادرج ضمنه “فقه الفلسفة”، وهو ما يناقض ما سبق ان ميّز بينهما في الجزء الاول من مشروع (فقه الفلسفة) من دون تضمن. كما ويناقض ما جاء في (سؤال السيرة الفلسفية).

ففي بحث له في كتاب (من الانسان الابتر الى الانسان الكوثر) الصادر عام 2016 صرح بالقول: ان اكتساب القدرة على التفلسف المبدع والمستقل لا يغني فيه مطلقاً الاقتصار على تحصيل اغراض المقالات الفلسفية على طريقة فلاسفة الاسلام، ولا بالاولى على طريقة المتفلسفة المحدثين، وانما يتعين تحصيل علم جديد نسميه “علم الفلسفة”،وموضوع هذا العلم هو الظواهر الفلسفية؛ اقوالاً وافعالاً، ومنهجه هو التعامل الموضوعي مع هذه الاقوال والافعال على طريقة تعامل العلوم الاخرى مع موضوعاتها.

كما ورد في البحث المشار اليه بان علم الفلسفة يتفرع الى قسمين: احدهما فهم الفلسفة، وموضوعه ظروف انتاج الفلسفة قولاً وفعلاً، ومنهجه مأخوذ من مناهج علوم المقاصد. اما الثاني فهو “فقه الفلسفة”، وموضوعه ادوات انتاج الفلسفة، قولاً وفعلاً، ومنهجه مأخوذ من مناهج علوم الآلة.

وواضح ان تحديد موضوع علم الفلسفة ومنهجه واعتباره علماً جديداً في البحث المشار اليه جاء مناقضاً لما ورد في كل من مشروع (فقه الفلسفة) و(سؤال السيرة الفلسفية)، حيث في كلاهما ان موضوع هذا العلم ليس معنياً بالسلوك والفعل الفلسفي، كما انه ليس بالعلم الجديد.

كذلك فان فقه الفلسفة في البحث المشار اليه قد جاء مندرجاً ضمن الاطار العام لعلم الفلسفة، وذلك على خلاف ما جاء في الجزء الاول من مشروع (فقه الفلسفة)، حيث ان طه ميّز بين هذين العلمين بشكل منفصل من دون  تضمن احدهما في الاخر، فاعتبر علم الفلسفة يقف عند حدود النظر المجرد الى المعلوم ولا يتعداه الى اقرار العمل به بوصفه شرطاً في تمام العلم، بينما فقه الفلسفة يجعل العمل جزءاً من العلم، بحيث توجب نتائج العلم النظرية على صاحبها الاجتهاد في الاتصاف بها، فيكون فقيه الفلسفة اول العاملين بما يتوصل اليه من احكام في الفلسفة.

اذاً فعلم الفلسفة في كتاب (من الانسان الابتر الى الانسان الكوثر) يناقض ما ورد عنه في كل من مشروع (فقه الفلسفة) و(سؤال السيرة الفلسفية).

لو اعتمدنا على المفهوم الطاهي الجديد للفلسفة فستكون قضايا المعرفة المشتركة بين البشر، ومثلها قضايا الوجود العامة، ليست فلسفية؛ باعتبارها تخلو من عنصر القيم الاخلاقية. لكن في الوقت ذاته ان من غير الممكن ادراج البحث الذاتي لهذه القضايا ضمن العلم الطبيعي كما هو معلوم، ولا ضمن ما سماه “علم الفلسفة”. فمثلاً لا يمكن معالجة البديهات الاولية من خلال المنهج العلمي، ذلك ان هذا الاخير لا تقوم له قائمة من دون الاستناد الى هذه البديهات. وعليه اذا كانت هذه المعارف ليست علمية ولا فلسفية؛ فاين ندرجها وفق التصنيف الطاهي؟ وهو ما يعني ان هذا التصنيف لا يفي بشروط متطلبات استيعاب القضايا المعرفية.

