-
ع
+

خلاصة فكر (34) النص وتحكّم فهم الكل

يحيى محمد

يتقوّم النص اللغوي بالجملة المفيدة للمعنى، فهي الوحدة الأساسية التي يتشكل منها، وإن بإرتباط ألفاظها وحروفها يتحدد معنى كل جزء منها، أي ان فهم الكل للجملة النصية يسبق فهم الأجزاء اللفظية ويعمل على تحديد معناها.

كذلك هو الحال في علاقة الجملة النصية بالنص كله. فالتحديد النهائي لفهم الجملة النصية يتوقف على فهم النص كله بنحو من الإجمال. ففهم الجملة يعتمد على ما موجود من قرائن لفظية وسياقية في النص كله. وبالتالي لا يحصل للقارئ تحديد فهم الجزء تحديداً نهائياً دون لحاظ فهم الكل.

وينطبق هذا الحال على الكاتب عندما يريد إنشاء نص معين، فهو لكي يحدد معنى النص كان عليه أن يختار جملاً مناسبة دون غيرها. فمثلاً لو كان يكتب نصاً سياسياً فسوف لا يفكر في جمل لها علاقة بالطبخ أو الرياضة أو الفيزياء... إلخ ما لم يطوّعها وفق منطق (المجال). ولأجل أن يحدد جملاً مناسبة كان عليه أن يختار كلمات ذات معنى محدد مناسب للسياق وسط عدد كبير من الكلمات. كما انه عندما يريد أن يحدد هذه الكلمات كان عليه أن يختار حروفاً معينة دون أخرى. وبذلك يتطلب إنشاء النص أن يسير التفكير من الأعلى فالأدنى، أو من الكل إلى الجزء، وليس العكس، حيث يتنزل الفكر عبر مراتب أربع يتحكم فيها الأعلى بالأدنى: من النص فالجملة فالكلمة فالحرف.

وهو ما يشابه العلاقة الدائرة بين التراتب الهرمي للتركيب العضوي للكائن الحي، حيث يتحكم ما هو أعلى بالأدنى وليس العكس، رغم ان الأول يتوقف وجوده على الثاني. فمثلاً ان الدنا (DNA) لا يتحكم في الخلية، والخلية لا تتحكم في النسيج، والنسيج لا يتحكم في العضو، والعضو لا يتحكم في الجهاز، والجهاز لا يتحكم في الكائن الحي ككل.. بل العكس هو الجاري، حيث التحكم يبدأ دائماً من الكل إلى الجزء. وكذا هو الحال في علاقة النص ككل بالمجال، وعلاقة المجال بالسياق، وهذا بالكلمات، والأخيرة بالأحرف.

وأول ما يرد في الفهم هو توقع القارئ لمجال الكل من خلال عنوان النص، أو مقاطعه الأولى، وعليه يبني فهم سائر المقاطع عبر عملية جدلية يتأثر بها فهم الجزء بالكل، والعكس صحيح أيضاً، حتى ينتهي الحال بالقارئ إلى الفهم المستقر للنص.

فالأمر أشبه بعلاقة البنّاء بالبناء، فهو لا يضع أجزاء البناء قطعة قطعة دون تصور مسبق للكل، ولو فعل ذلك لكان بناؤه بناءاً اعتباطياً؛ ليس للإرتباط بين أجزائه معنى ولا غاية. لذا فلكي يحصل الإرتباط المنظّم بأن تكون كل قطعة في موضعها المناسب لا بد من ان يرتكز سلفاً على تصوره المسبق وتخطيطه الكلي للبناء.

وتخضع عملية الفهم للعملية الاستقرائية، فباستقراء الجمل يتبين للقارئ (المتميز) عدد من الأنساق المعرفية، وهي كليات تتحكم في فهم الجملة النصية. وقد يفضي الأمر أحياناً إلى تأويل بعض الجمل النصية تبعاً لاعتبارات فهم الكل. وحتى عندما تؤثر الجملة النصية على تغيير فهم الكل، فإن ذلك يحدث بفعل فهم الكل ذاته، إذ يعاد ترتيب فهم الكل من جديد ليتم على ضوئه تفسير الجملة النصية الشاذة، وتجنب ما قد يبدو من تناقض في الفهم.

