يحيى محمد
من الاهمية بمكان ان نتحرر – ما بوسعنا - من المزاج البيئي والشخصي ونحن نزاول التفكير والنقد العلمي، سواء تمثل بالمزاج القومي او الوطني او المذهبي او الديني او الذاتي او القداسة الشخصية او المشترك الجماعي المرتبط باواصر الصداقة والتعارف والتتلمذ وغير ذلك مما يتسرب الى عقلنا الظاهر والباطن. وكثيراً ما يساهم الاعلام بخلق المزاج العام لدى الناس؛ كإن يسلط الضوء على شخصيات معينة لتسويقها مع طمس شخصيات اخرى لاسباب مختلفة.
ومظاهر هذا المزاج متنوعة، فهو يعمل في حالات الدفاع والهجوم، وقد يكون موضوعه شخصية معينة او عرقاً او مذهباً او ديناً او غير ذلك، كما قد يكون موضوعه عالم الافكار والبحث العلمي، الامر الذي يهمنا.. فالمزاج النفسي لا يفرق بين العالم والانسان العادي، فالكل محكوم به بشكل او بآخر، وفي الحالات الفكرية والعقدية كثيراً ما يكون المزاج مقنّعاً بالعلم والتحليل، سواء كان الدافع لصالح الفكرة المطروحة او ضدها. ويتجلى ذلك في الكثير من مظاهر النقد المختلفة. فقد لا يتقبل هذا المزاج من هو خارج دائرة الاهتمام الديني والمؤسسي والاجتماعي، فالمسلم قد يتقبل نقد المسلم، لكنه لا يتقبل نقد من لا ينتمي الى الاسلام. والسني او الشيعي قد يتقبل نقد من ينتمي الى مذهبه، لكنه لا يتقبل نقد من ينتمي الى المذهب الاخر. والحوزوي قد يتقبل نقد من ينتمي الى الحوزة، لكنه لا يتقبل من لا ينتمي اليها، وكذا الحال مع الجامعي. كذلك قد يتقبل التلامذة نقد بعضهم لاستاذهم، لكنهم لا يتقبلون نقد من لا ينتمي الى هذه الدائرة الضيقة.
وفي حالات الدفاع قد يعمل المزاج على دفع العقل للذب عن الفكر المنتقد بشتى الوان الدفاع والجدل حتى لو كان هذا الفكر يحمل نقاطاً هشّة تتساقط أمام النقد العلمي. فالمزاج يمنع الاخر من الاقتراب من النقاط الهشّة في الفكر المنتقد مثلما يمنع ذلك في غيرها.. والحصيلة انه لا يدع مجالاً للاعتراف بنجاح الناقد في اي نقطة منتقدة حتى لو كانت النقاط المستهدفة للنقد كثيرة.. وقد يشجع المزاج على ممارسة شتى انواع التأويلات للدفاع عن الفكر او الشخصية المستهدفة حينما تكون معرضة لسهام النقد او اظهار التناقضات الواضحة فيها او غير ذلك مما ينظر اليه انه علامة نقص في هذا الفكر.
فمثلاً في ما يخص المزاج المدرسي لدى الفكر الفلسفي، عندما تتعرض فلسفة صدر المتألهين للنقد من الخارج فسنتوقع ان يتحرك المزاج الفلسفي الايراني ضد هذا النقد بحرارة، وكذا مَن تأثرَ بهذا المزاج في الوسط الشيعي احياناً.. بل حتى لو تبينت امور غير متوقعة ضمن فكر هذا الفيلسوف فستُحدث صدمة ومفاجأة يصعب تقبلها لدى اتباع هذه المدرسة. وسبق ان شاهدت ذلك لدى عدد من هؤلاء حين اطلعتهم خلال ثمانينات القرن الماضي بان من ضمن مفردات فلسفة هذا الحكيم قوله بالجسم الإلهي، أو أن الله جسم لا كالأجسام. وعموماً ان المبهورين بفكر هذا الفيلسوف يُصدمون بمثل هذه الآراء التي يجدونها غريبة بما تحمله من تسلل للفكر التشبيهي السلفي.. وحقيقة ان الانبهار بشخصية نعتبرها عظيمة قد تجعلنا نفقد حاسة النقد الابستيمي او نصاب بصدمة غير متوقعة.. وتبقى المشكلة فيما صنعناه من وهم صنمي نتيجة أمزجتنا الكهفية وفقاً للتصنيف البيكوني، وليس في الشخصية ذاتها، أياً كانت هذه الشخصية، سواء تمثلت بصدر المتألهين او محمد باقر الصدر او الخميني او ما قد نعتبرها شخصية معصومة..
