يحيى محمد
يمكن تقسيم علوم التراث ذات العلاقة بفهم النص والخطاب الديني الى قسمين. فهناك علوم تمهيدية متخصصة ومحايدة لا علاقة لها بشكل مباشر بفهم الخطاب، وإن وظفت لهذا الغرض، كعلوم العربية والتاريخ والرجال والمنطق وما على شاكلتها. وفي قبالها توجد علوم لها علاقة ماسة بهذا الفهم طبقاً لما تحمله من أدوات معرفية وتأسيسات قبلية فرضت نفسها على آلية الفهم مباشرة، كعلم الكلام والفقه والتفسير والحديث والتصوف والفلسفة...الخ.
ومع أن موضوعات المجموعة الثانية من العلوم مختلفة، إذ لكل علم موضوعه الخاص، فما لعلم الكلام هو غير ما لعلم الفقه من موضوع، وكذا الحال مع التفسير والحديث والفلسفة والتصوف، فلكل من هذه العلوم معالجته الخاصة واستقلاليته النسبية، لكنها مع ذلك تشترك في اخضاع الخطاب الديني للفهم. وعليه لو أنا اعتبرنا الموضوع المشترك الجامع لهذه العلوم هو فهم الخطاب بالذات؛ لأصبحت بمثابة علم واحد متعلق بهذا الفهم، ولكان من الممكن تقسيمها قسمة أخرى بحسب علم الطريقة او المنهج. إذ لا تشكل تلك الأجزاء والأقسام كتلاً مستقلة لكل منها موضوعها المحدد، بل تقترب بعض الكتل من بعض، او تندك بها لاتحاد طريقتها العامة في الفهم.
فمن وجهة نظر طريقية او منهجية تُصنف هذه العلوم ضمن كتلتين كبيرتين، لكل منهما روحها الخاصة من النظر والتفكير، الى الحد الذي تتضارب فيه احداهما مع الاخرى، وإن تداخلا على مستوى السطح والظهور التاريخي، كما يظهر لدى المفكرين الذين حاولوا التوفيق أو التلفيق بينهما. فبحسب التحليل الابستمولوجي إن القطيعة والمنافاة بينهما ليست محايثة ولا تاريخية، بل منطقية ذاتية جوانية، بغض النظر عن المجرى التاريخي لهما.
فكتلة علوم الكلام والفقه وغالب تفسير القرآن والحديث؛ تتخذ اتجاهاً محدداً في قبال كتلة الفلسفة والتصوف أو العرفان. فكل من الكتلتين يعبر عن نظام معرفي قائم في ذاته يتنافى جذراً وروحاً عن الآخر. ولا يعود السبب في هذا التنافي المعرفي الى اختلاف الموضوع الذي يعالجه النظامان من حيث الأساس. فمع أن الفلسفة والتصوف تتعاملان مع موضوع >الوجود< قبل تعاملهما مع الخطاب الديني، بخلاف الحال مع نظام كتلة العلوم الأخرى، إلا أن هذا التمايز ليس هو السبب في مصدر التضارب المنطقي بين النظامين، فمن المعلوم أن علوم النظام الآخر تعالج أيضاً موضوعات جزئية مختلفة، ومع هذا فليس بينها منافاة من النوع الذي أشرنا اليه. كما لا يمكننا أن نرجع السبب في مصدر التضارب المعرفي للنظامين الى الاختلاف في وجهات النظر بينهما من هنا وهناك، إذ لا يخلو أي نظام وجهاز معرفي من كثرة الخلاف، بما فيها الخلافات الكبيرة، ومع ذلك لا يعني أن بينها قطيعة ومنافاة، على الصعيد المنطقي العام. يضاف الى أنه لا يسعنا إرجاع مصدر التضارب الى اختلاف طريقة الاستدلال الصورية، إذ هما كثيراً ما يشتركان في هذه الطريقة من هنا وهناك. بل يمكن القول أن مصدر التضارب يعود الى التباين الشاسع في الروح العامة لنمط التفكير لدى كل منهما، فطبيعة المعرفة لكل منهما هي ليست من جنس الثانية، الى الحد الذي يجعل من موضوع البحث المشترك، وهو الخطاب الديني، يتمظهر بمظهرين لكل منهما الجنس المختلف كلياً عن الجنس الآخر. ولنقل أن لكل منهما مرآته الخاصة المختلفة جذراً عن الأخرى. لذلك لم تفض عمليات التوفيق بين الطبيعتين تاريخياً إلا الى نوع من التأسيس الجديد لصالح احداهما على حساب الأخرى. فالتضاد بينهما هو تضاد بين روح حتمية وأخرى غير حتمية، وليس من الممكن الجمع بينهما دون خسارة إحداهما لحساب الثانية. وبالتالي فإن ذلك يدفعنا الى القول بضرورة دراسة هاتين الروحين كموضوعين في ذاتيهما بغض النظر عن العناصر الصورية المحايدة التي توظفها كل منهما.
