§ كيف نقيم العلاقة بين مقاصد التشريع والواقع؟ أتصور هذا هو السؤال المركزي في عملكم؟
نعم هذا صحيح مع اضافة الفهم المجمل.. فلا معنى للمقاصد إذا لم يؤخذ الواقع بعين الاعتبار. فمعلوم ان نظرية المقاصد نشأت بدافع تبرير ما عليه الأحكام الشرعية، لكنها انطلقت وفق لحاظ الانسجام مع الواقع وعاداته وسننه. بمعنى ان هذه النظرية لم تأخذ بعين الاعتبار تحولات الواقع وتجدداته، وهي العلامة الفارقة التي تنذر بضرورة تغيير الأحكام. ويعود سبب هذا الاهمال والترك إلى ان المنظرين للمقاصد كانوا أشاعرة، كما وان عملية تقنين الفقه كانت بعيدة عن النظر إلى الواقع في الغالب. وبالتالي إذا ما أردنا للمقاصد ان يكون لها دور حقيقي فلا بد من إبعادها عن التبرير وادخالها في صلب العملية التأسيسية، وهو ما يفرض على الفهم ان يكون مجملاً دون تفصيل، أي خلاف ما عوّل عليه الفقهاء والمفسرون ومن على شاكلتهم.
§ الأحكام التي جاءت في النص هي أحكام نموذجية وليست مركزية كما يصورها الإسلام الارثوذوكسي، توالدت كونها إجابات على أسئلة الواقع في القرن السابع الميلادي، اذن الأحكام بهذا الاعتبار ليست قابلة للقياس ولا الاستصحاب، هذه الرؤية تعد انقلاب في الفكر الإسلامي الحديث، دعنا نطور هذه الفكرة باعتبارها أس المشكلة؟
لا شك ان الرؤية السائدة اليوم هي ذات الرؤية التراثية التي تجعل للأحكام الواردة في شبه الجزيرة العربية خلال القرن السابع الميلادي طابعاً مركزياً. لهذا فان عمليات قياس الأحكام واستصحابها إلى يومنا هذا تعتبر مبررة وفق هذا المنظار الضيق، رغم انها غير مبررة وفقاً للرؤية الجديدة التي تؤكد على الطابع النموذجي للأحكام؛ لتصادمها مع تجددات الحياة. وبالتالي لا ينبغي الاعتماد على حرفية الأحكام، كما لا ينبغي أهمالها كلياً، فالصحيح هو العمل وفق ما تتضمنه من روح المقاصد واعتبارات الواقع. فهذه الطريقة هي السبيل الوحيد لديمومة الدين دون التعرض لخطر موته بفعل تحولات الواقع. وهو ما يعني خطأ الممارسة التي تعتمد على قياس الأحكام واستصحابها. علماً بأن غرضنا من هذين الاصطلاحين هو اعم مما تم استخدامه في الفقه وأصوله.
§ في حالة التعارض بين النص والواقع، هل نجعل الواقع حاكماً على النص بوصفه مصدر الحقائق الموضوعية وكاشف للحقوق والمصالح؟
للواقع مراتب وأنماط مختلفة، ومنه الواقع الذي يعبر عن الحقائق الموضوعية، وهو يختلف عن نمط آخر يتمثل في الحقوق والمصالح، أو ما سميناه بالواقع الاعتباري. لذا لا بد من لحاظ طبيعة نمط الواقع عند الحديث حول تعارضه مع النص، فهل يتمثل في الحقائق الموضوعية، أو الحقائق الاعتبارية، أو شيء آخر؟ فمن خلال هذا التمييز يمكن تحديد مسألة الحاكمية. إذ تناط الأخيرة بالواقع عندما يكون التعارض متعلقاً بالحقائق الموضوعية. فالواقع هنا يمثل الأصل الذي تُبنى عليه الحجج بما فيها حجة النص ذاته، ولولاه ما كان بالامكان الكشف عن هذه الحجة، وبالتالي فأي شيء يتعارض مع الواقع بالمعنى الذي يعبّر عن هذه الحقائق لا بد من استبعاده بالتأويل أو الرفض أو الاهمال.
§ إذا كان الواقع يحمل داخله الفساد والضلالة وبوصفه حاملاً للحقائق الموضوعية وكاشفاً للحقوق والمصالح، لذا لمن الاحتكام للنص أم للواقع؟ والنص أداة تغير؟
كما ذكرت فان للواقع أنماطاً مختلفة، والحديث عن نمط الحقوق والمصالح والمفاسد يختلف عن الحديث حول الحقائق الموضوعية. وإذا كانت الحاكمية في حالة تعارض النص مع الحقائق الموضوعية تعود إلى الواقع، فان هذه الحاكمية في حالة الحقائق الاعتبارية من المصالح والمفاسد تكون للمقاصد، كما يؤكد عليها النص والوجدان العقلي. فالواقع هنا محكوم لا حاكم، إذ قد يكون فاسداً وبحاجة إلى التغيير.
§ المعروف ان النص هو رؤية تصورية للعالم وأداة للتغير من الجاهلية الدينية إلى المعرفة الدينية، ففي حالة تعارض النص مع الواقع كيف نجعل الواقع حاكماً على النص؟
لا شك ان النص الديني، وبالأحرى الخطاب الديني، كان معنياً بتغيير الواقع. لكن السؤال الذي يرد هنا: أي واقع أراد الخطاب تغييره ونبّه العقول عليه؟ هل هو الواقع المعبر عن الحقائق الموضوعية؟ أم الواقع المعبر عن القيم والحقوق والمصالح؟
اعتقد ان الإجابة واضحة، وهي ان الخطاب الديني كان معنياً بتغيير القيم والحقوق الاعتبارية، وهو لم يتنزل ليكون بديلاً عن الحقائق الموضوعية، بل لا ينبغي له ذلك، باعتبار ان هذه الحقائق هي منشأ حجته، ولولاها كان من غير الممكن معرفة ما إذا تضمن الخطاب الحجة الكافية أم لا؟. فأقصى ما يمكن للخطاب فعله في هذا المجال هو التنبيه على بعض حقائق الواقع التي قد تغيب على العقول، لكنه ليس بديلاً عنها بالجملة. وعليه فالواقع بهذا المعنى حاكم على النص. لكن من حيث القيم فالأمر يختلف، وهنا يأتي دور الخطاب في تعرية الواقع، فعندما يكون الأخير فاسداً فسيحتاج إلى التغيير لتضاربه مع المقاصد الدينية والتطلعات الوجدانية.
§ إنك تقول: الامامية استخدمت العقل الإجتهادي لقدرته على الكشف عن مقاصد التشريع للنصوص والعمل بالقياس المعلل وتمكين العقل من الكشف عن الحكمة والاغراض على صعيد الفعل الإلهي، ولكن هناك سرديات وأحاديث داخل الامامية تنهى عن استخدام العقل والإجتهاد في القضايا الفقهية.. بماذا تعلل ذلك؟
لقد ذكرت بان هناك مفارقة لدى التفكير الأصولي عند الامامية الاثنى عشرية، وهي انه رغم اعتقادها بأن العقل البشري يمكنه الكشف عن غرض وحكمة الفعل الإلهي، بل وحكمة التشريع اجمالاً، إلا أنها في علم الفقه ترى العقل عاجزاً عن إدراك مقاصد الأحكام الشرعية وعللها، استناداً إلى الأحاديث المروية عن الأئمة المانعة من ذلك. فهذا هو سبب التفكيك الذي جعلها في علم الكلام تتجه نحو الوثوق العقلي خلافاً لما جرى في علم الفقه.
§ الفقه في الامامية لم يتقولب، بل أخذ أشكالاً متعددة وابعادا تطورية مختلفة، هل من الممكن ان تشرح الخطوط العريضة لعمليات التحول؟
ان البداية الأولى لظهور الفقه الشيعي تعبر عن الطريقة النقلية للأحاديث المروية عن الأئمة أو مضامينها بشكل مجزء بسيط دون ان تحكمها قواعد فقهية أو نظريات. ويمكن تصور سيادة هذه المرحلة خلال فترة الأئمة وما بعدها حتى القرن الخامس الهجري، كما أشار إليها شيخ الطائفة أبو جعفر الطوسي بوضوح. لكن مع امتداد هذه الطريقة ظهرت بعض الآفاق المفتوحة للإجتهاد الفقهي. والطريف ان اولى الممارسات الإجتهادية لدى الشيعة بدأت بالقياس، الأمر الذي وجدت رفضاً لدى عموم الشيعة. فقد عُرف عن ابن الجنيد وابن أبي عقيل العماني بأنهما أبرز الممارسين للقياس، وهما من اساتذة الشيخ المفيد خلال القرن الرابع الهجري. يضاف اليهما جماعة من أصحاب ائمة أهل البيت اُتهموا بممارسة القياس أيضاً، ومنهم الفضل بن شاذان ويونس بن عبد الرحمن وغيرهما.
