-
ع
+

أيمن عبد الستار: ملخص كتاب (منهج العلم والفهم الديني) والملاحظات عليه (3)

أفكار وملاحظات

    يأتي كتاب " منهج العلم والفهم الديني "، للكاتب يحيى محمد، كإضافة في غاية الأهمية للفكر الاسلامي الحديث، في مجال تشح فيه الكتابات الاسلامية في موضوع " العلم والدين "، فما أكثر ما تم تأليفه من كتب عن العلم والدين، دون أن تكون هناك خطة واضحة يمكن التعويل عليها في تلك الكتابات، فأحيانا يكون الهدف من تلك الكتابات هو إثبات التوافق بين العلم الحديث وبين الدين، وأحيانا اخرى يكون الهدف هو إثبات سبق الدين للعلم فيما يعرف بأدبيات " الاعجاز العلمي في القرآن "، وأحيانا تضاف السنة الى ذلك الاعجاز المزعوم، وأحيانا اخرى توصف أضرار العلم العلم الحديث في مجال الطب مثلا، مقابل منافع " الطب النبوي "، وفي أحوال اخرى يكون الهدف هو مهاجمة نظريات بعينها مثل نظرية التطور وأثبات فشلها أو مهاجمة فكرة دوران الأرض حول الشمس وإثبات تعارض ذلك مع الدين. في أحسن الأحيان يتم التأليف بهدف الدعوة للاستفادة من العلم الحديث في المجتمعات الاسلامية، وفي كل الأحوال نادرا ما يصاف المرء في مثل هذه الكتابات فهما حقيقيا للعلم الحديث وقضاياه.

يمكن أن يكون المدخل السابق مناسبا جدا للتعرف على الكتاب الذي بين أيدينا، فأول ما يصادفه المرء في هذا الكتاب، هو الفهم العميق في المجال الذي اختاره الكاتب للتعبير عن العلم الحديث، وهو علم الفيزياء " وهو من أهم العلوم الطبيعية وأعظمها تطورا وتكاملا " 1 ص 11. فالمؤلف قد بذل الجهد الكبير وتمتع بالحياد في التعامل مع الموضوع، وخصص الجزء الأول من الكتاب للتعريف بتطور مناهج البحث في الفيزياء المعاصرة، بما لا نجده في كتاب آخر من الكتب الاسلامية التي تتعامل مع العلم دون التدقيق في تخصص معين.

    أما المدخل الآخر فهو المقارنة بين مناهج العلم ومناهج فهم الدين، وليس الدين نفسه، وهذا التفرقة أيضا غائبة عن الكثير من المؤلفات الاسلامية، فالمدخل المعرفي الابستيمي الذي اعتمده الكاتب يختلف كثيرا عن الكتب التي تسرد تاريخ المذاهب الاسلامية من حيث النشأة والتطور والأفكار وأوجه التشابه والاختلاف مع بعضها البعض، ففهم الدين عند يحيى محمد، أشبه بفلسفة الفهم الديني، وهو ما أطلق عليه " علم الطريقة " وشرحه بالتفصيل في كتبه الأخرى، ويمكن اعتبار هذا الكتاب " منهج العلم والفهم الديني "، تطبيقا لعلم الطريقة، مستخدما المنهج المقارن بين العلم، ممثلا في علم الفيزياء الحديثة، وبين مناهج الفهم الدينى، التي حصرها الكاتب في أربع مناهج: الفقه وعلم الكلام والفلسفة والعرفان، وضم الفقه وعلم الكلام في منهج واحد أسماه "النظام المعياري " وضم الفلسفة والعرفان (التصوف الفلسفي) في نظام واحد أسماه "النظام الوجودي "، أما مناهج الفيزياء الحديثة، فقد حصرها في ثلاث مناهج: المنهج الاجرائي والمنهج الافتراضي والمنهج التخميني الميتافيزيقي.

 

    منهج العلم في الحضارة الاسلامية

    -------------------------------

    أول ما يلاحظه المرء هو غياب مفهوم واضح للعلم في الحضارة الاسلامية، فهو لم يحظ من الكاتب بتسمية مناسبة، فلا نعرف هل هو ينتمي الى النظام القديم، الذي قام العلم الحديث على أنقاضه والذي يتميز بتعاليه على الواقع ورفضه للتحقيق التجريبي و يساوي بين الطبيعة والعقل ولا يقبل الخلاف بينهما ويعمل على مبدأ إنقاذ الظواهر عن لحاظ أي تعارض بين المسلمات العقلية وبين أي تعارض مع الوقائع الخارجية للطبيعة 2 ص 23 ؟ أم أنه ينتمي الى المنهج الأول: الاجرائي القائم على " التحقيق و المراجعة ضمن الممارسات التجريبية والقرائن الاستقرائية، فهو يعمل على استخلاص النتائج وتجريجها وتعميمها ضن قوانين عامة "؟ كل ما نجده أن الكاتب يورد رأيا حول ذلك الموضوع مفاده أنه يؤرخ للنظام الاجرائي " منذ القرن السابع عشر وحتي بداية القرن العشرين، رغم أنه له بوادر متناثرة قبل ذلك بقرون لدى الحضارة الاسلامية، كالذي يبرز جليا لدى طريقة ابن الهيثم العلمية " 3ص 26 ط، كما نجد إشارة اخرى ص 97 ".. فهناك بوادر خلاقة لبعض العلماء القدماء يمارسون دوار علميا وفقا للطريقة الاجرائية الحديثة، ومن أبرزهم الفيزيائي البصري ابن الهيثم ومن قبله أرخميدس " 3 كتاب المناظر لابن الهيثم، ونجد إشارة اخرى في ص 305، 306، حيث يقول الكاتب أن أرنست مودي أوضح أن هناك " صلة بين شروح الفيلسوف العربي ابن باجة على أرسطو، وبين نظرية جاليليو الخاصة بالسقوط الحر، بل وينسب لابن باجة دورا رئيسا مكن جاليليو من تعميم نظرية بوريدان المتعلقة بالزخم الذاتي وتحويلها الى نظرية عامة في ديناميات القصور الذاتي أو العطالة "، هذا بالإضافة الى إشارتين عن الطفرة لدى النظام المعتزلي والزمان التخيلي عند العزالى، لكن لا يمكن اعتابر هاتين الاشارتين ضمن المنهج العام للعلم في الحضارة الاسلامية، فلا يمكن اعتبار النظام أو الغزالي من أصحاب العلم الطبيعى، وما ذكراه ليس سوى إشارات عابرة لا تدخل في صميم مجال العلم الطبيعى.

    لا يمكن القول بأن يحيى محمد كان غافلا عن دور العلم في الحضارة الاسلامية أثناء تأليفه لكتابه، فله مقال بتاريخ سابق لتاريخ تاليف الكتاب، تحت عنوان " علوم العرب والنهضة الغربية الحديثة "، يمتدح فيه دور العلم في الحضارة الاسلامية ويذكر بعض المآثر الساطعة التي لا يختلف على أهميتها أحد من مؤرخي العلم، والتي كان من شأنها الوصول بالعلم الطبيعي الى أعتاب مرحلة العلم الحديث، وسنذكر فقط في الهامش رقم (4) من تلك المآثر ما يتعلق بعلم الطبيعة الذي اتخذه الكاتب مثالا لمناهج العلم، بالذات أهمية دور العلوم العربية وبالذات الفلكية منها، في الوصول بالعلم الى مرحلته الحديثة، ثم ينتهي في المقال الى الرأي التالى: " هكذا ننتهي الى أن علومنا الطبيعية لم تشكل، لا ماضياً ولا حاضراً، مرحلة الشاغل والحضور، ففي الماضي كانت تقرأ عبر إشكالية النظام الوجودي، وأحياناً من خلال النظام المعياري، وقد ظلت ولا زالت لم تبلغ مرحلة التأسيس ككائن مستقل. في الوقت الذي كانت كتبنا ومجادلاتنا دائرة في سياق علم الخلافيات (الفقه) وعلم التمذهب والآيديولوجيات (الكلام)، وما زالت آثار هذه المعايير قائمة الى يومنا هذا" 4.

http://www.fahmaldin.com/index.php?id=2311

    لا يمكنننا الاتفاق مع وصل إليه الكاتب في نهاية مقاله، خصوصا ما كان كائنا في الحضارة الاسلامية، أعني أن العلوم الاسلامية الطبيعية قد وصلت في الكثير منها الى تأسيس كيان مستقل وليس كما يقول الكاتب أنها لم تصل الى ذلك، وما تداخل العلوم الفلسفية وأحيانا الفقهية معها، إلا تداخلا طبيعيا في تلك الفترة التي كان العلم فيها موسوعيا وكان العلم نفسه يعتبر فرعا من فروع الفلسفة كما ذكر الكاتب في موضع آخر، وهذا بخلاف العلم الحديث القائم على التخصص قبل كل شىء، ومن الممكن تفهم ذلك، إذا اعتبرنا أن العلوم القديمة لم تكن بذلك التوسع الحادث الآن والذي يتطلب التفرغ لعلم واحد غالبا، ولم تكن التطورات في الماضي بنفس سرعة التطورات الحادثة الآن، ويكفي أن نذكر أنه ومنذ نيوتن ولمدة قرنين، لم يتم اكتشاف بمثل قيمه قوانين نيوتن إلا في القرن العشرين على يد آينشتاين، أي أن العلوم الفيزيائية ظلت منذ القرن الثامن عشر الى القرن العشرين متباطئة بالنسبة الى ما حدث منذ بداية القرن العشرين، وهذا المثال يكفي لكي نعقد مقارنة بين طبيعة العلم في العصور القديمة وفي العصر الحديث.

