يحيى محمد
منذ عصر اليونان كانت الفلسفة حاضنة للعلوم الطبيعية، وكان الفلاسفة علماء في الوقت نفسه، والعلماء ان لم يكونوا فلاسفة فهم على الاقل دائرون في فلكهم، اذ العلوم آنذاك لم تكن مفصولة عن الفلسفة، بل هي (الفلسفة الدنيا) في قبال الربوبيات (الفلسفة العليا) والرياضيات (الفلسفة الوسطى). فمع أن ظهور العلوم الطبيعية كان سابقاً على الفلسفة منذ عهد البابليين فالمصريين، إلا أن الأخيرة أصبحت الحاضنة لها والأم المهيمنة عليها منذ ظهورها كإشكالية أساسية في حضارة اليونان، وحتى إمتدادها داخل الحضارة الإسلامية، لكنها لدى الأخيرة لم تكن مجرد إستنتاج وشرح لما كان، إنما اتخذت لذاتها مدرجاً مميزاً من التطور والإبداع، نتيجة لروح النقد التي حملها أصحابها كميزان لطلب المعرفة الصحيحة. لهذا ظهر الكثير من الكتب العلمية في نقد العلوم الاغريقية، كتلك التي يشير إليها إبن أبي اصيبعة في كتابه (عيون الأنباء في طبقات الأطباء)، والتي منها بعض كتب الكندي ومحمد بن زكريا الرازي والبطروجي وإبن الهيثم الذي صنّف كتاباً عنوانه (الشكوك على بطليموس) عبّر فيه عن أصالة النقد والإبداع، إذ ذكر فيه: «.. والواجب على الناظر في كتب العلوم إذا كان هدفه معرفة الحقائق أن يجعل نفسه خصماً لكل ما ينظر فيه»[1].
كما ظهر ما لا يستهان به من علوم، كعلم البيئة والرياضيات والكيمياء والجغرافيا والهندسة والميكانيكا والطب وغيرها. ويكفي أن نعرف قيمة ذلك بما كتبه الفيلسوف الكندي لوحده من علوم مختلفة، فالقائمة التي ذكرها إبن أبي اصيبعة في طبقاته تشمل عشرات العناوين لمختلف العلوم والصنعات، هي بحق جديرة بالدهشة والإعجاب، كان منها: رسالة في صنعة الاسطرلاب، رسالة في استخراج خط نصف النهار وسمت القبلة بالهندسة، رسالة في عمل الرخامة بالهندسة، رسالة في أن عمل الساعات على صفيحة تنصب على السطح الموازي للأفق خير من غيرها، كلام في المرايا التي تحرق، رسالة في الشعاعات، مسائل في مساحة الانهار، رسالة في العمل بالآلة المسماة الجامعة، رسالة في الأبخرة المُصلِحة للجو من الأوباء، رسالة في علة نفث الدم، رسالة في تدبير الأصحاء، رسالة في وجع المعدة والنقرس، رسالة في علاج الطحال الجاسي من الأمراض السوداوية، رسالة في تدبير الأطعمة، رسالة في علة كون الضباب والأسباب المحدثة له، رسالة في علة الرعد والبرق والثلج والبرد والصواعق والمطر، رسالة في الأجرام الهابطة، رسالة في استخراج آلة عملها يستخرج بها أبعاد الأجرام، رسالة في النجوم، رسالة في نعت الحجارة والجواهر ومعادنها وجيدها ورديّها وأثمانها، رسالة في تلويح الزجاج، رسالة فيما يصبغ فيعطي لوناً، رسالة في العطر وأنواعه، رسالة في المد والجزر، رسالة في الحشرات، رسالة في قلع الآثار عن الثياب، وغيرها من الرسائل الكثيرة الأخرى[2].