وظهرت بعد ذلك مدرستان فقهيتان تختلفان في المصادر المعتمدة في الأصول، تعود الأولى إلى الشريف المرتضى الذي من أصوله رفض خبر الآحاد والاكتفاء بالتواتر والاجماع، أما الثانية فتعود إلى تلميذ المرتضى الشيخ الطوسي الذي اعتمد على خبر الآحاد، بل كرس اهتمامه في محاولات التوفيق بين الأخبار المتعارضة وترجيح بعضها على البعض الآخر، وهي جوهر العملية الإجتهادية التي تميزت لدى الشيعة منذ القرن الخامس الهجري وحتى يومنا هذا. وكان من نتائج هذا الاختلاف بين المدرستين هو ان الأولى لا تعترف بظنية الأحكام، وترى وجوب ان تكون قطعية، خلافاً لطريقة الطوسي التي تتقبل هذه الظنية بحكم اعتمادها على خبر الآحاد والإجتهاد في النصوص المتعارضة، وهي التي كُتب لها النجاح وسادت بوسائلها المعتمدة إلى يومنا هذا. فبقي الإجتهاد يعبر عن محاولات التوفيق بين أخبار الآحاد المتعارضة والترجيح فيما بينها، رغم ان لفظ (الإجتهاد) كان منكراً وتُحرم دلالاته باعتباره يشير إلى ما لدى أهل السنة من قواعد كالقياس والمصلحة والاستحسان، واستمر هذا التحفظ حتى مجيء المحقق الحلي خلال القرن السابع الهجري إذ تقبّل المصطلح ضمن شروط معينة. في حين اختفت طريقة المرتضى بعد ان التزم بها عدد من الفقهاء خلال القرن السادس الهجري من أمثال ابن ادريس الحلي الذي عاب على طريقة الطوسي واعتبرها مبتدعة وطارئة على المذهب، فهو أول من شنّع عليه واتهمه بأنه روّج للإجتهاد وفق الطريقة السنية.
لكن رغم نجاح مسلك الطوسي فقد ظهرت هناك طريقة تستنكر ممارسة الإجتهاد والأخذ بالظنون وتعتبرها مبتدعة في المذهب دون ان يكون لها أصل لدى القدماء، فكانت المطالبة بالعودة إلى مسلك الإخباريين الأوائل. فهذه هي خلاصة ما جاء به منظّر الإخبارية الجديدة محمد امين الاسترابادي خلال القرن الحادي عشر الهجري، وقد اتبعه عدد من العلماء من أمثال الشيخ الحر العاملي ويوسف البحراني وحسين النوري وغيرهم، كما وافقه في أغلب مدعاه العارف الفيض محسن الكاشاني.
وعلى أثر ذلك ظهر صراع بين الاتجاه الاخباري والاتجاه الأصولي (الإجتهادي) كما يتمثل في مدرسة وحيد الدين البهبهاني منذ أكثر من مائتي سنة، ومن نتائجه انه تم انتصار هذه المدرسة على الاخباريين، كما وبرز فيها مسلك جديد – نتيجة الصراع – يحمل سمة ما يسمى بدليل الإنسداد الكبير. فقد اعتبر هذا الاتجاه ان صفة الظن لا تلوح أغلب الأحكام فحسب، بل تلوح المنشأ الذي تتأسس عليه الأحكام أيضاً، كما يتمثل بشكل رئيسي بحجية خبر الآحاد. فقد أصبح هناك شك في حجية الأخبار التي وصلتنا والتي ينبني عليها الفقه الشيعي. فليس هناك ما يقطع بهذه الحجية طالما ان الشكوك تنتاب الأخبار من كل حدب وصوب. لكن هذا الاتجاه واجه ضربات ونقود كثيرة كتلك التي أظهرها الشيخ مرتضى الأنصاري، مما جعل هذه المدرسة لم تدم طويلاً وسرعان ما انتهت ولم يعد لها أثر، ومن ثم عاد الاتجاه الذي سبقها والذي أسسه الشيخ الطوسي من جديد.
أما اليوم فلا توجد طريقة جديدة غير تلك التي دعا إليها الامام الخميني، وهي تتعلق بفهم جديد للموضوع الواقعي الذي ينبني عليه الحكم الشرعي، كما تتعلق بقضية العلاقة التي تربط المصلحة بالنص وشروط ترجيح الأولى على الثاني عند التعارض.
§ نتيجة الانغماس الكلي في النصوص فان أغلب المدارس الفقهية الإسلامية تغيب العقل والواقع، ماهي الأسباب الكامنة وراء ذلك؟
هناك أسباب عديدة لهذا التغييب، بعضها يعود إلى العقيدة المؤسسة على العقل كالحال مع العقيدة الأشعرية، وهي التي ينتمي إليها أغلب المذاهب الفقهية السنية. فبحسب هذه العقيدة فإن القيم من الحسن القبح بما فيها الأحكام الفقهية مردها إلى المالك المطلق، ولا يؤذن بأي فعل ما لم يكن مسموحاً به منه، وبالتالي الرجوع إلى النص فحسب، باعتباره يمثل خطاب المالك المطلق وأمره. كما هناك اعتبارات متعلقة بالأحاديث الكثيرة التي تنهى عن الركون إلى العقل في الكشف عن الأحكام، وهو المبرر الذي ارتكز عليه الاتجاه الشيعي متمثلاً بالامامية الاثنى عشرية. هذا يضاف إلى ان النصوص وردت في الغالب وكأنها مطلقة شاملة لا يحدها زمان ولا مكان، وبالتالي كيف يمكن ان يكون هناك مصدر آخر ينازع المصدر الإلهي، وهو ما يحسبه الفقهاء بانه يغطي كل شيء. يضاف إلى ان هناك خشية من ان الاعتماد على العقل والواقع يفضي إلى تعطيل الشريعة شيئاً فشيئاً حتى لا يبقى منها شيء، ومثل ذلك هناك عدم وثوق في النتائج العقلية، وانه لا يضبطها ضابط، كما إنها تكون عرضة للأهواء والمصالح الشخصية. فكل هذه الأسباب تدعو إلى الإحجام عن الممارسة العقلية في استكشاف الأحكام وتصويبها.
§ اذن ما هو موقع العقل في المذهب المعتزلي؟
عندما يُذكر لفظ المعتزلة يرد في البال علم الكلام والعقيدة لا الفقه. أما من الناحية الفقهية فالمعتزلة كانوا في الغالب ينضوون تحت لواء المذهب الحنفي قبل انقراضهم ويصبح هذا المذهب مع المذهبين المالكي والشافعي من نصيب العقيدة الأشعرية. وهم في الفقه لا يختلف موقفهم من العقل عن الغير وان اختلفوا معهم في القضايا العقدية وعلم الكلام. نعم هناك اقلية اعترفوا بمجال العقل في المسائل الفقهية، خاصة وانه عُرف لهؤلاء موقف سلبي اتجاه أحاديث الآحاد، وهي الرصيد الأعظم للفقهاء، وبالتالي لا يعوض ترك هذه الأحاديث سوى التعويل على العقل والواقع.
§ الاتجاه السني يتنكر للعقل المستقل في التشريع وذلك ان العقل هنا موصوف هنا، لا يمكنه ادراك أدلة الأحكام بذاتها، في حين إن الأحكام جاءت إجابات على الواقع، هل هي عملية تصعيد للأحكام واعطائها سرمدية مطلقة؟ هل هو الاعتماد على النصوص ذاتها في التشريع، كيف؟ من يستنبط الأحكام من النصوص؟
نعم هنا تصبح لأحكام النص سلطة فوقية تتعالى على الواقع والزمان والمكان. ويصبح العقل الإجتهادي لا يتجاوز حدود التفكير في النص وما يرتبط به من قضايا. لذا لا بد من ملكة الإجتهاد، سواء في قضايا النص ذاته، أو القضايا التي لا نص فيها، وغالباً ما تكون الأخيرة منقادة للنص عبر أداة القياس الفقهي. وبالتالي فأحكام النص بهذا المعنى تكون خالدة من حيث الأصل، وان على المجتهد ان يستنبطها ويثبتها دون مجال للتغيير.