وعندما تُعرض اطروحات المفكر الصدر للنقد فالمتوقع ان يتحرك المزاج العراقي ضد هذا النقد دون المزاج الايراني، كما عايشه صاحب هذه السطور، وقد كلفه مثل هذا المزاج بعض الضيق والمتاعب خلال السنوات التي قضاها في ايران. فالموضوع يتعلق – هنا - بالمزاج ازاء شخصية مقدسة، حالها حال شخصية صدر المتألهين او الخميني لدى الايرانيين ذوي الميول الفلسفية. حيث يصعب على الكثير من الناس تقبل ما تتعرض له مثل هذه الشخصيات المقدسة العميقة للنقد او تبيان ما مرت به من تحولات فكرية جذرية. فمن ذكرياتي ما رأيته من حالة الاستغراب والصدمة البادية على عدد من الشخصيات العراقية عندما اطلعوا على كتابي (الاسس المنطقية للاستقراء بحث وتعليق) عام 1985، اذ فوجئوا في عدد من النصوص المشار اليها ان الصدر قد قوّض الاساس الذي بنى عليه اطروحته في (الاسس المنطقية للاستقراء) الى (بحث حول المهدي). فكانت الدهشة بادية عليهم، واتذكر ان احدهم قد علّق على الموضوع بانه لم يبق اي قيمة لـ (الاسس المنطقية للاستقراء) طبقاً لهذا التغيير الوارد في كتابكم، فيما رأى اخر انه يتعين البحث عن طوق نجاة لرفع هذا التناقض الظاهر لدى النصوص الواردة في الكتابين.. وظلت المسألة مهملة أو مسكوتاً عنها لسنين طويلة، حتى أقدم الباحث العراقي رضا الغرابي باثارتها من جديد.
وما زال هناك من لم يصدق مثل هذا الانقلاب الفكري بشكل درامي.. بل وان البعض حاول ان يدافع عن النص الصدري بشتى انواع التأويل والتحملات ليوفق ما جاء في الكتابين من دون تغيير، كل ذلك بدافع مزاج الحمية ازاء الشخصية المقدسة. اذ لو فرضنا ان النصين يعودان الى فيلسوف غربي مثل ديكارت او هيوم او كانت او هيجل او هايدجر او كيركجورد او غيرهم لكان المتوقع ان تنهال عليه الردود وفضح ما فيه من تناقض، ولاعتبرت القضية واضحة لا لبس فيها مهما حاول اتباع هذا الفيلسوف الغربي ان يأولوا النص او يذبوا عن شيخهم تهم التناقض او تغير الافكار.
وسبق لمثل تلك الحالة من المزاج المتعلق بالحمية على شخصية الصدر ان تكررت عندما نشرتُ مقالة حول التغيرات الفكرية لدى الصدر من (فلسفتنا) الى (الاسس المنطقية للاستقراء) في مجلة دراسات وبحوث الصادرة في طهران عام 1983، وكانت المقالة بعنوان (نظرات فلسفية في فكر الشهيد الصدر). وهي اول اثارة تُنشر حول التحولات الفكرية لدى الصدر قبل ان اردفها باثارة التغيير الاهم المتعلق بكتاب (بحث حول المهدي) بعد سنتين من هذا الوقت. وتتضمن المقالة حالة انقلاب الصدر على (فلسفتنا) واجهاض العديد من أسسها ومضامينها.. فكان من هيئة تحرير المجلة ان علّقت وانكرت في هامش المقالة مثل هذه التحولات الفكرية، رغم ان المعلّق، وهو صديقي، لم يطلع على كتاب (الاسس المنطقية للاستقراء) كما اعترف لي بعد ما سألته حول ذلك، وذكر بانه عرض ما كتبه على رئيس التحرير فوافق على نشره. وواضح انه لا تفسير لذلك سوى دافع المزاج المتعلق بالحمية العصبية للرموز الفكرية المقدسة.