إن في كل عملية تغيير للفهم هناك فرض جديد كلي يعمل على تفسير ما تمّت قراءته بنوع من الاتساق، بحيث يظن القارئ انه يعبّر عن حقيقة مقصد النص أو قريب منه، أو كونه أفضل الفروض المرجحة بفضل اتساقه وتماسكه. وبذلك يقع القارئ في ما يطلق عليه في النقد الأدبي بأُفق التوقع والانتظار. إذ في كل مرة يكون القارئ حاملاً لنسق من الفهم المتوقع للنص عند القراءة، وتتبين حقيقة هذا التوقع بعد حين من الانتظار، فيكون نصّ (ما بعد) محدداً لنصّ (ما قبل)، مثلما ان البداية تجري على العكس من ذلك، أي ان نصّ (ما قبل) هو الذي يحدد نصّ (ما بعد). وكل ذلك يحدث بفعل العديد من الإفتراضات القبلية التي تدفع إليها الجمل النصية المخالفة لأنساق الفهم السابقة.

وثمة شبه بين فهم النص وإدراك الشيء الخارجي، حيث في كلا الحالين تكون القبليات هي التي تحدد فعل الظهور، كما انها ككليات تتحكم في فهم وتفسير الجزئيات التابعة للنص والشيء الخارجي، ولولاها ما كان بالامكان ان نعرف شيئاً، ولا ان نفهم نصاً.

وينطبق الحال ذاته على العلوم الطبيعية، فهي تتوقف على طبيعة القبليات المعرفية التي تستخدمها في البحث، فتارة تتصف هذه القبليات بالحياد كما يفعل المنطق الإجرائي عادة، وأخرى تعبّر عن إفتراضات خيالية ورياضية كالذي يفعله النظام الإفتراضي، كما قد تعبر القبليات عن أشكال ميتافيزيقية وفلسفية كالذي يصنعه منهج النظام التخميني الميتافيزيائي.

ومع ان للنص تأثيراً مقابلاً على تغيير قبلياتنا، ولكن بنحو جزئي. فهو يعمل على تحويل بعض من هذه القبليات واستبدالها بأُخرى أو بنتائج الفهم. ومن أهم العوامل التي تساعد على جعل النص مؤثراً في قبلياتنا هو اندماجنا وخضوعنا لتوجيهات النص ضمن مساره العام.

ولا بد من التمييز - هنا - بين القبليات الثابتة والمستقرة من جهة، والقبليات المتغيرة وغير المستقرة من جهة ثانية. فالقبليات الأولى تتصف بالموضوعية وهي لا تقبل التغيير والتحويل، مثل قاعدة الاستقراء وما إليها من القبليات المطلقة، في حين تتصف الثانية بالذاتية وانها تقبل التغيير والتحويل، مثل القبليات المنظومية والقبليات غير المنضبطة؛ كتلك المستمدة من العادة والتقليد، فمثل هذه القبليات يمكن ان تتحول وتتغير بعد القيام بقراءة النص والخضوع لتوجيهاته. وبهذا تبدأ عملية تصحيح القبليات بفضل البعديات من الفهم، كما تبدأ عملية التكوين المعرفي المؤسس على النص، ولو بفعل جملة من القبليات الثابتة والمستقرة، ولولاها ما كان بالإمكان قراءة النص وفهمه، فضلاً عن الاندماج فيه.

وبذلك فإن هناك عوامل متعددة تشترك في العمل على تحديد فهم الجزء، حيث تتصف سلسلة بناء الفهم العادي للنص بالتنازل؛ بدءاً من القبليات، ومروراً بفهم الكل، ومن ثم انتهاءاً بفهم الجزء. لكن حالة الاصطدام بفشل التوقع – أو ما يسمى بالخيبة - يجعل السلسلة تعمل على بناء ذاتها بشكل معكوس، وهو ما نسميه (تصاعد الفهم)، إذ إن فهم الجزء يصبح عائقاً أمام فهم الكل، فيعمل الأول على تغيير الثاني لينضم تحت لوائه، كما إن الثاني قد يصطدم بالقبليات غير المستقرة، فيعمل بدوره على تغيير هذه القبليات ليتقبل حاكميتها.