§ نلاحظ ان جميع اتجاهات المذاهب الإسلامية لم تضع العقل مستقلاً عن البيان أو النص والأغلبية تضعه في التسلسل الأخير بعد النص والاجماع والإجتهاد، هل تعود المسألة لكون النص يمثل العقل الإلهي متجلياً؟ أم المسألة تعود إلى أسباب عملية أخرى؟
بل هناك اقلية لا أغلبية هي التي وضعت العقل في الأخير بعد النص والاجماع، كما تمثلت في اتجاه الأصوليين من الامامية الاثنى عشرية. وإلا فغالب المذاهب الفقهية لا تعير للعقل المستقل أهمية. ويعود سبب ذلك إلى التصور بأن النص يمثل التشريع الإلهي فيفترض ان يكون شاملاً ومطلقاً دون حاجة لمضارعته بشيء آخر كالعقل والواقع. وبحسب هذا التصور فان هذه الاضافة الجديدة تعبر عن النقص في التشريع الإلهي، كما إنها تفضي إلى إحلال العقل محل هذا التشريع، وكل ذلك يعد من المنكرات، وهي ترى انه ليس في النص ما يشير إلى الالتزام بالعقل المستقل في استكشاف الأحكام.
§ الاتجاه الشيعي يعد العقل غير قادر على الادراك القطعي للمصالح والمفاسد الحقيقية في الواقع، ويندرج تحت هذا التعامل جميع القضايا الفقهية سواء كانت بسيطة أو عظيمة، ومنها ما يتعلق بنظام السلطة والحكم والحريات الفردية والاجتماعية والتعامل مع الحقوق العامة للإنسان، هذه القضايا لا تبحث ضمن اطار المصالح والمفاسد العقلية وانما تبحث بحسب النظر المنبثق من التفكير البياني. دعنا نطور هذه الفكرة لماذا العقل غير قادر على الادراك القطعي للمصالح والمفاسد حسب المنظور الشيعي؟
بحسب المنظور الشيعي ان العقل يظل عاجزاً عن ادراك مصالح الواقع، وهذا العجز جاء لافتراض ان هناك مصالح خفية لا يدركها العقل كما هو صريح بعض الفقهاء، وهو ما يعني الالتزام بالنص على نحو مطلق. هذا على المستوى الفلسفي إن صح التعبير، أما على نحو التحديد فيلاحظ ان المنظور الشيعي وجد عدداً من الروايات ومنها ما اعتبرها صحيحة السند تنهى عن الاحتكام للعقل، بل إن بعضها يجعل التقديرات العقلية تخالف التشريع الإلهي، ولذلك يكون العقل مردوداً. وللأسف فان الفقهاء عولوا على مثل هذه الروايات رغم انها لا تفيد القطع مقارنة بما يفيده العقل. ولو جرى ذلك في علم الكلام لردها العلماء لصالح العقل، إما بالتأويل أو التكذيب أو الاهمال.
§ نظام السلطة والحكم والحرية الفردية وحقوق الأنسان لماذا لم تبحث في المنظور الشيعي بحس المصالح والمفاسد أو الادراك العقلي؟
لقد ذكرنا بأن هناك خشية من ان الاعتماد على العقل يفضي إلى ابطال الشريعة أو تعطيلها، كما هناك عدد من الروايات تبدي انه ليس للعقل قدرة على ادراك المصالح والمفاسد الحقيقية. ومن ذلك ما يؤتى به من مثال يخص رواية دية قطع أصابع المرأة، إذ تتساوى هذه الدية في حالة قطع اصبعين مع حالة قطع أربع أصابع، فتكون الدية في حالة قطع ثلاث أصابع أعظم من قطع الأربع. فمع ان الرواية جاءت مخالفة للوجدان العقلي فان الفقهاء المعاصرين بمن فيهم المتفتحين اعتبروها دالة على ان الحكم تعبدي دون ان يناله العقل بالفهم والادراك. وأكثر من ذلك انه سبق للشيخ الأنصاري ان اعتبرها دليلاً على عدم جواز الرجوع إلى العقل في استكشاف الأحكام الشرعية.
وهناك شواهد عديدة تتعدى فيه الروايات على حرمة الأنسان، ومع ذلك يعوّل عليها الفقهاء دون اهتمام لما تفضي به من معارضة للوجدان والحقوق والقرآن، ومن ذلك ما ورد حول ولد الزنا بانه كافر وانه لا خير فيه وهو شر الثلاثة، وانه لا تقبل شهادته ولا تجوز امامته، ومثله ولد الكافر نجس وكافر.
هكذا عادة ما تكون الرواية حاكمة على غيرها من مصادر المعرفة.
§ عندما تبحث تلك المسائل كلها وفق التفكير البياني داخل المنظور الشيعي ماذا يتوصل هذا المنظور لهذه المسائل الكبرى (نظام السلطة والحكم والحريات الفردية والاجتماعية والتعامل مع الحقوق العامة للإنسان)؟ أقصد الخلاصات الفقهية؟
إن التفكير البياني الشيعي قائم على الرواية، ومنها يخلص إلى ان نظام السلطة والحكم هو من اختصاص الامام المعصوم، فليس لغيره الحق في التصدي لهذا المنصب. ومؤخراً تم تأويل هذه القضية وفقاً لنظرية ولاية الفقيه المطلقة المستمدة من فكرة نيابة الفقهاء العامة للمعصوم. أما الحريات الفردية والاجتماعية وسائر الحقوق فهي مقيدة بقيود دينية واعتبارات مذهبية. فمثلاً إن ما يخص غير المسلم من الكتابيين هو ان يفرض عليهم الجزية مع الصغار، وهو مبدأ عام اتفقت عليه المذاهب الإسلامية باعتباره منصوصاً عليه في القرآن. ومثل ذلك قتل المرتد اعتماداً على بعض الروايات، كما إن الحقوق الفكرية قد تم تضييقها بما لا يتجاوز دائرة المذهب، لذلك ذهب الفقهاء إلى وجوب حرق واتلاف كتب الضلال أو منع قرائتها وتداولها.
§ هل ترى ان العقل البشري عاجز عن ادراك ما ينطق به النص؟ وخاصة فيما يتعلق بالتعارض بين النص والحقوق الطبيعية والعدالة التي هي على رأس الثوابت العقلية ومقاصد الشريعة؟
اعتقد ان هذه القضايا وجدانية مدعومة بالنص ذاته، فكيف لا يمكن للعقل ان يدركها؟!. وفي الأساس ان الخطاب الديني جاء بهذه القيم بعنوان الامضاء والتبعية للعقل، ولم يأتِ بها بعنوان التأسيس كما توهم الأشاعرة.
§ الاعتماد على العقل في التشريع هل يفضي إلى نسخ الشريعة أو تعطيل النص؟
إن النص ذاته يشهد على النسخ. وبغض النظر عن العقل فإن مع تطورات الواقع نشهد تعارضاً بين بعض الأحكام والمقاصد. فالأحكام مقررة في النص ذاته، كما إن المقاصد مقررة مثلها فيه، وانه في حالات معينة يحصل نوع من التعارض بينهما، وبالتالي فالعمل بأي منهما سيكون على حساب الآخر، مما يعني ان العمل سيتحتم ان يكون بخلاف ما جاء في النص. فلو قيل إنه لا بد من الحفاظ على أحكام النص، لقلنا إن ذلك سيفضي إلى تضييع مقاصد النص أو العمل على خلافها. كما إن العكس صحيح، وبالتالي لا بد من الموازنة والترجيح، وحيث ان مقاصد النص أهم من أحكامه باعتبار ان الأولى غاية الأخيرة، والغاية مقدمة على الوسيلة عند التعارض، لذا فالمطلوب ليس الحفاظ على الأحكام بل على المقاصد ذاتها.
§ ألم ترَ معي ان اعتماد العقل البشري الإجتهادي قد يفضي إلى نقض كمال الشريعة أو تماميتها المطلقة؟
بل أرى ان العكس هو الصحيح، فلو لم يكن هناك أي إجتهاد لأفضى الأمر إلى جمود الشريعة، طالما ان من المحال على النص ان يغطي كافة مستجدات الواقع وتطوراته.
