يحيى محمد
يتصور الكثير خطأً أن دليل الحدوث او الامكان والوجوب يثبت وجود الله..
والحال ان اقصى ما يمكن ان يفعله هذا الدليل هو ان يثبت واجباً للوجود من دون تعيين ان كان متضمناً في اطار الكون المادي والطبيعاني او محايثاً او مفارقاً له.
فقد كان العلماء القدماء يعتقدون بان هذا الدليل سليم في اثبات وجود الله. وهو ما يُعرف لدى المتكلمين بدليل الحدوث، ولدى الفلاسفة بدليل الامكان والوجوب، ورغم عدد من الاختلافات التفصيلية بين الدليلين الا انهما يعودان من حيث التحليل الى دليل واحد يتعلق بالحدوث، فالامكان الذي يتحدث عنه الفلاسفة يتضمن هذا الحدوث الذي يبغيه المتكلمون، لكن عندهم ان علة الحاجة الى الواجب المرجح هو الامكان لا الحدوث، خلافاً لرأي المتكلمين. مع هذا فانهم لا يقدمون دليلاً على وجود الله من خلال الممكن المحض، بل من خلال الموجود هنا (اي في العالم الارضي لا السماوي)، وهو حادث، حيث يسبقه الامكان، وانه كي يصبح واجب الوجود بغيره فسيحتاج الى علة، وان هذا التحول هو ذاته عبارة عن الحدوث، وهكذا يتسلسل الحال حتى الاضطرار الى التوقف عند واجب الوجود.
وسبق لابن سينا ان حرر هذا الدليل في كتابه (النجاة) بقوله: ‹‹إن ههنا وجوداً، وكل وجود إما واجب وإما ممكن، فإن كان واجباً فقد صح وجود الواجب وهو المطلوب، وإن كان ممكناً فإنا نوضح ان الممكن ينتهي بدوره إلى واجب الوجود..››. ثم قال: يجوز ان تكون العلل علل الحدوث بعينها ان بقيت مع الحادث، وفي حالة الحوادث لا محالة من ان تنتهي الى واجب الوجود، اذ ‹‹قد بينّا ان العلل لا تذهب الى غير نهاية ولا تدور››.
وقبل ابن سينا كان ارسطو يقول: ‹‹كـل حـادث فـهـو ممكـن الحدوث قـبل أن يحدث››، وان الفلاسفة يقرون بان الوجودات ما تحت القمر هي دائمة الحدوث ازلاً وابداً وفق السنخية الرابطة بين العلة والمعلول، وبالتالي فانها ستحتاج على الدوام الى هذه العلية لاستمرار حدوثها ووجودها. وهم ينفون ان يكون الاساس الذي يعتمد عليه عبارة عن جسم، لأن الجسم هو في حد ذاته معرض للحدوث، فهو قابل للتركيب والتجزئة والاتصال والانفصال وما الى ذلك.
فهذا هو الاساس الذي يُعتمد عليه في اثبات وجود الله.
لكن نعلم اليوم ان عالمنا الطبيعاني لا يتضمن الاجسام والمواد المألوفة فحسب، بل ثمة عناصر اخرى غير جسمية ولا مادية. وتفيدنا هذه الحقيقة بان اقصى ما يمكن ان يبلغه الدليل السابق هو اثبات واجب للوجود، من دون تعيين ان كان متضمناً في اطار الكون المادي والطبيعاني او محايثاً او مفارقاً له، فنفي الفلاسفة ان يكون واجب الوجود عبارة عن جسم لا يعني بالضرورة مفارقة الواجب للعالم. كما ان خصائص الاجسام المشار اليها لا تمنع بالضرورة من ان يكون مردها الى بعض العناصر الثابتة التي تجعلها واجبة للوجود بالذات.
وطبقاً لهذه الحقيقة نعتقد ان هذا الدليل غير تام، فهو لا يمتلك القدرة على تحديد موضع واجب الوجود ان كان متضمناً في عالمنا المادي والطبيعاني او محايثاً او مفارقاً له بالكلية. وبالتالي هل السببية المتحكمة في سلسلة الحدوث ضمنية او خارجية؟ فقد يكون لبعض الاصول الطبيعانية في عالمنا طبع ثابت لتوليد الحوادث ذاتياً دون ان يُشتق من شيء اخر، شبيه بالتحول الذاتي لذرات العناصر الثقيلة غير المستقرة. وهو ما نعبر عنه بالسببية الضمنية، اي السببية الداخلة ضمن الاطار المادي والطبيعاني من دون تجاوز.
وثمة من سعى الى دعم هذا الدليل من خلال التمييز بين العلة والسبب الكافي، كما هو الحال مع الراهب كوبلستون ضمن حواره مع الفيلسوف البريطاني برتراند رسل، وكما قال: ان العلة هي نوع من السبب الكافي، وان الكائن الممكن الحدوث هو ما يحتاج الى علة، أما الإله فهو سبب كاف بذاته وليس هو العلة لذاته. وبعبارة ثانية ان حاجة سلسلة الحوادث الى سبب خارجي هي لكونها لا تمتلك الاسباب الكافية بذاتها، والا اصبحت ضرورية الوجود، لكنها ليست كذلك؛ لان كل عضو فيها هو محتمل الحدوث.