لو اننا عولنا على التقسيم الطاهي الجديد لاصبحت القضايا الميتافيزيقية مثل البحث الوجودي في (المسألة الالهية) مجرد لغو بلا معنى، اذ ليس لها نصيب في العلم ولا في الفلسفة. فهي لا تنتمي الى العلم باعتبارها ميتافيزيقية مفارقة، كما انها ليست قضية فلسفية وفق المفهوم الطاهي، باعتبارها خارجة عن الاطار الاخلاقي عموماً، والانسان خصوصاً. وبالتالي ماذا نفعل بمثل هذه المسألة التي يتأسس عليها الدين؟

وسبق لطه في (العمل الديني وتجديد العقل) ان اعتبر الاستدلال على المسألة الالهية لا يفضي الى اليقين، لكنه في مجمل كتبه عدّ  هذه المسألة من المسائل الفطرية، ومن ذلك انه في (سؤال السيرة الفلسفية) اعتبر الدور الاصلاحي للفيلسوف هو ان يقوم بتذكير الانسان بالاصل الفطري للتوحيد اعتماداً على جعل مخاطبه يتنقل من التوحيد الذهني الى التوحيد العيني، حيث يجعل مخاطبه يحصل الشعور بان التوحيد ليس معنى منغرساً في باطنه فحسب، بل هو ايضاً حقيقة ماثلة للعيان في الاشياء. فكل شيء واحد بعينه، ناطق بوحدانية ربه. والتوحيد درجات.

وللاسف ان هذا الكلام مجرد دعوى تخلو من الدليل. وسنعود الى طرح المسألة الالهية بالتفصيل وكيف اعترف بانه لا دليل قطعي عليها مع بعض المفارقات التي وقع فيها. يضاف الى ان هذه المسألة لا تندرج ضمن المسائل الفلسفية وفق المفهوم الطاهي، كما انها ليست من القضايا العلمية. ولو اننا اعتبرناها ضمن صنف ثالث هو القضايا الفطرية؛ لكان حالها لا يختلف عن حال الاخلاق، وبالتالي لماذا تم تحديد الفلسفة بالاخلاق من دون هذه المسألة؟

علماً بأنه عرّف الحكمة التي ينشدها الفيلسوف بانها معرفة وجودية وعقلية وسلوكية. والمقصود بالاخيرة بان الحكمة تتناول حياة الانسان بكليته، حيث لا حركة ولا سكنة الا ويكسوها الخُلق. اما المعرفة العقلية فقصد بها الاحكام المتجهة الى العمل الصالح. في حين قصد بالمعرفة الوجودية للحكمة – وهي التي تهمنا - بانها تدور على حقائق الاشياء، ويتطلب ذلك تجاوز الظاهر الى الباطن. وميزة الحكمة انها لا تكتمل الا بادراك الوجود الحقيقي، وهو الوجود المتمثل في الحقيقة الاولى او الحق الاول. وبالتالي فالحكمة من جهة الوجود افقاً الهياً لا تنفك عنه مطلقاً.

لكن كما هو واضح ان المعرفة الوجودية للحكمة لا علاقة لها بمعالجة المسألة الالهية كبحث فلسفي من دون مضامين مفترضة. بل سنرى ان طه يعتبر الفيلسوف المسدد لا يمكنه التعرف على الحقيقة الا من خلال الاخذ بالبلاغ عن الذات الالهية من خلال النبي.

من الناحية المنطقية، ان البحث في القضايا الاخلاقية يتوقف على البحث الابستمولوجي الصرف وليس العكس. لذلك لا يمكن معالجة هذه القضية من دون افتراض الفلسفة المجردة بمعزل عن العلم. فالعلاقة بين العقل الاخلاقي (المسدد) والعقل المجرد هي علاقة لزوم، يتقدم فيها العقل المجرد على العقل الاخلاقي (المسدد) من دون عكس.