§ هل ان العقل البشري عاجز عن ادراك المصالح الدنيوية؟ إذا افترضنا أنه عاجز عن ادراك المصالح الأخروية.
هذا ما ينص عليه الفقهاء، وهو ان العقل البشري عاجز عن ادراك المصالح الدنيوية بتبريرات مختلفة، كتلك التي تقول إن المصالح الحقيقية خافية على العقل، أو لأن عقول الناس مختلفة ومتفاوتة الادراك لا يضبطها ضابط، أو لأنها معرضة للأهواء والمصالح الشخصية، أو غير ذلك.
§ ألم ترَ معي ان الخلافات الفقهية الكبرى بين المذاهب تدل على العجز وعدم وجود ضوابط للتحكم في المصالح والأهواء في العمليات الفقهية؟
تبقى الخلافات الفقهية الكبرى خلافات إجتهادية في الأساس، فعلم الفقه لا يختلف في هذه الناحية عن سائر العلوم، فكل علم يتميز بالخلافات، لكن ما يلفت النظر في هذا العلم هو كثرة خلافاته وتشعباته لأي مسألة فقهية عادة، وهي نقطة ضعفه. فهو علم قائم في الأساس على الظنون والتكهنات لكونه يتغذى على الرواية، وهي حبلى بالمشاكل والأزمات.
§ ما هو الوجدان العقلي، كيف يمكن ادراك الواقع بهذه الأداة؟
نقصد بالوجدان العقلي ذلك الوضوح المعرفي الذي يدركه العقل مباشرة دون أدنى تأمل. فنحن نعرف بأن هناك قضايا واضحة للعقل، وقد يكون مصدر وضوحها من العقل ذاته، أو من خلال الواقع والخبرة. ولا شك اننا نركز هنا على الوجدان النوعي لا الشخصي، بمعنى انه لو طرحت القضية على كل فرد سوي فانه يرى فيها وضوحاً كافياً. ويدخل ضمن هذا الاعتبار ما يسمى بالحس المشترك العام (common sense)، كذلك ما يسمى بالارتكاز العقلائي كما يصطلح عليه فقهاء الشيعة المتأخرين.
§ التعرف على مناطق الثبات وتغير حاجات الواقع والأحكام الشرعية والفرز بينهما، أتصور يعطي للنص ديمومية وقوى للإحاطة بالمشكلات الحضارية؟
قد تبدي بعض الأحكام نوعاً من الثبات نسبياً، وهي تظل ثابتة لأحد سببين: إما لكونها تظل على وفاق مع المقاصد الشرعية، أو لكونها تعبدية لا يدرك مغزاها ومقصدها، على فرض انها لا تتصادم مع المقاصد أو حاجات الواقع المتغيرة.
§ اتساءل عن الخطوط العريضة لفكرة المصلحة عند الشيعة والسنة؟
ترتبط فكرة المصلحة لدى السنة بالمذهب المالكي، والبعض يراها تشمل المذهب الحنفي، بل وسائر المذاهب. ويُقصد بها بوجه عام هي كل ما يجلب نفعاً ويدفع ضرراً. وهي تعتبر من مبادئ الإجتهاد وتتأخر عن النص، إذ يكون موردها القضايا التي لا نص فيها، ويطلق عليها المصلحة المرسلة أو الاستصلاح. وقد تكون المصلحة مقبولة لدى الأحناف عندما تخصص النص أو تقيده. والمصلحة المعول عليها هي تلك التي تتصف بالظن فضلاً عن القطع. أما لدى الشيعة فالمصلحة العقلية ليست مقبولة ما لم تكن قطعية، ويفترض انها لا تكون على حساب النص.
§ المصلحة أداة تعمل خارج حدود دائرة العبادات أو القضايا التي فيها نص مثبت (الكفارات، الحدود، الارث) وتعمل على القضايا البكر، دعنا نسأل: إذا كانت بعض النصوص في الإرث والحدود تتناقض مع العدالة والأزمنة الحديثة وبالذات مع حقوق الأنسان الطبيعية والنوع الاجتماعي، اذن هذه الأداة عاجزة عن اصلاح فهم الدين؟
إن المصلحة لدى الفقهاء مقيدة، فعادة ما تقيد ضمن اطار القضايا التي لا نص فيها، وهي التي أطلق عليها المفكر الصدر منطقة الفراغ، مع أخذ اعتبار جانب القطع كشرط لا غنى عنه لدى الشيعة، وهي ذاتها المصلحة المرسلة عند السنة دون شرط القطع، إذ قبلوها وان كانت ظنية غير قطعية. وفي جميع الأحوال إن الشروط التي فُرضت على المصلحة يجعلها عاجزة بالفعل عن ان تحل لنا مشكلة عندما تتعارض مع النص ويرجح عليها الأخير.
§ ماهو دور الامام الخميني في تعديل ضوابط الفقه الشيعي؟ هل كان لديه مشروع فقهي متكامل في اعادة بناء فهم الدين والشرائع؟
حقيقة الأمر ان لدى الامام الخميني تصورات هامة وان لم يكن لديه مشروع متكامل. فقد اراد تعديل الإجتهاد وإن بصورة غير مباشرة ولا صريحة كي لا يستفز نظراءه من الفقهاء. فقد اعتبر ان من ضمن ما يجب اعتباره في موضوع الحكم الشرعي تلك الظروف المحيطة بالموضوع والتي لم يولها الفقه الشيعي ولا السني أي أهمية. كذلك فانه تقبّل مبدأ المصلحة، بل ورجح مصلحة النظام على أحكام النص الجزئية.
§ للامام محمد باقر الصدر ابتكار يطلق عليه (سد منطقة الفراغ) أولاً ما هي تلك المنطقة؟ وهل تتعلق بالتشريع فقط؟ أم تتعلق بالحاكمية السياسية؟
المقصود بسد منطقة الفراغ هو افتراض ان هناك قضايا لم ترد حولها نصوص، وبالتالي فهي منطقة فارغة من التشريع، لذلك يستدعي الحال تسديدها وفقاً للمصلحة ولحاظ الحاجة، فكان التشريع لها تشريعاً مرناً يخص اعتبارات الحاجات الزمنية والظرفية. وفي تصوري انها تتعلق بالتشريع المرن كما يراه المرجع المقلد مثلما انها تتعلق بالحاكمية السياسية. فقد يتولاها الحاكم السياسي، كما قد يتولاها الحاكم الشرعي وان لم يعتلِ المنصب السياسي. وقد صرح المفكر الصدر بأنها مسألة تتولاها الدولة أو ولي الأمر.
§ من هو المؤهل علمياً في سد مناطق الفراغ التشريعي حسب منظور السيد الصدر؟
لقد طرحها المفكر الصدر ضمن تصوراته حول النظرية الإسلامية وكيفية حلها للمشاكل الواقعية في كتاب (اقتصادنا). ويفترض ان يكون المؤهل للتطبيق مجتهداً مرجعاً يتولى سلطته التشريعية، سواء كان على رأس النظام السياسي أو خارجاً عنه.
§ الامام الخميني أعدّ المصلحة الخاصة بحفظ النظام مقدماً إياها على غيرها من الأحكام والأدلة الشرعية وعلى رأسها أحكام النص، ألم تعد هذه نقطة تحول كبرى في ان النص كتاب هدى وليس كتاب تشريع سرمدي؟
نعم، فهذا التصور يؤكد بأن لأحكام النص قيوداً لا يمكن فرضها على الواقع المتجدد بالقوة والالزام، ومن ذلك مسألة حفظ النظام، وبالتالي لا يمكن اعتبار أحكام النص سرمدية ثابتة، وقد ادركها السيد الخميني تماماً، كما ادركها الكثير من اقطاب نظام الجمهورية الإسلامية في ايران، ولهم في ذلك مواقف تجديدية لا تتناسب مع الرؤى التقليدية لدى الشيعة والسنة على السواء.
§ فتوى الخميني في العام 1988 والذي عرف بها الدولة الإسلامية بانها (تمثل السيادة المطلقة التي وكلها الله سبحانه وتعالى إلى الرسول (ص) وان هذا أهم حكم من الأحكام الإلهية وله اسبقية على الأحكام الثانوية الإلهية، من خلال هذه الفتوى تستطيع الحكومة ان تلغي من جانب واحد عقودها الشرعية مع الناس حينما تخالف هذه العقود مصالح الدولة وتستطيع ان تمنع أمراً عبادياً وتعطل الفرائض الإلهية التي تعتبر مخالفة لصلاح الدولة؟
هذا صحيح بحسب هذه الفتوى التاريخية.
