يحيى محمد
لمستنبطات الفهم خمسة اصناف تتولد عند اجراء عملية الفهم، هي: الحقائق والقواعد والنظريات والقوانين وتلك التي لها علاقة بـ «الاخر». وتعد هذه المستنبطات من البعديات لا القبليات، اي انها نتاج الفهم وليست سابقة له كما هو الحال مع القوانين والسنن والقواعد السابقة. ويمكن تسليط الضوء عليها كما يلي:
1ـ الحقائق المستنبطة
والمقصود بها تلك المعارف التي تستنبط من النص، وتكون معلومة دون ادنى شك، لذلك اطلقنا عليها (الحقائق المستنبطة). ولا يعني لفظ الحقيقة هنا الكشف عن الواقع الموضوعي، بل كل ما يعنيه هو العلم بمعنى النص دون شك. وهي على شكلين: حقائق كلية، مثل حقيقة التكليف، وحقائق جزئية، كحقيقة انه لم يُذكر في القرآن من اسماء اصحاب النبي سوى زيد، كما لم يُذكر فيه اسم شخص في حياة النبي قد توعده الله بالنار غير ابي لهب... الخ.
2ـ القواعد المستنبطة
وتتصف بكونها موضع اعتماد في التوليد، وميزتها انها موضع اتفاق لدى المنتمين الى الأصل المولد الذي يتبنونه، كما انها منتزعة من النص، وبذلك انها تختلف عن قواعد الفهم التي مرت معنا. وهي تختلف عن النظريات التي صفتها انها ليست موضع اتفاق، فمثلاً نعدّ القياس الفقهي من النظريات لا القواعد، باعتباره ليس مورد اتفاق بين العلماء الذين يدينون لقاعدة الفهم العرفي كأصل مولد. ومن القواعد المتفق عليها: قاعدة لا ضرر ولا ضرار، الحاجة تنزل منزلة الضرورة، المشقة توجب التخفيف، دفع الضرر الاعظم عند التعارض واجب... الخ.
3ـ النظريات المستنبطة
تتميز النظريات المستنبطة عن نظريات الفهم وقواعده بأنها مستنبطة من النص وليست سابقة عليه، فهي بالتالي من البعديات لا القبليات. وتتباين فيما بينها من حيث السعة والضيق والاعتماد والتأثير والتعارض والاستقلال. ويمكن تصنيفها بحسب علاقاتها مع بعض الى خمسة اصناف؛ فقد تكون علاقاتها قائمة على الاعتماد او التأثير او التعارض او الاستيعاب او الاستقلال. وهي بالتالي كالتالي:
أـ نظريات الاعتماد:
ذلك ان الكثير من النظريات تستند الى نظرية أعلى منها درجة، لولاها ما قامت لتلك النظريات قائمة. وقد تضيق دائرة الاعتماد مثلما قد تتسع. ومن ذلك نظرية القياس، حيث يتوقف عليها الكثير من النتاج الفقهي لدى اغلب المذاهب السنية. وكذا نظرية الإمامة لدى الشيعة، اذ تعتمد عليها الكثير من النظريات العقائدية والفقهية، وتتوجه تبعاً لها من دون عكس. فالعلاقة بينهما هي علاقة بيان بمتشابه. فمثلاً لدى الإمامية أن تفسير قضية فدك يتبع ما عليه البيان في نظرية الإمامة، ولولا ذلك لكان للمسألة بعد آخر مختلف. فلو أن الباحث الإمامي كان يحسن الظن بالخليفة الأول وأنه لم يعارض نصاً الهياً في الخلافة لأمكن توجيه منعه تسليم فدك الى فاطمة الزهراء تبعاً للحديث الذي نقله عن النبي (ص)، كما في صحيح البخاري ومسلم1. وبالتالي فإنه يفسر هذه القضية تبعاً لمسألة الموقف من الإمامة. فلديه أن الإمامة أصل بيّن يوجّه على أساسه سائر القضايا الدينية الأخرى، فتكون هذه القضايا بمثابة المتشابه التي تحتاج الى بيان ذلك الأصل.
ويمكن القول بأن نظريات الاعتماد تلعب دوراً في التوليد المعرفي مثلما تلعبه القبليات او الأصول المولدة. ولولا انها مستنتجة عن الفهم لكانت بموضع تلك الأصول، وذلك لكثرة ما يعتمد عليها في التوليد والتوجيه.