ومن حيث الدقة، ان ترتيب البحث في القضايا الفلسفية يبدأ بالبحث الابستمولوجي مروراً بالبحث الانطلوجي لينتهي الى البحث القيمي. وبالتالي لا يمكن تحديد طبيعة القيم الاخلاقية من دون تحديد طبيعة الوجود، وان طبيعة الوجود لا تتحدد ما لم يتم تحديد طبيعة المعرفة البشرية. وهذا في حد ذاته يشكل قلباً للنهج الطاهي رأساً على عقب.

المحور الثاني:

لقد حرّف طه الفلسفة مما هي اطار يتعلق بالافكار الى سيرة اخلاقية محددة، فلم تعد الفلسفة فلسفة كما هو متعارف عليها تداولاً.

فقد اعتبر مجال الفلسفة لا يتجاوز السيرة الفلسفية، وهي انها ليست نظريات وافكار، بل سيرة حية. فهي ممارسة قائمة على مبدأ تصديق افعال الفيلسوف لاقواله. وان الابداع الفلسفي لا يأتي من الاندفاع في تلقف الافكار المجردة، وانما من تعاطي التلبس بالافكار الحية، حيث الرجوع الى سيرة الفيلسوف المنقول عنه والنظر في مدى اتساق فكره مع عمله. وهو خلاف ما كان يدعيه حول تحديد موضع الابداع الفلسفي، كما سنعرف خلال مراجعة مقبلة.

أما النظريات والافكار والاحكام المجردة، فهي من وجهة نظره تليق بالعالِم لا الفيلسوف؛ لان متعلق اقوال الفيلسوف “ليست الطبيعة المحايدة شأن العالِم، وانما هو بالضرورة الانسان الملتزم، والتزام الانسان يوجب اعتبار عمله بما يدعيه، والمتفلسف الذي لا يعمل بما يدعيه هو متفلسف كذاب”.

لذلك عدّ سقراط ابرز نماذج هذه الفلسفة باعتباره ينتهج مسلك التسير. بل من هذه الناحية اعتبره اول فيلسوف في تاريخ الفكر الفلسفي. 

كذلك انه اعتبر الفيلسوف “انما هو مصلح ديني”، حيث يجتهد في ان يكشف للناس الحقائق والاباطيل التي خُفيت عليهم؛ تبصرة لهم وتوعية، بل ويرشدهم الى الخيرات ويحذرهم من الشرور، مع الاستدلال على ضرورة اتيان الاولى واجتناب الثانية. لكن هذا المعنى يمكن ان يصدق على الخطيب والداعية والكثير من الناس ممن تصدق افعالهم لاقوالهم. لذلك فهو تعريف فضفاض غير منضبط.

المحور الثالث:

لم يكتف طه بتحوير موضوع الفلسفة الى السيرة الاخلاقية فحسب، بل جعلها مذهباً مخصوصاً دعا الى تبنيه سلفاً. وهو تشويه لحقيقة ما ينبغي ان تتصف به العلوم والفنون من اطار عام غير ممذهب. ويعتبر هذا الفعل اسوء من الابتداع الذي انتهجه بعض العلماء في تعريفهم لعلم الكلام وفق التحديد المذهبي والايديولوجي الصرف، مثل ابن خلدون الذي ضمّنه مفهوماً مذهبياً ذا طابع أشعري[23].

فقد اوجب طه ان تعود الفلسفة الى الفطرة مداراً ومساراً، بمعنى ان تدور على مجال المعرفة الفطرية وتسير على طريق الاستدلال الفطري، وذلك بما للفطرة من علاقة بمفهوم الائتمان، وبما للفلسفة من علاقة بالحكمة من خلال هذا المفهوم. فقد اعتبر علاقة الفلسفة بالحكمة هي علاقه ائتمان وليس علاقة امتلاك، وهي لا تنال الا بالتسير، اي اتخاذ السيرة المنضبطة بمبدأ التصديق، والمتوصلة بالعقل المسدد، حيث الغاية من السيرة الفلسفية هي طلب الحكمة ومن ثم الائتمان عليها، وذلك على خلاف ما سبق اليه في (سؤال الاخلاق) من ان الحكمة هي خاصية العقل المؤيد فحسب.