    حتي لو فرضنا جدلا بأن العلوم الاسلامية لم تصل الى تأسيس كيان مستقل، فذلك لا يعني تصنيفها ضمن النظام القديم، فكل عناصر النظام القديم من تجاهل للواقع وفرض الملسمات العقلية على الظواهر الطبيعية وانقاذ الظواهر، ورفضه للتحقيق التجريبى، والمساواة بين الطبيعة والعقل، كل ذلك لا يمكن أن نجده في العلوم الاسلامية بأي شكل من الأشكال، فأدب الشكوك الذي ساد في تلك العلوم، والذي ذكر الكاتب يحيى محمد بعضا منه في مقاله " علوم العرب والنهضة الغربية "، أكبر دليل على تطور تلك العلوم بناء على قواعد تجريبية راسخة، تتقبل الحقائق التجريبية ولا تعتمد على المسلمات العقلية إلا في الحدود النظرية فقط، كما يعتمد العلم الحديث على تلك الفروض النظرية، ويمكن أن نضرب مثلا على ذلك بمجال الطب، ولو أنه مجال بعيد عن المجال الفيزيائي الذي نتحدث عنه، إلإ أن الرأي الذي انتهي إليه الكاتب في مقاله السابق، يجمع العلوم الاسلامية كلها في سلة واحدة، صحيح أننا هنا نناقش الكتاب لا المقالة، لكن عدم تصنيف الكاتب للعلوم الاسلامية في الكتاب اضطرنا الى التعرف على رأيه من خلال المقال المذكور، وهو على كل حال ذو صفة لصيقة بالكتاب ومواضيعه.

    ما هو مختلف حقا هو نظرية الطب نفسها، فقد اعتقد جالينوس وأبقراط وكل الأطباء اليونان وتبعهم في ذلك أطباء الاسلام، أن سبب المرض هو اختلاف الأمزجة، فقد كان الاغريق يعتقدون أن الكون مركب من أربعة عناصر: الماء والهواء والأرض والنار، وأربع كيفيات: البرودة والحرارة والرطوبة والجفاف، وجسم الانسان يتكون من أربعة أخلاط:

الدم: حار و رطب

الصفراء: حارة وجافة

البلغم: بارد ورطب

السوداء: باردة جافة

وإذا كان توازن هذه الاخلاط في جسم الانسان سليما، يكون البدن صحيحا، أمام إذا اختل التوازن فيكون المرض، وعليه يكون العلاج بمحاولة إعادة التوازن المفقود الى الجسد العليل،هذه النظرة ظلت سائدة حتى القرن التاسع عشر، حتى أثبت الطب الحديث عدم صحتها، وتعامل مع المرض بمفهوم مختلف تماما، لم يأت هذا المفهوم الجديد مرة واحدة، بل أتي رويدا وريدا، وتم التخلص من النظرية القديمة واعتبار المرض خلل يصيب الإعضاء، ويكون العلاج هو محاولة إعادة الوظيفة السليمة للعضو المصاب. هذا باختصار- قد يكون مقتضبا - الفارق الجوهري بين نظرية الطب الاغريقي والاسلامي وبين الطب الحديث.

 

    السؤال هنا، هل هذا المفهوم الخاطىء للمرض في علم الطب الاسلامى، يسمح لنا بتصنيفه ضمن العلوم القديمة ؟ إذن ماذا نفعل مع كل الاكتشافات التي قدمها الطب الاسلامي والتي قامت على التجربة والتشريح ونقد جالينوس؟ يمكننا المقارنة بين الفرضيات الخاطئة في كلا من علم الطب القديم والاسلامى، وبين الفرضيات الخاطئة التي تعامل معها كبلر أو حتى نيوتن، كما أوضح يحيى محد في كتابنا الذي نتناوله، ومع ذلك لم تمنع هذه الفرضيات من إنجاز حقائق تجريبة ذات أهمية قصوى، وتتوافق مع ما توصل إليه العلم الحديث سواء في مجال الجراحة أو التشخيص أو التشريح... إلى آخر العلوم الطبية . الحقيقة هي أن يحيى محمد قد تجاهل تصنيف العلوم الاسلامية في كتابه منهج العلم والفهم الدينى، (نقصد بالعلوم الاسلامية هي العلوم التي نشأت في ظل الحضارة الاسلامية سواء أبدعها مسلمون أو غير مسلمين)، والأقرب الى المنطق – بالنسبة لنا - أن يتم تصنيفها كعلوم لها منطقها الخاص الذي يجب إفراده بالدراسة، فلا هي بالعلوم القديمة ولا هي بالعلوم الحديثة، فقد أوصلت العالم الى أعتاب العلوم الحديثة، بعد أن كان العلم نفسه واقفا عند العلوم اليونانية وظلت هذه العلوم مدفونة لأكثر من سبعمائة عام، إلى أن أعاد اكتشافها العلماء المسلمون واستوعبوها ثم نقدوها ثم قدموا البدائل لها كما هو معروف، وتشترك العلوم الاسلامية مع العلوم الحديثة في النقد والتجريب وعدم اعتماد المسلمات العقلية والمنهج الاستنباطي أساسا للعلم كما كان في العلوم القديمة، أما أنها لم تأخذ بزمام العلم الحديث، فذلك خارج نطاق هذا المقال، وإن كان الكاتب يحيى محمد ذكر بعضها في مقاله.

    يمكن الاعتراض على ذلك، بأن يحيى محمد تعامل في كتابه مع مناهج العلم وليس منجزاته، وهذا اعتراض يبدو وجيها للوهلة الأولى، لكنه عند التحقيق ليس كذلك، فحتى لو لم يكتب العلماء المنهج العلمي الذي سار عليه العلم الاسلامى، إلا أننا يمكننا ببساطة أن نتعرف على منهجيته من خلال مؤلفاتهم، حتى لو لم يصرحوا به، مع أنهم في بعض الأحيان صرحوا به، وفي حالتنا (الطب)، نري كثيرا ما أثبتوا قول جالينوس (مثلا) في المسألة، ثم يقولون بتخطئة رأيه ويقولون أن التشريح يخالف كذا وكذا، ونقرأ ايضا قول الرازي في كتابه الحاوي، أنه يفضل التعامل بالأغذية على التعامل بالأدوية، ما دام ذلك نافعا، ثم يفضل التعالم بالأدوية على التعامل بالجراحة ما أمكن، ويجعل الجراحة في المرتبة الأخيرة، إذا لم ينفع ما سبق، وغير ذلك كثير مما يمكن للمرء أن يقرأه في كتبهم ويدل على منهجية واضحة وإن لم يتم التنظير لها، وكل ما قرأته يدل على أن العلم الاسلامي أقرب للمنهج الاجرائي كما وصفه الكاتب يحيى محمد في كتابه. على كل حال عدم كتابة المنهج لا يدل على عدم وجوده، فالعرب تكلموا أولا ثم جاء سيبويه بفترة طويلة ووضع قواعد النحو، وقالوا الأشعار ثم جاء الخليل بن احمد بعد ذلك ليستنتج البحور الشعرية.

    الحقيقة هي أن العلوم الاسلامية تقريبا لم تُكتب بعد بنظرة فاحصة، كما سنبين ذلك في تناولنا لعلم الفلك الاسلامى.

 

    علم الفلك الاسلامي

    ------------------

    فيما يلي سوف نتناول علم الفلك في الحضارة الاسلامية، بوصفه الأب الشرعي لعلم الفيزياء الحديثة، وسنحاول الإقتصار على ما يخدم هدفنا، وهو إثبات جدارة العلوم الاسلامية بتصنيفها تصنيفا مستقلا عن العلوم القديمة، واقترابها من العلوم الحديثة اقترابا وصل في الكثير من الاحيان الى حد التماس مع العلوم الحديثة، وأنه وضع الأساس المتين للعلوم الحديثة، ولولا ذلك لتأخر العلم الحديث قرونا عديدة.