وقد يفسر ما يحصل في الفهم والعلاقة بين الجزء والكل بأنه يفضي إلى الدور. فالعملية الاستقرائية تعتمد على الجملة النصية ليعرف مسار النص إن كان قائماً على الفهم العرفي مثلاً أو لا، وفهم الجملة النصية محكوم بدوره بذلك الفهم، فيصبح الكل منتزعاً من الجزء، والجزء محكوماً بالكل، وهو دور، لتوقف كل من الفهمين على الآخر. وكذا يقال الأمر ذاته عند تحديد الأنساق الكلية والنظريات العامة للنص، فهي منتزعة من الجمل النصية، في الوقت الذي تتحكم في تحديد معاني هذه الجمل.

لكن لا بد من لحاظ وجود نوعين من الفهم للجملة النصية، أحدهما لذاتها وبغض النظر عن غيرها من الجمل، والآخر مرتبط بغيرها. فالمعنى المتولد عن الأول، هو غير المعنى المتولد عن الثاني، بل إن المعنى الثاني يؤثر في الأول. وما يحصل في العملية الاستقرائية هو من النوع الثاني، أي من حيث إرتباط الجمل بعضها بالبعض الآخر ضمن السياق العام، ومنه يتبين عند كثرة القرائن ان المسار العام للنص مثلاً هو مسار دال على الفهم العرفي لا غير.

لذا يصبح تحديد الجملة النصية وارداً بعد تحديد المعنى المشترك العام، كالفهم العرفي، حيث يكون من السهل تفسير الجملة وفهمها وفقاً لذلك الفهم دون الفهم الرمزي مثلاً. وفي هذه الحالة ينتفي الدور، وتكون الأسبقية والتحكم لفهم الكل دون الجزء، وللإرتباط المعرفي الخاص بالجمل ككل دون الجملة ذاتها.

وما سبق ينطبق على إدراكنا لظواهر الطبيعة، حيث لا يمكننا تفسير الظاهرة الطبيعية دون العودة إلى القوانين العامة والنظريات الكلية. فالحادثة الفردية لا تفسر إلا من حيث إفتراض بعض القوانين العامة التي تتحكم فيها.

مع ذلك يلاحظ ان القوانين العامة والنظريات الكلية تقوم على لحاظ الوقائع المفردة، وان هذه الوقائع محكومة بدورها من حيث التفسير بتلك القوانين والنظريات، فيصبح الجزء معتمداً على الكل، وكذا العكس، وهو دور. فمثلاً إذا أردنا ان نعرف خاصية معدن معين إن كان يوصل التيار الكهربائي أم لا، فإنه يمكن إختباره، وعبر ذلك قد نصل إلى نتيجة مؤداها ان له تلك الخاصية. لكن السؤال هو: كيف يصح لنا هذا الاستنتاج، مع اننا لا ندري إن كانت صفة التوصيل للمعدن سوف تظل أم تزول؟ فلكي نثبت النتيجة ونتأكد من أن للمعدن تلك الخاصية على الدوام؛ لا بد من ان نستعين بقاعدة عامة تخول لنا امضاء هذه النتيجة، وبدونها لا يمكن الحكم على المعدن بشيء، وتنص القاعدة بأن الحالات المتشابهة تفضي إلى نتائج متماثلة، وهي ما تعرف بقاعدة التناسب أو الانسجام. ومع ذلك فإن هذه القاعدة هي بدورها نتاج ملاحظات سابقة لظواهر الطبيعة كشفت عن كونها مضطردة لا تتغير. في حين يلاحظ في القبال ان قبول اعتبار ظواهر الطبيعة مضطردة لا تتغير، وهو المعبر عنه بقانون الاضطراد، محكوم بالقاعدة الآنفة الذكر، بمعنى اننا لكي نقبل كون الطبيعة مضطردة على الدوام لا بد من ان نفترض قبل ذلك صحة قاعدة التناسب، وإلا كنّا على شك من قانون الاضطراد، وهكذا يدور الدور.

أما الجواب على ذلك كله فيعتمد على ما للاحتمالات العقلية من دور في تأسيس تلك القاعدة، سواء من حيث صدق انطباقها أو ترجيحها. فهذه الاحتمالات ليست مستمدة من القاعدة ولا من التجارب والخبرات الماضية كي نقع في الدور، على ما فصلنا ذلك في (الاستقراء والمنطق الذاتي).

وفي جميع الأحوال يلاحظ ان الكل متحكم في الجزء ومقدم عليه، سواء على مستوى معرفة الواقع والقوانين العلمية، أو على مستوى فهم النص؛ كالنص الديني وغيره.

comments powered by Disqus