ب ـ نظريات التأثير:
ذلك ان بعض النظريات تتصف بكونها ذات اثر ملحوظ على غيرها من النظريات وإن لم يصل مداه الى حد الاعتماد التام. وقد تضيق دائرة التأثير كما قد تتسع. كما قد تتحول مثل هذه النظريات الى نماذج معرفية (برادايم) يستند اليها في سائر النظريات. وابرز مثال عليها نظرية ولاية الفقيه المطلقة التي تتأثر بها الكثير من النظريات في الوسط الشيعي؛ كنظرية المصلحة والخمس والانفال وغيرها.
والفارق بين النظريات الاعتمادية والنظريات التأثيرية، هو ان الاولى تعد اساس غيرها من النظريات، بحيث لولاها ما كان لغيرها من اثر، في حين ان الثانية لا تعد اساساً لغيرها، لكنها تؤثر عليها بعض التأثير. وبالتالي يصدق القول بان النظريات الاعتمادية قد تكون الأصل في وجود النظريات التأثيرية من غير عكس. فمثلاً ان نظرية الامامة، وهي من النظريات الاعتمادية، تعد اساس نظرية ولاية الفقيه المطلقة، رغم ان هذه الأخيرة هي من نظريات التأثير.
ج ـ نظريات التعارض:
ذلك ان بعض النظريات قد تتعارض فيما بينها، وتكون متكافئة او غير متكافئة فيترجح بعضها على البعض الاخر، وقد يكون الترجيح بنظر بعض المذاهب دون البعض الاخر. او يكون بحسب ما عليه الأصول المولدة، كما قد يكون ذلك ضمن الأصل المولد المتبنى، فتحصل الحالات التي ذكرناها من التكافؤ والترجيح.
فمن حالات التكافؤ - مثلاً - ما ظهر من تفسير لعلة ولاية البكر الصغيرة في التزويج، اذ رأى الحنفية ان المناسب في تعليل الولاية هو الصغر، بينما رأى الشافعية انه البكارة2. وهو شبيه بما تتنافس به النظريات العلمية في العلوم الطبيعية.
والسؤال الذي يطرح بهذا الصدد: هل يمكن ترجيح نظرية على اخرى من خلال مبدأي التأييد والتكذيب (الاستبعاد) كما هو مزاول في العلوم الطبيعية؟
وقد يستبدل السؤال بصيغة اخرى كالتالي: هل يمكن ممارسة عملية الفهم من خلال التأييد والتكذيب؟ فهل يمكننا ان نطلق على نظرية من نظريات الفهم بانها تحظى بدرجة تأييد عالية، او على العكس انها تحظى بدرجة تكذيب عالية عند وجود شاهد معين يعمل على تكذيبها او استبعادها؟
ربما تكون مسألة الخلافة هي ابرز ما يصدق عليها ذلك. علماً ان من يتعلق باهداب الفهم الظاهري للنص لا يعني بالضرورة انه يحظى بالتأييد، ذلك ان الأمر يعتمد على ما يرد في النصوص الاخرى، فقد يكون للظهور نوع من التعارض والاختلاف، كما قد يبطل الظهور بفعل نصوص اخرى مؤثرة، اضافة الى ما للسياق الظرفي من اثر على الظهور سلباً وايجاباً. واعظم شاهد على ذلك الخلاف الحاصل حول النصوص المتعلقة بالصفات الالهية كما وردت في القرآن الكريم. فما يبدو للبعض تأييد بفعل النصوص الاخرى، يبدو للبعض الاخر تكذيب من جهة النصوص ذاتها، مع انها هي هي. كذلك مثلما يبدو للبعض ظهور، يبدو للبعض الاخر خلافه. ومثل ذلك ايضاً ما يتعلق بالخلاف النظري حول الامامة بين الشيعة والسنة. فمثلاً ما يراه البعض من ان حديث الولاية او الغدير ظاهر في المعنى السياسي والديني للولاية؛ يراه البعض الاخر انه محكوم بسياقه الظرفي المتعلق بشكوى البعض من الامام علي بعد قدومه من اليمن، وأن سائر الوقائع الاخرى قبيل وفاة النبي وبعده؛ كلها تدل على نفي المعنى المتعلق بالخلافة او السياسة.