***
من المعلوم قبل كل شيء أن لنظام الفلسفة والتصوف وجوداً مستقلاً سبق وجود الخطاب الديني او الاسلامي لمدة تناهز عشرة قرون خلت. وكانت اشكاليته المعرفية هي اشكالية >وجودية< تتخذ من >الوجود العام< موضوعاً لها، مضفية عليه الطابع الحتمي في جميع مراتبه ومفاصله. لذا آثرنا تسمية هذا النظام بـ >النظام الوجودي< الحتمي، فما قدمه من تنظير يمتاز بالطابعين الوجودي والحتمي معاً، حتى على مستوى تعامله مع الخطاب والقضايا المعيارية.
أما علوم النظام الآخر فقد نشأت بعد وجود الخطاب الديني، وقد علقت بهذا الخطاب بشتى الاشكال والنواحي، لذلك لم يكن هناك مانع يفصلها عن فهمه مثلما هو الحال مع النظام الوجودي. فموضوعها الأساس إن لم يكن هو عين الخطاب ذاته، فهو لا يخرج عن القضايا التي تتعلق به مباشرة من هنا وهناك. وعليه فهي من حيث ذاتها ليست مستقلة، ولا كان بالامكان معالجتها وقراءتها بمعزل عن علاقتها بالخطاب، خلافاً لما هو الحال مع النظام الوجودي، لكونه مستقلاً بذاته، وبالتالي فمن الناحية المنطقية جازت معالجته لذاته وبغض النظر عن علاقته بالخطاب.
لكن لما كانت علوم النظام الآخر غير مستقلة في ذاتها عن الخطاب، فهي إما مبنية على فهمه أو على الموضوعات العالقة بأجواءه، وحيث أن للخطاب طبيعة معيارية تتضمن >الروح الانشائية< وتتخذ من نظرية التكليف قطبها الأساس، لذا فقد اصطبغت هذه العلوم بالصبغة المعيارية، أي أنها تنتمي الى ما نطلق عليه >النظام المعياري<، دون أن يعني ذلك بأن الخطاب هو الآخر ينتمي الى هذا النظام، باعتباره مادة خام بالقياس الى الأنظمة والأجهزة التي تطرح نفسها لفهمه ومعالجة قضاياه.
ومصطلح (المعياري) جاء ليقابل مصطلح الوصفي والتقريري للأشياء الخارجية، فمعناه هو ما ينبغي عليه الشيء أن يكون. وفي بعض المعاجم الفلسفية عُرّف (المعيار) لدى المنطقيين بأنه نموذج مشخص لما ينبغي ان يكون عليه الشيء، وهو النموذج المثالي الذي تنسب اليه احكام القيم، فالمعيار في الاخلاق هو النموذج المثالي الذي تقاس به معاني الخير، والمعيار في المنطق هو قاعدة الاستنتاج الصحيح، وفي نظرية القيم هو مقياس الحكم على قيم الاشياء. والعلوم المعيارية هي عند (ووندت) عبارة عن العلوم التي تهدف الى صوغ القواعد والنماذج الضرورية لتحديد القيم، كالمنطق والاخلاق وعلم الجمال. وتقابل هذه العلوم نظيرتها المسماة بالعلوم التفسيرية او التقريرية القائمة على ملاحظة الاشياء وتفسيرها، كما في علوم الطبيعة، فهي علوم خبرية خلافاً للعلوم المعيارية التي يمكن تسميتها بالعلوم الانشائية. وبالتالي فما نعنيه بالنظام المعياري لدى الفكر الاسلامي هو التفكير في مجال القيم بما ينبغي عليه الشيء أن يكون.