ونعتقد ان مصدر خطأ كوبلستون يعود الى عدم الالتفات الى الاختلاف الجذري بين مفهومي السبب الكافي والعلة، فاذا كانت العلة عائدة الى السببية الوجودية، فان السبب الكافي لا يعود اليها، بل الى سببية اخرى ذات طابع ابستيمي، وقد سميناها في دراسة مستقلة بالسببية الاعتقادية، لذلك لا يمكن ارجاع احد المفهومين الى الاخر.
وطبقاً لهذا المنطق نجد سبباً كافياً للتوقف عند علة نهائية لا على التعيين ان كانت ضمنية كما في المادة والعناصر الطبيعانية، او محايثة غير طبيعانية، او مفارقة تماماً كما في الإله المتعال. ففي جميع الاحوال ان كل حادث سيحتاج الى سبب حتى ينتهي الامر الى شيء لا يحتاج الى غيره، وهذا الاخير اما ان يكون منتمياً الى العالم الكوني الطبيعاني او غير منتمٍ اليه. ولا تتحدد طبيعة هذا الشيء ما لم تؤخذ بعين الاعتبار علامات اخرى خارج مسألة الحدوث المتعارف عليها.
ونشير الى ان حديثنا السابق يتعلق بحوادث ازلية كما اعتقد بها الفلاسفة القدماء. أما اذا لم تكن هذه الحوادث ازلية، كما في الاعتقاد الفيزيائي الحديث، فسيدل ذلك على السببية الخارجية. لكن لا شيء يضمن حدوث العالم بتمامه، اذ قد يكون الكون حادثاً ضمن سلسلة من الاكوان المتولدة اللامتناهية.
لذلك يمكن تصور ثلاثة امكانات واردة حول نشأة الكون كالتالي:
1ـ فإما ان نقول بان الكون حادث فجأة كما هو السائد لدى النظريات الفيزيائية..
2ـ او نقول ان الكون ازلي رغم تغاير حوادثه من دون ثبات..
3ـ او نقول ان الكون ازلي ذو حوادث ثابتة من دون تغاير.
هذه ثلاث اطروحات ممكنة، ولو غضضنا الطرف عن طبيعة النظام الكوني لدلّت الاطروحة الاخيرة على السببية الضمنية، فهي تفترض ان الحوادث طبعية جارية على وتيرة واحدة ثابتة أزلاً وأبداً، كما هو اعتقاد الفلاسفة القدماء، بمعنى ان من طبع الكون خلق الحوادث باستمرار من دون بداية ولا نهاية وعلى ذات الشاكلة من دون تغاير. وهذا يعني خلافاً للتصور الفلسفي القديم انه لا حاجة لاضافة علة خارجية تتجاوز الاطار الكوني.
في حين تحتاج الاطروحة الاولى الى علة خارجية، فليس ثمة ما يبرر النشأة الكونية المفاجئة من دون سبب، اذ لا شيء ينشأ من العدم المحض طبقاً لمبدأ السببية العامة.
كذلك هو الحال مع الاطروحة الثانية، فعدم وجود ثبات في تولد الحوادث أزلاً وأبداً انما يدل على السببية الخارجية. ومن ذلك ان للاشياء أزمانها؛ فالانسان – مثلاً – ليس ازلياً ليقال بان من طبع المادة القابلية على تكوينه باستمرار من دون انقطاع. وكذا يصدق الحال على بقية الانواع الاخرى الحية وغير الحية. والاهم من ذلك ان افتراض ازلية الخلق لا تتنافى مع هذه السببية.
وللايضاح انه لما كان التغير الكوني ليس على وتيرة واحدة من حيث التغاير، فذلك يكشف عن أن له علة خارجية، سواء كانت محايثة او مفارقة، إذ لو كان التغير حادثاً بحسب الطبيعة الذاتية للمادة لكان قد جرى على وتيرة واحدة، أي لكان التغير ثابتاً من غير تغاير، ولكان بسيطاً من دون نظام دقيق ومعقد. فالتغاير دال على وجود علة خارجية تؤدي اليه، فهو مستنتج من مبدأ السببية العامة، اذ كل تغاير هو ظهور مفاجئ جديد لم يسبق اليه الحال، وهو بحاجة الى تفسير خارج اطار المادة المتضمنة للطبائع الثابتة. ولا يفسر ذلك غير العلة المشار اليها.
وحقيقة ان التغاير حاصل سواء من حيث الاطروحة الاولى او الثانية، وهو ما يحتاج إلى تعليل خارجي، وبه تثبت العلة الخارجية، سواء كانت محايثة او مفارقة بحسب المعنى الضعيف.
كذلك فان النظام الدقيق الذي يتضمنه هذا الكون هو الاخر يحتاج الى تعليل محايث او مفارق ميتافيزيقي، فما من نظام متقن الا ويدل على عقل منظِّم، او ما يُعرف بالمصمم الذكي، وهو المعنى الذي يتوسط ويضيف شيئاً جديداً الى ما سبق من معنى. ولو تم اثبات ان للكون غاية معينة فسيقتضي الحال دلالة اعظم حيث تشير الى ارادة قاصدة، وبقدر ما تسمو الغاية بقدر ما تدل على حكمة الارادة وعظمتها. وهو المعنى القوي قبال المعنيين الانفي الذكر.