وكان من بين الإبداعات العلمية لعلماء العرب والمسلمين هو أنهم اكتشفوا الدورة الدموية وقوانين نقل الأجسام والأبرة المغناطيسية، كما واكتشفوا ما يقارب ألف عقار طبي، واخترعوا الساعات الدقاقة والزوالية ووضعوا أصول علم الجبر وحساب المثلثات والإحتمالات الرياضية وأسس علم الكيمياء كما وعرفوا الإستقصاء العلمي وإتّباع الطريقة الإستقرائية بصورة لم يعهد لها مثيل من قبل.
ومن بين ما تمّ التعرف عليه بالدليل كل من كروية الأرض وحركتها وجاذبيتها، كالذي أشار إلى ذلك إبن الحايك الهمداني (المتوفى سنة 334هـ) وأبو ريحان البيروني (المتوفى سنة 440هـ) في عدد من كتبه. إذ مال الأخير إلى الفرض بأن الأرض «متحركة حركة الرحى على محورها»، لكنه مع ذلك لم يعتبر المسألة قطعية، إذ رأى أن من الممكن تعليل الحركة اليومية إما بدوران السماء وسكون الأرض، أو بسكون السماء ودوران الأرض على محورها. ومال إلى الفرض الأخير، وعليه افترض أن للأرض قوة جذب مثلما للسماء، وأن هذه الجاذبية هي التي تمنع طيران الأحجار واقتلاع الأشجار بفعل الحركة المحورية. ومما قاله بهذا الصدد: إن «حال الأرض من جميع جهاتها واحدة، وكل من عليها فمنتصبون نحو العلو، والأشياء الثقيلة تقع إليها طبعاً، كما في طبعها إمساك الأشياء وحفظها». وقال: «جذب السماء للأرض من كل النواحي بالسواء»[3].
كما قُدرت مقتنيات بيت الحكمة الذي أسسه الفاطميون خلال القرن الثالث الهجري ما بين مائة وعشرين ألف ومليوني كتاب تضمها أربعون حجرة. وقيل أن الكتب المخصصة للعلوم الطبيعية وحدها تبلغ ثمانية عشر ألف كتاب. كما قيل بأن مكتبة مرصد مراغة كانت تضم أربعمائة ألف مجلد. بل روي أن محسناً واحداً في مصر قدّم مائة ألف مجلد عند إنشاء المدرسة الفاضلية، وقدّم مائة ألف مجلد أخرى عند إنشاء مستشفى قلاوون في القاهرة، كالذي أشار إليه المستشرق (توبي هف) في كتابه (فجر العلم الحديث)[4].
ومن الأهمية بمكان أن نعلم بأن النهضة العلمية الحديثة كثيراً ما يؤرخ لها في الغرب عند ثورة كوبرنيكوس الفلكية خلال القرن السادس عشر الميلادي. وكوبرنيكوس هو ذلك العالم الذي قدّم نظرية فلكية قلبت الصورة التقليدية لنظرية بطليموس السائدة آنذاك، وحوّلت الفكرة من دوران الشمس حول الأرض إلى العكس، لكن النماذج الرياضية التي اعتمدها كوبرنيكوس والتي جعلت نظريته جديدة وإنقلابية؛ تكاد تكون هي ذاتها النماذج التي اكتشفها بعض الفلكيين المسلمين قبل كوبرنيكوس بقرنين تقريباً، مثلما هو الحال مع مرصد مراغة في غرب ايران الذي ضم مجموعة من العلماء الكبار مثل الأردي ونصير الدين الطوسي وقطب الدين الشيرازي وإبن الشاطر. فقد أُعتبرت نظرية كوبرنيكوس بأنها مزدوجات من مخطط مدرسة مراغة الفلكية ونصير الدين الطوسي. واستعمل كوبرنيكوس مزدوجة الطوسي كما استعملها فلكيو مراغة، كما أن نماذجه الفلكية لخطوط الطول في كتابه (الشرح المختصر) مستمدة من نماذج إبن الشاطر، أما نماذجه الخاصة بالكواكب العليا كما في كتابه (دوران الأجرام السماوية) فهي الأخرى قد استخدمت نماذج مراغة، وأن النماذج القمرية عند كل من كوبرنيكوس ومدرسة مراغة كانت متطابقة. وقد صعق العديد من الغربيين لهذه المعلومات، إلى درجة قال بعضهم: «إن كوبرنيكوس هو أشهر أتباع مدرسة مراغة إن لم يكن آخرهم».
