يحيى محمد
يتحدد موقف الإخبارية بزعامة محمد أمين الإسترابادي من المنهج المتبع لدى الدائرة العقلية بعدد من المحاور، أبرزها ما يلي:
1ـ الإعتراض على الطريقة العقلية
لقد إعترض الإخباريون على مجمل الدليل العقلي الذي تمارسه الدائرة العقلية كما في الأصول والعقيدة، وعلى المترتبات التي خلفتها هذه الدائرة كما في الفروع والفقه، إلى الدرجة التي لم يتقبلوا فيها الممارسة العقلية إلا في حدود ضيقة كالبديهات. فمثلاً إعترض الإسترابادي على طرق أهل الكلام والفلسفة وغيرهم ممن يزاولون النظر العقلي للتحقيق في المسائل الميتافيزيقية، وعلى رأسها المسألة الإلهية وما يترتب عليها من المسائل الدينية الأخرى، ورأى «أن سبب أغلاط الحكماء والمتكلمين وتحيراتهما في العلوم التي مباديها بعيدة عن الإحساس؛ إما الغلط في مادة من المواد، وإما التردد فيها، وإما الغفلة عن بعض الإحتمالات، ومن المعلوم أن المنطق غير عاصم عن شيء منها»[1]. لذا اعتقد أنه لا مجال للإستدلال بالأدلة العقلية على إثبات المسألة الدينية. فعوضاً عن الدليل العقلي رأى أن علاج هذه المسألة يتحقق بما وصلنا من الأخبار المتواترة عن أئمة أهل البيت، وفيها يتضح أن المعرفة المطلوبة لإثبات هذه المسألة هي معرفة وهبية غير كسبية، وذلك على الضد مما يقوله أصحاب الدائرة العقلية. فبرأيه أن هذه الأخبار تبين بأن معرفة الله تعالى من حيث كونه خالق العالم وأن له رضاً وسخطاً وأنه لا بد من معلم يعيّنه ويبعثه ليعلّم الخلق ما يرضيه ويسخطه، إنما كل ذلك من الأمور الفطرية التي تجري في القلوب بإلهام قطعي إلهي، أي أن الله قد ألهم خلقه بدلالات واضحة على مثل هذه القضايا الأساسية، قبل بلوغ الخطاب الديني إليهم.
وقد إعترض الإسترابادي على العقليين الذين اعتبروا التكليف والوجوب حاضراً قبل بلوغ الخطاب الديني، مذكراً بأن التكليف لا يكون إلا بعد هذا البلوغ، وقبل ذلك تكون المعرفة بالله والقضايا الأخرى إلهامية وممهدة لمرحلة التكليف عند تلقي الخطاب. واستدل على قوله هذا بما أشار إليه من تواتر الأخبار عن الأئمة الدالة بأن على الله التعريف والبيان، إذ يُلهم الناس أول الأمر بالقضايا الإلهية الواضحة، وبعد ذلك يبلغهم دعوة النبي والدلالة على صدقه، وعندها يتوجب الإقراروالإعتراف قلباً ولساناً بالشهادتين، فتكون الشهادتان أول الواجبات، ومن ثم تترتب عليهما سائر الواجبات الأخرى. مما يعني أن من لم يصادف هذه الأمور، سواء كان من أهل الفترة أو لمانع ما، فإنه لا تكليف عليه في الدنيا، بل يجري تكليفه في الآخرة؛ ليهلك من هلك عن بينة ويحيا من حيا عن بينة[2]. واستشهد الإسترابادي على ذلك بما روي عن الإمام الصادق قوله بأن الله احتج على العباد بما آتاهم وعرفهم ثم أرسل إليهم الرسول وأنزل عليهم الكتاب وأمر فيه ونهى[3].
وواضح من هذه الطريقة أنها تستلزم الدور، فحجية أخبار الأئمة مشروطة بتفويض الكتاب أو السنة وقبولهما، وأن حجية هذين المصدرين متوقفة على العلم بالمسألة الإلهية ومترتباتها، وأن العلم بهذه المسألة إذا كان مأخوذاً عن الأخبار المتواترة للأئمة، كالذي استدل به الإسترابادي، فإن ذلك يعود بنا إلى الدور من جديد.