المهم انه استنتج مما سبق؛ ان ينزل الفيلسوف الحق مرتبة الصديقية، حيث يجتهد في ان لا يأتي من الافكار الا صادقها، وان لا يصدق مما تلقاه من غيره الا الصادق منها، فضلاً عن دائم تصديق افعاله لافكاره، سواء تلك التي اتاها من عنده او تلك التي تقبلها من غيره.

وطبقاً لهذا الاساس عد سقراط خير مثال وخير نموذج محتذى، وابلغ من ذلك الفلسفة الاسلامية “الحقة” التي جعل منها فلسفة تؤمن بان لا تفلسف حق في غير صلاح الانسان. أما سقراط فقد حسبه اول من جمع بين الفلسفة باعتبارها ائتماناً على الحكمة، وبين حياة الفيلسوف باعتبارها تحقيقاً لهذا الائتمان، وبالتالي حقق لاول مرة مفهوم السيرة الفلسفية.

وعليه قام بتأويل سيرة سقراط فاعتبرها انبنت على اركان فلسفية ثلاثة هي: التشبه بالنبي، والتفكّر، والتخلق الفطري. لكن هذه السيرة – من وجهة نظر طه – واجهت منذ البداية تحريفات اخرجتها على اصالتها السقراطية التي قامت على مبدأ الائتمان على الحكمة، وهي تحريفات جعلت من الفلسفة مجالاً لاقتناء الحكمة؛ كان اولها التحريف الذي احدثه افلاطون كما في تحريفه للتشبه بالنبي الى التشبه بالاله، وعلى شاكلته الطبيب ابو بكر الرازي، ثم تلاه ارسطو ومثله ابن باجة في تحريفهما للتفكّر الى التنظّر، كذلك هو الحال مع نيتشه وعبد الرحمن بدوي في تحريفهما للتخلق الفطري الى التخلق الغريزي.

هذا بشأن التحريفات المدعاة، وفقاً لتأويلات طه، الا انه لم يشر الى وجود فيلسوف “حقيقي” جاء بعد سقراط، وكأن الساحة الفلسفية خلت من الفلاسفة، ومن ثم كان على الطاهية ان تعمل على اعادة احياء ما اسسه سقراط من قبل.

المحور الرابع:

لم يكتفِ طه بتحديد ما تتميز به الفلسفة والفيلسوف طبقاً لمفهوم علاقة الائتمان بالحكمة، بل زاد على ذلك تأويله لما تتميز به النبوة والنبي. وقد جاءت المقارنة بين النبوة والفلسفة، وكذا النبي والفيلسوف، كرد فعل على المقارنة التي ابتدعها الفلاسفة المسلمون بهذا الصدد.

فمن خلال العلاقة بين الفلسفة والحكمة ميّز هذا المفكر بين الفيلسوف والنبي، فالفيلسوف مؤتمن على الحكمة، فيما ان النبي يعلو على الائتمان بامتلاكها. ومن ثم فالتمايز بين الفلسفة والنبوة قائم على الفارق بين الائتمان على الحكمة وامتلاكها. وفي محل اخر اعتبر الفيلسوف يطلب الائتمان على الحقيقة او الحكمة، فيما ان الحكيم - وهو صاحب العقل المؤيد - يوهب هذا الائتمان، والفرق بينهما هو ان الائتمان الموهوب يعان عليه ويأمن المكر؛ لأنه حاصل بالاصطفاء الالهي، في حين ان الائتمان المطلوب لا يضمن العون ولا يأمن المكر؛ لأنه حاصل بالاختيار الذاتي.