بل لم يعد السؤال المطروح لدى بعضهم بالصيغة التالية: هل أن كوبرنيكوس استمد نظريته الفلكية من مدرسة مراغة أم لا؟ بل تحولت هذه الصيغة إلى سؤال أكثر تخصيصاً، وهو: متى وكيف؟ فهذا ما كان يتساءل به (نويل سويردلو). إذ لم يثبت إلى الآن بأي وثيقة تبين أن كوبرنيكوس قد اطلع بشكل مباشر أو غير مباشر على جداول فلكيي مراغة والطوسي، و لا زال الأمر في طي البحث عسى أن يُكتشف ما لم يُكتشف من قبل حول سر وجود هذا التماثل وعلاقته بعلم الفلك لدى المسلمين، فالنظرية هي ذاتها دون إختلاف؛ بإستثناء فرضية مركزية الشمس لدى كوبرنيكوس[5].
وأكثر من ذلك أوضح (ارنست مودي) بأن هناك صلة بين شروح الفيلسوف العربي إبن باجة على أرسطو وبين نظرية غاليلو الخاصة بالسقوط الحر، بل نسب لإبن باجة دوراً رئيساً مكّن غاليلو من تعميم نظرية بوريدان المتعلقة بالزخم أو قوة الدفع الذاتي وتحويلها إلى نظرية عامة في ديناميات القصور الذاتي أو العطالة[6].. وهكذا لو أردنا أن نعدد مجالات السبق التاريخي للكشوف العلمية لما انتهينا.
لكن على الرغم من الوفرة العلمية التي شهدتها الحضارة الإسلامية، فإنه لم تحدث هناك طفرة معرفية في علوم الطبيعة، وذلك لأسباب عديدة أهمها: كثرة وشدة التقلبات السياسية التي بعثرت دولة الخلافة إلى دويلات متناثرة، مما كان له بالغ الأثر على شل الحياة العلمية والإقتصادية والإجتماعية، إبتداء من القرن الرابع الهجري فما بعده. كذلك فإن الإهتمام داخل الحضارة الإسلامية لم يكن نافذاً إلا تحت ضوء القراءتين الوجودية والمعيارية، الشيء الذي يعني أن العلم لم يكن الشاغل المهيمن على العقلية الإسلامية آنذاك. فالنظام الفسفي الوجودي لا يخفي حقيقة انشداده نحو أقصى التجريد العقلي، للاتصال بـ «العقل الفعال» أو الإتحاد به واستلهام الحقائق المباشرة منه، محتقراً بذلك التجربة والمادة، بإعتبار أن اللجوء إليها يمثل تراجعاً عقلياً بعد عملية الإكتمال والنضج، فالعلم الحقيقي هو ذلك الذي يتعلق بعالم الثبات، عالم الآخرة والربوبيات، لا بعالم التغير، عالم الدنيا والحسيات، لهذا فقد أعاب صدر المتألهين على إبن سينا لاشتغاله فترة بالطب مفوّتاً عليه فرصة الكشف عن العلوم الحقيقية (الربوبيات)، ومن ثم احتقر العلوم الطبيعية مقارنة بعلوم الآخرة[7]، مثلما سبقه إلى ذلك الإمام الغزالي[8].
