يحيى محمد
ربط الفيلسوف الالماني عمانوئيل كانت بين الدين والاخلاق عبر مصادراته الثلاث المتعلقة بوجود الله وخلود النفس والحرية. فالاخلاق – وفق وجهة نظره - تجعل انفسنا جديرين بالسعادة، لكنها لا تعدنا بنيلها. فهذا العمل هو من وظيفة الدين وحده دون سواه، حيث يمكنه ان يجعلنا سعداء بشكل دائم.
وهو لا يقصد بالدين – هنا – ذلك الوحياني الخارجي القائم على وساطة الانبياء والرسل كما تفرضه الاديان التقليدية بشعائرها وقوانينها الرسمية، بل هو منبعث داخلي من ذات الانسان، وهو عقلي لا يتضمن سوى القوانين غير المشروطة وفقاً للعقل العملي المحض. فهو مرتبط بمصادرات الاخلاق دون ان تكون له علاقة بالتعاليم والمكتسبات الموضوعية، انما طابعه قبلي. لذا دعا الى ما في ذات الانسان من معاني دينية اخلاقية مباشرة، دون اللجوء الى الدين الخارجي، كالذي نظّر له في كتابه (الدين في حدود العقل).
فثمة ارتباط بين الاخلاق والدين الداخلي لذات الانسان، كما ثمة انفصال بين الاولى والدين الخارجي المكتسب. وهو قد اكد على ان الاخلاق مكتفية بذاتها بفضل العقل العملي المحض، وهي مؤسسة على مفهوم الانسان بما هو كائن حر يحمل قوانيناً غير مشروطة دون ان تحتاج الى فكرة كائن اخر فوق الانسان حتى يعرف واجبه، ولا الى دافع محدد غير القانون القبلي ذاته. وبالتالي فالاخلاق منفصلة عن الدين الخارجي.
فالدين التقليدي محدد تاريخياً بأُطر من الزمان والمكان، وله طقوسه الخاصة، وادعاءاته التي تجعل من الانسان عبداً مسخراً دون ان يتخذ حريته ومسؤوليته الذاتية. وهذا ما جعل (كانت) يدعو الى تجريد الدين من كل تجربة تاريخية، ليبقى نقياً خالياً من الشوائب. وبحسب تعبيره: لا غنى من ان نجرد الدين من ثوبه التاريخي حتى نرى صفاءه العقلي العاري. فالدين العقلي هو جسم مجرد من اللباس التاريخي المتضمن لناموس المعتقدات، لذلك لا بد من تعريته من الثوب الخارجي ليتبقى معدنه الكريم كما يتمثل بالايمان الحقيقي.
وهذا يعني - بحسب (كانت) - ان بين الدينين العقلي والتاريخي الوحياني تداخلاً، كما يحصل بين دائرتين واسعة وضيقة، فتكون الاخيرة متضمنة في الاولى، معتبراً ان ما ينبغي على الفيلسوف هو الاهتمام بالدائرة الضيقة التي تمثل الجانب العقلي من الدين، والتي من خلالها يمكن التجرد من كل تجربة. ومن هذه الناحية رأى انه لا ينبغي ان نعثر على توافق بين العقل والكتاب المقدس فحسب، بل على ضرب من الوحدة ايضاً. فهذه الوحدة هي مهمة ما يبحث عنه الباحث الفلسفي في الدين.
ان عدم قطع الصلة بين الدينين العقلي والوحياني لوجود المشترك المتمثل بالدائرة الضيقة جعل (كانت) يقوم بتأويل ظاهرة الاحساس الداخلي للقارئ في معرفة المعنى الحقيقي للكتاب المقدس واصله الالهي في الوقت ذاته، فأشار الى ان هذا الاحساس يجعل ‹‹من يتبع تعاليم الكتاب، ويفعل ما يأمر به، سوف يجد بلا ريب انه من عند الله››[1]. واضاف الى انه حتى حث الكتاب المقدس على الافعال الحسنة والاخلاق القويمة تجعل الانسان الذي يسمع تلاوته يشعر انه من عند الله، او تثبت له الوهيته.