وهو قد اعتبر الحكمة اعلى رتبة من الفلسفة، وبالتالي فالفيلسوف صاحب العقل المسدد هو مصلح ديني لكنه لا يمتلك صفة الحكيم، انما تعود هذه الصفة الى النبي او صاحب العقل المؤيد. في حين سبق له في احد ابحاثه ان اعتبر الفيلسوف هو انسان حكيم، ففي كتاب (من الانسان الابتر الى الانسان الكوثر) اعتبر ان الجانب النموذجي من الفعل الفلسفي يتمثل في امور اربعة: احدها موافقة ظاهر الفيلسوف لباطنه، والثاني موافقة فعله لقوله، والثالث لزوم هذه الموافقة المزدوجة حتى يستحق ان يؤخذ عنه باعتباره معلماً، والرابع التغلغل في هذه الموافقة المزدوجة حتى يستحق ان يُقتدى به باعتباره حكيماً. وبالتالي فالفيلسوف هو انسان صادق وعامل ومعلم وحكيم، مع امكانية ان يحصل شذوذ في هذه القيم النموذجية، سواء كانت شذوذ ايجابية تحيي وترسخ هذه القيم ضمن المجال التداولي للفيلسوف، او سلبية تعمل على اماتة هذه القيم او الاضرار بها.

كما ثمة فروق حددها بين الفيلسوف والنبي طبقاً لمعجم مصطلحاته ومفاهيمه الخاصة، منها ما يتعلق بالعقلين المسدد والمؤيد. فاعتبر المعرفة النبوية هي معرفة مؤيدة كلها، اما المعرفة الفلسفية الحقة فهي معرفة مسددة، وان التسديد هو دون التأييد درجة. وهو قد اكد على ان المعرفة المؤيدة هي فطرة لا صنعة، وبذلك لمّح بان المعرفة الفلسفية صنعة، لكنه مع ذلك استدرك وجعل من الفلسفة “الحقة” ما لها صلة بالفطرة، فهو يعتبر الفيلسوف المسدد يأخذ من الفطرة قيمه من خلال ايصال القيم بصفات الذات الالهية، لكنه لا يستطيع ان يصلها بالذات الالهية نفسها كما يصلها النبي المؤيد، لان الذات الالهية تخاطب النبي بهذه القيم.

وفي معرض نقده للطبيب ابي بكر الرازي، عبّر عما يقوم به العقل المسدد بالواسطة المبينة، وما يقوم به العقل المؤيد بالواسطة المبلغة. اما الواسطة المجردة - العقل المجرد - فتعجز عما لا تعجز عنه الواسطة المبينة فضلاً عن المبلغة. اذ اعتقد بان الانتقال من القوانين المادية الى القيم المعنوية لا يمكن ان يتم بطريق التجريد، حيث لا تنتزع القيمة المعنوية من القانون المادي؛ لانها اصلاً غير موجودة فيه. لكن الواسطة المبينة هي التي تقدر على مد القانون المادي بالقيمة المعنوية التي تناسبه، مسددة العمل به، جلباً للمنفعة او دفعاً للمضرة، وتأتي مناسبة القيمة للقانون نفعاً او ضراً من كون الواسطة المبينة تقتبسها من احد الكمالات الالهية او من فرع من فروعها. وهو قد اعتبر ان كل واسطة مبلغة هي مبينة، فالتبليغ اخص من التبيين. فاذا كانت الواسطة المبينة تهتم بالقيم والمعاني في صلتها بالكمالات الالهية؛ فان الواسطة المبلغة تهتم بالكمالات في صلتها بالذات الالهية فضلاً عن صلة المعاني والقيم بهذه الكمالات.