وكذا ينطبق الحال على التصوف الوجودي، فهو الآخر يعتبر الإنسان الكامل هو ذلك الذي يعلم جميع الأشياء من علمه بذاته دون حاجة إلى الموضوع الخارجي. فكما صرح العارف القونوي بأن علم الإنسان بذاته «مستلزم لعلمه بجميع الأشياء، وأنه يعلم جميع الأشياء من علمه بذاته لأنه هو جميع الأشياء إجمالاً وتفصيلاً»[9].
والحقيقة ما كانت لتلك القراءة أن تفعل أكثر مما فعلت، فقد اقتضت الضرورة أن تلفظ العلم بعد مضغه وإمتصاصه، فهي لا تحتاج إليه كـ « شيء في ذاته»، بل لأجل بلوغ غيره من العلوم الميتافيزيقية الحقة (الربوبيات)، الشيء الذي يعني عدم وجود حاجة إلى العلم الطبيعي بعد عملية الاكتمال والنضج التي يصبح فيها العقل ذا درجة من التجريد يتمكن عبرها من الإتصال بـ «العقل المفارق» الذي يعمل كمرآة ترى فيها الدنيا والآخرة معاً، أو الطبيعة وما بعدها.
أما لدى دائرة النظام المعياري، فلا شك أنه اهتم ببعض العلوم، كعلم الحساب الذي شهد تقدماً لعلاقته الوثيقة بالإرث، أي بنظرية التكليف ذاتها، أما علوم الطبيعة، فليس هناك ما يدل على إهتمامه بها، لا كـ «شيء في ذاته»، ولا كـ «شيء من أجله»، فهو الآخر كان يعتبر العلم الحقيقي هو ذلك المنبعث من «نص الخطاب». ورغم ما ظهر من تشجيع على علم الطب إعتماداً على الأثر المروي (العلم علمان علم الأديان وعلم الأبدان)، لكنه كان يخضع لهيمنة القراءة المعيارية بالإعتماد أولاً وأخيراً على «نص الخطاب» دون اللجوء إلى فحص «الواقع»، فكانت المرويات (الطبية) تؤخذ كوصفات علاجية شكلت فيما بعد كتباً من «الخطاب الطبي»، كالطب النبوي وطب الأئمة وطب الصادق والرضا.. الخ، كما أخذت الأدعية والطلاسم والتعاويذ تلعب دورها في هذا المجال، بل أن إهمال «الواقع» والإتكال على «نص الخطاب» قد خلق حالة من «اللامبالاة» إتجاه علوم الطبيعة، وأحياناً صورة من الإزدراء والإحتقار. فكما صرح البعض بأنه لا يصح إلا علم واحد يستحق الاشتغال به دون غيره، وهو «الموروث عن النبي (ص)، وهو الذي يستحق أن يسمى علماً وما سواه إما أن يكون علماً، فلا يكون نافعاً، وإما أن لا يكون علماً وإن سُمي به، ولئن كان علماً نافعاً فلا بد أن يكون في ميراث محمد (ص)»[10]. وسبق للغزالي أن اعتبر العلوم التي ليس لها علاقة بالنقل إما أن تكون مضرة، أو لا نفع لها، كالحساب والهندسة والنجوم، مما لم يحث الشرع عليها ولم يندب إليها[11]. وجاء في كتاب (التاتارخانية) أن من بين العلوم غير المحمودة: علم النجوم، وأنه لا بأس أن تعرف به مواقيت الصلاة والقبلة، لكن ما سواه حرام. كما جاء فيه أن علم الفلسفة والهندسة هما من العلوم التي استخرجها الذين استحبوا الحياة الدنيا على الآخرة، فهما بالتالي بعيدان عن علم الآخرة. وجاء في كتاب (المدارك) بأن علم النجوم كان حقاً ثم نسخ الاشتغال بمعرفته[12].
