يحيى محمد
لا بد من التمييز بين أربعة انواع للقارئ، وكذا الفهم: فهناك القارئ المغالي والمقصر والمسيئ والمتواضع، وهي أنواع تنتج أربعة أنماط من الفهم طبقاً لهذه المسميات. وجميعها لها علاقة بالنص، سواء كان دينياً او بشرياً، ويمكن اجمالها كالتالي:
القارئ المغالي
فبحسب منظور القارئ المغالي أن من الممكن التعبير عن دلالات النص كما يريدها النص او صاحبه بالضبط، وأن القارئ في هذه الحالة يكون مستنسخاً للمقروء دون ان يضيف او ينقص شيئاً مما تقتضيه القراءة والفهم. ويكثر هذا النوع من القرّاء في التيارات التقليدية والتراثية من تاريخنا. وعيبه هو أن من المستحيل تحقيق الهدف الذي ينشده، فمن الناحية الواقعية ليس هناك قارئ يمكنه تحقيق الحد المغالي من الفهم، بمعنى انه لا يوجد فهم بهذا الشكل الذي تتحقق فيه حالة التطابق المطلق بين فهم القارئ وما عليه النص كما هو في ذاته. لكن يظل هذا الفهم هدفاً ينشده القارئ عموماً مهما كانت قراءته؛ سواء قريبة عن مقصد النص وصاحبه او بعيدة عنه. فمهما اقترب القارئ في فهمه من مقصد النص، ومهما ادعى ان فهمه يتطابق كلياً مع مراد صاحبه فانه لا يصل الى حد التطابق الفعلي، فليس بامكانه ان يتجاوز - كلياً - قبلياته وثقافته وتطلعاته الايديولوجية، ولا بامكانه ان يتجاوز كافة الابعاد المعرفية التي يتضمنها النص بما فيها حل المشاكل الخاصة بالاختلال والنقص الذي يعتري النسق الدلالي للنص. اذ يفترض في القارئ المغالي انه لا يتأثر بميوله الذاتية وظروفه العصرية التي يستمد منها الكثير من قبلياته ومفاهيمه، بل وفهمه لمعاني النص.
فهذا هو الفهم المغالي.
القارئ المقصر
أما القارئ المقصر فهو على العكس تماماً من القارئ المغالي، فهو يعتبر ان من غير الممكن التحرر كلياً عن هذه الشروط الخاصة بالقراءة، اذ لا يمكنه التجرد عن معايير عصره وثقافته وايديولوجياته، وكل ذلك يقف عقبة أمام التعرف على حقيقة النص كما هو. وبحسب هذه النظرية ان كل قراءة تمهد لقراءة أُخرى تتجاوزها، سيما عند توالي الأزمان والشروط التاريخية. فالمعاني تأتي دائماً بما يخلعه القارئ على النص من لباس، وتتفاوت الألبسة بتفاوت القرّاء، وبالتالي يكون الفهم بعيداً – على الدوام - عن حقيقة ما عليه النص. ويكثر هذا النوع من القرّاء لدى أصحاب النزعات (السيسيونصية)، باعتبارها تركز على اثر ثقافة العصر والايديولوجيات، بل وحتى المسلمات التراثية والتاريخية، ومنها الاسطورية، على القراءة، وبالتالي تختلف القراءات والأفهام والتأويلات باختلاف تلك النواحي، بمعنى أن كل شخص يقرأ بشكل مختلف عن الآخر طبقاً لما سبق، وهذا ما يجعل اصابة المعنى الحقيقي للنص بعيد المنال، إن لم نقل أنه مستحيل بالفعل.
وينضم الى هذا النوع من القرّاء ما يذهب اليه غادامير في نظريته في انصهار الآفاق. فرغم انه يؤكد على المعنى الذي يفرضه النص على الذهن، لكنه يضيف الى ذلك ما يفرضه الذهن على النص من معنى اخر له علاقة بذاتية القارئ وظروفه الخاصة، وبفعل اندماج الصورتين، او الأُفقين، يتشكل المعنى النهائي للنص كما يفهمه القارئ. ولا شك أن غادامير يبدي اعتدالاً في تصوره للقارئ، لكنه يحتفظ بالميل الى عدم القدرة على التخلص من فرض الأحكام المسبقة الذاتية، لذلك يدعو الى تقصي الوعي بها لتصحيحها وتغييرها باستمرار، ومنه تتشكل القراءة والتأويل بلا حد ولا نهاية[1]. ومع أنه يعد عمليات الفهم الجديدة اضافات مثرية تعبّر عن نتاج ذاتية القارئ في تفاعلها مع موضوعية النص، ومع أن هذه الممارسات التأويلية لا تستنفد كامل طاقات القراءة والنتاج الإبداعي، لكن لا شيء يمكنه أن يعرفنا على حقيقة النص الموضوعية كما هو في ذاته، وكل ذلك يعود الى التأثير الخاص بقبلياتنا الذاتية، وهي قبليات تبقى ملاحقة لكافة القراءات عبر الأجيال، مما يجعل الفهم والتأويل مستمراً من غير انقطاع، وتبقى هذه الممارسات نسبية لا يمكنها الإمساك بالنص كما هو في ذاته.