لكن الملاحظ فيما اشار اليه بهذا الصدد انه مثّل على الواسطة المبينة بالإمام، وعلى الواسطة المبلغة بالنبي. في حين كل ما كتبه في (سؤال السيرة الفلسفية) عن العقل المسدد انما يمثله الفيلسوف “الحق”، وهو ذاته الذي يفترض ان يمثل الواسطة المبينة. تبقى هذه هي الاشارة الوحيدة التي ذكر فيها لفظ “الإمام” كممثل للواسطة المبينة والتي هي بدورها تمثل العقل المسدد كما ذكر في السياق. وقد يعني هذا الطرح بان الفيلسوف هو الامام المبين، كما قد يُحتمل انه جعل من الإمام والفيلسوف معاً ضمن لائحة العقل المسدد، خاصة وانه مثّل - في عبارة شاذة - على الواسطة المبينة بالإمام من دون حصر.

وحقيقة ان لفظ “الإمام”، هو وصفة جديدة على العقل المسدد دون ان يبين خصائص هذا الإمام.

وعلى شاكلة هذا الحال مثّل على الواسطة المبلغة بالنبي ايضاً من دون حصر. وهو لم يوضح لماذا جاءت عبارته بهذا الشكل من الشذوذ المقلق.

ففي (سؤال السيرة الفلسفية) كانت عباراته تبدي ان العقل المؤيد مخصص بالانبياء دون غيرهم، مثلما ان العقل المسدد مخصص بالفلاسفة والانبياء قبل النبوة. اما في كتبه السابقة فقد اعتبر الصوفية العارفين ممن ينطبق عليهم العقل المؤيد، خلافاً لما جاء في كتابه الاخير الذي بدا فيه انه حصر العقل المؤيد بالانبياء دون غيرهم من حيث وساطتهم التبليغية، وهي ما لا تنطبق على الصوفية. لكنه مع ذلك اشار في عبارة عرضية بان الصوفي هو من يروّض باطن نفسه، وينبغي ان ينضبط الترويض بالعقل المؤيد. والعبارة تحمل معنيين مختلفين كما سبق ان اشرنا.

وعموماً انه اعتبر الفيلسوف الحق يمتلك عقلاً مسدداً، فيما ان النبي يمتلك عقلاً مؤيداً. بل واضاف بان كل نبي كان مسدداً قبل ان يصير مؤيداً. فالنبي قبل الاصطفاء الالهي والتخصيص بالرسالة قد تعاطى التفكّر في الوجود والتخلق في السلوك بما انزله رتبة الصدّيق، ولم يستحق ان يتحمل النبوة الا بعد ان تحقق بالصدّيقية، فكل نبي تسدد قبل ان يتأيد. فالنبي فيلسوف مسدد سابق، او ان كل من اختير نبياً سبق له ان تفلسف تفلسفاً سديداً.

لكن هذا الطرح لا يفتقر الى الدليل فحسب، بل ان الدليل ضده. فعلى الاقل كيف ينطبق تعميمه على عيسى الذي كان نبياً وهو في المهد؟ اي قبل ان يتفلسف تفلسفاً سديداً وفقاً للاسلوب الطاهي[24].

وهو قد اعتبر معرفة الحقيقة تتوقف على معرفة الذات الالهية، والذات لا تُعرف الا بالخطاب المباشر الذي يتلقاه منها طالب المعرفة. والفيلسوف ان كان تجريدياً؛ فسوف لن يكون له سبيل الى هذا الخطاب المباشر؛ لان لغته هي لغة غياب لا لغة حضور، والخطاب لا يكون الا حضورياً. اما اذا كان الفيلسوف تسديدياً؛ فسيكتفي بالاخذ بالبلاغ عن هذه الذات من خلال النبي.