    أول ما يصادفه المرء عند الحديث عن علم الفلك في الحضارة الاسلامية، هو الارتباط الوثيق بين حاجات الدين الاسلامي وبين نشوء علم الفلك، وهي خاصية ينفرد بها العلم الاسلامى، فنظرا للفتوحات الاسلامية التي وصلت بالدين الاسلامي الى أصقاع بعيدة من العالم القديم، تطلب الأمر تحديد أكثر تفصيلا لموضع الكعبة المشرفة في كل بلد، من أجل الصلاة وبناء المحاريب في المساجد، وهو ما عرف قديما في علم الفلك الاسلامي بسمت القبلة، وظهرت وظيفة " المؤقت "، أي العالم الملحق بالمسجد الكبير، والذي تتلخص مهمته في تحديد أوقات الصلاة الخمس، بالاضافة الى تحديد الوجهة المناسبة للمحاريب، وتحديد أوقات دخول الصيام والفطر في شهر رمضان، كما في حالة ابن الشاطر الذي كان يكسب عيشه من علمه مؤقتا لمسجد دمشق، وانتهز الفرصة للقيام بأبحاثه الفلكية، أيضا تطلب تحديد المواريث قيام علم الفرائض، وهو تحديد الأنصبة للورثة، فازداد الطلب على علم الجبر والحساب، ومن أشهر العلماء الخوارزمى، الذي اخترع علما جديدا، وسمي باسمه و ما زال اسمه مستخدما فيما يعرف في الغرب بعلم الـ algorithm وهو بناء خطوات منطقية للوصل الى حل للمسائل الحسابية، ودخل بعد ذلك بنفس الإسم في علوم الحاسبات الألية.

    ومن أطرف المواقف التي تدل على ترادف العلم مع المتطلبات الدينية، سك العملة الاسلامية، في زمن الخليفة عبد الملك بن مروان، وملخص القصة هي أنه عندما فتح المسلمون مصر، باشروا تصدير أوراق البردي الصالحة للكتابة الى الدولة الرمانية، كما كان يتم ذلك سابقا، إلا أن المسلمين كتبوا بعض العبارات الاسلامية على تلك الأوراق، فأرسل الملك البيزطي للخليفه يهدده بأنه إذا لم يكف المسلمين عن كتابة العبارات الاسلامية على أوراق البردى، فسوف يكتب عبارات تسىء الى القرآن في الدناير التي كان يستوردها المسلمون من بيزنطة، فاغتم الخليفة وعرض الأمر على خالد بن يزيد ين معاوية، والذي كان مغرما بالعلوم اليونانية وبالذات الكيمياء، وعن طريق التراجم عبر السريانية واليونانية، وعبر العلماء اليونانيين والسريان الذين كان مرحبا بهم في البلاط الملكى، تممكن خالد بن يزيد من سك أول عملة في الاسلام عام 77 هـ، وتم الاستغناء عن الدنانير البيزنطية، وهذا المثال يبين لنا الترادف في نمو العلوم الاسلامية مع متطلبات كل من الدولة والدين في الاسلام، فلم تكد تمر المائة عام الأولي من تاريخ الاسلام، إلا وكان العلم اليوناني مترجما ومستخدما ومتداولا من قبل الجهاز البيروقراطي للدولة كما يقول د. جورج صليبا.

    ما هي علاقة القصة السابقة بعلم الفلك الاسلامى؟ يجيب الدكتور جورج صليبة في كتابه " العلوم الاسلامية وقيام النهضة الأوربية "، بقوله أنه ومنذ ذلك الحين، أي سك العلمة الاسلامية مع خالد بن يزيد، بدأ العلم الاسلامي أولي خطواته في الدولاب البيروقراطي للبلاط الاسلامى، وتم تعريب العلوم، وبالتالي تعريب المصطلحات، والبحث فيها، حتى إذا وصل العلم للعصر العباسى، كان علم الفلك قد قطع مراحل واسعة، مكنته من الانطلاق بعيدا عن الفلك اليونانى، وهذه الأطروحة يتحدي بها صليبا الرأي السائد في الأدبيات العلمية من أن العلم الاسلامي بدأ في العصر العباسى.

    أما الأطروحة الاخرى لجورج صليبا، هي أن علم الفلك الاسلامى، هو الذي مهد الطريق أمام كوبرنيكس، الذي استخدم مزدوجة الطوسى، واستفاد من علوم ابن الشاطر والعرضي والخيام، ويثبت ذلك بأدلة علمية من الصعب دحضها، ومن العجيب أن يتناول الكاتب يحيى محمد، نفس الموضوع في مقالته التي نوهنا لها، دون أن يستثير ذلك عنده حاسة الباحث، للقيام ببحوث متعمقة في المناهج المستخدمة – على الأقل – في علم الفلك الذي هو الأب الشرعي للفيزياء المعاصرة كما أوضحنا، وهو نفس ما تناوله يحيى محمد في مقاله تناولا يسيرا (انظر هامش رقم 5)، وميزة صليبا هو التفصيل والتدقيق العلمي التاريخي المفصل والممنهج لتاريخ علم الفلك في الحضارة الاسلامية.

    لا أعرف كتابا آخر غير كتاب جورج صليبا " العلوم الاسلامية وقيام النهضة الأوربية "، تناول موضوعا علميا من مواضيع الحضارة الاسلامية، بهذا العمق وبهذه الرصانة العلمية، لذا كما قلنا من قبل، نعتقد أن تاريخ العلم الاسلامي لم يُكتب بعد كما ينبغى، ومن أراد الاطلاع على كتاب صليبا سيجد مصداق ما نقوله، و لأن هذا المقال غير مخصص لتلخيص هذا الكتاب القيم والفريد من نوعه، لذا نكتفي الآن ببعض المقتطفات من كتاب صليبا، والتي توضح ما نقوله من أن العلوم الاسلامية لها منهجها الخاص الذي يقترب من منهج العلوم الحديثة من جهة واختلافها عنها من جهة أخرى، مما يستدعي تصنيفها تصنيفا خاصا من حيث منهجيتها وطرق علمها .

                                    ***

نستعرض مقتطفات من كتاب جورج صليبا " العلوم الاسلامية وقيام النهضة الأوربية "، الناشر: هيئة أبو ظبي للثقافة والتراث، المجمع الثقافى.. يوضح صليبا بداية من ص 247 قدرة العلماء المسلمين على " صياغة علم فلك بديل "، فيذكر بالتفصيل أعمال مؤيد الدين العرضي (ت 1266) ونصير الدين الطوسي (ت 1247)، وإبداع كل منهما في صياغة نظريته الرياضية الخاصة به فيما كانا في الوقت نفسه يقومان بإعادة صياغة البينة الاساسية لعلم الهيئة البطلمي برمته ص 249، وقد استخدمت مقدمة العرضي من قبل " عدد لايستهان به من علماء الفلك لبناء هيئاتهم البديلة لهيئات بطليموس، وهنا نشير فقط الى أمثال قطب الدين الشيرازي (ت 1311) وابن الشاطر الدمشقي (ت 1375) وعلاء الدين القوشجي (ت 1474) وشمس الدين الخفري (ت 1550) وأخيرا استخدم كوبرنيك (ت 1543) هذه المقدمة في هيئته للكواكب العليا نفسه " ص 253، وأثبتت هذه المقدمة البسيطة نسبيا، أنها تشكل نقطة محورية في تطور تاريخ علم الفلك غلي غرار مزدوجة نصير الدين الطوسى، التي استخدمها " في ما بعد جميع علماء الفلك الجديين اللاحقين للطوسي بما فيهم فلكيو عصر النهضة من أمثال كوبرنيك ومعاصريه" ص 259:

 " ويبدو أن فرع الرياضيات تحديدا تلقي دعما مثيرا جدا للاهتماما أثناء القرن السادس عشر، حين تمكن عالم من أمثال الخفري (ت 1550) أن يوضح أخيرا علاقته بعلم الفلك وأن يتفهم أن الرياضيات لم تكن سوى مجرد أداة تستعمل لوصف الظوارهر الطبيعية وأنها لا تنطوي على الحقيقة بحد ذاتها 6 " ص 211، كل هذا لا يمنع صليبا أن يوضح أنه " لا يبدو أن الحضارة الاسلامية قد أنتجت نقدا فلكيا دقيقا من النوع الذي يشكك بالأسس الطبيعية الفلسفية لعلم الفلك، وعلي الرغم من أن بعض المعارف الكوسمولوجية التي كانت مستوحاة من الدين تناولت في الواقع هذه المسألة، غير أنا أيا من علماء الفلك الذين أعرفهم، لم يعتمد أيا من وجهات النظر هذه أو يسعي لتفسير المضامين الفلكية التي كانت تنطوي عليها مثل هذه المعارف،ولم يتأت رفض الكوسمولوجيا الأرسطوطاليسية إلا متأخرا في تاريخ علم الفلك، ولكن بعد صراع طويل ومضن استهله العلم الحديث في ظل ظروف مختلفة تماما عن الظروف التي كانت سائدة في الحضارة الاسلامية " ص 211، 212.

ويمكن أن يكون هذا الذي ذهب إليه صليبا هو نفسه الذي ذهب إليه يحيى محمد في كتابه " المنهج العلمي والفهم الديني " من استبعاد العلوم الاسلامية من المناهج العملمية الحديثة من الناحية الفلسفية، لكن تبقى مشكلة تحتاج الى تفسير، لم يتطرق إليها كاتبنا، أو تطرق إليه سريعا بعجلة لا تفي موضوع العلوم الاسلامية حقه بحال من الأحوال، بل لم يحاول أن يصنفها من حيث منهجيتها التي كانت معبرا بين العلوم اليونانية القديمة وبين العلم الحديث، واكتفي بتعبير أن المنهجية كانت " شذرات " عند ابن الهيثم من حيث مقارنتها بمناهج العلوم الحديثة.