وهذا هو الفهم المقصر.
القارئ المسيء
في حين يعتقد القارئ المسيء بأن من الممكن أن يجد في النص كل شيء، تعويلاً على ما يحمله من اسقاطات ذاتية، كالذي تمتاز به القراءات الباطنية. او يعتقد بأن النص لا يمتلك حقيقة محددة، او حتى بلا معنى، وبالتالي فالقارئ يفهم ما عنده من معان دون النص، وكما صرح (بول فاليري) بأنه لا وجود لمعنى حقيقي للنص[2]. ومن أبرز ممثلي هذا النوع من القرّاء كل من النزعتين: النقائضية لدريدا والبراجماتية لرورتي. وعلى رأي الناقد الأدبي عبد العزيز حمودة فإن هذه القراءات السائدة اليوم تدعو الى (التيه النقدي) والفوضى العبثية[3].
فالنص لدى دريدا عبارة عن أداة لإنتاج سلسلة من الإحالات اللامتناهية. وبذلك فليس للنص معنى نهائي، او هو بلا معنى، اذ كل معنى يجد نقيضه في النص ذاته، او انه يحيل الى معنى اخر لا علاقة تربطه بالاول، ويظل معنى النص مرجأً[4]. فالعملية هي أشبه بحالة “القبطان (أشاب) الذي يقوم بمتابعة حوت بال أبيض تبدو إمكانية اصطياده دوماً مؤجلة”[5]. ويُعبََّر عن هذا النوع من القراءة بأنه قراءة انتظار، اذ من المحال فيها الوصول الى معنى النص، وهكذا تبدو سلسلة الإحالات اللامتناهية وما تتضمنه من تنافرات المعنى وتناقضاته، دون امكانية الحفاظ على معنى محدد، بل ولا امكانية التواصل[6]. وتنتهي هذه النظرية الى ان كل القراءات متساوية، فإما أنها قراءات مقبولة بتقويلها النص كل شيء ممكن بلا ترجيح، او كلها قراءات مرفوضة ومغلوطة بالمرة. لكنها في جميع الأحوال توصي القارئ بأن “يتخيل أن كل سطر يخفي دلالة خفية، فعوض أن تقول الكلمات فإنها تخفي ما لا تقول، ومجد القارئ يكمن في اكتشافه أن بإمكان النصوص أن تقول كل شيء باستثناء ما يود الكاتب التدليل عليه. ففي اللحظة التي يتم فيها الكشف عن دلالة ما؛ ندرك أنها ليست الدلالة الجيدة، إن الدلالة الجيدة هي التي ستأتي بعد ذلك، وهكذا دواليك. إن الأغبياء، أي الخاسرين، هم الذين ينهون السيرورة قائلين: (لقد فهمنا). إن القارئ الحقيقي هو الذي يفهم أن سر النص يكمن في عدمه”[7].
لكن اذا عولنا على هذه النزعة فإنه يمكن تطبيقها – من باب أَولى – على نصوص الاتجاه النقائضي ذاته، وفي مقدمتها نصوص دريدا، ومنها الإدعاءات السابقة، وهو أمر لا يمانع به دريدا واتباعه، مما يشير الى عبث الكتابة والتواصل. فمثلاً تعليقاً على قول فرويد: “ان الفكر في مجمله ليس سوى طريقاً للف والدوران” أحال (لابورت) تلخيص فكر صاحب النظرية النقائضية المعروفة بالتفكيكية، ليس فقط لأن دريدا مثل نيتشه يعارض كل تلخيص، لكن الأهم هو لأن المفاهيم المستعملة من طرف دريدا، وبعيداً من أن تقدم الأمن والطمأنينة ووحدة المفاهيم التقليدية، فانها تجمع معاني مختلفة بل متعارضة، مفاهيم ليست اذن بمفاهيم، ولكن ضد مفاهيم، او كما يسميها (باتريس لورو) مفاهيم مضادة. وهي أن تخفي لفظة نقيضها وتكون بالتالي مسرحاً لحرب داخلية[8].