§ ألم ترَ معي ان تلك الفتوى حولت الدولة إلى أيقونة مقدسة واعادة انتاج الدولة الإلهية ومنحتها صلاحيات مطلقة وشرعنة خارج التاريخ الواقعي للبشر؟
تبدو لي زاوية نظر أخرى معاكسة، فهذه الفتوى أرادت ان تتحلل من القيود التي وضعها المتشرعة والفقهاء بعنوان النص والدين، فاعتمدت بذلك على شرعنة حقوق الدولة، وفي تصوري ان هذا المعنى قد جعلها أكثر واقعية وعلمنة. ومن حيث التطبيق ان الأمر جرى بحسب هذه الرؤية الواقعية. فمجلس تشخيص المصلحة الذي وضعه الخميني قد ركز على حاجات الواقع أكثر مما ركز على الدولة كنظام ديني.
§ كيف جرت نقل القداسة إلى الدولة في الفقة الشيعي الامامي مع العلم ان الدولة الحديثة هي انتاج إرادات الأفراد وتمارس عملها بتفويض من الناس؟
قداسة الدولة كما في فتوى السيد الخميني لم يزدها دينية بقدر ما زادها وقعنة وعلمنة. فقد تقلصت الاعتبارات الدينية قبال اعتبارات الواقع.
§ ألم ترَ ان تلك الدولة التي تبرز ملامحها من خلال الفتوى الدينية للامام الخميني هي دولة استبدادية مشرعنة من الله؟
كونها مشرعنة من الله لم يزدها صبغة دينية، فالعكس هو الصحيح كما أسلفت من قبل، لذلك فهي دولة بالمعنى الحديث لا الديني. أما كونها استبدادية فهي مسألة نسبية، وقد تجد من الدول العلمانية الحديثة أكثر استبداداً وتضييقاً للحريات منها، فهي لا تخلو من هامش للحريات تفوق العديد من دولنا العربية.
§ أتساءل عن ماهية نظرية المقاصد العامة للشريعة؟
معنى المقاصد العامة للشريعة هو ان للأحكام الشرعية مقاصد وغايات، وأول من أشار إليها هم الأشاعرة، وهي بحسب الشاطبي وعدد من العلماء عبارة عن ثلاث مراتب: الضرورات والحاجيات والتحسينات، كما لها متمماتها. وأهم ما فيها الضرورات والتي عادة ما تقسم إلى خمسة أو ستة مقاصد، هي الحفاظ على كل من: الدين والنفس والعقل والعِرض (أو النسب) والنسل والمال. ولنا عليها عدد من الاشكالات بحسب ما وردتنا، أبرزها انها وضعت لتبرير الأحكام الشرعية الموجودة من دون ان تُسخر لتأسيس أحكام جديدة وفقاً لتغيرات الواقع. كما أضفنا إليها مقاصد غائية، كتلك التي عبرنا عنها بمجموعة من القيم، هي: التعبد والتعقل والتحرر والتخلق والتوحد والتكمل.
§ تقول : يبقى الخيار الديمقراطي هو الخيار المطلوب وان التيارات الدينية هي أقوى التيارات التي يمكنها توظيف هذا الخيار في مجتمعاتنا الإسلامية، دعنا نناقش العلاقة الملتبسة بين الدين والديمقراطية في المجال الإسلامي من الناحية الابستمولوجية.. الديمقراطية تقوم أساساً على استقلال المجال السياسي عن المجال الديني وتتضمن استخدام قوانين وضعية لإدارة شؤون الدولة والأفراد، وهذا الفصل بين المقدس والدولة يجعلها عرضة للمحاسبة من قبل المجتمع، في حين رجل الدين يحاول اضفاء صفة القداسة على الدولة والأفراد، كيف تستطيع التيارات الدينية الفصل بين المقدس والدولة وتستخدم قوانين وضعية في ادارة المجتمع؟
ما ذكرته من شروط للديمقراطية انما تعني زج الديمقراطية بالعلمنة، وجعل إحداهما متداخلة مع الأخرى. وهو لا يعد من صلب موضوعة الديمقراطية كتعددية سياسية بغض النظر عن توجهات أصحابها. فالمهم فيها هو احترام هذه التعددية دون الانقلاب عليها، وإلا تحولت إلى نقيضها وهو الاستبداد. فلو ان الغالبية صوتت على ان يكون الحكم دينياً لكان ينبغي احترام هذه الارادة وفقاً لمبدأ الديمقراطية، اما لو اُعطيت الفرصة للأقلية باعتبارها تصوت للعلمنة فان ذلك يعني القلب على الديمقراطية.. فلا ينسجم هذا المبدأ مع حكم الأقلية للأكثرية. مع ذلك فان أعظم النظم الديمقراطية لا تخلو من التوجهات الدينية، بما فيها القرارات التشريعية، كالحال مع الولايات المتحدة الأمريكية، فالتشريع لدى بعض هذه الولايات يحمل صلاحيات دينية، إلى درجة انها تمنع تدريس نظرية التطور الداروينية في المدارس لاعتبارات مسيحية مثلاً. بل حتى بريطانيا لا تخلو من التطعيم الديني، فمجلس اللوردات يحتضن في جعبته عدداً من رؤساء أساقفة الكنيسة الانجليزية، وهم ليسوا منتخبين بمعية البقية من النبلاء الوراثيين، لذلك تم تقليص عدد أعضائه والمطالبة باصلاحه.
§ الديمقراطية تمثل تلاقي ارادات الأفراد عبر التفويض، حيث ان الحرية البشرية لا تعرف معناها الحقيقي إلا عن طريق المشاركة في السيادة التي تعود للجماعات السياسية، ووحدها لها الحق في ممارستها داخل نظام دولة القانون، حيث تتجلى كنظام سياسي في كافة المستويات، وتحول الأشخاص من كائنات لاهوتية إلى كائنات سياسية مستقلين عن بنيتهم الدينية وخروج الدولة كأساس معياري من أي دين أو نظرية دنيوية محددة، فهذه الحيادية الدينية والدنيوية للدولة هي جزء من التأسيسات الأولية للديمقراطية بمجالها القانوني والأخلاقي، هل توجد في المنظومة الدينية الإسلامية والتيارات الدينية تلك الشروط؟
في الحقيقة ان ما تذكره انما ينطبق على التوجهات العلمانية. فهذه الأخيرة لا تعني الديمقراطية بالضرورة. فقد تكون العلمانية مستبدة كما هو الحال في دولنا العربية. ومن استبدادها انها تضع الشروط في إبعاد التوجهات الدينية عن أي منافسة أو مشاركة، وتفترض ان القوانين ينبغي ان تكون وضعية مائة بمائة. لكن هذا شيء ومفهوم الديمقراطية شيء آخر. ومع انه ليس العبرة بالاصطلاح، بل العبرة بالمفهوم، ومفهوم الديمقراطية مرتبط بارادة الشعب، بمعنى ارادة الغالبية، أو حكم الأكثرية للأقلية، لأنه من غير المعقول أن تتفق ارادة الشعب دون معارضة. وهي كما في مزحة تشرشل: أسوء نظام باستثناء سائر النظم. والبعض يضيف إليها قيوداً مثل حماية الأقلية والمعارضة والأفراد لتكون ليبرالية وليست مجرد حكم الأغلبية للأقلية. لكن يبدو لي ان هذه القيود هي من ضمن النسيج الديمقراطي، لأنها قائمة على التوافق المبدئي للشعب، فحالها هو كحال توقيت الانتخابات ضمن فترات محددة دون تأبيد.
§ تعتبر الديمقراطية الفرد هو وحدة موضع النص القانوني لإبعاده عن كل وصاية تمارس بإسم الهوية الدينية الجماعية، أو الهوية الثقافية المرتبطة بمنظومة حقوق الأنسان، والتأكيد على المساواة كجزء من الفلسفة السياسية والديمقراطية. في حين إن التيارات الدينية تتحدث بإسم الأمة الدينية ولم تصل لحد الآن إلى مفاهيم الدولة الحديثة؟
حديثاً ظهرت تيارات دينية أخذت تنادي بالخصوصية الوطنية، مستجيبة بذلك لضغط الواقع والحاجات الزمنية. وبالتالي فقد زاوجت ما بين الديني والمفاهيم الجديدة حول الدولة الحديثة، ومن ثم امكنها ان تتفاعل مع غيرها من التيارات العلمانية وفقاً لمبدأ الديمقراطية والمساواة دون تمييز.