ومن حيث تأويل هذه الظاهرة اعتبر (كانت) ان ذلك الحث ليس شيئاً اخر سوى تأثير القانون الاخلاقي الذي يملأ الانسان باحترام شديد، والذي يستحق لهذا السبب ان ينظر اليه بوصفه وصية الهية. واشار الى ان الشعور الخاص باكتشاف العلامة اليقينة على التأثير الالهي المباشر؛ انما جاء بفضل هذا القانون الاخلاقي. لذلك نفى امتداح اي وحي كان، فالوحي لا يعلمنا شيئاً مطلقاً، بل يحتوي فقط على الطريقة التي تكون بها الذات متأثرة في لذتها والمها، لكن لا يمكن لأي معرفة ان تتأسس على هذا الامر.
واعتبر بهذا الصدد انه لا يوجد اي معيار اخر للايمان الكنسي غير الكتاب المقدس، ولا اي مؤول اخر سوى الدين العقلي المحض، وهذا الاخير هو وحده الاصيل وصالح لكل العالم، اما الطرف الاول فهو على العكس من ذلك مذهبي فقط، وصالح لتحويل ايمان كنسي ما - بالنسبة الى شعب معين وفي زمن معين - الى نسق منضبط وثابت باستمرار.
وعليه أكد على ضرورة ان لا يكون التشريع الخاص بالارادة الالهية الا تشريعاً اخلاقياً، اما التشريع الرسمي النظامي الذي تعمل به الكنيسة والذي يفترض الوحي فلا يمكن ان يكون غير حادث عارض، لذلك لا يصل الى كل انسان على سطح المعمورة، ومن ثم لا يعتبر ملزماً للناس كافة. فالتشريع النظامي لا يصبح معروفاً الا بواسطة وحي ما، وبالتالي يتطلب ايماناً تاريخياً، هو ذاته ايمان الكنائس.
وحول النموذجين المطروحين (الايمان الاخلاقي والايمان الكنسي) تساءل (كانت): من أين نبدأ، هل نبدأ بالايمان بما فعله الله من اجلنا؟ ام بما يجب علينا فعله حتى نصبح اهلاً لما فعله لأجلنا؟ وقد انحاز الى الجواب الثاني دون الاول الذي يتأسس عليه الايمان الكنسي او الدين التاريخي، وهو الذي يتضمن الايمان بالكفارة التي تنوب عنا بالصفح عن الخطيئة وفقاً للتصور المسيحي.
وواضح ان لكانت تعاملاً مزدوجاً مع المسيحية، ايجاباً وسلباً كالتالي:
1ـ من الناحية الايجابية انه تقبل ما تمتلكه المسيحية من جوهر الدلالة على الدين العقلي المحض، كما في مبانيها الاخلاقية والروحية. وحاول بهذا الصدد ان يقرّب ما جاء في الانجيل الى ما يدعو اليه من الدين الاخلاقي العام، فمدح معلم الانجيل، واعتبره لم يكشف مملكة الرب لتلاميذه الا من جهة الجانب الاخلاقي الرائع الذي يسمو بالنفوس، وذلك بان يكونوا مواطنين في دولة الهية مع غيرهم ممن يحملون النوايا نفسها، انسجاماً مع الجنس البشري بتمامه. واشار بهذا الصدد الى ما جاء في انجيل لوقا: ‹‹انظروا: ان ملكوت الله يوجد في داخلكم››.
واستناداً الى هذا الحال اعتبر ان من بين جميع الاديان الموجودة يكون الدين المسيحي وحده من يمثل الدين الاخلاقي ويُرضي قانون العقل العملي المحض؛ لقيامه على الفضيلة والتطهير الاخلاقي الخالص. ففيه يوجد مبدء اساسي يقول: ينبغي على كل فرد من الناس ان يعمل بما يسعه ان يصير انساناً افضل، وهو ما يحصل فيما لو لم يدفن ملكته الفطرية.
هذا على الرغم من ان هذا المعنى وغيره من المعاني الاخلاقية نجدها مزدحمة في نصوص الدين الاسلامي ودستوره القرآني.
2ـ أما من الناحية السلبية، فقد انتقد (كانت) المسيحية في كل ما طرحته من شعائر وعبادات وترسيمات، حيث اعتبرها لا تمتلك اي قيمة اخلاقية. ووصف ايمان دين الشعائر بانه ايمان السُّخرة والأجر، او ايمان المرتزقة الاذلاء، دون ان يكون مخلصاً لعدم قيامه على الاخلاق. فصفة الايمان المخلص هي ان يكون حراً مؤسساً على نوايا القلب الخالصة. لذلك اعتبر كل الافعال العبادية القائمة على الخوف والرجاء، والتي يمكن حتى للشرير القيام بها؛ بانها ليست ذات قيمة اخلاقية، خلافاً للايمان الخالص.
