يتصور الكثير خطأً أن القيم الأخلاقية تابعة للنص الديني من دون استقلال..
والحال إن القرآن الكريم أشاد بهذه القيم في مواقف كثيرة لا تحصى، وأنه اعتبر منها ما هو غاية مقصودة من بعث الرسالات السماوية[1]. وبالتالي فهي ليست تابعة للنص وأحكامه المفصلة كما صوّرها لنا الفقهاء بجميع مدارسهم ومذاهبهم. فحتى المذهب الذي يعترف بالحسن والقبح العقليين ويجعل من العقل مصدراً أخيراً للتشريع الفقهي؛ فإنه لا يعير لحسن العقل وقبحه أهمية عندما يتعارض مع نص رواية[2]. وبالتالي فالجميع سواء من حيث تعاملهم مع القضايا الأخلاقية، وهي أنها غير مستقلة عن النص الديني، فلكونها عامة وكلية فإن الفقهاء لم يرتبوا عليها اي اثر، فكأنها غير موجودة اصلاً، فهي بالنتيجة تابعة لقرارات النص وأحكامه الجزئية، حتى لو كان مصدر الاخيرة هو الروايات المنقولة رغم كثرة المشاكل التي تعترضها وضعف الأساس الذي بنيت عليه[3].
هكذا اخذت النصوص التفصيلية تتحكم في الإرادة الفقهية طولاً وعرضاً. وقد انعكست هذه المواقف على المسلم العادي، فهو لا يبالي بانتهاك القيم مستنداً في ذلك إلى المنظومة الفقهية ومراجعها، واحياناً إلى النص المباشر.
فبحسب المنظومة الفقهية – ومثلها الكلامية - ينقسم البشر إلى ماهيات عقائدية مغلقة، فهم مسلمون وكفار، والمسلمون منقسمون إلى فرق ضالة باستثناء واحدة ناجية، وان على المسلم ان يتبع هذه الفرقة ولا يحترم سائر الفرق الاخرى ولا يعاملهم بمنطق القيم الأخلاقية، رغم ان القرآن الكريم قد نصّ على نجاة أهل الكتاب وفق بعض المعايير[4]، وان أخلاق التقوى ومحبة الله مفتوحة دون ان تكون حصراً على المسلمين ولا شاملة لهم بإطلاق.
لقد تحول المقدس إلى مدنس عند انتهاك الأتباع للقيم الأخلاقية. وتنبع خطورة هذا الانتهاك من تلبسه بالمقدس، فهو وحش قاتل من دون ان يقيده قيد أو تحده حدود، طالما يبرر انتهاكه باتباعه أحكام النص المجردة عن الواقع وملابساته الظرفية، خلافاً لتوجهات القرآن الكريم. فالقيم التي يتحدث عنها الأخير هي قيم مستقلة، كما ان تعامله مع القضايا الموضوعية اتصف بالمرونة تبعاً لتغايرات الواقع وتطوراته دون أن يحولها إلى ماهيات ثابتة مغلقة.
وبحسب القرآن الكريم ليست القيم الأخلاقية مستقلة فحسب، بل انها غاية محكّمة يتوسل اليها الدين ذاته. وهي فضلاً عن ذلك تمثل قانوناً تتمسك به حتى القرارات الإلهية وافعالها، رغم أن الله هو الخالق والمالك المطلق من دون شريك. فهناك نصوص صريحة تبدي أن معاملة الله للبشر تجري وفق العدل والإحسان من دون ظلم وحيف[5]، كما ان الناس مطالبون بالعدل والإحسان معاً[6].
وتعتبر هذه المفاهيم مستقلة عن التحديد الإلهي أو الخطاب الديني. فالله تعالى لا يحدد لنا معنى العدل ولا الإحسان ولا الظلم، لكنه منحاز للقيم المثلى ومتمسك بها دون ان تكون لوازم منبعثة من أفعاله ومشيئته، فالموقف القرآني لا يجعل الذات الإلهية تتخذ من القيم وسيلة للشكلانية والتجاوز، رغم كونه المالك المطلق وله المشيئة التامة. وهو ما يؤكد المعنى المستقل للقيم.
لذا فمن الواجب ان يتمسك المسلم باستقلالية القيم دون أن يربطها بلوازم الأحكام الشرعية فتكون شكلية لا فرق فيها بين الظلم والعدل، كما يختلط فيها الحق والباطل.
[1] كما في قوله تعالى: ((لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ)) الحديد \25 .
[2] للتفصيل انظر الفصل الأول من: فهم الدين والواقع، طبعة دار افريقيا الشرق.
[3] للتفصيل انظر: مشكلة الحديث.
[4] كما في قوله تعالى: ((إِنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آَمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ وَعَمِلَ صَالِحاً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ)) البقرة\62.
[5] كقوله تعالى: ((إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْراً عَظِيماً)) النساء\40.
[6] كما في قوله تعالى: ((إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإحسان وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ)) النحل\90.