-
ع
+

مصطلح اللفسفة والتشبّه في تراثنا القديم

يحيى محمد

ثمة تعاريف عديدة للفلسفة تبرز الوظيفة التي من أجلها وضعت، وهي أنها تريد التعرّف على الوجود. كما هناك تعاريف أخرى تطل على طبيعة الجوهر الداخلي الذي يشغلها كدينامو للتفكير الفلسفي بما يترتب عليه من تضمنات لعلاقة «الحتمية».

فلفظة «فلسفة» مشتقة من كلمة أجنبية هي «فيلا سوفيا» وتعني محبة الحكمة. وحُكي أن أصلها يعود إلى فيثاغورس، وهي أجنبية على اللغة اليونانية، وأنها بحسب تعبير افلاطون (في محاورة اقراطيلوس لافلاطون) غامضة ومستعارة من «البرابرة» أو الأجانب غير اليونانيين.

ويبدو ان مصدر هذا المصطلح يعود إلى حكمة الشرق بما تعبّر عن تأملات غنوصية (صوفية) شائعة آنذاك، وقد يعود الأصل في لفظة (الصوفية) إلى «سوفيا» بمعنى الحكمة، وليس كما غلبَ على تراثنا الإسلامي من ان اللفظة مشتقة من الصوف كدلالة على الزهد والتنسّك لمن لبسه، أو انها عائدة إلى (الصفاء) وغير ذلك من الألفاظ العربية.

وسبق للبيروني (المتوفى سنة 440هـ) ان انفرد من بين الكتّاب العرب – كما هو رأي الباحث أبو العلا عفيفي – بالقول ان هناك صلة بين لفظة (الصوفي) والكلمة اليونانية (سوفيا)، وهو الاعتقاد الذي عوّل عليه المستشرق النمساوي جوزيف فون هامر والذي قال بأن تلك اللفظة مأخوذة من كلمة Gymnosophist، ومعناها الحكيم العاري، وهي كلمة يونانية أطلقها اليونان على بعض حكماء الهنود القدماء الذين اشتهروا بحياة التأمل والعبادة.

ويتسق هذا الرأي مع محبة الفلاسفة اليونانيين للتزود بالعلوم الغنوصية مثلما كانت بارزة لدى كهنة مصر القديمة. وما زالت لفظة (حكيم) مستخدمة إلى يومنا هذا للدلالة على الطبيب في عدد من الدول والمدن العربية والإسلامية، وعلى رأسها مصر، الأمر الذي ينسجم مع ما اشتهرت به مصر القديمة من الطب والغنوص وغيرهما.

ومن حيث الإصطلاح عُرّفت الفلسفة بأنها «العلم بحقائق الأشياء على ما هي عليه، وإرتباط الأسباب بالمسببات، وأسرار انضباط نظام الموجودات، والعمل بمقتضاه». كما عرّفها البعض بأنها «علم حقائق الأشياء والعمل بما هو أصلح».

وهذا يعني أن في الفلسفة جانبين، أحدهما معرفة الوجود، والآخر العمل «بما هو أصلح»، أو العمل بمقتضى نظام الوجود، حسب التعريفين الآنفي الذكر. وهو ما له دلالة على أن الفلسفة تريد من قارئ الوجود أن يصير ممتثلاً للوجود ذاته، فيكون متشبهاً به أو على شاكلته في أعلى الدرجات الممكنة التي تنال بها السعادة القصوى. وهذا ما يتضح مما ينص عليه إبن سينا في تعريفه للفلسفة، حيث يراها بأنها «صناعة نظرية يستفيد منها الإنسان تحصيل ما عليه الوجود كلية في نفسه، وما عليه الواجب مما ينبغي أن يكتسبه بعلمه، ليتشرف بذلك نفسه، ويستكمل ويصير عالماً معقولاً مضاهياً للعالم الموجود، ويستعد للسعادة القصوى الأخروية، وذلك بحسب الطاقة البشرية».

وعليه فهناك تعاريف بعضها مكرس لإظهار موضوع القراءة الفلسفية المتمثل في الوجود، وبعض آخر مهتم بالغاية التي تريدها الفلسفة، وهي التشبه بالوجود أو الإمتثال لنظامه المفضي إلى السعادة القصوى.. الأمر الذي يتضمن الإشارة إلى ما تحمله الفلسفة من طبيعة خاصة بدينامو التفكير الوجودي.

فعلى الصعيد الأول، عرّف جابر بن حيان الكوفي الفلسفة بأنها «العلم بحقائق الموجودات المعلولة». أو هي: «العلم بالأمور الطبيعية وعللها القريبة من الطبيعة من أعلى، والقريبة والبعيدة من أسفل». كما عرّفها الكندي بأنها «علم الأشياء بحقائقها بقدر طاقة الإنسان». وعرّفها الفارابي بأنها «العلم بالموجودات بما هي موجودة». وعرّفها إبن حزم بأنها «معرفة الأشياء على ما هي عليه من حدودها من أعلى الأجناس إلى الأشخاص، ومعرفة إلهية». وعرّفها إبن رشد بأنها «النظر في الأشياء بحسب ما تقتضيه طبيعة البرهان».

أما على الصعيد الآخر المكرس لإظهار الغاية المتمثلة بالتشبه بالوجود أو الإمتثال لنظامه العلوي، فقد جاء عن محمد بن زكريا الرازي قول الفلاسفة جميعاً «أن الفلسفة هي التشبه بالله عز وجل بقدر ما في طاقة الإنسان». كما ذكر إخوان الصفاء بأن حد الفلسفة هو «أنها التشبه بالإله بحسب طاقة الإنسان». ونقل الشهرستاني عن الفلاسفة قولهم بأن غاية الفيلسوف هي «أن يتجلى لعقله كل الكون ويتشبه بالإله الحق بغاية الإمكان». كما عرّفها الجرجاني بأنها «التشبه بالإله بحسب الطاقة البشرية لتحصيل السعادة الأبدية».

فهذا التعريف يتسق مع الأصل المولّد للفلسفة لِما له من دلالة على علاقة (الأصل والشبه) أو السنخية كما فصلنا الحديث عنها في عدد من اجزاء المشروع الخماسي (المنهج في فهم الاسلام). وهو لم يأتِ اعتباطاً كما ظن المرحوم مرتضى مطهري عندما نقد صدر المتألهين الشيرازي لذكره هذا التعريف في كتابه (شرح الهداية الأثيرية) والذي نقله عن السهروردي. بل سبق للرازي - الذي عاش خلال القرنين الثالث والرابع الهجري - أن ذكر هذا التعريف ونسبه إلى الفلاسفة. كما سبق لإخوان الصفا أن ذكروه، وقبلهم اعتبر افلاطون أن صفة الفيلسوف هي التشبّه بالإله.

comments powered by Disqus