لنأخذ مثلا واحداً وهو الرياضيات ونري مع د. صليبا كيف تطورت من حيث منهجيتها في استخدامها في توصيف بل وتغيير الكثير من المفاهيم الاساسية لعلم الفلك اليوناني البطلمى،فبعد أن استعرض صليبا المرحلة الأولي من أعمال أبو عبيد الجوزجاني تلميذ ابن سينا في محاولته الفاشلة لإصلاح تمثيل ما أصبح لاحقا يعرف بمشكلة الفلك المعدل للمسير، ومضي قرنان قبل أن يدرك علماء الفلك أن الرياضيات التي استخدمها بطليموس لم تكن كافية، وأنه كان ينبغي ابتكار رياضيات جديدة " يقول د. جورج في ص 274 " أما أعمال العرضي والطوسي فإنها جاءت بمثابة دخول في إطار المرحلة الثانية والأهم " حين تحدث كلاهما عن أهمية ابتكار رياضيات جديدة، وأضاف كل منهما نظرية جديدة لهذا الغرض.. وبدأ يفكران في مختلف الطرق التي تمكنهما من تمثيل الظواهر الطبيعية بواسطة الرياضيات.. إن هذه النزعة في إعادة تحديد الرياضيات، كلغة تصف الظواهر الطبيعية، بلغت ذروتها مع أعمال الخفرى، الذي أعطي أخيرا أمثلة ملموسة لأربع هيئات رياضية تصف حركات كوكب عطارد، وهي في الوقت عينه متساوية من الناحية الرياضية. فهكذا استطاع الخفري أن يبرهن بهذه الطريقة، دون أن يقول ذلك صراحة، أن الظواهر الطبيعية لا يمكن وصفها بحلول رياضية فريدة، بل تتعدي ذلك الى حد ينحصر فقط بمقدرة تصور المخيلة الإنسانية، تماما كما يمكن أن نصف واقعا معينا بتعابير لغوية لا متناهية. " ص 275، أما بخصوص ابن الشاطر فقد " تفحص مجددا العلاقة بين الظاهرة المرصودة والهيئات الرياضية التي تمثلها، فاستعداده الدائم لأقلمة هيئاتة الرياضية لتتلاءم مع الأرصاد تفصح بشكل واضح عن سلم أوليواته، وعن استعدادة لصياغة علم فلك نهائيا. فمن هذا المنظار نري أن ابن الشاطر كان يعتبر أن علم الفلك هو بشكل أساسي ذلك الفرع من المعرفة الذي ينتج وصفا متناسقا ودقيقا لأداء العالم الحقيقي من حولنا، ويتوجب أن يكون هذا الوصف تمثيلا رياضيا علميا يشكل بحد ذاته وصفا حقيقيا للأرصاد. وإذا ما نظرنا الى تطورات علم الفلك الاسلامي بهذه الطريقة، نري عندها مدي متطلبات الثقافة المستورِدة للأفكار، وكيف أن متطلباتها استلزمت استمرار تجديد الفكر العلمي تدريجيا وتحسينه وفقا لمعيار الدقة والتناسق الدائم التغير الذي تفرضه هذه الثقافة على نفسها " ص 276

هذه الخلاصة السابقة المكتوبة بخط عريض، والتي انهي بها جورج صليا الفصل الرابع من كتابه، لا يمكن أن نمر عليها مرور الكرام، واضعين في الاعتبار أن هذا التلخيص والاجتزاء السابق لا يغني بحال من الأحول عن قراءة كتابه " العلوم الاسلامية وقيام النهضة الأوربية "، قراءة متعمقة، فمن الخطأ اعقتاد أن علم الفلك الاسلامي قد اعتمد على نظرة مخالفة تماما للنظرة الكوسمولوجيه لعلم الفللك البطلمى، بل " يستطيع المرء أن يكتشف في جميع الردود الاسلامية على علم الفلك اليونانى، نزعة دائمة مفادها أن هذه الردود كانت غالبا تقتصر على حلول لمشاكل مفردة من مشاكل علم الفلك هذا. فعلماء الفلك كانوا يطورون النظريات والتقنيات التي كانت تسمح لهم بإعادة بناء علم الفلك البطلمي على النحو الذي يجعل علم الفلك هذا منسجما مع معطياته الفيزيائية والكوسمولوجية، بدءا من مشكلة نقطة المحاذاة مرورا بالفلك المعدل للمسير، ووصولا الى التناغم بين الأرصاد والهيئات التنبئية " ص 268.

يمكن أن يعاني المرء من الحيرة بشأن السؤال هل علم الفلك الاسلامي كان مناقضا تماما لعلم الفلك البطلمي ؟ ويمكن أن يكون مرد هذه الحيرة أن المرء يتوقع أن العلم يتطور عبر قفزات كما أوضح توماس كون في فكرته عن الباراديجم، ولن نتحدث هنا عن معارضة الكثيرين لهذا الفكرة، لكن هذه الحيرة تزول إذا تتبعنا الخطوات التي سار عليها علم الفلك الاسلامى، فهذا الأخير قد اتبع بالتأكيد نهجا آخر غير هذا الذي تبناه توماس كون في كتابه " بنية الثورات العلمية "، وعلي كل حال، نموذج الباراديجم هذا – على فرض صحته - لا يمكن تطبيقه على العلوم الاسلامية، نظرا لاختلاف ظروف العلم الحديث عما قبله، ولكن كل هذا لا يمكن أن يثنينا عن فهم العلوم الاسلامية وتطورها من داخلها، والاعتراف بمنهجيتها الخاصة بها، وإن لم تلق حتى الآن التوصيف المناسب لها، وإن كنت أتصور شخصيا أن العلوم الاسلامية أقرب ما يكون " للمنهج الأجرائي " الذي ورد في كتاب يحيى محمد. على كل حال ييقى السؤال مطروحا للمناقشة: هل يمكن أن يحدث كل هذا التطور في العلوم الاسلامية بطريقة لا منهجية ؟ من الصعب أن يحوز هذا الفرض على القبول، ولا داع لتكرار القول أنه لولا العلوم الاسلامية لتأخر العلم الحديث قرونا عدة، وأخيرا لا يمكن ألا يتعمق المرء في مفهوم " معيار الدقة والتناسق الدائم التغير " في علوم الفلك الاسلامية، والذي أوضحه باقتدار د. جورج صليبا في كتابه، وهل معيار الدقة والتناسق شيئا آخر غير الذي تسعي له العلوم الفيزيائية الحديثة، والذي أوضحه باقتدار أيضا يحيى محمد في كتابه " منهج العلم والفهم الديني " ؟ طبعا مع ملاحظة اختلاف الظروف التاريخية والعلمية وتطور التاريخ الانساني نفسه.

    لا يفوتنا هنا الإشارة التي كتبها يحيى محمد في كتابه، " عما أوضحه (أرنست مودي) عن دور الفيلسوف ابن باجة وشروحه على أرسطو وبين نظرية جاليلو الخاصة بالسقوط الحر، بل نسب لابن باجة دوراة رئيسا مكّن جاليليو من تعميم نظرية بوردان المتعلقة بالزخم أو قوة الدفع الذاتي وتحويلها الى نظرية عامة في ديناميات القصور الذاتي أو العطالة ".

                                    ***

    بهذا نكون قد أنهينا الملاحظات على الجزء الأول من كتاب " منهج العلم والفهم الديني "، وما تبقى من أبوابه لا يمكن الاعتراض عليها، بالعكس، يمكن تقريظها و مدحها بما هو مناسب، فالمؤلف لم يدخر جهدا في الخوض في أعماق المواضيع العلمية الصعبة على غير المتخصصين، وقد استفدت منها شخصيا فائدة عظيمة، وما زلت أرجع له بين الفينة والفينة، فيحيى محمد لم يأل جهدا في تبسيطها، وتقسيمها أحسن تقسيم، حتى يستطيع أن يصل الى الجزء الثانى، وهو لب الكتاب، أعني المقارنة بين منهج العلم والفهم الدينى، من حيث الاتفاق أو الاختلاف، أو حتى الآفاق المتوقعة لتأثير كل منهما على الآخر، ولكن من الصعوبة بمكان أن يبدأ القارىء بالجزء الثاني مباشرة دون التأني في قراءة الجزء الأول، وبالذات إذا لم يكن متخصصا أو عنده فكرة مسبقة عن مواضيع الفيزياء المعاصرة ومناهجها، لذا ننصح بقراءة الجزء الأول أكثر من مرة للمبتدىء حتى يمكن استيعابه والولوج بيسر الى الجزء الثاني واستيعاب ما فيه .