لذا فمن حيث الدقة، إن الفارق بين النظرتين الوجودية والمعيارية هو أن النظرة الوجودية ترى الأشياء من حيث ذواتها وصفاتها وعلاقاتها الكينونية. في حين تترصد النظرة المعيارية البحث في الفعل الارادي ودوافعه النفسية وما ينطوي عليه أو يقتضيه من صفات وعلاقات انشائية أخلاقية لا كينونية. فشرط الوجود هو الذات، وبالأساس الذات الالهية، فمن خلالها تتشخص طبيعة النظرة الى سائر الوجودات. بينما شرط >المعيار< هو القدرة والارادة، فبها يمكن الحديث عن الخصال المعيارية للفعل أو السلوك الحر. وبالتالي فلولا الذات ما كان للوجود وجود، كذلك فلولا القدرة والارادة ما كان للمعيار عيار. وبهذا التمايز بين النظرتين (الوجودية والمعيارية) يمكننا أن نتفهم طبيعة التفكير لدى كل منهما.
فميزة النظام الوجودي عن النظام المعياري هو أن الأول لا يشرّع الا بأخذ اعتبار «الوجود» ولأجله. فحتى القضايا المعيارية تكون محددة ومقاسة طبقاً لـ >الوجود<. بينما ينعكس الحال في النظام المعياري، سواء في دائرته العقلية أم البيانية. اذ يقوم التشريع فيه على >المعيار< ولأجله؛ بما في ذلك تحديد قضايا الوجود واعتباراته. فبحث الدائرة البيانية حول (المشكل الوجودي) كما يتمثل بالصفات الإلهية لا يخرجها عن الطبيعة المعيارية، فهي تعالج هذا المشكل اعتماداً على بيان النص وتبعاً للدوافع اللاهوتية. أما الدائرة العقلية فمن الواضح أن محور اهتمامها يتمثل بالعلاقة التكليفية التي تربط المكلِّف بالمكلَّف، وهي حتى في تعاملها مع القضايا الوجودية، كبحثها في الأمور الفيزيقية والميتافيزيقية، تنطلق في الغالب من الدافع اللاهوتي. ويصدق هذا الأمر على الاتجاهات التي انقسمت على نفسها بين عدد من الدوائر، كمذهب الأشاعرة المتقدمين، فهو في تحديده لقضايا الصفات كمشكل وجودي يتبع المنهج البياني بخلفياته اللاهوتية، أما بالنسبة لقضايا العلاقة التكليفية فانه يتبع المنهج العقلي. أي أنه منقسم على ذاته بين الدائرتين ومتمشكل بكلا المشكلتين (الوجودية والمعيارية).
ويلاحظ ان الممارسة العقلية لعلم الكلام تقف على الضد والتنافي مع الممارسة العقلية للفلسفة التقليدية. فالنظام الذي ينتمي اليه كل منهما هو على الضد من الآخر. فبحسب الفهم الطريقي ان العقل الكلامي هو عقل معياري خلافاً لما يتصف به العقل الفلسفي من صفة وجودية غير معيارية. وبالتالي فإن الروح المعرفية وطريقة التفكير ونوع النتائج لكل منهما هي مختلفة تماماً.