وعلى هذا الاساس اعتبر الطريق الوحيد الذي يوصل الفيلسوف - تجريدياً كان او تسديدياً - الى معرفة الحقيقة العظمى انما هو الاتباع، فان كان تجريدياً فالاتباع يمكنه من ان يستعيد صلته بالكمالات الالهية حتى اذا تحقق بالقيم والمعاني التي استنبطها منها اتجه الى استعادة صلته بالذات المتصفة بهذه الكمالات مدركاً لهذه الذات على قدر اجتهاده في العمل وبناء نظره على هذا الاجتهاد العملي. اما اذا كان الفيلسوف تسديدياً فان الاتباع يمكنه بفضل الكمالات التي تلبس بقيمها ومعانيها من اكتشاف مدى صلته بالذات الالهية؛ موقناً بانه على قدر تعلقه بهذه الكمالات عاملاً بموجباتها الاخلاقية؛ تكون قوة صلته بهذه الذات العلية.

وكما هو واضح ان طه يجعل من الفيلسوف المطلوب هو ذاته الثيولوجي، سواء كان تجريدياً او تسديدياً. رغم انه – كما عرفنا - لا يعتبر الفيلسوف التجريدي يمتلك فلسفة حقيقية كما يمتلكها الفيلسوف التسديدي، اذ يدرجه ضمن لائحة العلم لا الفلسفة.

كذلك حدد طه الفرق بين الفيلسوف والنبي من خلال مفهوم الايقان، وهو اعتقاد يستدل عليه الانسان بما استطاع من الادلة، لذا فهو اعتقاد استدلالي. والفرق بين الايقان عند النبي والايقان عند غيره هو ان النبي يستدل على مطلوبه من غير ان يسبقه شك فيه، بينما غير النبي يستدل على مطلوبه مع سابق شك فيه. او ان النبي موقن بطريق الاستدلال المسدد، وغير النبي موقن بطريق الاستدلال المجرد. اذ الاستدلال المجرد يتقدمه الشك في حين ان الاستدلال المسدد لا يتقدمه شك. وفضل المستدل المسدد على المستدل المجرد كفضل العامل على الخامل.

وهنا يلاحظ ان طه ينسف ما سطّره في كتبه السابقة. فقد كان يعيب على الفلاسفة المجردين قيامهم بالاستدلالات المجردة من دون تسديد، وكان يشيد بالعقل المؤيد كما لدى الصوفية. اما هنا فقد اعتبر كل الاستدلالات باستثناء ما يستدل به الانبياء هي استدلالات مجردة. ويا لها من مفارقة تضاف الى مفارقات المشروع وتقلباته المفتوحة.


[1]          علماً بان طه عبد الرحمن قد اعترف في (سؤال المنهج) بنفي ان تكون هناك فلسفة ذات شأن تخلو من التناقضات القريبة او البعيدة، ولا فيلسوف استطاع اجتناب التهافتات فيما نقل عنه من مواقف وافكار. واستشهد على ذلك بعناوين لجملة من النظريات الفلسفية المتناقضة من دون تفاصيل، كما في نظرية المثل لافلاطون، ونظرية الحركة لارسطو، ونظرية الالوهية لسبينوزا، وغيرها. كما اشار الى ان من الفلاسفة من فطن الى تناقضاته وجعل منها حافزاً له في تجديد ارائه وتغيير مساره الفلسفي، ومن هؤلاء برتراند رسل الذي تجاوز موقفه من النزعة المنطقية وراجع رأيه في نظريه الدلالة.

[2]  انظر: مفارقات نقد العقل المحض.

[3]  انظر ما ذكرناه في خاتمة: النظام الوجودي.

[4]  كما في كتاب: الاستقراء والمنطق الذاتي، الصادر عام 2005.

[5]  كما في كتاب: نقد العقل العربي في الميزان، الصادر عام 1997.

[6]  كما في كتاب: مفارقات نقد العقل المحض، الصادر عام 2016.

[7]  تم نشر خمس حلقات من (فلسفة النظام الاخلاقي)، وذلك في موقع فلسفة العلم والفهم، انظر:http://philosophyofsci.com:2082/index.php?id=11

[8]  انظر: يحيى محمد: نقد العقل العربي في الميزان.

[9]  انظر: النظام الوجودي، ضمن سلسلة المنهج في فهم الاسلام (3).

