يحيى محمد
نقصد بالنص اللغوي بأنه كلام مكتوب، وبالخطاب بأنه قول مشافه. وبذلك يكون الخطاب سابقاً للنص؛ سواء من الناحية الإنثروبية، أو من حيث التكوين النفسي والذاتي. فكل أثر مكتوب لا بد من ان يكون نتاج قول أو كلام، وهو ما نعبّر عنه بلغة الأشاعرة بالكلام النفسي، وله صفة غريزية فطرية خلافاً للنص المتصف بالاصطناع والتكلف. فمن حيث التكوين الذاتي يكون الفكر سابقاً للكلام، وكلاهما فطريان وسابقان للنص.
أو لنقل: الفكر علة الخطاب، والخطاب علة الأثر المكتوب.
ولأن الخطاب هو كلام مشافه فهو يوجه إلى سامع حاضر ضمن جملة من السياقات الظرفية والحالية، والعلاقة التي يتضمنها عبارة عن متكلم وسامع، والرابط الذي يجمعهما هو رابط التبليغ المباشر، حيث يتقصّد المتكلم بكل الوسائل الدلالية (السيميائية) المتاحة، من لغوية وغيرها، إفهام السامع مضمون كلامه. وفيه يلعب «الواقع» دوراً مضافاً في تحديد معنى الجملة التي ينطق بها المتكلم.
أما النص فهو يخلو من السياقات الظرفية الحية التي يقتضيها الخطاب، ومن ثم يغيب فيه «الواقع»، وهي حالة افتقار مقارنة بالخطاب. وتتحدد العلاقة فيه بين طرفين مختلفين عما سبق، هما: صاحب النص (المؤلف) والقارئ.
ومن الناحية السيميائية أن ما يفاد منهما من دلالات ليست متطابقة، حيث يظل النص، بما يعبّر عن مدونة، ناقصاً مقارنة بالخطاب، اذ يمتاز الأخير بالجمع بين أمرين: كلام مشافه مع واقع حي متفاعل، في حين يتصف النص بالتجريد باعتباره محولاً من المشافهة إلى الكتابة، وبالتالي فإنه لا يحتفظ بالواقع الحي الذي يقتضيه الخطاب.
وبذلك يتصف الخطاب بسياقين: أحدهما دلالي والآخر ظرفي وحالي، وهو من هذه الناحية يختلف عن النص الناجز الذي يختص بسياق واحد فقط هو السياق الدلالي، باعتباره يتجرد عن السياق الظرفي وإن دلّ عليه أحياناً. ومن هذه الناحية يكون الخطاب متضمناً للنص، وأن النص يشكل جزءاً من الخطاب. كما من هذه الناحية جاز للخطاب أن يتحول إلى نص من دون عكس. والخطاب ما أن ينتهي إلا ويفقد سياقه الظرفي، فوجوده ملازم لهذا السياق، وهو ما يهبه حيوية ودلالة أعظم من تلك التي للنص، فهو الأصل الحامل للحقيقة. لكن ما يعوّض النص عن هذا الضعف من الحيوية والدلالة هو إنفتاحه على التأويل أو (الهرمنوطيقا) بما لا يقارن مع الخطاب، وهو ما يفتح عليه باب ما يسمى «فائض المعنى».
***
وينطبق ما سبق على القرآن الكريم، فثمة قرآن مشافه وقرآن مدوّن. اذ كانت آيات القرآن تُنزّل مشافهة ثم تدوّن، والأصل هو القرآن المشافه.
ومن الناحية الدلالية يقيم القرآن المشافه علاقته الجدلية مع الواقع الحي، الأمر الذي يجعله يرسم صوراً واضحة ومحددة القصد والمعنى؛ طبقاً لهذا الإرتباط الذي أقل ما فيه انه يشير إلى الواقع مباشرة، لذلك جرى التعبير عن القرآن بأنه بيان للناس، وانه تبيان لكل شيء، فهو بيان وتبيان باعتباره قرآناً مشافهاً، بمعنى ان من السهل على الناس الذين سمعوا القرآن وتفاعلوا معه أن يفهموا مقاصده ومعانيه، لا سيما إنه نزل باللغة التي كانوا يتخاطبون بها. في حين ليس للقرآن المدوّن هذه السمة المميزة في القرآن المشافه، فهو إما ان لا يشير إلى الواقع كلياً، أو انه يشير إليه «ميتاً»، وهو حتى في هذه الإشارة لا يتضمن تحديد طبيعة ما عليه بالضبط بكل ملابساته الاجتماعية والطبيعية. كما إن معاني اللغة التي يستخدمها تتغير عبر القرون والأجيال، لذلك تتعدد قراءاته بلا حدود.