ومن إعتراضات الإخباريين على الدليل العقلي إعتبارهم أن هذا الدليل يفضي إلى الإختلاف والأوهام دون أن تتحصل منه نتيجة يُتفق عليها. فالدليل العقلي بنظرهم قابل للنقض والإبرام، لإختلاف العقول في الإستعداد قوة وضعفاً[4]. كما أن الدليل العقلي عندهم يدعو للإستغناء عن الخطاب الديني أو تركه بدعوى أنه يعارض ما عليه العقل. وهي التهمة التي اتهموا بها أتباع الدائرة العقلية. ومن ذلك أن الشيخ البحراني اتهم أكثر أصحابه من الإمامية بأنهم يعتمدون على الأدلة العقلية في الأصول والفروع ويرجحونها على الأدلة النقلية، ووصفهم بأنهم لا يترددون في ترجيح الدليل العقلي على النقلي عند التعارض، مع تأويل الثاني بما يرجع إليه وإلا طرحوه بالكلية، وهم يفعلون ذلك في أصول كل من الدين والفقه[5].
كما اتهم نعمة الله الجزائري الأكثرية من علماء المذهب بأنهم اتبعوا جماعة من المخالفين من أهل الرأي والقياس ومن أهل الطبيعة والفلاسفة وغيرهم من الذين اعتمدوا على العقول وإستدلالاتها، فطرحوا النصوص أو تأولوها إعتماداً على الدليل العقلي. ووصفهم بأنهم في مسائل الأصول يذهبون إلى أشياء كثيرة قد قامت الدلائل النقلية على خلافها، لوجود ما تخيلوا أنه دليل عقلي، كقولهم بنفي الإحباط في العمل، ونفي سهو النبي في الصلاة، تعويلاً على المقدمات العقلية التي لا تفيد ظناً ولا علماً[6].
2ـ الإعتراض على الإجتهاد العقلي في الفقه
إذا كان الغالب في صراع البيان مع العقل لدى إبن تيمية يدور حول علم الكلام والعقائد؛ فإن الغالب في الصراع لدى الإسترابادي وأتباعه قد اتخذ منحى آخر هو ذلك المتعلق بالفقه والفروع. فأغلب العلماء هم فقهاء وليسوا متكلمين، والمتكلمون منهم هم فقهاء أيضاً، والعكس ليس صحيحاً، ولمّا تقرر لدى العلماء الأصوليين من الشيعة أن العقل هو أصل رابع لمصادر التشريع، وأن السجال الداخلي الذي دار في الساحة الشيعية هو سجال الفقه أكثر منه سجال الكلام والعقائد، وأن الإجتهاد المعتمد على بعض العناصر العقلية كان ممارساً ومقبولاً لدى الغالبية من الفقهاء، فكل ذلك جعل من الإسترابادي وأتباعه يرون أن مشكلتهم الأساسية هي مع العقل في الفقه لا الكلام.
وأول تهمة يوجهها الإخباريون للفقهاء الأصوليين هو أنهم في كتبهم العلمية يبدأون بالإستدلال بالدليل العقلي، وبعدها ينقلون الدليل السمعي مؤيداً له، فيكون المدار هو العقل لا النقل. لذا قدّم أكثرهم العمل بالبراءة الأصلية والإستصحاب ونحوهما من الأدلة العقلية على الأخبار الضعيفة والموثقة بإصطلاحهم. واستشهد الشيخ البحراني على ذلك بما نقله المحقق الحلي عن الشريف المرتضى حول إثبات جواز إزالة الخبث بالمائع، فقال الحلي: «أما علم الهدى (المرتضى) فإنه ذكر في (الخلاف) أنه إنما أضاف ذلك إلى المذهب لأن من أصولنا العمل بدليل العقل ما لم يثبت النقل، وليس في الأدلة النقلية ما يمنع من إستعمال المائعات في الإزالة ولا ما يوجبها، ونحن نعلم أنه لا فرق بين الماء والخل في الإزالة بل ربما كان غير الماء أبلغ، فحكمنا حينئذ بدليل العقل»[7]. مع أن هذه الأدلة لدى الإخبارية غير منضبطة والحق في خلافها، فقد دلّت الأخبار عن الأئمة على وجوب البناء في الأحكام الشرعية على العلم واليقين، ومع عدمه فالوقوف على جادة الإحتياط [8]. فالأحكام الفقهية من عبادات وغيرها كلها توقيفية تحتاج إلى السماع عن الأئمة، وقد دلّت الأخبار بنظرهم على النهي عن القول في الأحكام الشرعية بغير سماع منهم، ووجوب الرد إليهم والتوقف والإحتياط عند عدم تيسر طريق العلم. وكل ذلك يدل عندهم على قصور العقل عن أن يلج أغوارها، بل لو تم للعقل الاستقلال بذلك لبطل إرسال الرسل وإنزال الكتب[9].