أما المفكر البراجماتي (رورتي) فهو الآخر يعتقد بأن النص لا ينطوي على حقيقة محددة، وهو يعبّر عن عملية الفهم والتأويل باستعمال النص، أي أن القارئ لا يقوم بفهم النص بقدر ما يقوم باستعماله لأغراضه الخاصة، فكل فهم وتأويل يعبر عن استعمال للنص لبلوغ الغايات النفعية، وبالتالي جاز القيام بأي فعل من هذا الاستعمال، طالما أن حقيقة النص معدومة.
وقد تعرّض هذا الموقف الى نقد من قبل المفكر إيكو الذي سعى للتمييز بين استعمال النص وبين فهمه وتأويله، معيباً على النزعات المتطرفة في كل من الأدبيات البراجماتية والأدبيات النقائضية او التفكيكية محاكاتها ذات الاسلوب الذي استخدمته النزعة الغنوصية والهرمسية القديمة اتجاه النص والعالم. فبينهما سلسلة من الأفكار المتشابهة، منها ما يلي[9]:
- النص مفتوح بإمكان المأول أن يكتشف داخله سلسلة من الروابط اللانهائية.
- إن اللغة عاجزة عن الإمساك بدلالة وحيدة، بل على العكس لا تتجاوز اللغة إمكانية الحديث عن اظهار التناقضات.
- إن اللغة تعكس مفارقات الفكر، وأن وجودنا في الكون عاجز عن الكشف عن دلالة متعالية.
- إن النص يشكو من الاختلال، فهو يريد أن يقول شيئاً، لكنه ينتج سلسلة لامتناهية من التناقضات.
ومع أن هذه المقاربة بين الهرمسية وبين النزعة المتطرفة في النقائضية والبراجماتية مبالغ بها، او أن ما صوّرته هذه المقاربة يليق بالنزعتين النقائضية والبراجماتية أكثر مما يليق بالهرمسية وطريقتها، لكن حتى لو سلمنا بأنها مقاربة دقيقة فمع ذلك يمكن القول بأنه اذا كان الهدف من النزعات القديمة للغنوصية والهرمسية كونها تريد أن تؤكد بأن أي شيء يشابه كل شيء ويدل عليه؛ لاعتبارات وحدة الوجود، وهو ما يجعلها تسترسل بالإنزلاقات والإحالات من صورة الى أُخرى، فان الحال مع النزعة البراجماتية المعاصرة لا تبرر فعلها لاعتبارات عقدية وجودية، بل انها تمارس نوعاً من اللعب والبحث عن جماليات الاسترسال فحسب. واذا كان هذا الأمر مبرراً في الممارسات الأدبية رغم تحفظنا، فان الأمر مع النصوص الدينية شيء مختلف تماماً، لسبب واضح هو ان هذه النصوص تحمل رسالة مقدسة لا يمكن الاستهانة بها واعتبارها لا تنطوي على معنى محدد.
وهذا هو الفهم المسيء.
القارئ المتواضع
يبقى القارئ المتواضع، وهو يتوسط بين الاتجاهين الأولَين، اذ لا يدعي ان بإمكان الفهم أن يتطابق كلياً مع النص، كما لا يدعي انه لا يمكن التعرف على معنى النص بأي شكل من الاشكال. بل يقر ان بالإمكان حيازة الحد الادنى من التطابق مع النص، بمعنى انه يتحرك ضمن حدين متفاوتين: أدنى واقصى، فهو يقر بإمكان تحقيق الحد الادنى من التطابق في الفهم، ويعترف انه لا يمكن بلوغ الحد الأقصى منه، أي ذلك الذي يتمثل بالتطابق الكلي، بل يتحرك ضمن هذين الحدين بدرجات متفاوتة، تعتمد على طبيعة النص ونوع القارئ.
واقرب مراتب القارئ المتواضع فهماً للنص هو من يتصف بانتمائه لصاحب النص، فهو القارئ المنتمي، ويتحدد هذا الانتماء بمختلف المستويات الثقافية والروحية والاجتماعية. فمثلاً ان تلاميذ المؤلف هم أعرف – عادة - بمقاصد نص المؤلف لكونهم قد عاشروه واطلعوا على طريقة تفكيره وتوجهاته ومقاصده. ويؤدي بنا هذا التصور الى الاعتقاد بأن أهل بيت النبي وأصحابه المقربين هم أعرف بمقاصد النبي ومقاصد الخطاب الذي جاء به من الله تعالى، لأنهم عاشروه وتولّوه وعرفوا مقاصده عبر سيرته العملية، فهم بذلك أعرف من غيرهم بهذه المقاصد.
أما نحن فبعيدون عن معرفة تلك المقاصد مقارنة باولئك الكرام، لكن اطلاعنا على سيرة هؤلاء وكيف عالجوا المشاكل التي واجهتهم قد يقرّب من فهمنا لفهمهم للخطاب، وبالتالي يقرّبنا من فهم الخطاب ومقاصده، ولو من حيث الإجمال والكليات.