                            ***

الجزء الثاني: ابستمولوجيا العلم والفهم (العبور من الفهم الى العلم)

----------------------------------------------------------------

    في هذا الجزء يعقد يحيى محمد مقارنة بين مناهج العلم والفهم الدينى، وفي التمهيد يشرح الكاتب مسلمتي علم الطريقة الذي ابتدعه، المسلمة الأولى تقول أن الفهم غير النص، والثانية أن الفهم يتشكل بالتفاعل بين النص والقبليات الذاتية، وكذا العلم غير الطبيعة، فالعلم هو نتاج متأثر بكل من الطبيعة وذاتية العالم، ويخضع كل من علم الطبيعة، والفهم الديني الى آليات من التفكير القائم على القبليات. بينما يعبر التفكير الديني عن نفسه من خلال أربعة دوائر أساسية هي: الفلسلفية والعرفانية والعقلية والبيانية، يعبر العلم عن مناهجة من خلال ثلاثة مناهج هي: المنهج الإجرائى، والمنهج الافتراضى، والمنهج التخميني الميتافيزيقى، ويدور الجزء الثاني من الكتاب حول المقارنة سواء بالاتفاق أو الاختلاف، بين دوائر الفهم الديني الأربعة ومناهج العلم الثلاثة.

    أول ما نلاحظه من هذه المقارنة هو الجدّة غير المسبوقة في هذا التناول المعاصر، والتقسيم الفعّال لكل من مناهج الفهم الديني أو مناهج العلم، ونعيد التذكرة مرة أخرى، أن الكاتب يرى أن فهم الدين غير الدين، والعلم غير الطبيعة، وبعبارة اخرى (ربما لم يقصدها الكاتب) يظل الدين والطبيعة متعاليان لا يمكن الوصول الى نهايتهما، بينما يدور الفهم الديني والعلم حول الاقتراب من حقيقة كل منهما، مع عمل التصويبات والتنقيحات اللازمة بمرور الزمن، وهذا ليس معناه أنه لا يمكن الوصول للحقيقة كما تدعي مناهج ما بعد الحداثة، لكن يمكن الوصول لحقائق نسبية، تكون قابلة للتعديل، والوصول بها الى اقترابات أكثر صحة، على كل حال هذا هو ما فهمه كاتب المقال، من الكتاب، وهو ما يظل عالقا بالذاكرة، وإذا طبقنا منهج الكاتب، واعتبرنا كتابه هو " النص "، تكون التعبيرات السابقة هي " فهم النص "، وهو ما يمكن لآخرين أن يقوموا بعملية فهم اخرى قد تقترب أو تبتعد عن النص الأصلى.

   

هاجس التحويل

--------------

    " هل يمكن خلق حالة من تطور الفهم (التحقيقي) كما يجري في الإطار العلمي "، أتي هذا التساؤل في الفصل العاشر الذي حمل اسم " تقدم العلم ودوران الفهم "، وفي سياق تقدم العلم وفعاليته مقابل دوران الفهم الديني على نفس المواضيع تقريبا منذ أن بدأت المذاهب والافكار تتكون حول الدين، أي منذ ما يقارب أربعة عشر قرنا، يقدم الكاتب إجابته في أن الحل هو أن تكون هناك " معايير مناسبة نتقبل على ضوئها بعض الاصناف من النظم والمناهج دون البعض الآخر، فلا بد من وجود معيارين هامين، أحدهما يكفل الحفاظ على عدم تعدي دائرة الفهم للحدود الدينية اليقينية منطقيا، والأخر معني بالقدرة على التحقيق الخارجي للفهم، أي التحقيق من خلال إجراءات لا علاقة لها بالالفاظ المفصلة للنص، بل يساهم فيها الواقع مع جملة عناصر اخرى مهمة للتحقيق " ا.هـ. باختصار يرغب الكاتب هنا في تحويل الفهم الديني الى ما يشبه العلم الطبيعى، الذي أثبت قوته وعنفوانه في الثلاث قرون الأخيرة، وما زال، فهل هذا ممكن ؟

    بداية نري أن الطبيعة غير الدين من حيث البنية، وبالتالي تكون بنية العلم غير بنية الفهم الدينى، ويمكن ملاحظة أول الفروق في مصدر كل منهما، فالطبيعة مصدرها واضح للعيان، بينما الدين مصدره غيبى، لا يمكن التعرف عليه من خلال العقل المحض، قد يقال هنا أنه يمكن التعرف على الدين من خلال الضرورات العقلية، كما في علم الكلام، الذي يرى الكاتب، أنه أقرب علم لما يقوم به لولا الاتجاه الذي انجرف فيه علم الكلام من مذهبية ايدلوجية، ولكن هل هذا الكلام صحيح ؟ يبدو لنا أن هناك فروق كثيرة لا تجعل من الممكن أن تكون القضايا العقلية الفلسفية مثل عدم التناقض والسببية، ضرورات للجميع، بينما الدين من المفترض أنه نزل للجميع لوم ينزل لمستخدمي العقول من الطبقة الراقية فقط، تماما كما لا يمكن لإنسان ما من الناحية العقلية يعتبر ضعيفا أوحتي متوسطا،ثم ننتظر منه التفوق في العلم، فالعلم يعترف بأنه للخاصة فقط، بينما يعرف الدين نفسه على أنه للجميع. ثانيا نري أن الدين يتحوي على عناصر عاطفية كثيرة جدا، بل يمكن القول أنها أكثر من العناصر العقلية، خصوصا في قضايا رئيسة مثل الإيمان والغيب، فكيف يكون الايمان ممكنا ؟ يبدو لنا أن العرفان هو الوحيد الذي قدم الاجابات الأكثر منطقية، والتي تتناسب مع معطيات الدين بالمعني العام من عقاب وثواب وآخرة وجنة وضمير، وهو ما يتفق مع الواقع المشاهد، حيث يميل الغالبية العظمي من المتيدنين الى القلب أكثر من ميلهم الى العقل، فيما يخص إيمانهم، ومن المعلوم أنه بدون إيمان سوف يتحول الدين الى نص تجري عليه ما يجري على نصوص ما بعد الحداثة، وهو ما يرفضه الكاتب، ونحن معه في هذا الرفض لتحويل النصوص الدينية الى متاهة لا قرار لها، لكننا نختلف معه في حصر التعامل مع النصوص على العقل، لسبب بسيط لكنه مقنع، وهو أن النص له " مجال "، كما يسمية الكاتب، لذا هذا المجال يتضمن فيما يتضمن القلب والوجدان بصفة لا تقبل الحياد، بينما العكس في إعمال العقل في النصوص، تبدو المشكلة أن التعامل الوجداني لا ضابط له، وهذا صحيح، ولكنه مفيد من ناحية الإيمان والشعور، وهذا مكسب أكبر، فبدون تفسير وبدون إعمال العقل يستطيع المرء أن يشعر وجدانيا بآية مثل "وهو معكم أينما كنتم".

    يري الكاتب أن النظام الوجودي بفرعية العرفاني والفلسفي قد أخلا بالمعيارين اللذين وضعهما، بينما النظام المعياري بفرعية الكلامي والفقهي أكثر محافظ على هذين المعيارين:

المعيار الأول: الاتساق مع الحقائق الاصلية للخطاب الديني

المعيار الثاني: القابلية للتحقيق الخارجى، مما يجعل الفهم قابلا للتطور والتقدم

    يبدو المعيار الثاني منطقيا، لكن المعيار الأول لا يمكن أن يكن منطقيا، إذ يفتقر الى البرهان، فكيف لنا أن نعرف " الحقائق الأصلية للخطاب الديني " من قبل أن نحدد المنهج الذي نسير عليه، والذي يصل بنا في النهاية لاكتشاف تلك الحقائق ؟ يبدو أنه هناك دورانا واضحا، ثم هل نتعامل مع النص أم مع الخطاب الدينى؟ كلاهما يختلف عن الاخر، وربما كانت هذه أول مرة يرد فيها مصطلح " الخطاب الديني "، دون توضيح لماهيته وما هو الفرق بينه وبين النص.

    علي كل حال، يرى الكاتب أن المعيار الأول فقط هو المتحقق في النظام المعيارى، بينما المعيار الثاني غير متحقق، ويطرح فكرة النظام الواقعى، الذي يمكن أن يتحقق فيه المعيار الثانى، أيضا دون أن يوضح لنا ما هو النظام الواقعي ؟ ودون حتى إشارة إليه في كتب اخرى له، أما مدي تحقق المعيار الأول في النظام المعيارفحسب الكاتب نفسه، وفي الفصل الذي يليه وفي ص 267 نجد أن هذا الفهم وصل الى درجة من العجز عن الفهم، فاعتمد على الأصول العلمية من أجل إفراغ الذمة فقط، لا من أجل المطابقة مع الحقيقة، بعد أن يأس من ذلك. إذن ما الذي تحقق ؟ لم يتبق للكاتب سوى علم الكلام من النظام المعيارى، الذي يمكن أن يحقق المعيار الأول، لذا فقد وجد أن علم ا لكلام هو أقرب لما يقدمه من كتابات، وفي الحقيقة لا أعرف ما هو الشبه بين ما يكتبه الكاتب وبين علم الكلام، إلا الناحية الشكلية فقط، وحتي هذه الناحية الشكلة مشكوك فيها. يبدو لي أن الكاتب وضع معايير، ثم اضطر الى أن يسير معها الى النهاية ليس إلا، لكن يبدو أيضا أن المعيارين هذين غير ذات فائدة ترجى، وحتي حذفهما لم يكن ليؤثر قليلا أو كثيرا في الكتاب .    