وفي أبيات منسوبة للشافعي أنشد يقول:
كل العلـوم سـوى القرآن مشغلة إلا الحـديث وإلا الفقه في الـدين
العلـم مـا كـان فيـه قال حدثنا وما سوى ذاك وسواس الشـياطين
والحقيقة إن عامل «اللامبالاة» المتمثل بغياب عنصر «الإثارة»، سواء على نحو إيجابي كالتشجيع، أو على نحو سلبي كالصراع والنزاع، هو ما وقف خلف غياب النمو العلمي إلى الحد الذي يشكل فيه هذا النمو حضوراً مستقلاً وقائماً بذاته. فلم يتحقق العلم المستقل بعيداً عن هيمنة القراءة الوجودية التي عملت على تقييده وتحجيمه، كما وبعيداً عن سلطة القراءة المعيارية التي لم تعمل على تحفيزه وإثارته. فلو أنه كان حاضراً بذلك الحضور من الإستقلالية، لكان أثره كبيراً عند تفاعله مع نظامي الحضارة الإسلامية، لا فقط في ما سيلحقه من مسلسل «التطور في ذاته»، بل وقلباً أساسياً لحركة «الآخر» ونموه، سواء كان هذا «الآخر» وجودياً أم معيارياً، سيما - وكما يرى بعض المفكرين الغربيين - أن أهم قضية جعلت الحضارة الإسلامية لم تستمر في تقدمها هو خلوها من المؤسسات العلمية المحصنة بالقانون، فالتطور العلمي الذي حصل في البلاد الإسلامية جاء لعوامل متعددة ومتغيرة بعيداً عن الطبيعة المؤسسية التي تحافظ على الإستقلالية العلمية وتصونها من التوقف والجمود، بل وتمنع عنها الوصاية الخارجية التي تحدُّ من نشاطها وحركتها. وكان من بين العوامل المرتبطة بغياب المؤسسات العلمية المستقلة أن المسلمين حُرموا من طباعة الكتب والصحف العامة رغم أنهم تعرفوا على أساليب الطباعة الحديثة وآلاتها منذ بداية اختراعها في اوروبا خلال القرن الخامس عشر، إذ كان السلاطين الأتراك يمنعون استخدامها لدى عامة الناس، واستمر هذا الحظر حتى أوائل القرن التاسع عشر، وكان من الحجج المطروحة لتبرير المنع هو أن «اسم الله الذي يظهر في كل صفحة من صفحات الكتب الإسلامية يمكن أن يدنّس بهذه الطريقة - أي الطباعة - وخيف من أن أثمان الكتب سترخص وتقع في أيد غير أمينة». وكل ذلك قد جرى خلاف ما لدى النهضة العلمية الغربية التي تمت عبر مؤسساتها العلمية، ولو عبر النزاع الطويل مع المؤسسات الكنسية المناهضة لها[13].
إن غياب «شاغل العلم» واندماجه ضمن طاولة القراءة الوجودية والمعيارية، قد امتد أثره إلى يومنا هذا. فمنذ اصطدامنا بالحضارة الغربية أوائل القرن التاسع عشر والى يومنا هذا والعلم بما هو «عملية تأسيس» ظل غريباً وأجنبياً عن ساحة أرضنا المعرفية.
ومع هذا الغياب للعلم الطبيعي، فمن الطبيعي أن تكون دراساتنا الفلسفية محرومة من إنتاج خطاب مؤثر حول إشكالية هذا العلم. فهي إما ما تزال تقمع أي طرح يتناول قضايا العلم الحديث، كما في بعض المؤسسات التي ظلت عالقة بالقراءة الوجودية وتبعياتها من العلم القديم، وإما ناقلة للنتاج الغربي دون أن تحقق أي نوع من الخطاب المنتج.