د ـ نظريات الاستيعاب:
ذلك ان لبعض النظريات قابلية على استيعاب غيرها، وإن لم تكن اساساً في ايجادها. فمثلاً يمكن لنظرية الطوفي في المصلحة ان تستوعب كل ما ظهر في تراثنا المعرفي الاسلامي من نظريات متعلقة بالمقاصد والمصالح، كنظرية الاستصلاح والاستحسان وغيرهما.
هـ ـ نظريات الاستقلال:
ذلك ان بعض النظريات لا ترتبط بالبعض الاخر حسب العلاقات السابقة نسبياً. فقد لا ترتبط ببعضها طبقاً لعلاقة الاعتماد، او التأثير، او التعارض، او الاستيعاب، انما لها خاصية الحياد والاستقلال النسبي. بمعنى انه لا بد من ان يكون لها ارتباط ما ببعض النظريات، مثلما لا بد من ان تكون مستقلة بالنسبة الى البعض الاخر. لذلك فإن حقيقتها ليست مستقلة، فهي لا بد من ان تندرج ضمن الاصناف الاربعة السابقة.
***
هذه هي اصناف النظريات المستنبطة. علماً انه قد يحصل الخلاف احياناً حول علاقة بعضها بالبعض الاخر؛ إن كانت قائمة على التأثير او الاعتماد او الاستيعاب او الاستقلال؟ فمن ذلك علاقة ولاية الفقيه المطلقة بالمصلحة، اذ قد يرى البعض ان ولاية الفقيه تستوعبها، فيما يراها اخر مستقلة او متأثرة بتلك الولاية. وكذا علاقة القياس بالمصلحة ايضاً، من حيث رد هذه الأخيرة اليه بالاعتماد كالذي يراه الحنابلة، خلافاً لغيرهم من المذاهب، او القول بان القياس يستوعبها. ومثل ذلك علاقة المصلحة بالاستحسان، حيث يرى البعض ان الاولى تستوعب الثانية دون حاجة لافرادها مستقلة.
وقد جرى مثل هذا الأمر في العلوم الطبيعية، اذ طرح السؤال حول ما اذا كانت نظرية النسبية لاينشتاين قد استوعبت نظرية نيوتن في الجاذبية، ام انها مغايرة لها في المقاييس والمفاهيم؟ ويعد (توماس كون) من القلائل الذين ذهبوا الى انها مغايرة كما في كتابه (بنية الثورات العلمية)3. مع أن اينشتاين ذاته اعتبر أنه يمكن استيعاب نظرية نيوتن ضمن نظرية النسبية العامة كحالة حدية خاصة، فالقوانين القديمة تنبع من القوانين الجديدة، ومن ثم يمكن ان تُستنتج نظرية نيوتن من النسبية العامة عندما تكون قوى التثاقل ضعيفة. وحتى النسبية الخاصة فانها موضوعة بما يتفق ونظرية نيوتن حيث تقتصر على المراجع العطالية (القصور الذاتي)، والمرجع العطالي يعني التحرر من كل تأثير خارجي، وهو ما يتفق والطرح النيوتني حيث الجسم اما ان يكون ساكناً او متحركاً بانتظام، ومع انه لا يوجد في الطبيعة مرجعاً عطالياً لكن افتراض نيوتن له كان مهماً ليستنتج من ذلك التأثير الخارجي المتمثل بالجاذبية، وبالتالي فقد كانت النسبية الخاصة لدى اينشتاين تناظر ثقالية نيوتن في كون النظرية العامة تستوعبها كحالة حدية عندما يصبح المرجع عطالياً. وعلى العموم أكد اينشتاين بان النظريات الجديدة تستوعب القديمة وتكون اقدر على تفسير القضايا الجديدة التي لم تستطع استيعابها4.