                                    ***

في الفصل الحادي عشر " الشذوذ بين العلم والفهم "، يطرح يحيى محمد قضية العذاب الأبدى، ولا ينقل سوى رأي ابن عربي الذي يقول لو أن الله تعالي: " فوض أمر خلقه الى أحد من عباده، ومكنه من التصرف فيهم، وكان خيرا غنيا، لأزال العذاب عنهم، وهذا الراحم أنا وأمثالى، وهو تعالي أرحم الراحمين " ا.هـ. إذن فقد جاء الحل من الجانب الوجودي وبالذات العرفانى، الذي هو أكثر إخلالا بالمعايير !

في الفصل الثاني عشر: النظريات المتناقضة بين العلم والفهم، يوضح الكاتب كيف أن النظريات المتناقضة في اللعم تؤدي أحيانا الى توفيق أو فائدة من ناحية أخرى، وأن " التعارض بينها لا يمنع من الأخذ بها سويا، ما دام لها ثمار علمية، كالذي تحققه نظريتي النسبية والكوانتم "،

 وفي ص 296 يعرض الكاتب لنظيات متناقضة في الفهم الديني لا تقبل الأخذ بها جميعا، مثل مسألة الإمامة في المذهبين السني والشيعى، ثم يبين أن الحلول البراغماتية، كالقول بعدم إمكان المعرفة الإبستيمية، واعتراف كل طرف بحق الطرف الآخر في مذهبه، فرصتها ضعيفة في بلادنا الاسلامية، نظرا لعدم وجود قوانين تمنع الكراهية الدينية والعرقية مثل الموجودة في الغرب.               

    الفصل الثالث عشر: تكافؤ النظريات بين العلم والفهم: يشير الكاتب الى طريقة المتكلمين التي تعني بعدم تضارب الفهم مع الضرورات العقلية، دونما اعتناء بالوصول الى فهم واحد، فمن الممكن عندهم قبول كل الأفهام التي لا تتضارب مع مسلماتهم العقلية التي برهنوا عليها واعتمدوها، لذا فالتفسيير عند المتكلمين معني بالتفسير السلبى، أكثر مما هو معني بالتفسيير الايجابى، ولا شك أن هذه المقارنة بين تكافؤ النظريات في العلم و طريقة المتكلمين، هي مقارنة ناجحة لإنها أعطتنا ضوءا جديدا في تفسيرمنهج علم الكلام مقارنة بالعلم ونظرياته.

في الفصل الرابع عشر: البساطة بين العلم والفهم الديني: يصل الكاتب الى خلاصة واضحة ومقنعة، أن " النظرية القائمة على الحكمة والمقاصد فحسب هي أبسط من تلك التي تضيف إلى، ما سبق عنصر التعبد " ص 336، ويشير الكاتب الى أن البساطة هنا هي بساطة اقتصادية، بمعني أن اللجوء الى فكرة واحدة مثل المقاصد، أكثر اقتصادا من اللجوء الى فكرتين هما التعبد والمقاصد، وهذه المقارنة الاقتصادية وإن كانت غريبة على الوسط الدينى، إلا أنها معترف بها ومستخدمة في الوسط العلمى، وخاصة في المقارنة بين النظريات والترجيح فيما بينها، لذا فهي تتفق مع الغرض العام من الكتاب.

في الفصل الخامس عشر: النظام النسقي بين العلم والفهم: يستعرض الكاتب مفهوم النظام النسقي في العلم، ولا يجد له مثيلا في التراث الدينى، لكنه يشير الى المحاولات الحديثة التي سعت بناء نظام نسقي في فهم الدين، منها ما قام به المهندس شحرور من سوربا، والمهندس عالم سبيط النيلي من العراق، وجمعية التجديد الثقافي من البحرين، ويستعرض بعض اللانسقية في هذه المحاولات ويصل في النهاية الى أنه " في جميع الأحوال يتبين أن النظام النسقي المطروح حاليا ليس بنسقي "، ص 347 .

في الفصل السادس عشر: مسلمات العلم والفهم، مبدأ السببية والقصدية: يناقش يحيى محمد موضوعا من أكثر المواضيع تعقيدا وغموضا في العالم، بالرغم من بساطته التي يؤمن بها فلاح القرية مثلما يؤمن بها آينشتاين، لكن كثير من فلاسفة الماضي وعلماء الكوانتم المعاصرين لا يقبلوا بهذا الإيمان البسيط والضروري لانتظام هذا العالم الذي نحيا فيه، لإنهم إما فشلوا في إثباته عقليا كما في حالة الفلاسفة، أو لإن تجاربهم في العالم المجهري دفعت بهم الى القول بأن هذا العالم الصغير جدا لا ينطبق عليه مبدأ السببية كما قال هايزنبرج وكما تذهب الى ما هو قريب من ذلك مدرسة كوبنهاجن.

يتفق يحيى محمد مع الرأي القائل بعدم إمكان البرهنة على مبدأ السببية موضوعيا، لكن هذا لا يدعوه الى إنكاره كما فعل الكثيرون، بل يقول أنه مبدأ غريزي غير قابل للبرهنة وحسب، فيقول: " على العموم وحتي لو احتملنا خطأ مبدأ السببية، فإن غريزة العقل لا يسعها أن تتخلى عنه " ص 357 قد يبدو هذا مقنعا للوهلة الأولى، لكن كاتبنا لا يقنع بالاجابات البسيطة، فيكتب في الفقرة التالية مباشرة عن حالة عدم معرفتنا سبب الظاهرة أو عند من ينكرون الاسباب: " فسنضطر الى افتراض وجود سبب آخر أخفي منه هو الذي يقف وراء التأثير، وينتهي الحال عند مرحلة الغيب الذي لا يعرف العقل عنه شيئا سوى أنه يؤثر على عالمنا الشهودى. فقد توصل العلم الفيزيائي اليوم الى أعمق مراتب الأسباب،وهي تلك المتعلقة بما يطلق عليه الفراغ، وقد نتساءل: ما الذي يجعل الفراغ أن النسيج الفراغي يقوم بدوره في النشوء والفناء على الدوام، بل وضمن توازن مدهش هو سبب الظام الكوني الذي نشهده ؟ "

ثم يتحدث الكاتب عن انكار السببية وبالتالي المقاصد في الفهم الديني كما عند الأشعرية، وبعض الاعتبارات الكلامية، ويطرح بدلا منها فكرة المقاصد، ويتوسع قليلا في ذلك، ويذكر ثلاثة أصناف للفهم المقاصدي: 1- القصد المنصوص 2- القصد الوجداني 3- القصد الاجتهادى، وهذا الأخير هو أهمها، فيقسمه القصد الاجتهادي الى ثلاثة أقسام فرعية: الاجتهاد المحافظ، والاجتهاد المغامر، و الاجتهاد المتهور، ويري كاتبنا أن الاجتهاد المغامر هو المرشح عنده للاحتلال المكانة الأولى، إذ أن " الاجتهاد المحافظ قد استنفذ أغراضه،دون أن تكون له إمكانية التطوير، والاستكشاف والاجتهاد المتهور لا يمتلك قيمة من الناحية المعرفية الابستمية،يبقي التعويل على الاجتهاد المغامر كما يزاول في الفقه مثلا وغالبا ما يرتبط بتغيير الاحكام القطعية كما ترد في القرآن مثلا لارتباطهاه بالمقاصد، كشهادة المرأة وحجابها وإرثها، وكالتعامل مع غير المسلم...إلخ " ص 368 ثم يواصل الكاتب ضرب الأمثلة على المقاصد،فيطرح تحريم لحم الخنزير ويحاول معرفة القصد من وراء التحريم، ثم ينتهي الى القول " وعموما لو أننا سلكنا هذا الدرب من الاجتهاد لتحولت القضايا التعبيدية الى قضايا يفهم معناها طبقا لمبدأ الفهم القصدي " وهو ما تتشوق إليه الكثير من النفوس لولا الخشية من أن الأمر سيفضي الى ظنون لا تحمد عقباها، وأنه بذلك قد يتحول الدين شيئا فشيئا الى غيره، فلا يبقى منه سوى الأمور الكلية والمقاصد العامة، فما من شىء إلا ويمكن استبداله بغيره من الاحكام "، قد يبدو النقل السابق تحذيرا أو تراجعا أو تخوفا مما قد يحدث، لكن يواصل الكاتب توضيح فكرة المقاصد فيقول " فقد يتعلق الدين بمسائل محدودة للغاية، كما قد يكون الغرض لا يتعدي رسالة ألا إله إلا الله مضافا إليها العمل الصالح وإتمام مكارم الاخلاق. على ذلك تكون المجتمعات معنية بالغرض الديني أكثر مما تعني بالنص الديني وأحكامه المعهودة " ص 371 ويفسر يحيى محمد عدم اهتمام الشارع بجمع القرآن وفقا للفكرة المقاصد تفسيرا موفقا، فهي في الحقيقة قضية لا يمكن تجاهلها وتحتاج لتفسير، فكيف لم يأمر الله محمدا بأن يجمع القرآن الكريم وترك تلك المهمة الخطيرة للصحابة ؟ ووفقا لمبدأ القصدية يكون الدين قد اكتمل حتى لو توفي الرسول أو قتل قبل إتمام القرآن الكريم و الشرائع، لإن الغرض الديني قد تم.