على أن تحديد العقل لدى الفقهاء القدماء من الإمامية الأصوليين كثيراً ما يتخذ معنى البراءة والإستصحاب، ومنهم من اعتبر البراءة حالة من الإستصحاب، فالحالة الأصلية براءة الذمة قبل الشرع، ومنها يستصحب هذا الحكم وسموه بإستصحاب الحال واعتبروه دليلاً عقلياً على البراءة والحلية[10]، ومنه ظهر الخلاف بين الأصوليين والإخباريين حول تثنية الأحكام وتثليثها.
فقد ذهب الإسترابادي وغيره من الإخباريين إلى أنه لا تكليف قبل ورود الشرع، مما يعني الحكم بالبراءة. لكن هذا الحكم لم يأت عبر الدليل العقلي كالذي ذهب إليه غيرهم من الأصوليين، كما أنهم لا يأخذون بالتكاليف العقلية السابقة للتكليف الديني كالكلاميين، ومنها التكاليف القائمة على الحسن والقبح. وقد سبق للاسترابادي أن أيّد بدر الدين الزركشي - وهو من الأشاعرة - في إعتقاده بأن الحسن والقبح ذاتيان لكن لا يترتب عليهما الحلال والحرام من الأحكام الدينية، بل هي أمور موقوفة على الشرع والخطاب الديني[11]. ورأى أن المصدر المعوّل عليه في معرفة هذه الأمور مأخوذ من الأخبار المروية عن الأئمة، ومن ذلك أنه استدل على نفي التكليف قبل ورود الشرع بوجود الروايات الصريحة بأن كل شيء مطلق حتى يرد فيه نهي، وبأن ما حجب علمه عن العباد فهو موضوع عنهم[12]. أما بعد ورود الشرع فالأمر مختلف، فبرأيه أن الأئمة قرروا بأنه لا براءة من حيث الأحكام، لنصّ الشرع على وجوب التوقف عن الحكم عند اليأس من التوصل إلى معرفته من منابعه الأصلية. لكن بخصوص الموضوعات التي لا علاقة لها بالأحكام الشرعية فقد اعتبر أن فيها تفصيلاً مستمداً من الشرع، فتارة يتوجب البناء على العدم أو البراءة، وأخرى على الإحتياط[13].
على ذلك اتهم الإخباريون الفقهاء الأصوليين بأنهم عولوا على العقل في مجال التشريع فانتهوا إلى أن الأحكام منقسمة بحسب التثنية لا التثليث، فهي إما حرام بيّن أو حلال بيّن، دون أن يعولوا على الوقف والعمل بالإحتياط عند عدم معرفة الحكم الشرعي. ورأى الإخباريون بأن صفة الأحكام هي على التثليث، استناداً إلى عدد من الروايات والأخبار الدالة على كون الأحكام هي: حرام بيّن وحلال بيّن وشبهات بين ذلك[14]. ومع أن هناك أخباراً أخرى تعارض تلك التي تدل على تثليث الأحكام، إلا أن الإخباريين قيدوا بعضها، كما أوضحوا ضعف دلالة البعض الآخر[15]. وبرأي بعضهم أن من الأصوليين القدماء من وافق الإخبارية على التثليث، كالمحقق الحلي والشيخ الطوسي وما نقله عن استاذه الشيخ المفيد[16]. وواقع الحال أن هذه النسبة غير صحيحة، فما ذكره الطوسي في (عدة الأصول) وكذا المفيد في (شرح عقائد الصدوق) إنما هو الوقف في حالة الحكم العقلي قبل التشريع، أما بعده فالحكم عندهما البراءة والحلية، كما عرفنا من قبل[17].
