يتصور الكثير خطأً أن علماء السلف متفقون في الاعتقاد والمسلك من دون اختلاف، وعلى ذلك أسست السلفية مذهبها كما هو الحال مع مدرسة ابن تيمية واتباعها الى يومنا هذا..
والحال ان لعلماء السلف اختلافات واضحة المعالم في الاعتقاد والمسلك، ومنها الاختلافات المتعلقة حول طبيعة الصفات الالهية التي تلوّح الى التشبيه كما وردت في نصوص القرآن الكريم والحديث، حيث انقسموا الى ثلاثة أو أربعة اتجاهات مختلفة، فبعضهم أقرّها على ما هي عليه من تشبيه، وبعض آخر أوّلها كتأويل المتأخرين، في حين ذهب أغلب السلف إلى الإيمان بخبرها مفوضاً معناها أو حقيقتها إلى علم الله؛ طلباً للسلامة والاحتياط، وإن جرى ذلك أحياناً بعد نفي الظاهر من المعنى، أو على الأقل إنهم تحفظوا من ذكر المعنى ومالوا إلى إمرار النصوص الخاصة بها كما جاءت من دون بحث ولا تنقيب. ويبدو أن هذا الإتجاه ينقسم إلى فرقتين، لإختلاف معنى التفويض لدى السلف، فتارة يُقصد به تفويض المعنى والتفسير، وأخرى تفويض الحقيقة والكيفية الخارجية لا المعنى. وقد انعكست هذه الاختلافات على رؤى المتأخرين من أصحاب البيان، حيث تباينت مواقفهم حول هذه الصفات بمثل ما كانت عليه لدى علماء السلف..
كما اختلف علماء السلف في قضايا أدت الى طعن بعضهم ببعض، واتهام بعضهم للبعض الاخر.. ومما يذكر بهذا الصدد ان مالك بن انس قد تبادل التهم مع الكثير من العلماء، ومن ذلك أنه وصف عبد الله بن يزيد بن سمعان بالكذاب، ووصف محمد بن اسحاق بدجال الدجاجلة. كما حطّ من منزلة علماء الشام وكذا علماء الكوفة، وهؤلاء بادلوا ذلك بعلماء المدينة، فتحامل بعضهم على البعض الآخر. وجاء عن عبد الله بن المبارك أنه لم ير في مالك صاحب علم، كما تكلم ابن أبي ذئب في مالك بكلام فيه جفاء وخشونة. وكان ابراهيم بن سعد يطعن في نسبه ويتكلم فيه ويدعو عليه. وتكلم فيه أيضاً كل من عبد العزيز بن أبي سلمة وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم وابن اسحاق وابن أبي يحيى وابن أبي الزناد وعابوا أشياء من مذهبه. وتحامل عليه الشافعي وبعض أصحاب أبي حنيفة في شيء من رأيه. كما عابه قوم في إنكاره المسح على الخفين في الحضر والسفر وفي كلامه في علي وعثمان، ومن ذلك ما يرويه الزبيريون من أن مالكاً كان يذكر عثماناً وعلياً وطلحة والزبير فيقول: والله ما اقتتلوا إلا على الثريد الأعفر، وكذا في فتياه بإتيان النساء في الأعجاز، وفي قعوده عن مشاهدة الجماعة في مسجد رسول الله، ونسبوه بذلك - كما يقول ابن عبد البر - إلى ما لا يحسن ذكره.
وقال حماد بن أبي سليمان في كل من عطاء وطاوس ومجاهد بأن الصبيان أعلم منهم.. كما ذمّ ابن شهاب الزهري ربيعة وأبا الزناد. وذمّ الزهري أهل مكة واتهمهم بنقض عرى الإسلام ولم يستثن منهم أحداً رغم ان فيهم من أجلة العلماء كما أشار إلى ذلك ابن عبد البر.