وعموماً يمكن القول بأن منهج علم الكلام هو أقرب للتفكير الديني، أو أنه ممزوج بهذا التفكير، وأن أتباعه يحملون عقيدة آيديولوجية مذهبية دينية، وعلى خلافه منهج الفلسفة المتحرر غالباً من هذه المذهبية، وأنه أقرب للمنهج العلمي، سيما وأن العلوم الطبيعية كانت في ذلك الوقت تُبحث وتُدرس ضمن الفلسفة، وأن العلماء كانوا إما فلاسفة أو دائرين في فلكهم. لذلك فالتطور العلمي الذي حصل خلال تاريخ الإسلام إنما كان بفعل الفلسفة لا الكلام، رغم بعض مؤاخذاتنا على علاقتها بعلوم الطبيعة، كما سجلناها في كتاب (مدخل إلى فهم الإسلام). لذا ففي فهم القضايا الدينية يسهل الإنفكاك تماماً من الفلسفة، لكن من الصعب الإنفكاك من علم الكلام وتفكيره الديني؛ بإعتباره مختصاً في أسس وأركان هذه القضايا خلافاً للأولى.
وحقيقة، لولا أن الفلسفة ومعها العرفان قد تعرضا للخطاب الديني بالفهم والتبعية كمنهج؛ لكُنّا قد اعتبرناهما يقعان عرضاً وموازاة في منافسة منطق الدين ذاته. فهما ينافسان هذا المنطق ومدعياته الأساسية. لذا يصعب عليهما تبرير أصول المسألة الدينية وأركانها الأربعة، خلافاً لعلم الكلام.
لا يقال بان للفلسفة التقليدية المنهج البرهاني، اذ لا تسلّم بشيء ما لم تقم الدليل عليه، خلافاً للكلام. ذلك أن كلاً منهما يقيم المنهج الاستدلالي طبقاً للمسلمات الخاصة به، مثلما اشار الى ذلك ابن رشد[1]. بل يمكن القول ان الفلسفة التقليدية ليست برهانية باطلاق، بل هي مشروطة بحدود ما تتعامل به من ماهيات كلية مفترضة في الذهن، فهي بالتالي ليست برهانية من حيث علاقتها بالواقع او انطباقها معه. ويمكن تصوير هذه الناحية بمثال يعود الى الهندسة الكونية، فحينما نقول ان مجموع زوايا المثلث هو (180 درجة)، فهذا القول صحيح قياساً الى ما نحمله من تصور وافتراض ذهني، لكنه ليس معنياً بالواقع الموضوعي فعلاً. فنحن نتعامل مع سطح مستو على الصعيد الذهني، في حين ليس بالضرورة ان يكون مبنى الواقع بمثل هذا السطح. فلو لم يكن مبنى الواقع مستوياً لكان مجموع تلك الزوايا غير ذلك القدر بالضرورة. فمثلاً إن نظرية اينشتاين في النسبية العامة قد عوّلت على السطح المنحني للهندسة الكونية، وأخذت تصور الواقع على أنه أشبه بقطعة البطاطس، لهذا كان مجموع زوايا المثلث حسب هذا الافتراض مغايراً للدرجة السابقة، خلافاً لنظرية نيوتن في تصورها للهندسة الكونية[2]. وهكذا الحال يمكن قوله حول ما يتعلق بالفلسفة التقليدية.
ويترتب على ذلك ان الفلسفة والكلام لم يتعاملا تعاملاً محايداً ازاء القضايا التي اعترضتهما، سيما القضايا الرئيسة للعقيدة الدينية. ومع ذلك فإن لكل منهما اجتهاداته الخاصة، الى الدرجة التي يتفقان فيها غالباً على ترجيح الرؤية العقلية على النص، اذ يعتبرانها قاطعة خلافاً للأخير، لكنهما يختلفان في مضامين تلك الرؤية تماماً.
ورغم توظيف النظام المعياري لعلوم العربية لصالحه، سيما فيما يتعلق بالدائرة النقلية منه، لكن ذلك لا يجعل من هذه العلوم علوماً تابعة له، فهي محايدة كالمنطق في علاقته بالفلسفة، وإن تم توظيف كل منهما لتحقيق مطالب النظامين، بل أن الشواهد التاريخية تثبت بأن التوظيف كان في بعض الأحيان معكوساً، بمعنى أن النظام المعياري وظّف المنطق لصالح قضاياه ضد النظام الوجودي، كما أن النظام الأخير وظف بدوره اللغة العربية لاثبات مطالبه ضد النظام الأول. وهذا يعني أن كلاً من اللغة العربية والمنطق لا يحمل تصورات عقائدية او وجودية خاصة، بل هما صوريان يقبلان التطبيق على مختلف العلوم التي تناسبهما.