هذا من جهة، أما من جهة أخرى فإنه يظهر لدينا طموح أحياناً لقراءة العلم مجرداً عن إشكاليته الخاصة، وذلك بإرجاعه إلى دائرة «نص الخطاب» تحت هيمنة سلطة العقل المعياري. فالكتابات الإسلامية التي تُرجع بعض النظريات العلمية إلى «نص الخطاب»، وكذا الدراسات التي تُرجع العلوم العصرية إلى أصول إسلامية، كتلك التي تفسر القرآن الكريم على ضوء تلك العلوم موهمة أنها تؤسس الأول على الثاني، إنما تقوم بتأسيس «متشابه العلم» على «متشابه النص»، فهي لم تتفهم كلاً منهما ضمن إشكاليته الخاصة، وبالتالي تصبح النتيجة بذلك مجهولة أو فارغة لكونها محصلة لضرب متشابهين معاً. في حين كان من المفروض قبل وضع عينة التفاعل بين النموذجين رسم الحدود لكل منهما على ضوء تحديد طريقة التفكير سلفاً.
هكذا ننتهي إلى أن علومنا الطبيعية لم تشكل، لا ماضياً ولا حاضراً، مرحلة الشاغل والحضور، ففي الماضي كانت تقرأ عبر إشكالية النظام الوجودي، وأحياناً من خلال النظام المعياري، وقد ظلت ولا زالت لم تبلغ مرحلة التأسيس ككائن مستقل. في الوقت الذي كانت كتبنا ومجادلاتنا دائرة في سياق علم الخلافيات (الفقه) وعلم التمذهب والآيديولوجيات (الكلام)، وما زالت آثار هذه المعايير قائمة إلى يومنا هذا.
[1] إبن أبي أصيبعة: عيون الانباء في طبقات الاطباء، شرح وتحقيق نزار رضا، دار مكتبة الحياة، ص290.
[2] عيون الأنباء في طبقات الأطباء، ص290ـ291 و298 و423. كذلك: إبن النديم: الفهرست، المطبعة الرحمانية في مصر، ص315ـ321. والقفطي: اخبار العلماء بأخبار الحكماء، نشر مكتبة المثنى في بغداد، ص370ـ372. كما لاحظ بحث أحمد الربعي في: الفلسفة العربية المعاصرة ص199.
[3] بركات محمد مراد: البيروني فيلسوفا، نشر الصدر لخدمات الطباعة، الطبعة الأولى، 1988م، ص139ـ141، عن الموقع الإلكتروني: www.4shared.com
[4] توبي هف: فجر العلم الحديث، ترجمة محمد عصفور، سلسلة عالم المعرفة (260)، الكويت، الطبعة الثانية، 1421هـ ـ2000م، ص350.
[5] فجر العلم الحديث، ص70 و72.
[6] فجر العلم الحديث، ص268.
[7] تفسير صدر المتألهين، طبعة دار التعارف، ج8، ص19.
[8] خلاصة التصانيف في التصوف، ضمن مجموعة رسائل الإمام الغزالي (2)، دار الكتب العلمية، بيروت، الطبعة الأولى، 1414هـ ـ1994م، ص106.
[9] مرآة العارفين، ص21.
[10] مجموعة الرسائل الكبرى لإبن تيمية، ج1، ص228. كذلك: نشأة الفكر الفلسفي في الإسلام، ج1، ص60.
[11] المستصفى للغزالي، ج1، ص3.
[12] صديق بن حسن القنوجي: أبجد العلوم الوشي المرقوم في بيان أحوال العلوم، تحقيق عبد الجبار زكار، دار الكتب العلمية، بيروت، 1978م، عن مكتبة الموسوعة الشاملة الإلكترونية: http://islamport.com، ج1، ص356. لكن يبدو أن تحريم بعض المنتمين إلى النظام المعياري لتعلم علم النجوم وتكفير المعتقدين به يعود بالدرجة الرئيسية إلى كونه خاضعاً لمفاهيم وإعتبارات النظام الوجودي لا غير (انظر بهذا الصدد: مرتضى الأنصاري: المكاسب، نشر مؤسسة مطبوعات ديني في قم، ص25ـ29).
[13] فجر العلم الحديث، ص241 وما بعدها.