§ هل يتوافق (الدين) الإسلام اللامعين انثروبولوجياً (ذلك لتعدد الإسلاميات التاريخية وتناقضها في الأحكام والشرائع) كنظام معرفي مع عناصر الفلسفة الديمقراطية؟ أقصد هل يتسق النظام المعرفي السني أو الشيعي مع عناصر الفلسفة الديمقراطية؟
لا شك انه ليس في دائرة المذاهب ما ينسجم مع اطروحة الديمقراطية. فلدى هذه المذاهب شروط لا تعول فيها على احترام الأكثرية، انما تركز على اعتبارات أخرى تعتقدها ملزمة من الناحية الدينية، حتى ولو لم يتم احترام الاكثرية أو عموم الشعب. فالخيار ليس للشعب، وانما عليه البيعة والطاعة.
§ ما هو السياسي في الإسلام؟
من وجهة نظري هناك قيم ثابتة دون سياسة ثابتة في الإسلام، فكل ما تستهدفه هذه القيم هو بناء الأنسان الصالح. بمعنى انه لا توجد آليات محددة للنظام السياسي الإسلامي. فالخيارات متاحة ومفتوحة، لكنها مؤطرة باطار تلك القيم والمقاصد الأنسانية التي تعم بالخير والصلاح على الجميع دون استثناء.
§ كيف تشكل شرعية الدولة السياسية في الإسلام؟
هناك إجتهادات حول الدولة السياسية في الإسلام، وفي الأساس ترد بعض الشروط التي تفي بهذه الشرعية، وهي شروط مختلف حولها بين السنة والشيعة، فأهم شرط لدى الشيعة هو عصمة الحاكم السياسي، ويقابله لدى السنة بعض الشروط كشرط القرشية فضلاً عن الإجتهاد والعدالة والذكورة وغيرها. لكن هناك مشتركات أهمها البيعة.
§ كيف تتم عملية الربط بين السياسي والحقل الأقتصادي والحقل الديني؟ وهل هناك نظرية للدولة في الإسلام؟
الإسلام دين لمن أراد اعتناقه، وهو كدين لم يكن بحاجة لتقديم نظرية حول الدولة والنظام السياسي. وما يرد لدى الفقهاء هو إجتهادات وتصورات حول طبيعة العلاقة السياسية والاقتصادية في الإسلام، ومثل ذلك طبيعة الدولة فيه. أما ما كان الإسلام يركز عليه فهو ليس هذه الوسائل والاجراءات التي تتضمنها النظم الاجتماعية، إذ كان معنياً بالقيم والمقاصد لخدمة البشر، ومن ذلك تركيزه على ضرورة اقامة العدل بين العباد دون تمييز لعرق أو دين أو مذهب أو نسب أو جنس أو قرابة. وهي قيمة عظمى نحتاجها عند التفكير في تشكيل أساس الدولة والنظم الاجتماعية والسياسية.
§ هل تستمد الدولة في الإسلام شرعيتها من الجماعات البشرية وتركيبات المجتمع السياسي؟ أم من النصوص التأسيسية والتفويض الألهي؟ أم من مؤسسة أهل الحل والعقد أو اجماع الأمة أو اجماع الفقهاء؟
من وجهة نظر الفقهاء والمذاهب التقليدية فإن الأمر يناط بالنصوص التأسيسية والسيرة الفعلية للنبي ومن بعده الخلفاء الراشدين، كما يشار إلى الاجماع أيضاً. وعليه يتصور الفقهاء بأنه لا بد من دولة تتبنى تطبيق الأحكام الدينية، كما لا بد من ان تكون هناك شروط تُقيد بها، وبالذات الشروط المتعلقة بالتشريع والقوانين وكيفية نصب الحاكم السياسي ومواصفاته وصلاحياته التنفيذية وهي مطلقة شرط ان لا تتعارض مع الأحكام الدينية المسلم بها. وكل هذه الاعتبارات التي وضعوها تعد إجتهادية دون ان يتبين حولها شيء من النصوص القطعية.
ويكفي ان نلاحظ بان طريقة ادارة الخلفاء الراشدين كانت مختلفة بعضها عن البعض الآخر، كما إن تنصيب كل منهم قد جرى بشكل مختلف تماماً، وبالتالي لا يوجد شيء مؤكد وثابت يمكن ان يُلتزم به من الناحية الشرعية سوى القيم الدينية العامة.
§ وكيف يتم دمج مفهوم الديمقراطية في بنية الدين الإسلامي واقامة تماثل بين الدين / الإسلام / الديمقراطية؟
الديمقراطية من حيث كونها آلية فهي لا تحمل مضموناً فكرياً محدداً. فإما ان تساق لتعمل باطلاق فيكون النظام الإسلامي طرفاً قبال أطراف أخرى منافسة، أو توضع شروط معينة تتقيد فيها الديمقراطية منعاً لما قد يكون ليس بصالح عموم الشعب أو المجتمع، كما هو جار اليوم في العراق. إذ قد لا يكفي التصويت الديمقراطي، بل هناك عناصر أخرى تضاف لأهميتها، كالاستحقاق الوطني والشراكة وما إلى ذلك. وللنظم الديمقراطية قيود وشروط مختلفة يتم التوافق عليها سلفاً. ففي بريطانيا مثلاً تجد سلطة اللوردات والسلطة الملكية لا تخضعان لمبدأ الديمقراطية، وكذا هو حال النظم الأخرى.
§ قضية المرأة ومكانتها في النظام الثقافي البيطرياركي الديني ألم تتنافض مع العناصر الراديكالية في فلسفة الديمقراطية فضلاً عن تناقضها مع حقوق الأنسان؟ ألم يمارس القهر والتصنيف والتمييز ضد المرأة وفق شرعية دينية في الشهادة والمواريث والحقوق المدنية؟
فيما يتعلق بنصفية شهادة المرأة مقارنة بالرجل نلاحظ ان القرآن الكريم صرح بعلة الحكم، لكن الفقهاء لم يركزوا على التعليل وفق منهجهم الماهوي المفضل، فلم يأخذوا بعين الاعتبار حالة السياقين الدلالي والظرفي، واكتفوا بالحكم ضمن طريقتهم الجزئوية والتجزيئية، فقد ذكر القرآن الكريم هذا الحكم وهو بصدد الحديث حول قضايا التداين ضمن التداولات المالية، وكما جاء: ((.. فإن لم يكونا رجلين فرجل وإمرأتان ممن ترضون من الشهداء أن تضل إحداهما فتذكر إحداهما الأخرى)). وواضح ان التعليل مهم في هذه الحالة، إذ لو كان ضعف ذاكرة المرأة مناطاً بالظرف من دون علاقة متأصلة بالمرأة ذاتها فان تغير الظرف سيبعث على تغيير الحكم وفقاً للعلة. فالحكم يتبع علته حيثما دارت وجوداً وعدماً.
كما ان نقصان الإرث الذي حكم به الشرع للمرأة مقارنة بالرجل كان في قباله انه أعطاها أشياء أخرى تعادل ما حرمها منه. فالمهر هو من حق المرأة على الرجل، كما إن كفالة معيشتها هي أيضاً من حق المرأة عليه، سواء كان أبا أو زوجاً، فهي غير معنية بكلفة المعيشة، وانما ذلك من الواجبات الملقاة على الرجل. فبالنتيجة انه وفقاً للظروف القديمة والكثير من الظروف الحالية ان هذه الأحكام لصالح المرأة ربما أكثر مما للرجل. وبالتالي لا يوجد اجحاف بحق المرأة ولا قمع ولا اضطهاد إلا ما جاء عن فتاوى الفقهاء التي حرمت المرأة من بعض حقوقها الأنسانية، لا سيما المعنوية منها. ومنها الفتوى التي تقول بأنه لا يجوز قبول شهادة النساء في الأمور المالية مهما كان عددهن ما لم يكن معهن شاهد من الرجال، استناداً إلى حرفية اللفظ القرآني. أو الفتوى التي تنهى عن تعليمهن الكتابة وسورة يوسف وتركهن بلّهاً. ومثل ذلك أنه ليس للزوجة حق - على الزوج - في تلبية رغبتها الجنسية إلا مرة واحدة كل أربعة أشهر، وأحياناً أكثر من ذلك أو أقل، وبعض أئمة الفقه لا يوجب على الرجل شيئاً طيلة العمر. وجاء عن الفخر الرازي أن الأصل في غرض تكليف النساء هو أن تنقاد للزوج وتمتنع عن المحرم، فهي على رأيه مخلوقة كخلق الدواب والنبات وغير ذلك من المنافع التي يستمتع بها الرجال.