لذلك فإن مناقضة البيانيين من أهل النظام المعياري للمنطق ليس المقصود منه مناقضته من حيث ذاته، فهو في حد ذاته لا يعارض البيان او المعيار؛ باعتباره صورياً، بل لأن الفلاسفة صاغوه واستخدموه لأغراضهم >الوجودية< حتى أصبح ملاصقاً لأعمالهم الفلسفية، لذا أبعده أهل المعيار عن اهتمامهم وحرّمه آخرون لهذا الغرض، حتى حان وقت إعادة ترتيب اعتباره وتوظيفه داخل حيز البيان والنظام المعياري عموماً، كما فعل ابن حزم والغزالي والفخر الرازي وغيرهم، وهو ما أشار اليه ابن خلدون في مقدمته. فكما ذكر بأن >صناعة المنطق قبل امام الحرمين الجويني لم تكن ظاهرة في الملة، وما ظهر منها بعض الشيء لم يأخذ به المتكلمون لملابستها للعلوم الفلسفية المباينة للعقائد الشرعية بالجملة، فكانت مهجورة عندهم لذلك<[3]. ونقل السيوطي في (الحاوي للفتاوي) آراء عدد من العلماء الذين حرموا الاشتغال بالمنطق لكونه، كما يعتقد، يجر الى الفلسفة والزندقة، فاعتبر أول من نصّ على التحريم الشافعي، ومن أصحابه إمام الحرمين والغزالي في آخر أمره، وابن الصباغ صاحب (الشامل) وابن القشيري ونصر المقدسي والعماد بن يونس وحفده والسلفي وابن بندار وابن عساكر وابن الأثير وابن الصلاح وابن عبد السلام وأبو شامة والنووي وابن دقيق العيد والبرهان الجعبري وأبو حيان والشرف الدمياطي والذهبي والطيبي والملوى والأسنوي والأذرعي والولي العراقي والشرف بن المقري وقاضي القضاة شرف الدين المناوي. ونصّ عليه من أئمة المالكية ابن أبي زيد صاحب (الرسالة) والقاضي أبو بكر بن العربي وأبو بكر الطرطوشي وأبو الوليد الباجي وأبو طالب المكي صاحب (قوت القلوب) وأبو الحسن بن الحصار وأبو عامر بن الربيع وأبو الحسن بن حبيب وأبو حبيب المالقي وابن المنير وابن رشد وابن أبي جمرة وعامة أهل المغرب. ونصّ عليه من أئمة الحنفية أبو سعيد السيرافي والسراج القزويني الذي ألف في ذمه كتاباً سماه (نصيحة المسلم المشفق لمن ابتلى بحب علم المنطق). كما نصّ عليه من أئمة الحنابلة ابن الجوزي وسعد الدين الحارثي وابن تيمية الذي ألف في ذمه ونقض قواعده بمجلد كبير سماه (نصيحة ذوي الإيمان في الرد على منطق اليونان) [4].
لكن على رأي ابن خلدون فانه منذ الجويني أخذت صناعة المنطق طريقها وسط أهل الملة، ثم انتشرت وقرأها الناس وفرقوها عن العلوم الفلسفية من حيث انها قانون ومعيار للأدلة فقط[5]. ثم جاء الفخر الرازي فسبق غيره في اعتبار المنطق علماً مستقلاً بذاته وهو أنه آلة للعلوم[6].
أما نظام الفلسفة والتصوف فحيث أنه يستند الى إشكالية الوجود والحتمية، فإن فهمه للخطاب لم يرتكز على نزعة >المعيار< كما هو الحال في النظام الأول، بل قام على نزعة >الوجود< واعتباراته الحتمية، الى الحد الذي أصبح الخطاب بحسب هذا الفهم مرآة لاظهار الوجود وحتميته حتى في القضايا المعيارية الصميمة؛ بما فيها مسألة التكليف ذاتها. فطبقاً لهذا الفهم فإن عملية التكليف التي يبديها الخطاب تتخذ طابعاً مجازياً حقيقته الوجود والحتمية.