لقد اعترض (كانت) على صفات الله الاخلاقية كما طرحتها الاديان، فاعتبر انه لا ينبغي للمرء ان يصف المشرع الاسمى بانه رحيم ومن ثم متسامح وغير مستبد، ولا ان قوانينه تحكمية على اي نحو شاء دون ان يكون لها علاقة بالاخلاق، بل الصحيح اعتبار مقصود هذه القوانين هو قداسة الانسان. كما انكر وضع طيبته في احسانه غير المشروط لمخلوقاته، ورأى انه لا بد من ان يسبق ذلك طبيعة اخلاقهم التي يمكن بها الفوز برضاه، فحينها فقط يقوم بمساعدتهم على تلافي عجزهم عن الايفاء بهذا الشرط بانفسهم. كذلك اعتبر انه لا ينبغي وصف عدالته بالطيبة والمغفرة، اذ ذلك ينطوي على تناقض، كما لا ينبغي وصفها بالمدبرة تحت صفة قداسة المشرع، بل لا بد من تقييد هذه الطيبة بشرط اتفاق الناس مع القانون المقدس.
وخلاصة ما حدده (كانت) في هذا المجال هي ان الله يريد ان يُعبد ويُخدم بحسب صفة اخلاقية ذات اوجه ثلاثة متباينة على نحو خاص، وذلك كتأويل للثالوث المسيحي، معتبراً انه اذا كان لا يجب على هذا الايمان التثليثي ان يكون تمثيلاً لفكرة عملية اخلاقية، فسوف يكون سراً خفياً يتخطى كل المفاهيم الانسانية، وبالتالي سراً متعلقاً بوحي هو بالنسبة الى قوة التصور البشرية شيء يُطلب فلا يُدرك، فالايمان به لن يكون غير اعتراف بعقيدة كنسية غير مفهومة بالنسبة للانسان تماماً، ومن ثم لا يتم الفوز من خلاله باي شيء يخص التحسّن الاخلاقي. في حين يمكن ان يكون له مقصد مفيد عندما يوجّه نحو الغرض الاخلاقي. لذلك استعان بالتأويل، وقلما يفعل ذلك بحسب نهجه المحافظ، معتبراً ان للمرء ان يقسّم هذا السر الى ثلاثة اسرار موحاة لنا من طرف عقلنا الخاص، وهي: سر الدعوة وسر التعويض وسر الاصطفاء.
وقصد بسر الدعوة، بدعوة البشر كمواطنين لتحقيق دولة اخلاقية. كما قصد بسر التعويض، بتعويض ما يتصف به الانسان من طبيعة فاسدة، فهو من حيث ذاته لا يناسب القانون الاخلاقي المقدس، لذا فحينما استدعته النعمة الالهية الى الوجود بوصفه عضواً في ملكوت السماء، كان عليه ان يستمد وسيلة ما يسد بها النقص الحاصل في كفاءته. أما سر الاصطفاء فقصد به ان رحمة سماوية منحت المعونة للانسان وخصته بالنعيم، ليس بحسب فضل الاعمال، وانما بقضاء مبرم غير مشروط.
وارى ان هذه التأويلات لا تليق بفيلسوف ابستمولوجي منضبط مثل (كانت)، فثمة تباعد مجالي بين الثالوث المسيحي والهرمنوطيقا التي قدمها، وهي على شاكلة الاستبطانات العرفانية للنصوص الدينية.
مع هذا اعترف (كانت) من جهة الواقع، ان الدين الاخلاقي ليس حالة عمومية ضمن التاريخ الكلي للبشر. فالدين الكنسي الشعائري هو وحده الذي يمكن للمرء ان ينتظر منه عرضاً تاريخياً كلياً، ومن ثم قابل بان يقارن بحسب شكله المختلف والمتغير مع الايمان الديني المحض كنوع ثابت لا يتغير. واعتبر انه منذ اللحظة التي يعترف الدين الكنسي بتبعيته للشروط المقيدة لهذا الايمان المحض وبضرورة التوافق معه، فعندها سوف تبدأ الكنيسة الكلية في التشكل ضمن دولة الله الاخلاقية الثابتة لكل الناس والازمان. وان للمرء ان يخمن بان التاريخ لن يكون شيئاً سوى قصة الصراع الدائم بين ايمان الشعائر والدين الاخلاقي. فرغم ان الانسان ميال الى الايمان بدين الشعائر التاريخي الا ان الايمان بالدين الاخلاقي يبقى يطالب بحقه في الاولوية باعتباره الوحيد الذي يحسّن النفوس. وهذا الحق سوف يفرض نفسه ويسود في النهاية من دون شك.
