يتصور الكثير خطأً أن العلوم المستأثر بها على الخلق خمسة استناداً الى بعض الآيات والروايات، مثل قوله تعالى: ((إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَداً وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ))..
والحال انه ثبت - اليوم - بشكل قاطع أن بعض هذه العلوم ليس مستأثر به على الخلق، وهو نقض لما اعتقده المفسرون والفقهاء في السابق، حتى نُقل عن إبن عباس قوله: ‹‹هذه الخمسة لا يعلمها إلا الله تعالى، ولا يعلمها ملك مقرب ولا نبي مرسل، فمن ادعى أنه يعلم شيئاً من هذه فقد كفر بالقرآن لأنه خالفه››. كما روى البخاري وغيره بهذا الصدد بأن النبي (ص) فسّر مفاتح الغيب الوارد ذكرها في قوله تعالى: ((وعنده مفاتح الغيب لا يعلمها إلا هو))؛ بأنها عبارة عن العلوم الخمسة المشار إليها.
ويهمنا من الآية علم ما في الأرحام المدعى أنه من ضمن العلوم المستأثر بها على العباد، حيث أصبحت معرفة حالة الجنين وتمييزه إن كان ذكراً أو أُنثى من الحقائق العلمية المؤكدة، وذلك عبر عدد من الطرق والإختبارات؛ مثل التصوير الداخلي، والكشف عن عناصر الحامض النووي حول الجنين وهو في مراحله الأولى. لكن بحسب المفسرين والفقهاء وسائر البيانيين يكون هذا العلم من العلوم المستأثرة وفقاً لنص الآية أو مما ورد حولها من الأحاديث، إذ جاء في بعضها أن من ضمن ما لا يعلمه إلا الله تشخيص الذكورة والانوثة.
ويكاد يطبق العلماء على أن معرفة نوع الجنين هو من ضمن العلوم المستأثرة، وكما قال أبو بكر بن العربي: ‹‹.. من قال إنه يعلم ما في الرحم فهو كافر››. كما نقل القرطبي قول العلماء بأن ‹‹من قال إنه يعلم ما في الرحم فهو كافر، فإن لم يجزم.. لم يكفر››.
بل حتى في العصر الحديث وقبل تبيّن التطبيقات الأخيرة لعلم الأجنة؛ استصحب البعض الإعتقاد التقليدي بالإستئثار، بل وتحدى أن تكون هناك قدرة للعلماء في معرفة شكل الجنين ونوعه، كما هو الحال مع الاستاذ محمد عبد الله دراز (المتوفى سنة 1958م) إذ قال: ‹‹مهما نجحوا في اكتشاف أشعة أكس سيظل العلماء عاجزين عن الكشف عن يقين عن شكل الجنين ولونه ونوعه وهو داخل رحم أمه. ومهما أُقيم من محطات الإرصاد الجوية فإن التنبؤات ستظل إحتمالية...››. وقبله علّق السيد محمد رشيد رضا على قوله تعالى: ((الله يعلم ما تحمل كل أُنثى وما تغيض الأرحام وما تزداد، وكل شيء عنده بمقدار. عالم الغيب والشهادة الكبير المتعال))، فاعتقد أن الله وحده الذي يعلم حمل كل أُنثى أذكر هو أم أُنثى، وما تغيض الأرحام من نقص الحمل أو فساده بعد العلوق، وما تزداد من الحمل كالحمل بالتوأمين أو أكثر. وكل ذلك أصبح اليوم مما يمكن تشخيصه ومعرفته بدقة.
وعلى هذه الشاكلة نرى العلامة الطباطبائي يكاد يسير على نفس النهج التقليدي وإن خفف الأمر بتشطير التفسير للآية على درجات، فاعتبر الله تعالى عد أموراً ثلاثة من بينها ما اختص به تعالى ما لم يُعلمه غيره، وهما تنزيل الغيث وعلم ما في الأرحام.
مهما يكن فنحن نعلم اليوم أنه مع ظهور الحقيقة العلمية فإن الفهم التقليدي للآية قد فقد مبرراته. فمن جانب ليس للآية دلالة صريحة على الإستئثار، أما الروايات الواردة حولها فلا يمكن التعويل عليها لمخالفتها للواقع العلمي.
ومن الملاحظ أن الخطأ الذي يتكرر لدى الفهم التقليدي هو مسارعته للإنكار والتكفير والتخطئة الدوغمائية لكل افتراض يقابل مسلماته الإجتهادية والنقلية رغم أنها لم تصل إلى حد القطع واليقين، فأقل ما يقال فيها أنها قائمة على الرواية، والرواية فيها ما فيها، كما بيّنّا ذلك في (مشكلة الحديث). وأقل خسارة يمنى به هذا الفهم، هو أنه يفقد ثقة الناس، والمصيبة الأعظم أن أغلب الناس لا يميزون بينه وبين الإسلام كدين، الأمر الذي يجرّ إلى خسارة الإسلام ذاته، وذلك عند الصدمة مع الفهم المقنن الآنف الذكر.
وقد يكون هذا السلوك على عكس السلوك الذي أشار إليه برتراند رسل من أن الإفتقار إلى المنطق لدى المدافعين عن التقدم خلال القرن التاسع عشر قد سهّل من تقدم العلم كثيراً، إذ مكّنهم من التعوّد على التغيّر قبل أن يتعين عليهم قبول التغيرات الأخرى التالية، فعندما تظهر كل النتائج المنطقية المترتبة على أي تجديد فإن هذا قمين بأن يصدم العادات صدمة كبيرة فتجعل الناس يرفضون التجديد في مجمله. فكذلك أن ما يحتاجه الفهم التقليدي هو التخفيف من صنعته ‹‹الممنطقة›› لأنها ليست معصومة، وكذا التخفيف من دوغمائياته، وذلك إذا ما أراد أن يجنّب الناس من الإصابة بالصدمة مع كل جديد يهزّ هذا الفهم، والذي بدوره يجرّ إلى عدم الثقة بالإسلام كدين.