وكتأكيد على هذا المعنى نرى الفيلسوف الأرسطي ابن رشد، يردّ مصدر التكليف الأمري الانشائي (المعياري) الى تكليف (وجودي)، إذ اعتقد بأن لله أمراً >وجودياً< حكم فيه على الفلك الذي يخصّه بالحركة وأمر سائر المبادئ المفارقة بأن تأمر جميع الأفلاك الأخرى بالحركات، وهو الأمر الذي قامت عليه السماوات والأرض >وهذا التكليف والطاعة هي الأصل في التكليف والطاعة التي وجبت على الانسان لكونه حيواناً ناطقاً<[7]. وهو من منطلق هذا المعنى جعل عبادة الحكماء وشريعتهم الخاصة >وجودية<، وذلك لأن خصوصية هذه العبادة والشريعة تتعلق - عنده - بالفحص عن جميع الموجودات >إذ كان الخالق لا يُعبد بعبادة أشرف من معرفة مصنوعاته التي تؤدي الى معرفة ذاته سبحانه على الحقيقة، الذي هو أشرف الأعمال عنده وأحظاها لديه<[8].
كما أن صدر المتألهين اعتبر الرسالات السماوية للأنبياء داخلة في المعنى الوجودي الحتمي، متصوراً أن فائدتها الوجودية جاءت تبعاً لما يفرضه القضاء الوجودي في سابق الأزل[9]. وهو من منطلق هذا المعنى فهم قضايا الخطاب المعيارية فهماً وجودياً خالصاً، كما في تفسيره لآية ((قل كل يعمل على شاكلته)) ، حيث رآها تعني بأن كل شيء يخرج على شاكلة الأصل ـ الله ـ، كالذي جاء في الحديث النبوي القائل: >خلق الله آدم على صورته<[10].
وكذا فعل زعيم العرفاء الشيخ الأعرابي قبله، فهو أيضاً فهم قضايا المعيار في الخطاب فهماً وجودياً، ورأى الأمور تجري حتمياً بما فيها قانون العبادة والتكليف. فهو يعدّ قوله تعالى ((وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه))؛ ذا دلالة على القضاء التكويني، فمعنى (قضى) هو (حكم)، والمعنى العام للآية هو أن الكل محكوم عليه بعبادة الرب حقيقة، حكماً وجودياً حتمياً غير معياري[11].
هكذا تكون النزعة الوجودية لفهم الخطاب وقضاياه المعيارية ظاهرة على لسان كل من أصحاب الفلسفة (ابن رشد) والعرفان (ابن عربي) والاشراق (صدر المتألهين الشيرازي).
***
ونشير أخيراً الى أنه يمكن النظر الى التمايز بين النظامين المعياري والوجودي من خلال المباحث الفلسفية العامة لكل من: المعرفة (الابستمولوجيا) والوجود والقيم. فمعلوم ان البحث المعرفي العام ينقسم الى هذه المباحث الثلاثة. وطبقاً لهذا التقسيم نجد تمايزاً بين النظامين المشار اليهما، كما هناك تمايز آخر يتعلق بالفلسفة الغربية الحديثة او بعض تياراتها الهامة.
فقد استند البحث في النظام المعياري الى اشكالية (القيم) كما تتمثل في نظرية التكليف، ومنها تعدى الى اشكاليتي المعرفة والوجود. فكما عرفنا بأن مباحث هذا النظام كانت تدور حول (نظرية التكليف)، وقد تأثرت بها كل من الاشكاليتين السابقتين. فالغرض من (المعرفة) لدى هذا النظام هو عبادة الله والالتزام بتكاليفه، لذلك كان النظر المعرفي من الواجبات. والكثير من علمائه يذهبون الى انه اول الواجبات الملقاة على عاتق الانسان[12]. وكذا هو الحال مع مبحث الوجود، فالغرض منه هو التوصل الى معرفة الله وصفاته وعلاقته بالانسان لتحديد موارد تكليفه. اذ يعتقد هذا النظام بأن الله انما خلق الانسان لابتلائه وامتحانه طبقاً لنظرية التكليف، فأوجد فيه الشهوات والعقل، وأمده بقوى الخير والشر، وأرسل اليه الملائكة والشياطين لإلهامه بالخير وتضليله بالشر، كما سخّر له سائر المخلوقات الطبيعية، كل ذلك لذات الغرض من التكليف والامتحان.