وطبقاً لما سبق إن نسبة ما يمكن ان يؤديه القرآن المدوّن من دلالات كشفية معبرة عن المعنى الحقيقي المقصود هي نصف ما يقدمه القرآن المشافه أو أقل من ذلك. فاذا كان الأخير يمنحنا نسبة دلالية معبرة عن هذا المعنى بما يقارب ثمانين بالمائة مثلاً؛ فإن ما يقدمه القرآن المدوّن من هذه الدلالة هي أربعين بالمائة أو أقل. وهذه النسبة العددية هي للإيضاح، وإلا فأي نسبة تطرح بهذا الصدد هي نسبة خاطئة. إذ لا يمكن وضع مقارنة رياضية بين ما يؤديه الطرفان من كشف دلالي، طالما أن القرآن المشافه أو الخطاب يتضمن أمرين غير متماثلين، هما الكلام المشافه والواقع، خلافاً للقرآن المدوّن أو النص والذي يعبّر عن الكلام المجرد.
هذا بالإضافة إلى أن التسلسل الوارد في القرآن المدوّن لم يكن ذاته التسلسل الطبيعي الذي ورد في القرآن المشافه، لذا فالأول لا يعكس حقيقة ما عليه الثاني، ومن ثم فإن ذلك يضعّف من الكشف الدلالي الخاص بالأول مقارنة بالآخر.
وعموماً إن النص هو مجرد كلام يخلو من الواقع، في حين يقتضي الخطاب التفاعل مع الواقع المباشر، فهو بالتالي يزيد على النص بهذا الواقع، وحيث إن هذا الأخير هو من عالم آخر غير الكلام المجرد أو النص؛ لذا لا يمكن المقارنة بينهما من حيث التأثير على الكشف الدلالي للمتلقي رياضياً.
لكن مع هذا يمكن ان نصيغ الفارق الدلالي بينهما رياضياً كالتالي:
السياق اللفظي ← النص
السياق اللفظي + سياق الواقع الظرفي ← الخطاب
ومن حيث التعويض ستكون النتيجة كما يلي:
النص + السياق الواقعي ← الخطاب
وينطبق هذا الحال من الفارق الدلالي للمتلقي على القرآن المشافه والمدوّن كالتالي:
القرآن المشافه = القرآن المدوّن + السياق الواقعي
القرآن المدوّن = القرآن المشافه - السياق الواقعي
***
هكذا يتبين أن القرآن المشافه هو الأصل، وهو ما يمثل الوحي بكل ما يتضمن من تنزيل أصيل لا إجتهاد فيه. أما القرآن المدوّن فهو مستنسخ عن الأول مع فقده للكثير من الدلالات والإيحاءات، ومع ما تضمنه من إجتهاد جعله لا يحتفظ بالوحي المتأصل في الأول، فعلى الأقل إن ترتيب السور في القرآن المدوّن قد جرى بفعل إجتهادي، وهو لا يطابق ما كان عليه التنزيل في القرآن المشافه.
لقد استهدف وحي القرآن المجتمع الحي الذي تنزّل فيه؛ بكل ما يحمل من خصوصيات وسياقات تاريخية، مما جعل العلاقة بينه وبين الواقع علاقة تأثير مباشر، أما بعد غياب هذا الواقع فلم يعد للوحي تلك العلاقة من التأثير المباشر. بل يمكن القول إن التحول والتغيير قد أصاب الطرفين، فلم يعد الوحي كما كان من قبل بعد أن تحول إلى قرآن مدوّن، كما لم يعد الواقع هو ذاته الذي قصده الوحي بالتنزيل والتأثير. فقد كانت العلاقة بين الوحي كخطاب منزل والواقع الذي تنزل فيه علاقة متكاملة، فكان من الميسّر على المتلقي ان يفهم معاني ومقاصد التنزيل، وهو الحال الذي تغير من الجهتين؛ حيث غياب الواقع وتحوّل الوحي المشافه إلى قرآن مدوّن، الأمر الذي أدى بالفهم إلى ان تنتابه المصاعب، وقد ازداد الحال كلما طال الزمن.