ما سبق يتعلق بما أسماه يحيى محمد " الاجتهاد المغامر "، أما الاجتهاد المحافظ فهو معروف كما تبدي عند الفقهاء وما يزال، أما الاتجاه المتهور فقد تجاوز الحد كما يرى كاتنا،إذ أنه يستدل على أي شىء على شىء ولأدني مناسبة، كما عند ابن عربي الذي فسر العذاب الأخروى، بالاشتقق من معني العذوبة وليس الألم " مما هو خلاف سياق النص وقلب مضاد لظهوره " ص 367 هذا الرأي يحتاج لمناقشة لن نتوسع فيها، لكن نذّكر بأن الكاتب نفسه قد أورد رأي ابن عربي في نفس المسألة سابقا عند مناقشته عدم معقولية العذاب الأبدي مع العقوبة المؤقته، كما أن ابن عربي يقول أن أهل النار الخالدين فيها سيتعذبون بمعني الألم فترة من الزمن، ثم ييقون في النار وينقلب العذاب الى عذوبة. من وجهة نظر كاتب هذا المقال لا يمكن اهمال أو التقليل من الافكار الصوفية (العرفانية) لإنها لا تلتزم بسياق النص وظاهره، وإلا فنفس السبب كفيل برد أفكار علم الكلام نفسه الذي يرى الكاتب في غير هذا الموضع أنه يكاد يكون الأقرب له لولا انزلاقه الايديولوجي، بالاضافة الى أن فكرة ظاهر وباطن حقيقة الوجود عند المذاهب العرفانية، والتي يبني عليها مثل هذه المخالفات للظاهر والسياق، لا يمكن دحضها بأية أدلة أو براهين دينية أو عقلية، بل لها كثير من الشواهد الدينية المحيرة والتي لا تفسير لها إلا بوجود عالمي الظاهر والباطن، وقد اتفق الجميع على أن القرآن الكريم مكتوب في كثير من آياته بلغة بالغة الرمزية الحمالة الأوجه التي لا يمكن فرض تفسير واحد عليها.

يرى كاتب المقال أنه يمكن أن نقول أن الاجتهاد المغامر أكثر مناسبة في الاحكام والمقاصد الحياتيه، أما الاجتهاد المتهور فهو أكثر مناسبة لتفسير الأغراض والعلاقات الوجودي، إذ لم يحدث حتى الآن أن قام اتجاه واحد بتفسير كل شىء، لا في العلم ولا في الفهم الدينى.

في الفصل السابع عشر: قواعد الكشف الأساسية للعلم والفهم، لا يرى يحيى محمد تشابه بين الكشف والتنبؤ في الفهم الديني كما هو موجود في العلم، والذي هو سبب مهم من أسباب قوته.. " رغم أن كلا من العلم والفهم يستعين بالشواهد المؤيدة، لكن الأمر لدى العلم يختلف عما لدى الفهم " ص 378، ولاشك أن هذا الاختلاف نابع من اختلاف طبيعة كل من العلم والدين.

في الفصل الثامن عشر: علاقات العلم والفهم، وفي البند3 المسمي المسار التعارضى، يطرح الكاتب نقطة مهمة للغاية بشأن التعارض بين العلم والفهم، قلما يتعرض لها أحد. فالقدماء وبعض المعاصرين يعتقدون بسكون الأرض، وهو ما أثبت العلم الحديث عكسه، أما المثير حقا هو التعارض المتعلق بالمدة " التي استغرق فيها خلق السموات والأرض، كما جاء في سورة فصلت، فيبدو فيها ان الزمن الذي خلق الله فيه الأرض يفوق الزمن الذي خلق فيه السموات السبع، كما ورد بأن خلق الأرض بما فيها من رواسي وأقوات سابق لخلق السموات، يضاف الى ذلك أن الايات تلوح بوجود شياطين في السماء الدنيا، وهي عرضة للقذف بالشهب لدحرهم، كالذي تفصله بعض آيات سورة الصافات، وكل ذلك مما لا يتفق مع التقديرات الفلكية والعلمية " ص 391، وفي نفس الصفحة والتي بعدها يتعرض يحيى محمد الى الآية رقم 36 في سورة التوبة، والتي تحدد أن زمن الشهور هو إثنا عشر شهرا للسنة منذ خلق الله السموات والأرض، وهو ما قد أثبتت الساعة الذرية عكسه، حيث تباطىء الزمن في بداية الخلق بدرجة مثيرة، فيمكن حساب سرعة الأرض منذ تكونها منذ 4.5 مليار سنة، حيث كانت سرعة الأرض تعادل حوانلي 52448 يوما للسنة الواحدة، أي أن السنة الواحدة كانت تعادل 144سنة حالية، والشهر لم يكن يساوي ثلاثين يوما، بل كان يساوي 364 يوما.

    يظهر جليا أن يحيى محمد يرفض أي تفسير مجازي للآيات القرآنية، ويأخذها على محمل الظاهر فقط، وأنه واقع تحت وطأة التفسير الظاهري للنص، مما أوقعه في حيرة بين العلم والدين، والأمر يبدو سهلا حين ننظر لمثل تلك الأيات على أنها رمزية أو تنتمي لعالم آخر لا نعرفه.

    في البند 4 التأثير، يتعرض الكاتب للماضي حيث كان تأثر الدين على العلم ساحقا، وكيف انتهت تلك العلاقة، بل وانعكست، فأصبح تأيثر العلم على الدين هو الغالب، وكل هذا واضح ويمكن الموافقة عليه بسهولة، أما ما هو مستغرب حقا ولا يمكن الموافقة عليه بحال من الأحوال، هو ما أتي تحت اسم ما الذي يمكن أن يقدمه الفهم الديني للعلم ؟ فكيف يكون العالم الحالي كسولا لإنه لم يفكر في المقاصد ؟ " على ذلك يمكن تقرير أن العلم الحالي القائم على فكرة الاتفاق والمصادفة هو علم كسول محافظ.. وليس ببعيد أن يتبدل الحال الى مرحلة جديدة قادمة تتصف بالعلم النشط المغامر، بعد تناوله جرعة من الدواء القصدى، كالذي يقدمه له طبيب الفهم مجانا ! " أ.هـ.

لا يحتاج المرء لكثير معرفة ولا لكثير براهين ليثبت أن العلم الاسلامي قديما والذي كان متفوقا لم يأخذ بأي شكل من الأشكال بالمقاصد التي يطرحها الكاتب، وكذا الحال مع العلم اليوناني والعلم الحالى، بالاضافة الى أن الكاتب لم يقدم لنا أي تصور واضح عن كيفية تأثير المقاصد على العلم مما يعد خللا واضحا.

في الفصل التاسع عشر:الافتراض الآخر بين العلم والفهم يعتبر الكاتب أن كل افتراض جديد وغير مسبوق يكون افتراض آخر، وهذا مثل ما يطرحه من مفهوم الطريق الثالث، ويضرب مثالا بالمذهبين السني والشيعي على ما بينهما من خلافات، وفي آخر الفصل ونهاية الكتاب في نفس الوقت، يتسائل الكاتب " متي يكون باستطاعتنا أن نحول الأفتراض الآخر في قضايانا الدينية من صعيده الذاتي الى الموضوعى، بحيث نتعامل مع هذه القضايا كتعاملنا الموضوعي متع الرموز المفترضة س وش، دون أن يكون بمقدورنا أن نتحيز ذاتيا الى س أو ش ؟... ومتي يكون بمقدورنا تقبل الأفترض الآخر الصعب في قضيانا الدينية كالذي يمارسه العلم بطلاقة، وهو سرنجاحه وتقدمه دون أدني شك ؟" ا.هـ.

                            ****

    لا يسعني إلا تقديم جزيل الشكر لهذا الكتاب المتميز للكاتب المتميز يحيى محمد، والذي تجرأ وطرح موضوعا حيويا مثل موضوع كتابه هذا، ما تميز به من أصالة وجدة وقوة ملاحظة وإحاطة بالتفاصيل الكبيرة والصغيرة، في مجالين متباعدين تماما مثل الدين والعلم، واستطاع ببراعة أن يربط بينهما بروابط موضوعية وعبر الكثير من البراهين، وأيضا عبر الكثير من المغامرة الحيوية التي تذكرنا بنشأة العلم في الاسلام، والتي مع الأسف تنقص الشعوب الاسلامية اليوم.

                   

الهوامش

-------

                   ·ص 11 منهج العلم والفهم الديني

                   ·ص 23 نفسه

(3) كتاب المناظر؛ ابن الهيثم: ".. ونبتدئ في البحث باستقراء الموجودات، وتصفح أحوال المبصرات وتمييز خواص الجزئيات، ونلتقط باستقراء ما يخص البصر في حال الإبصار، وما هو مطرد لا يتغير وظاهر لا يشتبه من كيفية الإحساس، ثم نرتقي في البحث والمقاييس على التدريج والترتيب مع انتقاد المقدمات والتحفظ في النتائج، ونجعل غرضنا في جميع ما نستقريه ونتصفحه استعمال العدل لا اتباع الهوى، ونتحري في سائر ما نميزه وننتقده طلب الحق لا الميل مع الآراء".