[10] عدّد الغزالي ثلاث درجات لحالات المعرفة، هي العلم، والذوق، والايمان الذي عرّفه بانه القبول من التسامع والتجربة بحسن الظن (المنقذ من الضلال، ص35).

[11] انظر: فلسفة النظام الاخلاقي (4)، موقع فلسفة العلم والفهم:http://philosophyofsci.com:2082/index.php?id=191

[12]         لم يصلنا بعد هذا الكتاب، بل اعتمدنا على التمهيد المنشور لدى الصفحة الالكترونية للدار التي طبعت الكتاب، وهي مركز نهوض للدراسات والبحوث.

[13] مثل النصوص القرآنية التالية: ﴿الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَاماً وَقُعُوداً وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتفكّرونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ﴾ آل عمران\ 191.. ﴿أَوَلَمْ يَتفكّروا فِي أَنْفُسِهِمْ مَا خَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ مُسَمًّى وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ بِلِقَاءِ رَبِّهِمْ لَكَافِرُونَ﴾ الروم\ 8.. ﴿يُنْبِتُ لَكُمْ بِهِ الزَّرْعَ وَالزَّيْتُونَ وَالنَّخِيلَ وَالْأَعْنَابَ وَمِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَةً لِقَوْمٍ يَتفكّرونَ﴾ النحل\ 11.

 [14]تشارلس داروين: أصل الأنواع. كذلك: يحيى محمد: جدليات نظرية التطور.

[15] انظر:Sarah F. Brosnan & Frans B. M. de Waal, Monkeys reject unequal pay.

[16]   مثلما ورد في قوله تعالى: ((تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَوَاتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لَا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كَانَ حَلِيماً غَفُوراً)) الاسراء\44.. ((إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ)) الاحزاب\72.. ((وَقَالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنَا قَالُوا أَنْطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْءٍ)) فصلت\21.. ((إِذَا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ زِلْزَالَهَا، وَأَخْرَجَتِ الْأَرْضُ أَثْقَالَهَا، وَقَالَ الْإِنْسَانُ مَا لَهَا، يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا، بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحَى لَهَا)) الزلزلة\1-5..

[17] انظر: فلسفة النظام الاخلاقي (1) في موقع فلسفة العلم والفهم: http://philosophyofsci.com:2082/index.php?id=188

[18]  الشاطـبي: الموافقات في أصول الشريعة، مع حواشي وتعليقات عبد الله دراز، دار المعرفة في بيروت، الطبعة الثانية، 1395هـ ـ 1957م، ج2، ص79. كما انظر: يحيى محمد: النظام الواقعي، ضمن سلسلة المنهج في فهم الاسلام (5).

[19] يحيى محمد: النظام المعياري، ضمن سلسلة المنهج في فهم الاسلام (4).

[20] محمد امين الاسترابادي:الفوائد المدنية، طبعة حجرية قديمة، ص227-228. كذلك: النظام المعياري.

[21] كما جاء في قوله تعالى: ﴿وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَراً مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ، فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ﴾ الحجر\ 28-29. كذلك قوله تعالى: ﴿إِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَراً مِنْ طِينٍ (71) فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ﴾ سورة ص\ 71-72

[22] انظر التفاصيل في: النظام الوجودي.

[23] انظر: تاريخ إبن خلدون، مكتبة المدرسة ودار الكتاب اللبناني ببيروت، الطبعة الثالثة، 1967م، ج1، ص821. كذلك: يحيى محمد: علم الطريقة، ضمن سلسلة المنهج في فهم الاسلام (1).

[24] انظر الاية القرآنية القائلة بحق نبي الله عيسى (ع): ﴿فَأَشَارَتْ إِلَيْهِ قَالُوا كَيْفَ نُكَلِّمُ مَنْ كَانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيّاً، قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آَتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيّاً﴾ سورة مريم\ 29-30. 

comments powered by Disqus