***
ومن الناحية النقدية، تصادف نظرية (كانت) عدداً من النقاط الضعيفة، كما يلي:
1ـ ان تقسيمه للدين الى دائرتين واسعة وضيقة، وقبوله الدائرة الضيقة بوصفها تتفق مع منطق الدين العقلي، لا يخلو من ضعف، فهو لم يحلل لماذا جاءت الدائرة الضيقة متفقة مع الدين العقلي المحض دون الدائرة الواسعة؟ واذا اخذنا بتبريره من حيث وصف الدائرة الضيقة بانها وصية الهية طالما تتفق مع الالزام الحاصل في القانون الداخلي للعقل المحض، فان ذلك سيفكك الجانب الديني الى مجالين مختلفين، حيث احدهما يوحي بالوصية الالهية مع الاحساس بالعلامة اليقينة على التأثير الالهي المباشر، فيما لا يعني الاخر شيئاً؛ لتباعده عن طبيعة القانون العقلي المحض.
وهذا التفكيك لا يمكن قبوله، ذلك اننا اذا اعتبرنا جزءاً من الخطاب الديني عائداً الى التأثير الالهي؛ فسوف يصبح لزاماً علينا اعتبار الجزء الثاني نابعاً هو الاخر من المصدر نفسه، ولا يمكن ادارة ظهرنا عنه من دون سبب معقول.
وارى ان من المعقول جداً ان نجد الاجابة حول هذه النقطة لدى التفكير الخاص بمنطق الحق الذاتي في علم الكلام الاسلامي كالمعتزلة وغيرهم، حيث رغم ان هذا المنطق اعتبر الخطاب الديني كله منبعثاً من الله، لكنه فرّق بين ما جاء به الخطاب من قضايا عملية كممضٍ تابعٍ لإقرار العقل من نتائج متعلقة بالقانون الاخلاقي، وبين ما يعجز العقل عن تحديد نتائجه. فهذه التفرقة لدى هذا المنطق لم تؤثر على الاعتراف بان الخطاب مصدره الهي من دون تفكيك.
ويبدو ان (كانت) يعزو كلا الدائرتين في الخطاب الديني الى البشر دون ان يكون لذلك علاقة مباشرة بالمصدر الالهي، فهو على صعيد الدائرة الضيقة يقر بان لها اصولاً داخلية منبعها العقل الاخلاقي المحض، اما الدائرة الواسعة فلها تأثيرات خارجية ظرفية دون ان تحظى بقيمة معينة.
2ـ ان نظرية (كانت) غير نافعة على الصعيد العملي. ففي الغالب ان الجانب الاخلاقي المحض لا يبعث على فعل الخير ما لم تتوفر محفزات تشجع على هذا الفعل، وهو ما تقدمه الاديان السماوية، لا سيما فيما يخص الثواب والعقاب في الاخرة، فضلاً عن المجازاة في الدنيا. لذلك فان ما دعا اليه كانت لا ينفع الا مع مرحلة متطورة جديدة للجنس البشري، كالذي نظّرنا له في (صخرة الايمان) تحت عنوان (كائنات صوفية قادمة).
3ـ ان نظرية (كانت) تفشل في اسعاف ما يأمله الانسان ويترجاه. فلو اننا التزمنا بها لكان اغلب البشر لا ينالهم شيء من خلود النفس والسعادة القصوى في الاخرة. فتبرير ذلك قائم على الالتزام الداخلي بالقانون الاخلاقي غير المشروط، في حين نجد ان اغلب الناس لا يعملون بهذا القانون الا مع اقترانه بالحوافز النفعية من جلب المصلحة ودفع الضرر. هذا على الرغم من اشارته العرضية بان رحمة سماوية تمنح المعونة للانسان وتخصه بالنعيم كقضاء مبرم غير مشروط كما عرفنا. وهي ما لا تنسجم مع قاعدته الكلية التي جعل فيها النعيم والخلود قائمين على الاخلاق القبلية من دون شروط.
[1] القوسين من وضع (كانت).