لكن ذلك يطرح علينا سؤالاً حول اختلافنا نحن المعاصرون مع القدماء، فهل هو اختلاف في المقاييس والمفاهيم، او ان فيه علامات استيعاب؟ فكما يقال حول نظرية نيوتن انها تنجح في تفسير بعض الظواهر وتفشل في تفسير اخرى يمكن للنسبية تفسيرها، هل يقال الشيء نفسه فيما قدّمه القدماء من تفسير للنص واظهرت الوقائع الحديثة ان تفسيرهم لم ينجح، خلافاً لما مال اليه المعاصرون؛ فهل يعد ذلك من اختلاف المقاييس ام الاستيعاب؟ فمثلاً انه بحسب النظام الواقعي المرتكز على المقاصد فإنه لا يبطل عادة النسق الفقهي القديم المرتكز على الفهم الحرفي للقرآن مثلاً، بل انه يستوعب هذا النسق ضمن حدود ما كان عليه الواقع، خلافاً للتغيرات الشديدة التي طرأت على الاخير كما في عصرنا الحديث، اي انه يمكنه تفسير ما عليه النسق القديم ويضيف اليه نسقاً آخر يصطدم مع الاول. والنظام الواقعي بذلك اشبه بقوى التثاقل التي تختلف احكامها بحسب ما اذا كانت ضعيفة فتنسجم مع نظرية نيوتن، او كانت قوية فلا تنسجم معها، بل مع النسبية العامة، ومن هنا كانت الاخيرة مستوعبة للأولى من دون عكس. وهو ما يقرّب معنى قولنا ان النظام الواقعي يستوعب النسق القديم من دون عكس، حيث بقدرته تفسير ما كانت عليه الاحكام القرآنية مثلما أمكن للنسق القديم تفسيرها، لكنه اضاف الى ذلك تفسير ما يقتضيه العصر الحديث من تغيير للاحكام، وهو ما يعجز النسق القديم من تفسيره او التعاطي معه بانسجام
4ـ القوانين المستنبطة
للنص قوانين غير تلك التي تحدثنا عنها سابقاً واطلقنا عليها قوانين الفهم، فهي مستنبطة من النص وليست سابقة عليه ولا متحكمة في فهمه. ولا يراد من هذه القوانين الكشف عن الواقع، بل يقصد بها العلاقات الثابتة التي تربط خصائص النص ومضامينه بعضها بالبعض الاخر، فهي تكشف عن صفة ثابتة لمصاديق مختلفة يمكن ربطها في قضية واحدة.
على ذلك فإن ما يميز القانون المستنبط عن غيره من المستنبطات هو انه يتصف بوجود جامع مشترك عام يربط بين فئة للنص تتضمن حالات مختلفة وبين خاصية محددة تنطبق على جميع هذه الحالات. مما يعني ان العلاقة التي تربط حالة فردية بخاصية محددة ثابتة هي علاقة لا تمت الى القانون بصلة. اذ يشترط في القانون المستنبط توفر شرطين، هما: تعدد الحالات، ووجود خاصية مشتركة ثابتة تجمع بين هذه الحالات لتردها الى قضية واحدة.
ويمكن تقسيم قوانين الفهم المستنبطة الى نوعين: بسيطة ومثمرة، شبيه بما يجري في القوانين المنتزعة من الطبيعة والمجتمع.
فالقانون العلمي له خاصية جوهرية، وهو انه يعبر عن قضية واحدة تعمل على ايجاد صلة وارتباط بين ظواهر تجريبية مختلفة5. مما يعني ان اضطراد ظاهرة مفردة لا يعد قانوناً الا بالمعنى البسيط، فكون النار تحرق، والحديد يتمدد بالحرارة، ليس قانوناً الا بالمعنى المشار اليه.
وبحسب الاستاذ (برود) فإن هناك نوعين من القوانين الخاصة بالسببية، احدهما بسيط غير ناضج والاخر اكثر فائدة. فالاول يثبت العلاقة بين الصفات القابلة للتحديد فقط، كتقرير انه لو حصل كذا من الصفات فانه سيتولد كذا من الصفات الاخرى، فارتفاع الحرارة مثلاً يسبب امتداد الاجسام المعدنية. أما النوع الاخر فانه لا يعمل على تحديد الصفات، بل على تحديد المقادير التي يمكن حسابها نتيجة التغير في التأثير، مثل قانون الغازات والضغط الجوي وعلاقة المادة بالطاقة وغيرها. وتكون القوانين في المراحل الاولى لكل علم من النوع الاول البسيط دون الثاني. وفي العديد من العلوم لا تتعدى هذه القوانين حدود النوع الاول، كعلم البايولوجيا وعلم النفس. لكن يبقى هدف كل علم هو التقدم من قوانين النوع الاول الى الثاني6.