§ اشكالية الفرد / الجماعة اللتان لم يتم حسمهما في الدين الإسلامي؟
يمكن لحاظ هذه الاشكالية وفق الفهم المنبني على النص. فهناك نصوص تركز على الفرد كفرد، ومن ذلك ما جاء في القرآن الكريم: ((فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر.. فذكر انما انت مذكر لست عليهم بمسيطر)).. فيما تركز نصوص أخرى على الجماعة كتلك التي لها علاقة بالتعاون والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فالفرد ينتمي إلى الجماعة شاء أم أبى، وهو بهذا يتمتع بحقوق مثلما ان عليه واجبات. وجميع النظم الاجتماعية تعترف بهذه العلاقة المزدوجة، مهما كان ترجيح الكفة للفرد على الجماعة أو العكس.
§ ما هو موقف الدين / الإسلام / من الآخر الديني والسياسي والجنسي والعرقي؟
اعتقد ان موقف الإسلام من الآخر تحدده هاتان الآيتان: ((لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي.. يا ايها الناس إنّا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم)).
§ التساؤل عن ما هي الديمقراطية في الحيز الثقافي الديني الإسلامي؟
يرتبط هذا السؤال بكيفية الفهم الجاري، فلا شك ان الفهم متعدد دون انقطاع، وما وصلنا من فهم تراثي متعدد لا يعني نهاية المطاف. فالفكر الإسلامي أعم وأشمل من تراثنا المعرفي، وانه إذا لم تظهر الديمقراطية في هذا التراث فلا يعني تصادمها مع مطلق الفكر الإسلامي.
§ الديمقراطية ظاهرة ديناميكية لا تعمل داخل جهازها المفاهيمي والمعرفي ولا تشتغل ضمن انساقها بالتصنيفات والتمايزات الطبقية أو الجنسوية أو الاثنية أو القومية أو الطائفية، وانما تأخذ الوجود الموضوعي (الفرد) حجر الزاوية، أما في الإسلام فان فكرة الفرد دائماً مسبوقة بالانتماء إلى الأمة أو الجماعة. هذا التميز الأولي بين الإسلام كــمنظومة دينية / اقتصادية والديمقراطية نظام وتمثيلات يتأسس على مفهوم الفردانية، وهو يلخص مجمل هذه التعقيدات في البنى والمؤسسات الاقتصادية والسياسية والاجتماعية والنظم الثقافية، لأن الإسلام نظام سياسي يكرس حقوق الجماعة الدينية، وهو ما يؤدي إلى الانزلاق نحو انساق توتاليتارية سلطوية تقوم على استقالة المجتمع ككل؟
إن الفرد الذي تتحدث عنه هو فرد مجرد لا وجود له على أرض الواقع. ففي الواقع ان الفرد له انتماءاته الطبقية والجنسية والاثنية والطائفية وما إلى ذلك، ولا شك ان بعضها يؤثر في توجهاته وتطلعاته وأولوياته خلال الممارسة الديمقراطية للحكم. فهو ليس فرداً موضوعياً أو مجرداً، بل تلعب فيه الأهواء والنوازع المصلحية والآيديولوجية من كل حدب وصوب، لذلك يعبر بعض المفكرين الغربيين عن الديمقراطية بأنها حكم الحمقى من الناس، لكنها ضرورية. فهي تمثل الصراع الأبيض عوض الأحمر الملطخ بالدم. ويقال ان الطاولة المستطيلة في مجلس العموم البريطاني، والتي تفصل بين الحزبين الحاكم والمعارضة، مصممة بعرض مقداره (سيفان) لتوحي بما كان عليه الحال من الصراع الدموي على السلطة.
وعموماً أرى ان من الممكن حل المشكلة من الناحية النظرية في التوفيق بين الإسلام والديمقراطية، أو باعتبار ان الفكر الإسلامي يمكنه استيعاب هذه الآلية. لكن تظل مشكلة التطبيق قائمة، فما نحتاجه هو ان نربي صغارنا في المدارس على الرقي الأنساني واشاعة ثقافة الحوار والمسالمة.
§ فكرة السيادة، إذ إن التـأويل المسيحي لمقتضيات الاصلاح قد ارتضته البروتستانتية والبيوريتانية والاقرار بشرعية التصويت على أساس القانون الذي أودعه الرب قلوب مخلوقاته، بما يثبت ان فكرة السيادة الإلهية لا تحول بالضرورة دون ان يمارس الأنسان سيادته، وان سياق الممارسة الاجتماعية والسياسية هو الذي يقرب الحجج التيولوجية من مفهوم الديمقراطية أو يبعدها، أما في الإسلام فإن مفهوم السيادة الكاملة لـ (الله) واستحالة السيادة للبشر هو ما يمكن تصوره والاعتقاد به؟
إذا أخذنا باعتبار ان هناك سلطات ثلاث: تشريعية وتنفيذية وقضائية، ففي هذه الحالة ان من يتداول السلطتين التنفيذية والقضائية هم البشر، فليس هناك مجال للسيادة الإلهية. لذا تبقى السلطة التشريعية، وفي هذه السلطة ليس هناك نظام مفصل تشريعي للأحكام الدينية الأصلية، ليمكن ان يناقش في مدى سيادتها، وهي مع قلتها كانت عرضة للتغيير وفقاً للمقاصد من ذات الجماعة التي ساهمت في نجاح الإسلام وتثبيته، وشاهد خلافة عمر بن الخطاب ليس ببعيد عنا. لذلك لم تكن هناك سلطة في الإسلام تعمل وفق السيادة الإلهية المطلقة أو الكاملة.
§ أما مسالة التعددية والاختلاف والتنوع في النظم الفلسفية والسياسية والاقتصادية والثقافية داخل الانموذج الغربي للديمقراطية يتناقض مع الانموذج الإسلامي القائم على وحدة الأمة والجماعة الإسلامية والهوية الكلية الثابتة؟
هناك خلط بين النظم المذكورة وبين العقيدة الدينية. فما يوحد النموذج الإسلامي هو العقيدة دون سائر النظم المذكورة. وبالتالي كان من الممكن الجمع بين هذه العقيدة وبين التعددية والاختلاف في تنوع النظم المذكورة، فلا يوجد فارق بين النموذجين الغربي والإسلامي من هذه الناحية. فالغرب يحمل في طياته نظماً وأفكاراً متضاربة، وهو لا يشكل كياناً موحداً، ولا يختلف من هذه الناحية عن حال المسلمين، لذلك فمن الممكن للغربي ان يكون مسلماً بالعقيدة، كما من الممكن للمسلم الشرقي ان يكون متبنياً لأفكار غربية مع الحفاظ على عقيدته. وبالتالي فمن المسلمين من عبّر عن توجهاته الفكرية والثقافية بانها ذات صبغة إسلامية اشتراكية أو ديمقراطية أو ليبرالية أو غير ذلك، فهو ذو مسلك إسلامي رغم مشربه الغربي، دون ان يفضي الأمر إلى التناقض بالضرورة.
§ إن الدين (الإسلام) ينبذ فكرة التفويض، لأن (الله) الإسلامي لم يفوض أي سلطة لأحد، لذا لم تتشكل في (الإسلاميات التاريخية) سلطة دينية مكتملة، وتلك نتيجة منطقية لهذا الوضع المعرفي. وفي المقابل كان الانموذج الغربي للديمقراطية قائماً على فكرة التفويض والتي تشكل بنية محورية في الفكر الغربي والثقافة المسيحية؟
لم يقدّم الدين الإسلامي برنامجاً للنظام السياسي ليناقش فيما لو كان فيه تفويض أم لا؟ ففي الأساس تعود سلطة أتباع هذا الدين إلى الاعراف السائدة دون ان يكون هناك نقاش حول التفويض وعدمه. وفي اعتقادي ان الشيء المتأصل في النظام الإسلامي هو ذلك المتعلق بالقيم الدينية والأخلاقية العامة، فهي موجهات دون ان تحمل برامج معينة مفصلة. فحتى القرآن الكريم لم يذكر شيئاً مفصلاً حول هذا النظام باعتراف عدد من المفسرين والفقهاء. ومن ذلك إن الشيخ عبد الوهاب خلاف اعتبر ان نصوص القرآن قد اقتصرت على مبادئ محدودة هي الشورى والمساواة والعدل، مع انه باستثناء مسألة العدل فان ما ذكره لا يخلو من نقاش ونقد كما طرحناه في فهم الدين والواقع (أو: النظام الواقعي). كذلك ذهب الطباطبائي إلى تقرير مقارب، وهو انه لا يوجد اطار معين ثابت للتشريع السياسي في الإسلام مراعاة لتغير الظروف، باستثناء بعض القيم والأهداف. لهذا نجد التخبط والتناقض فيما تطرحه الحركات الإسلامية وما تظنه بانه يشكل صلب النظام السياسي في الإسلام.