وعلى صعيد المزاج الايراني وجدت ترحيباً بالنقد المتعلق حول فكر الصدر، كما رأيته لدى عدد من الشخصيات الايرانية خلال ثمانينات القرن الماضي بعد اطلاعهم على كتابي (الاسس المنطقية للاستقراء بحث وتعليق) ومن بعده مخطوطة (الاستقراء والمنطق الذاتي)، فيما تحفّظ بعضهم ممن ينتمي الى مدرسة صدر المتألهين من النقد الوارد حول أفكار ارسطو واعتبر هذا النقد غير صائب.
في حين ان مثل هذه المسائل لا تلقى ادنى اهتمام خارج المدرسة الصدرائية، خاصة البعيدة عنها كبلدان مصر والمغرب العربي مثلاً..
وكذا هو الحال حينما تتعرض الاطروحات االفكرية لابن تيمية للنقد العلمي، فالمتوقع انها ستلقى كماً هائلاً من الردود والاتهامات في بلد كالسعودية - مثلاً -، في حين لا يلقى ذلك اهتماماً لدى بلدان اخرى غير معنية بالفكر السلفي.
وعلى صعيد المزاج المذهبي رأيت أحد الاساتذة الجامعيين ينهال نقداً على طريقة الشافعي في الفقه، ضمن ندوة علمية اقيمت في المغرب، فيما امتدح الطريقة المالكية، وبدى متفوقاً لدى الاساتذة الحاضرين، وكأنه خرج منتصراً من معركة حامية الوطيس.. لكن لنتخيل ان الموقف قد انقلب، فاخذ صاحبنا ينتقد طريقة مالك ويدافع عن فقه الشافعي؛ لوجدت الحاضرين ينهالون عليه بالرد والنقد واللوم وربما الشتم والسباب..
ولو تصورنا ان محاضراً شيعياً اخذ ينتقد الفكر السني في دار سنية، وان السني اخذ ينتقد الفكر الشيعي في دار شيعية، ما الذي يمكن ان يلاقيه هذا المحاضر؟ اما لو عكسنا القضية فسوف يجد تصفيقاً وتهليلاً له في انتصاره الساحق على المذهب الاخر..
وحقيقة ان المحور المشترك الذي يجمع مثل هذه الحالات والتصورات هو المزاج البيئي عموماً، او هو بالاحرى الحمية العصبية او القَبلية.
كما قد ينبسط المزاج على مجال تصنيف العقول لدى الحضارات والثقافات، بحيث تتراتب قيمياً وفق الأعراق والبيئات الجغرافية، كالذي لجأ اليه عدد من المستشرقين من امثال ارنست رينان وليون غوتييه. كما قد تتطور هذه العقول والمعرفة الحضارية وفق الأعراق كما عليه فلسفة هيجل. وكل هذه النظريات مدفوعة بالمزاج العرقي وان تقنعت بالعلم والفلسفة والتحليل.
كذلك قد ينبسط المزاج على مجال الفروع العلمية، فقد يظهر لبعض الجهات الفكرية عداء لبعض العلوم، كالعداء المعروف لدى عدد من التيارات التراثية الاسلامية القديمة لعلم الفلسفة والمنطق والفلك، ومثله عداء بعض التيارات الفكرية الحديثة للميتافيزيقا.
وعلى هذه الشاكلة مزاج الفيزيائيين النافر عادة من التعرف على مضامين علم التنجيم لدى الفيزيائيين، كالذي اشار اليه فيلسوف العلم فيرابند، وهو ان بعض العلماء يهاجم التنجيم مع إعترافه أنه لا يعرف عنه شيئاً محصلاً. ومن الامثلة على ذلك انه عندما كتب فيليب اندرسون باستخفاف عن الاعتقاد باستشفاف الغيب والتحريك عن بعد؛ تعرّض إلى نقد لاذع من أحد زملائه في برنستون، وهو روبرت جان الذي كان يقوم بتجارب سماها (ظواهر الوعي الشاذة)، فكان جان يتذمر قائلاً: ‹‹رغم ان مكتب اندرسون لا يبعد سوى بضع مئات من الامتار عن مكتبي، فهو لم يزر مختبرنا ولم يناقش معي مباشرة أياً من معتقداته، حتى ليبدو أنه لم يقرأ بعناية أياً من مقالاتنا التقنية››. كما ان ستيفن واينبرغ قال في إحدى المقابلات التلفزيونية: ان من يعتقد بالتنجيم عليه ان يدير ظهره للعلم الحديث كله. وبعد هذه المقابلة وصلته رسالة من كيميائي ومهندس تعدين سابق في نيوجرسي يلومه أشد اللوم لكونه لم يتحر شخصياً صحة التنجيم. وقد كان رد واينبرغ على كل ذلك هو قوله: اننا نفهم ما يكفي لمعرفة ان عالمنا ليس فيه مكان للايحاء عن بعد أو للتنجيم، إذ ما هي الإشارة الفيزيائية التي يمكن ان تصدر عن ادمغتنا فتحرك أشياء بعيدة ودون ان يكون لها تأثير على أي من أجهزتنا[1]؟!