ويلاحظ ان اكتشاف القوانين من النوع الثاني يتطلب جهداً متواصلاً، بحيث لا يوجد قانون تم التعرف عليه دون اقامة العديد من التجارب المتواصلة. في حين لا يحصل ذلك دائماً مع قوانين النوع الاول، حتى ان الكثير منها قد يعرف عبر الملاحظة البسيطة، او تبعاً للخبرة العامة.
وكمثال على الجهد الذي يصادف اكتشاف القانون من النوع الثاني ما حصل بخصوص قانون الضغط الجوي. فقد لاحظ العالم تورشلي Torricelli ان رفع الماء بالانابيب من باطن الارض لا يتعدى (34) قدم، وقد احتمل في البداية ان ذلك يعود الى ما يضغطه الهواء على الماء فيدخل في الانبوب ومن ثم يرتفع الى اعلى. ولاجل اختبار الفرض السابق اقام هذا العالم تجربة على الزئبق الذي يزيد ثقله على الماء بـ (14) مرة. فلو صح الفرض السابق لكان ضغط الهواء يقوم بدفع الزئبق في مثل ذلك المكان الى ارتفاع مقداره (34\14) قدم. لذا قام بغمس انبوب زجاجي مغلق من احد جانبيه ومفرغ من الهواء في حوض الزئبق، فلاحظ ان المقدار المفترض كان صحيحاً.
واعتماداً على هذا الافتراض قام كل من باسكال وبرير Perier باستنتاج نتيجة اخرى جديدة، والعمل على حسم التجربة، وهو انه لو كان الضغط الجوي السبب في التأثير؛ فإن ذلك يجعل من المناطق المرتفعة قليلة الضغط لقلة الهواء، خلافاً للمناطق المنخفضة حيث تكون كثيرة الضغط لكثرة الهواء، كما هو الحال في الماء، اذ كلما توغلنا في عمقه زاد الضغط لكثرة الماء، والعكس بالعكس. وقد تم التحقيق من صحة هذا الفرض، اذ وضع برير انبوب الزئبق (البارامتر) في اعلى قمة جبل، وقارن ما سجله هذا الانبوب بما ظهر تحت سفح الجبل، فوجد اختلافاً في تسجيل عمود الزئبق، حيث ظهر على العمود ثلاث انجات اكثر لدى اسفل الجبل مقارنة بالقمة7.
ويلاحظ ان هناك نوعاً من القوانين العلمية يمكن ان يكون وسطاً بين النوعين الاول والثاني، مثل قانون دوركايم في الانتحار الاناني، فهو غير قائم على المقادير الدقيقة، وبالتالي لا يمكن ضمه ضمن القانون الثاني، كما انه يختلف عن النوع الاول باعتباره اكثر تطوراً منه.
***
وعلى تلك الشاكلة تنقسم القوانين المستنبطة في الفهم الديني الى قوانين بسيطة واخرى مثمرة، مع اخذ اعتبار ان القوانين العلمية لها مصاديق غير محدودة الافراد لعدم تناهي الواقع، خلافاً لمصاديق الفهم الديني، فهي تظل محدودة بحدود الفاظ النص المدونة، وبالتالي كان التعميم وفق القوانين المستنبطة في الفهم الديني يعتمد على الاستقراء الكامل، في حين ان التعميم وفق القوانين العلمية يعتمد على الاستقراء الناقص.
وتتميز القوانين المثمرة لدى الفهم الديني مقارنة بالقوانين البسيطة بشرطين كما يلي:
الاول: ان البحث في العلاقة الترابطية بين فئة النص وبين الخاصية المشتركة الثابتة ينبغي ان تكون غير محتملة او متوقعة سلفاً، لذا تحتاج الى نوع من الفحص والتقصي للكشف عن ثبات هذه العلاقة.
الثاني: ان تتضمن فئة النص تعدداً كبيراً في حالاتها المختلفة. فتكرر الحالة الواحدة ذات المصاديق المتماثلة يفقدها صفة القانون المثمر، وان اعتبرت داخلة ضمن القانون البسيط.