§ هذه الانساق المعرفية (الفردية، السيادة، التعددية، التفويض) تلعب أدواراً مؤسساتية في الممارسة السياسية في نبذ الديمقراطية كمفهوم وممارسة داخل المجال الإسلامي؟
جميع هذه المفاهيم لا تتناقض مع أصول الفكرة الإسلامية. وكان من الممكن ان تدخل ضمن اطار المجال الإسلامي، مع الأخذ بعين الاعتبار بعض الضوابط والحدود كالذي تمارسه جميع نظم العالم، فلا توجد فردية مطلقة ولا سيادة مطلقة ولا تعددية مطلقة ولا تفويضاً مطلقاً.
§ ألم ترَ معي ان تجارب الدولة الإسلامية الحديثة في افغانستان وايران والسودان... انتجت نظاماً قمعياً في الأصول التشريعية والفقهية؟
لقد فشلت التجربة الدينية السودانية منذ البداية، فهي لم تجرب شيئاً، وقد أصبح من كان يمثل الاتجاه الديني في السلطة مضطهداً ضمن المعارضة. أما افغانستان فأمرها استثنائي لبدائية الجماعة التي أرادت تطبيق الشريعة ضمن ظروف غير طبيعية ولا مستقرة. تبقى ايران فالملاحظ ان موادها التشريعية أو الدستورية لا تحمل ما وصفته من مواد قمعية، فهي تتعامل مع الايرانيين ككل ضمن قانون موحد دون تمييز إذا ما استثنينا مناصب عليا قليلة، وعلى رأسها منصب الولي الفقيه الذي له صلاحيات شاملة لاعتبارات مذهبية. وهو الذي تجدد حوله النقاش والنقد داخل الساحة الايرانية، إذ القضية وإن كانت تبدي الاستبداد باعتبار ان السلطة تعود إلى فرد يحمل صلاحيات واسعة وفقاً للقانون الموضوع، لكن ذلك لا يشكل بالضرورة نوعاً من النظام القمعي. فهناك في القبال هامش من الحرية لا تتوفر في كثير من دولنا الشرقية.
§ هل النص الديني يمتلك سلطة ذاتية أم سلطة مضفاة؟
ان للنص اعتبارات ذاتية بالنسبة للفكر الديني، بمعنى انه لا يمكن ان يوصف الفكر بأنه ديني أو إسلامي ما لم يتميز بالاعتماد على النص، فقد يمكنه ان يتخلى عن كل مرجعية أخرى دون ان يؤثر على انتمائه الديني، إلا النص، فلو تخلى عنه كمرجعية فسوف لا يوصف بالفكر الديني أو الإسلامي. فهو وصف لمن ينتمي للفكر الديني، بغض النظر عن تعددية هذا الانتماء ومعايير المفاضلة بينها، فلا شك ان من يضيف إلى النص مرجعيات معرفية أخرى ملائمة كمرجعية العقل والواقع هو افضل من ان يتحنط بإطار النص فحسب، لهذا كان المثقف الديني أوسع أفقاً من الفقيه، لانغلاق الأخير على النص خلافاً للأول الذي أضاف إليه مرجعيات أخرى كثيراً ما يعول عليها المثقف العلماني، كالعقل والواقع. لذا قد تحصل حالات من التقارب بين الرؤيتين الدينية والعلمانية عند تعويل الفكر الديني على تلك المرجعيات المضافة. بل قد تحصل حالة من التقارب بين الرؤيتين في النتائج رغم اختلاف الاعتبارات المعتمدة لدى كل منهما، كإن يكون الإعتماد لدى الفكر الديني على الاعتبارات الذاتية (النص)، ولدى الفكر العلماني على العقل والواقع. مع هذا فالفوارق بينهما تظل متوقعة وكثيرة، لكن ذلك يحدث أيضاً بين الطروحات المختلفة التي يقدمها ذات الفكر الديني بأطيافه المتنوعة، وكذا يحدث بين الطروحات المختلفة التي يقدمها الفكر العلماني.
§ الإجتهاد هو الأداة التي تلعب الدور الحاسم على وفق متغيرات الزمان والمكان، هل هناك مشكلات داخل نظام الإجتهاد الديني؟
مسألة الإجتهاد هي مسألة الفهم ذاتها، وعندما نحدد بعض المشاكل المتعلقة بالإجتهاد انما نقصد مشاكل الفهم كما وردنا، وقد يتغير الإجتهاد أو الفهم، وكل ذلك يعتمد على نوع المعايير المتخذة للوصول إلى الأحكام المناسبة. وفي تصوري ان أهم مشكلة عانى منها الإجتهاد الإسلامي حتى يومنا هذا هي انه لم يعر أهمية للواقع كمصدر يعتمد عليه في التشريع بمعية المقاصد.
§ أتساءل ما هي الأصول النظرية التي قام عليها العقل السني، وسائله الاستدلالية واجراءاته المنهجية، أقصد هنا الآليات من حيث هي عمليات ذهنية يستنبط منها الأحكام بالمعنى الفلسفي؟
يمارس العقل السني الإجتهاد في مجالين مختلفين، أحدهما يتعلق بالكلام والعقيدة، والآخر في الفروع والفقه، وهو في مجال الكلام والعقيدة يتمسك بالمنهج العقلي غالباً، لكنه في مجال الفقه يلجأ إلى منهج البيان اللغوي. ويتخذ من المنهج الأخير أداة للطريقة الجزئوية والتجزيئية، فالعقل البياني هو عقل جزئوي وتجزيئي، فهو جزئوي لكونه يركز على جزئيات النص دون كلياته، وهو تجزيئي باعتباره يجزء النص دون التفات إلى دلالاته السياقية والظرفية عادة.
§ أتساءل ما هي الأصول النظرية التي قام عليها العقل الشيعي، وسائله الاستدلالية واجراءاته المنهجية، أقصد هنا الآليات من حيث هي عمليات ذهنية يستنبط منها الأحكام بالمعنى الفلسفي؟
لا يختلف العقل الشيعي عن العقل السني في طريقته، وإن كان يختلف معه في الأصول الإجتهادية، فهو لا يعترف بالإجتهاد الظني فيما لا نص فيه كالقياس وما إليه. كما إنه يضع العقل ضمن لائحة التشريع. يضاف إلى انه يتعامل مع نصوص الأئمة وينزلها منزلة نص النبي وفقاً للأصل العقائدي.
§ أغلب المذاهب تعد النص يمتلك الشمولية والمطلقية في جميع مجالات الحياة بما فيها المناطق الدنيوية التي من المفترض ان تترك للعقل والخبرة والتجربة الأنسانية، ما هو تعليلكم؟
المشكلة هي ان هذه المذاهب تتصور بان التشريع الإلهي قد نزل ليتسع تطبيقه حرفياً على جميع المجتمعات، فهو شامل مطلق، لذلك التزم أصحابها بالمنهج الماهوي، وهو منهج يحول الجزئي من الأحكام إلى كلي عام قابل للتطبيق على مختلف الاحوال والظروف دون اعتبارات ما يلابسه من وقائع خصوصية. فوفقاً لهذا الفهم اعتبر الفقهاء ان الأصل في التشريع هو الاطلاق والعموم ما لم تكن هناك قرينة صارفة تدل على القيد والخصوص. لذلك اخذوا يجمعون النصوص وأغلبها مستمد من الحديث ليوظفوها في تغطية الواقع المتجدد، ولو عبر اعتبارات اضافية كالقياس وما إليه. وهو الأمر الذي جعلنا نعرّض هذا المنهج للنقد في كل من (جدلية الخطاب والواقع) و(فهم الدين والواقع).