وهذا هو الفهم المتواضع.
***
وعلى ضوء ما تقدم هناك عدد من الاتجاهات التي عالجت العلاقة بين القارئ والنص، او بين ذاتية القارئ المتمثلة بقبلياته ومسلماته، وبين موضوعية النص كطرف مقابل. ويمكن تعداد هذه الاتجاهات باختصار كالتالي:
الاتجاه التقليدي:
يرى هذا الاتجاه أن للنص معنى محدداً موضوعياً، وأن ذات القارئ تعكس هذا المعنى وتكشف عنه كما هو، وهي النظرة التي تجسدت في الاتجاه التقليدي القديم.
الاتجاه الوسطي:
ويسلّم هذا الاتجاه مثل سابقه بأن للنص معنى محدداً موضوعياً، لكن ذات القارئ لا تعكس هذا المعنى بتمامه وكليته، بل هناك حد أدنى يمكن التوصل اليه، كما هناك حدود أُخرى تتفاوت في القرب والبعد من معنى النص وقصد صاحبه. وفي جميع الأحوال إن المعنى المحصل هو نتاج يشترك في تحصيله كل من النص وذات القارئ.
الاتجاه التعددي:
ويرى هذا الاتجاه أن للنص معان متعددة موضوعية وأن الذات كاشفة عن هذه المعان بتوجيه منه. والبعض يُدخل ضمن عملية الفهم هذه معرفة حياة المؤلف ومقاصده والظروف التي تكتنفه، كالذي يذهب اليه شلايرماخر ودلتاي. في حين يقتصر البعض الآخر على النص دون اعتبار للمؤلف ومقاصده وظروفه، كالذي عليه إيزر وإيكو.
الاتجاه الذاتي:
وعلى العكس من الاتجاه السابق يرى الاتجاه الذاتي أن للنص معان متعددة ذاتية تظهر بفعل غلبة اسقاطات ذات القارئ على النص، فالتوجيه مستند الى ذات القارئ وخلفياته الثقافية باتجاه النص وليس العكس، وكثيراً ما يشير أصحاب سيسيولوجيا النصوص الى هذا المعنى، ومثلهم أصحاب السايكولوجيا الثقافية، وهو أن القراءات الأدبية محكومة بجملة من المعايير؛ مثل ثقافة المجتمع وايديولوجيته وظروفه التاريخية، ومثل الدوافع والعوامل النفسية الخاصة بالقرّاء انفسهم.
الاتجاه التوفيقي:
يعتبر هذا الاتجاه أن للنص معان متعددة نسبية تظهر بفعل مشاركة ذات القارئ للنص، فهذا الاتجاه يجمع بين النزعتين الموضوعية والذاتية، كالذي يذهب اليه غادامير وريكور.
الاتجاه العدمي:
ليس للنص بحسب هذا الاتجاه أي معنى تماماً، طالما انه يحمل تناقضاته، وأن القارئ مهما أراد الوصول الى معناه فإنه سيجد ما يناقض ما استفاده من معنى، وكل معنى يصل اليه فإنه يحيل الى معنى اخر لا علاقة له بالأول، وهكذا دون أن تحقق الممارسة والقراءة شيئاً محصلاً كالذي يذهب اليه دريدا. او يمكن القول أن تحديد معنى النص يعتمد على حرية ذات القارئ واستعماله له، فالاستعمال والفهم متحدان ومتماهيان، كالذي يراه رورتي.
[1] هانس غيورغ غادامير: فلسفة التأويل، ترجمة محمد شوقي الزين، منشورات الاختلاف مع الدار العربية للعلوم والمركز الثقافي العربي، الطبعة الثانية، 2006م ـ1427هـ، ص107ـ108 و123ـ125.
[2] إيكو: التأويل بين السميائيات والتفكيكية، ص37.
[3] عبد العزيز حمودة: الخروج من التيه، دراسة في سلطة النص، سلسلة عالم المعرفة (298)، الكويت، 1424هـ ـ2003م.
[4] التأويل بين السميائيات والتفكيكية، ص124.
[5] روجي لابورت: مدخل الى فلسفة جاك دريدا، بمعية الاستاذة سارة كوفمان، ترجمة ادريس كثير وعز الدين الخطابي، افريقيا الشرق، الدار البيضاء، الطبعة الثانية، 1994م، ص15.
[6] التأويل بين السميائيات والتفكيكية، ص125.
[7] التأويل بين السميائيات والتفكيكية، ص43.
[8] مدخل الى فلسفة جاك دريدا، ص41.
[9] التأويل بين السميائيات والتفكيكية، ص42.