فمثلاً ان ايجاد تناسب عددي في تكرر لفظي الدنيا والاخرة، وكذا بعض الألفاظ الاخرى، يجعل العلاقة بين هذه الألفاظ او أعدادها علاقة محدودة. لكن لو تجمع عدد كبير من الحالات التي تتناسب عددياً بنفس الشاكلة وشرط ان يجمعها جامع مشترك، فإن ذلك يخولها للدخول ضمن القانون المثمر.
وقد يقال ان هذا الشرط يجزي عن الاول، اذ يتحقق فيه الفحص والتقصي كما يشترطه الشرط الاول.
وهو امر صحيح، لكن مع ذلك لا غنى عن الشرط الاول؛ باعتباره يشترط ايضاً ان تكون العلاقة الترابطية بين الفئة وبين الخاصية المشتركة غير محتملة سلفاً. اذ في حالات معينة يمكننا توفير الشرط الثاني رغم ان النتيجة لا تعبر عن القانون المثمر، لأن العلاقة الترابطية المذكورة محتملة بدرجة معقولة. فمثلاً لو توصلنا بالبحث والتقصي الى امكانية تقسيم أحرف القرآن كله على العدد (2)، او أحرف السور المكية او المدنية على العدد نفسه... الخ، فإن ذلك لا يجعل النتيجة ضمن القانون المثمر، باعتبار انها محتملة بدرجة معقولة سلفاً.
هكذا فإن صفة القانون المستنبط تتعلق جوهراً بالقوانين المثمرة دون البسيطة. مع هذا فسنستعرض أنواعاً من قوانين الصنفين كما يلي:
القوانين البسيطة:
وهي قوانين تمتاز بوجود صفات ثابتة للحالات التي تعود اليها، لكنها تفتقر الى واحد او كلا الشرطين المشار اليهما سلفاً. فمن ذلك القانون الخاص بالحروف المقطعة في القرآن، حيث انها ترد في أوائل السور فقط دون ان نجد لها ذكراً في اماكن اخرى كأواسط السور او نهاياتها. ومن ذلك ايضاً القانون الخاص بشكل الخطاب الذي يخاطب به العباد ربهم. فهو خطاب ودعاء يأتي على الدوام بصيغة المفرد لا الجمع؛ كصيغ ((ربي، ربنا، أرني، خلقتني..))، خلافاً لخطاب الرب عن ذاته، حيث تارة يأتي بصيغة المفرد؛ كقوله تعالى: ((قال ربّك هو عليّ هيّن وقد خلقتك من قبل))8، واخرى بصيغة الجمع؛ كقوله تعالى: ((نحن خلقناكم فلولا تصدّقون))9.
ويدخل ضمن هذا الاطار القول بان كل سورة فيها (كلّا) هي مكية. وهناك حالات اخرى تحمل استثناءات تجعلها لا تتأطر بالقانون، مثل ان كل سورة فيها قصة ادم وابليس فهي مكية، باستثناء سورة البقرة. وكذا كل سورة فيها ذكر المنافقين فهي مدنية، باستثناء سورة العنكبوت.
كما يدخل ضمن هذا الاطار ما يرد من قضايا اخلاقية، فالقرآن الكريم مشحون بذكرها، ولها صفة عامة مشتركة يؤكد عليها القرآن، وهي انها تتجاوز حدود العرق واللون والجماعة والدين وما الى ذلك، كما يؤكد بأن لها مترتبات تتعلق بتطور المجتمعات وانقراضها، فالظلم الذي تمارسه الامم يعرضها الى الهلاك والفناء كعقوبة الهية.
ويقع القانون الاخلاقي بالنسبة الى الدين كموقع مبدأ السببية بالنسبة للعلم. فبدون هذا المبدأ لا تقوم للعلم قائمة، وكذا ان بدون القانون الاخلاقي لا تقوم للدين قائمة. لذلك نتوقع ان ما يرد في الدين من قضايا اخلاقية؛ يتصف بصفات الاتساق والتجرد والقيم المطلقة. وقد ألّف البعض دراسة بهذا الخصوص من القانون الاخلاقي القرآني، كما هو الحال مع محاولة عبد الله دراز في كتابه (دستور الاخلاق في القرآن).