وجاء عن أبي حنيفة أنه لم ير أحداً أكذب من جابر الجعفي. وقال أبو حنيفة في الأعمش تحقيراً له بأنه لم يصم رمضان قط ولم يغتسل من جنابة، في حين تعرض أبو حنيفة إلى التجريح من قبل الكثير من العلماء والحفاظ، فقال عنه سفيان الثوري عندما علم بموته: الحمد لله الذي أراح المسلمين منه؛ لقد كان ينقض عرى الإسلام عروة عروة، وما ولد في الإسلام مولود أشأم على أهل الإسلام منه، وقال الثوري أيضاً: استتيب أبو حنيفة من الكفر مرتين. وجاء عن سفيان بن عيينة أنه قال فيه: ما ولد في الإسلام مولود أضر على أهل الإسلام من أبي حنيفة، ومثله ما قاله الاوزاعي وحماد. كما قال ابن عون: نبئت أن فيكم صدادين يصدون عن سبيل الله؛ سليمان بن حرب وأبو حنيفة وأصحابه ممن يصدون عن سبيل الله. وقيل أنه سئل مالك بن أنس عن قول عمر في العراق (بها الداء العضال) قال: الهلكة في الدين ومنهم أبو حنيفة. ونقل عن مالك أيضاً أنه قال بأن أبا حنيفة كاد الدين ومن كاد الدين فليس له دين. وقال: الداء العضال الهلاك في الدين وأبو حنيفة من الداء العضال.
كما تبادل الشعبي وابراهيم النخعي كلمات من التهم والذم ووصف أحدهما الآخر بالكذاب. وجاء عن سعيد بن حميد أنه كذّب الشعبي في بعض الفتاوى. وقيل أنه كانت هناك حساسية بين سعيد بن المسيب وعكرمة، وكان سعيد يعد عكرمة من الكذابين، وحكي عن الأول أنه قال لغلامه لا تكذب عليّ كما كذب عكرمة على ابن عباس. كما روي عن ابن عمر أنه قال لنافع: لا تكذب عليّ كما كذب عكرمة على ابن عباس. وكذا كان مالك لا يرى عكرمة ثقة. وقال القاسم إن عكرمة كذاب.
كما جاء ان سليمان التيمي لم يجز شهادة سعيد بن أبي عروبة ولا معلمه قتادة، وقيل ان ذلك لإعتقادهما بالقدر. كما كان قتادة يعرّض بيحيى بن أبي كثير. وكان كل من ابن القاسم وابن وهب يحذر الناس بالأخذ عن الآخر. وكذا ورد ان أبا عبد الرحمن النسائي قد جرّح الحافظ أحمد بن صالح وصرح بأنه غير ثقة.
وكان احمد ابن حنبل يعرّض بالحارث المحاسبي، وكذا كان يفعل الكرابيسي بابن حنبل، والذهلي بالبخاري. ويُذكر ان الكرابيسي كان يقول: من لم يقل لفظه بالقرآن مخلوق فهو كافر، فقال ابن حنبل: بل هو كافر، وعدّه الأخير من اتباع جهم في قوله بخلق القرآن واعتبره كافراً، وقال عنه: لا يُجالس ولا يُكلم، ولا تكتب كتبه، ولا تجالس من يجالسه.
وكان يحيى بن معين يطلق لسانه بأشياء في أعراض الأئمة أنكرت عليه، منها قوله في الأوزاعي أنه من الجند ولا كرامة. ومما نقم على ابن معين وعيب عليه قوله في الشافعي أنه ليس بثقة، وقوله في الزهري أنه ولي الخراج لبعض بني أمية وإنه فقد مرة مالاً فاتهم به غلاماً له فضربه فمات من ضربه، وذكر كلاماً خشناً في قتله غلامه. وجاء في اتهام الزهري الشيء الكثير لعلاقته القوية بالسلطة الاموية، إذ كان صاحباً لعبد الملك بن مروان ومربياً لاولاده، ثم من بعده لازم ابنه هشاماً، وبعد ذلك يزيد بن عبد الملك الذي نصبه قاضياً. وكان ممن اجاز لبعض رجال بني امية الرواية عنه..