في حين دار البحث في النظام الوجودي حول اشكالية (الوجود)، ومنه تعدى الى المبحثين الآخرين. فقد انعكس تأثير الاشكالية الوجودية على كل من القيم ونظرية المعرفة، فأصبحت القيم لدى هذا النظام مجازية لأنها محكومة بالحتمية الوجودية، كما أصبحت المعرفة ذات أبعاد مطلقة وضرورية بفضل التطابق مع الواقع، سيما وانها مستلهمة من العقل السماوي الفعال.
أما الفكر الغربي الحديث، او بعض تياراته الهامة، فقد انشغل باشكالية المعرفة، ومنها تعدى الى مبحثي الوجود والقيم. فالاشكاليات الرئيسة التي انشغل بها هي اشكاليات معرفية، كما يظهر لدى كل من ديكارت وبيكون ولوك وهيوم وستيوارت مل وعمانوئيل كانت والوضعيين المنطقيين وفلاسفة العلم وغيرهم. والذي جعل هذا الفكر يهتم بنظرية المعرفة هو أنه كان يشكك بالمسلمات المعرفية، وغلب عليه عدم التسليم بوجود تطابق بين العقل والوجود، خلافاً للنظام الوجودي الذي برر التطابق وفقاً لمبدأ السنخية كأصل مولد. فرؤية الفكر الغربي للوجود هي رؤية ينتابها التردد والشك وانها لا تتوغل صوب القضايا الميتافيزيقية كما يفعل النظام الوجودي. كما ان تأثيرها على القيم بيّن هو الآخر، باعتبارها تخضع للتحليل المعرفي لدى هذا الفكر، وهو غالباً ما يراها ذاتية وليست تجلياً من تجليات الحتمية الوجودية. فهي بنظره ليست منعكسة انعكاساً اعتبارياً وفق ما تدور عليه العلاقات الوجودية كالذي يصوره النظام الوجودي.
[1] ابن رشد: تهافت التهافت، المطبعة الكاثوليكية ببيروت، ص540ـ541.
[2] انظر حول ذلك:
Madden, E. H. , Introduction; Philosphy Problems of Phisics, in: The Structure of Scientific Thought, Great Britian, 1968, p. 57-58. And: Hempel, Geometry and Empirical science, in: The Structure of Scientific Thought, p. 79-80.
[3] تاريخ ابن خلدون، ج1، ص835.
[4] السيوطي: الحاوي للفتاوي، دار الكتب العلمية، بيروت، 1402هـ ـ1982م، ج1، ص255.
[5] تاريخ ابن خلدون، ج1، ص835.
[6] مقدمة ابن خلدون.
[7] تهافت التهافت، ص185ـ186.
[8] ابن رشد: تفسير ما بعد الطبيعة لأرسطو، دار المشرق (المطبعة الكاثوليكية) ببيروت، 1986م، ج1، ص10.
[9] انظر لصدر المتألهين: تفسير القرآن، تصحيح محمد خواجوي، انتشارات بيدار، قم، ج4، ص234ـ235. كذلك: مفاتيح الغيب، تقديم وتصحيح محمد خواجوي، مؤسسة مطالعات وتحقيقات فرهنكي، ص167ـ168.
[10] انظر بهذا الصدد كتب صدر المتألهين: الحكمة المتعالية في الأسفار العقلية الأربعة، ج6، ص272. ومفاتيح الغيب، ص87ـ88. والشواهد الربوبية ، ص41ـ42.
[11] ابو العلا عفيفي: فصوص الحكم والتعليقات عليه، دار إحياء الكتب العربية، 1365هـ ـ1946م، ج2، ص39، وج1، ص72.
[12] انظر حول ذلك الفصل الأول من: العقل والبيان والاشكاليات الدينية.