القوانين المثمرة:
وهي قوانين تمتاز بفائدتها الجلية، وكونها يصعب انتزاعها من النص، انما هناك محاولات لذلك، نذكر منها على سبيل التمثيل ما يلي:
أـ قوانين تناسب الاعداد
وتبحث هذه القوانين عن تناسب الاعداد الخاصة بالحروف او الألفاظ او الجمل او السور وما اليها، كإن يكون البحث عن تناسب اعداد الألفاظ المتقابلة في القرآن، مثل لحاظ ما يذكر من عدد لفظ الدنيا بانه بقدر ما يذكر من عدد لفظ الاخرة. وهذا المذكور من التناسب يعد محدوداً لا يجمعه جامع مشترك عام. فلو ان ذلك ينطبق ايضاً على المتقابلات الاخرى الواردة في جميع القرآن مثلاً، او المتقابلات التي تخص علاقات الواقع فقط، او المجتمع، او غير ذلك، فانها ستكون مثمرة ولها دلالة اعجازية.
ب ـ قوانين القسمة العددية
وتبحث هذه القوانين عن الامكانية المشتركة لتقسيم الاعداد الخاصة بالحروف او الألفاظ او غيرها من موارد النص القرآني على عدد محدد، كإن يتم تقسيم حروف اي سورة من سور النص القرآني على عدد مفترض. ومن الطبيعي انه كلما كان العدد المقسم عليه صعباً؛ كلما اثبت القانون ثمرته بشكل اعظم. ففارق بين ان تنقسم حروف كل سورة على العدد (2)، وان تنقسم على العدد (19) مثلاً، اذ الحالة الثانية مستبعدة مقارنة بالحالة الاولى. وعليه لو ان حروف السور تنقسم فعلاً على العدد الأخير لكان ذلك من الاعجاز، ولجعلنا نتوقع وراء هذا العدد سراً ما نجهله، خلافاً لما يحصل في الحالة الاولى. ومع ان هناك من اظهر ان عدداً من السور يقبل القسمة على العدد المذكور، لكن ذلك لا يجعله يتخذ صفة القانون، باعتباره لا يشمل كافة السور، او على الاقل سوراً تمتاز بخاصية مشتركة، كإن تكون السور المكية او المدنية او الطوال او غير ذلك من الخصائص العامة.
ج ـ قوانين التمييز بين السور
واشهرها التمييز بين السور المكية والمدنية، كالتمييز القائم طبقاً لصفتي قصر السورة وطولها، حيث تدل قصار السور على انها مكية، خلافاً لطوال السور الدالة على انها مدنية. لكن هذا التمييز لا يصل الى حد القانون، فهناك سور طوال وهي مكية؛ كسورة الانعام والاعراف ويونس وهود ويوسف وغيرها، وفي المقابل هناك سور قصار وهي مدنية؛ كسورة النصر والزلزلة والبينة وغيرها.
كما قد يكون التمييز طبقاً لمضمون السورة، فالسور التي تقتصر على الانذار وخبر القرون الماضية وذكر العقيدة والدعوة دون الاحكام الشرعية والعلاقات المدنية والحدود والفرائض؛ هي مكية، خلافاً للسور التي تسترسل بذكر الاحكام وتلك العلاقات، حيث تدل على كونها مدنية.
وهذا التمييز لا يصل بدوره الى مرتبة القانون، لأن من السور المكية ما جاء فيها الاحكام الشرعية. كذلك العكس، حيث هناك سور مدنية تقتصر على قضايا العقيدة دون الاحكام والفرائض، كسورة الزلزلة والانسان وغيرهما.
وقد يكون التمييز طبقاً لورود بعض الجمل، فالسور التي فيها (يا أيّها النّاس) هي مكية، اما السور التي فيها (يا أيّها الّذين آمنوا) فهي مدنية.
لكن الملاحظ ان آية ((يا أيّها النّاس اعبدوا ربّكم)) وآية ((يا أيّها النّاس كلوا ممّا في الأرض))، كلاهما من سورة البقرة وهي مدنية. وكذا ان آية ((يا أيّها النّاس اتّقوا ربّكم)) ومثلها آية ((إن يشأ يذهبكم أيّها النّاس))، وهما من سورة النساء وهي مدنية. كما ان آية ((يا أيّها الّذين آمنوا اركعوا واسجدوا)) من سورة الحج وهي مكية10.