هذا على الرغم من ان الفيزياء قد اثبتت حديثاً حالات التأثير عن بعد بفعل تعالق الجسيمات وتشابكها.
كما قد يحصل بفعل المزاج ان تُختزل بعض العلوم لصالح علوم اخرى، كاختزال البايولوجيا ضمن الفيزياء والكيمياء لدى بعض العلماء. وقد تُقرأ بعض العلوم والمجالات باسقاط علم اخر بعيد عنها بفعل ذات المزاج، كالذي يقرأ القرآن بمنظار علوم الطبيعة. او كمن يسقط المفاهيم المادية على دراسة تراثنا الفلسفي والمعرفي، على شاكلة ما فعله حسين مروة في (النزعات المادية في الفلسفة العربية الإسلامية). وقد يضيق افق المختص في مجال معين فيرى ما يرد في غيره خاضعاً لهذا المجال، كمَن يقرأ الطب الحديث بنظارة الطب النبوي. وربما يصدق ذلك على ما لاحظت بان بعض الاساتذة الجامعيين من حملة الدكتوراه للعلوم الشرعية قرأ كتابي (علم الطريقة: علم منهج الفهم الديني) بأفق فقهي، فخُيّل له ان هذا الكتاب يدور حول هذا المجال، معتبراُ انه «لم يأت بشيء جديد زائد على ما قرره علماء الشريعة... وأنه في طرحه للمسائل المعاصرة يطرحها طرحاً لا يتجاوز الطرح الفقهي المعاصر». مع ان المطلع على فصول الكتاب البالغة عشرين فصلاً لا يجد واحداً منها يختص بالقول الفقهي، وأغلبها يدور حول آليات الفهم الديني والقبليات. وبالتالي ارى ان هذه الرؤية مدفوعة بالمزاج المتعلق بتخصص القارئ، كمَن في فمه حنظل - وهو لا يعلم - فيحسب الطعام مراً.
بل حتى العلوم الطبيعية تتعرض لمشكلة هذا المزاج في الاخذ والرد.. فمثلاً كان الانجليز يرفضون اي نظرية تخالف مذهب نيوتن في الضوء ويتهمونها بتهم متعصبة بإعتباره منهم. فقد قوبل يونغ في إثباته لموجية الضوء بالسخرية والاستنكار بإعتباره تجرأ على معارضة نظرية نيوتن الجسيمية. وكانت المؤسسة العلمية في بريطانيا تنظر إلى أي معارضة لأفكار نيوتن بأنها هرطقة. وقد كتب الهاوي العلمي السياسي البريطاني هنري بروغام في مجلة ايدنبرغ (عام 1803) بأن ورقة يونغ لا تستحق شيئاً، ونحن نريد ان نرفع صوتنا استنكاراً لهذه البدعة التي لا يمكن إلا ان تعيق تقدم العلم وتبعث كل تلك الأشباح الوحشية للتهيؤات التي طردها نيوتن من معبد العلم. وعلى نفس الشاكلة ظهر شعور وطني بريطاني وراء رفض نظرية التضخم الكوني لجوث مطلع ثمانينات القرن الماضي.
وقد اعتبرنا مثل هذا المزاج ضمن السنن الإنسانية التي تنشط فيها القبليات غير المنضبطة لتحديد النتائج المعرفية، سواء في الفهم الديني أو العلم أو سائر شؤون الحياة، كما جاء في (علم الطريقة).