المصدر: مكتبة المصطفي الالكترونية، الفصل الأول ص 4، صدر الكتاب

(4) يقول يحيى محمد في مقاله، علوم العرب والنهضة الغربية، نقلا عن كتاب ما يلي " ومن الأهمية بمكان أن نعلم بأن النهضة العلمية الحديثة كثيراً ما يؤرخ لها في الغرب عند ثورة كوبرنيكوس الفلكية خلال القرن السادس عشر الميلادي. وكوبرنيكوس هو ذلك العالم الذي قدّم نظرية فلكية قلبت الصورة التقليدية لنظرية بطليموس السائدة آنذاك، وحوّلت الفكرة من دوران الشمس حول الأرض الى العكس، لكن النماذج الرياضية التي اعتمدها كوبرنيكوس والتي جعلت نظريته جديدة وإنقلابية؛ تكاد تكون هي ذاتها النماذج التي اكتشفها بعض الفلكيين المسلمين قبل كوبرنيكوس بقرنين تقريباً، مثلما هو الحال مع مرصد مراغة في غرب ايران الذي ضم مجموعة من العلماء الكبار مثل الأردي ونصير الدين الطوسي وقطب الدين الشيرازي وإبن الشاطر. فقد أُعتبرت نظرية كوبرنيكوس بأنها مزدوجات من مخطط مدرسة مراغة الفلكية ونصير الدين الطوسي. واستعمل كوبرنيكوس مزدوجة الطوسي كما استعملها فلكيو مراغة، كما أن نماذجه الفلكية لخطوط الطول في كتابه (الشرح المختصر) مستمدة من نماذج إبن الشاطر، أما نماذجه الخاصة بالكواكب العليا كما في كتابه (دوران الأجرام السماوية) فهي الاخرى قد استخدمت نماذج مراغة، وأن النماذج القمرية عند كل من كوبرنيكوس ومدرسة مراغة كانت متطابقة. وقد صعق العديد من الغربيين لهذه المعلومات، الى درجة قال بعضهم: «إن كوبرنيكوس هو أشهر أتباع مدرسة مراغة إن لم يكن آخرهم». بل لم يعد السؤال المطروح لدى بعضهم بالصيغة التالية: هل أن كوبرنيكوس استمد نظريته الفلكية من مدرسة مراغة أم لا؟ بل تحولت هذه الصيغة الى سؤال أكثر تخصيصاً، وهو: متي وكيف؟ فهذا ما كان يتساءل به (نويل سويردلو). إذ لم يثبت الى الآن بأي وثيقة تبين أن كوبرنيكوس قد اطلع بشكل مباشر أو غير مباشر على جداول فلكيي مراغة والطوسي، و لا زال الأمر في طي البحث عسي أن يُكتشف ما لم يُكتشف من قبل حول سر وجود هذا التماثل وعلاقته بعلم الفلك لدى المسلمين، فالنظرية هي ذاتها دون إختلاف؛ بإستثناء فرضية مركزية الشمس لدى كوبرنيكوس "

 يحيى محمد، موقع فهم الدين، علوم العرب والنهضة الغربية الحديثة، الرابط: http://www.fahmaldin.com/index.php?id=2311

(5) مقال يحيى محمد، علوم العرب والنهضة الغربية الحديثة، نقلا عن كتاب فجر العلم الحديث، ص 70، 72، يقول المقال ما يلي: "... النماذج الرياضية التي اعتمدها كوبرنيكوس والتي جعلت نظريته جديدة وإنقلابية؛ تكاد تكون هي ذاتها النماذج التي اكتشفها بعض الفلكيين المسلمين قبل كوبرنيكوس بقرنين تقريباً، مثلما هو الحال مع مرصد مراغة في غرب ايران الذي ضم مجموعة من العلماء الكبار مثل الأردي ونصير الدين الطوسي وقطب الدين الشيرازي وإبن الشاطر. فقد أُعتبرت نظرية كوبرنيكوس بأنها مزدوجات من مخطط مدرسة مراغة الفلكية ونصير الدين الطوسي. واستعمل كوبرنيكوس مزدوجة الطوسي كما استعملها فلكيو مراغة، كما أن نماذجه الفلكية لخطوط الطول في كتابه (الشرح المختصر) مستمدة من نماذج إبن الشاطر، أما نماذجه الخاصة بالكواكب العليا كما في كتابه (دوران الأجرام السماوية) فهي الاخرى قد استخدمت نماذج مراغة، وأن النماذج القمرية عند كل من كوبرنيكوس ومدرسة مراغة كانت متطابقة. وقد صعق العديد من الغربيين لهذه المعلومات، الى درجة قال بعضهم: «إن كوبرنيكوس هو أشهر أتباع مدرسة مراغة إن لم يكن آخرهم».

بل لم يعد السؤال المطروح لدى بعضهم بالصيغة التالية: هل أن كوبرنيكوس استمد نظريته الفلكية من مدرسة مراغة أم لا؟ بل تحولت هذه الصيغة الى سؤال أكثر تخصيصاً، وهو: متي وكيف؟ فهذا ما كان يتساءل به (نويل سويردلو). إذ لم يثبت الى الآن بأي وثيقة تبين أن كوبرنيكوس قد اطلع بشكل مباشر أو غير مباشر على جداول فلكيي مراغة والطوسي، و لا زال الأمر في طي البحث عسي أن يُكتشف ما لم يُكتشف من قبل حول سر وجود هذا التماثل وعلاقته بعلم الفلك لدى المسلمين، فالنظرية هي ذاتها دون إختلاف؛ بإستثناء فرضية مركزية الشمس لدى كوبرنيكوس " أ.هـ.

(6) يمكن مقارنة استنتاج صليبا من كون " الرياضيات (عند الخفري) لم تكن سوى مجرد أداة تستعمل لوصف الظواهر الطبيعية وأنها لا تنطوي على الحقيقة بحد ذاتها "، بما قاله يحيى محمد في كتابه منطق فهم النص، ص 101، من أن " النظريات العلمية العالية التعميم هي نظريات صورية لا يفترض مطابقتها للواقع الموضوعي، بل إنها اصطلاحية وذات صياغة عقلية محضة " ا.هـ هذه المقارنة يمكن أن تضع علم الرياضيات المستخدم في الفلك وجها لوجه مع النظريات العلمية الأكثر معاصرة وحداثة، ويمكن أن نتلمس لهذا الافتراض دعما آخر من مقدمة كتاب " شرح مصادرات إقليدس " لابن الهيثم، حيث يقول المحقق د.أحمد عزب أحمد، في ص 42 نقلا عن كتاب مقالة في التحليل والتركيب لابن الهيثم:" وعلوم التعاليم (الرياضيات) مبنية على البراهين وغاياته التي ترتقي إليها استخراج المجهولات من جزئياتها ووجود البراهين التي تدل على حقائق معانيها... " أ.هـ. وهنا نصادف المنهج الاستقترائي بوضوح، وهو ما يخالف المنهجة الاستنباطي للعلوم القديمة، ويضع العلوم الاسلامية من حيث منهجيتها في مصاف العلوم الحديثة، وفي نهاية المقدمة، يرى د. أحمد عزب أحمد أن رفض ابن الهيثم مسلمة (مصادرة) اقليدس الخامسة، هي التي مهدت الطريق أما ظهور الهندسة اللاقليدية سواء هندسة ريمان أو هندسة لوباشتفسكى، من خلال نقله لنص ابن الهيثم: " الخط المقعر لا يجوز أن تكون هي ذاته الخط المحدب، لإن التقعير ليس هو التحديب " أ.هـ. كما ينقل في ص 47 عن الخيام قوله أن ابن الهيثم: " وغير حدود المتوازيات وفعل أشياء عجيبة كلها خارجة عن نفس الصناعة (علم الهندسة) " أ.هـ. و لكن حتى لا نذهب بعيدا، نقرأ في كتاب الرياضيات التحليلية بين القرن الثالث عشر والخامس عشر للهجرة، مركز دراسات الوحدة العربية، وفي الجزء الخامس، الحسن ابن الهيثم، وفي ص 72، 73 نقرأ ما يلي عن ابن الهيثم ".. نجد علم فلك جديد، ولكنه لا يترك مركزية الأرض، حيث تكون كل الحركات دائرية مستوية، فالأمر يتعلق بانقطاع مع علم الفلك القديم، ولكن على أرضية مع التواصل معه " ا.هـ. وهذا هو أقرب تفسير للعلوم الاسلامية، ليس في علم الفلك والرياضيات المرتبطة به فقط، بل ايضا في علم الطب كما ذكرنا من قبل.

أيمن عبد الستار

كاتب يهتم بأمور الفكر الاسلامي والعالمى، صدر له كتاب " مذكرات مسلم ليبرالي "، ويعد حاليا كتاب تحت بعنوان " الاسلام والحداثة ".

comments powered by Disqus