وقد تناقش بعض الأمثلة التي ذكرناها بأنها أقرب الى القوانين البسيطة منها الى القوانين المثمرة، لا سيما المثال الأخير. وهو أمر صحيح، فهذا المثال ينضم - فيما لو تمّ اطراده – تحت عنوان القوانين البسيطة، لكننا استرسلنا ذكره هنا بمناسبة الحديث عن التمييز بين السور المكية والمدنية.
د ـ قوانين الموضوعات
وهي تبحث عما اذا كانت هناك ثوابت عامة للموضوعات المعروضة في كل سورة، او في جملة من السور تشترك بخصوصية عامة، كالسور المدنية او المكية، او الطوال او القصار. فكما عرفنا بأن من ضمن التمييزات بين السور المكية والمدنية ما يتعلق بنوع الموضوعات، حيث السور التي تشتمل على موضوعات العقيدة والوعد والوعيد وخبر القرون الماضية هي مكية، خلافاً للسور المدنية التي تشتمل على موضوعات الاحكام والحدود والفرائض وما اليها. لكن عرفنا بأن هذا التمييز لا يصل الى حد القانون.
5ـ المستنبطات بالعلاقة مع «الاخر»
ونقصد بها ما يستنبط من النص في علاقته بمصادر المعرفة الاخرى، كالعقل والواقع وغيرهما. فقد يكون الغرض من هذه المستنبطات المقارنة بينها وبين ما تبديه مصادر المعرفة الاخرى، او يكون الغرض منها الكشف عن مضامين «الاخر» او غير ذلك من الاغراض. وقد تتداخل المستنبطات مع مضامين «الاخر» فيكون النتاج نتاجاً مشتركاً. وابرز محاولات هذه المستنبطات ما يعرف بالتفاسير العلمية للقرآن. ومثل ذلك ما قام به المفكر محمد باقر الصدر في استنباط عدد من السنن الكاشفة عن الواقع الموضوعي، كما في تفسيره الموضوعي للقرآن.
1 جاء في الصحيحين عن عروة بن الزبير عن عائشة أن فاطمة عليها السلام، ابنة رسول الله صلى الله عليه وسلم: سألت أبا بكر الصديق بعد وفاة رسول الله أن يقسم لها ميراثها، ما ترك رسول الله مما أفاء الله عليه، فقال أبو بكر: إن رسول الله قال: (لا نورث، ما تركنا صدقة). فغضبت فاطمة فهجرت أبا بكر، فلم تزل مهاجرته حتى توفيت، وعاشت بعد رسول الله ستة أشهر، قال: وكانت فاطمة تسأل أبا بكر نصيبها مما ترك رسول الله من خيبر وفدك، وصدقته بالمدينة، فأبى أبو بكر عليها ذلك وقال: لست تاركاً شيئاً كان رسول الله يعمل به إلا عملت به، فإني أخشى إن تركت شيئاً من أمره أن أزيغ. فأما صدقته بالمدينة فدفعها عمر إلى علي والعباس، وأما خيبر وفدك فأمسكها عمر وقال: هما صدقة رسول الله، كانتا لحقوقه التي تعروه ونوائبه، وأمرهما إلى من ولي الأمر، قال: فهما على ذلك إلى اليوم (صحيح البخاري، حديث 2926. وصحيح مسلم، حديث 1759).
2عبدالوهابخلاف: مصادرالتشريعالإسلاميفيمالانصفيه،دارالقلم،الكويت،الطبعةالثانية،1970م،ص66.
3توماسكون: بنيةالثوراتالعلمية،ترجمةشوقيجلال،سلسلةعالمالمعرفة(168)،1413هــ1992م،ص151 ومابعدها.
4تطورالافكارفيالفيزياء،ص114 و155 و157 و175.
5 انظر:
Hempel, Philosophy of Natural Science, current printing 1987, USA, p. 54
6 انظر:
Broad, C. D. Induction, Probability and Causation, Holland, D.Reidel Published Company, 1968, p. 130
7 انظر:
Madden, E. H. Introduction, in: The Structure of Scientific Thought, Great Britian, 1968, p. 4
8مريم/9.
9الواقعة/57.
10 البرهان في علوم القرآن، طبعة دار الفكر، ج1، ص239 وما بعدها.