والأساس الذي يعتمد عليه الأصوليون في تثنية الأحكام هو القاعدة العقلية التي تفيد بأن عدم وجود الدليل هو دليل العدم، خلافاً للقاعدة المنطقية التي تقول: أن عدم وجدان الشيء لا يدل على نفيه، وهذا ما كان يشير إليه المحقق الحلي بقوله: «أن يقال: عدم الدليل على كذا فيجب انتفاؤه، وهذا يتضح فيما أنه يعلم أنه لو كان هناك دليل لظفر به، أما لا مع ذلك فإنه يجب التوقف ولا يكون ذلك الإستدلال حجة ومنه القول بالإباحة لعدم دليل الوجوب والحظر»[18].
أما الإخباريون فإنهم يمنعون الأخذ بالدليل العقلي ويكتفون بما تشير إليه الروايات والأخبار، ومن ذلك أن الشيخ يوسف البحراني أشار إلى وجود التواتر على دلالة الوقف حين عدم وجدان الدليل[19]. وهذا يفيد التفصيل، لأنه يعتبر البراءة على قسمين: الأول موضع اتفاق الجميع، إذ تعني فيه نفي الوجوب في فعل وجودي إلى أن يثبت دليله، بمعنى أن الأصل عدم الوجوب حتى يقوم عليه دليل. ففي هذا القسم لم يذهب أحد إلى أصالة الوجوب؛ لاستلزام ذلك تكليف ما لا يطاق. أما القسم الثاني فهو عبارة عن نفي التحريم في فعل وجودي إلى أن يثبت دليله، والأصل في ذلك عند الأصوليين الإباحة وعدم التحريم، وهو ما يطلق عليه البراءة الأصلية حسب دليلها العقلي، أما الأصل عند الإخباريين فهو التوقف والعمل بالإحتياط[20]. وطبقاً لهذا التقسيم حاول البحراني أن يفسر الأخبار الدالة على البراءة من خلال تقييد دلالة بعضها بالقسم الأول وتضعيف دلالة البعض الآخر، ومن ذلك قول الإمام الصادق (ع): «كل شيء مطلق حتى يرد فيه نهي»، إذ اعتبر البحراني أن النهي وارد حول القول بغير علم في الأحكام الشرعية وارتكاب الشبهات، مع حصول العلم بالعمل والإحتياط في بعض موارد النزاع والتوقف في الآخر، وبالتالي عدّ مضمون هذا الخبر وأمثاله خاصاً بما قبل إكمال الشريعة أو بمن لم يبلغه النهي العام المعارض لهذه الأخبار[21]. والحديث المذكور هو من الأخبار المرسلة التي لا سند لها، وكثيراً ما يعتمد عليه الأصوليون[22].
والحال ذاته ينطبق على الإستصحاب وغيره من الأصول العملية، ومن حالاته الخاصة أن يستصحب الحكم الشرعي في موضوع طرأت فيه حالة جديدة لم يعلم شمول الحكم الشرعي لها، كما لو دخل متيمم في الصلاة ثم وجد ماء في أثنائها؛ هل يستصحب ويستمر على فعلها، أم أنه يستأنف ذلك بالإعادة؟ وقد قال جملة من الأصوليين بحجية هذا النوع من الإستصحاب، بحسب الدلالة العقلية، في حين ذهب أغلب المحدثين وجملة من الأصوليين إلى عدم حجيته، ومن هؤلاء المفيد والمرتضى والمحقق الحلي والشيخ حسن العاملي وغيرهم[23].
وقد نقد الإسترابادي جماعة من المتأخرين حول ذلك، وكما قال أن كثيراً منهم زعموا بأن قول الأئمة (ع): «لا تنقض اليقين بشك أبداً، وإنما تنقضه بيقين آخر» جار في نفس أحكام الله تعالى، في حين أنه برأي الإسترابادي مخصوص بأفعال الإنسان وأحواله وأشباههما من الوقائع المخصوصة، ومن جملة ذلك أن بعض العلماء المتأخرين توهم في قول الأئمة: «كل شيء طاهر حتى تستيقن أنه قذر» بأنه يعم صورة الجهل بحكم الله تعالى، فإذا لم نعلم أن نطفة الغنم طاهرة أو نجسة نحكم بطهارتها، وعلى رأي الإسترابادي أن مراد الأئمة هو أن كل صنف فيه طاهر وفيه نجس، كالدم والبول واللحم والماء واللبن والجبن مما لم يميز الأئمة (ع) بين فرديه بعلامة، فهو طاهر حتى تعلم أنه نجس، وكذلك كل صنف فيه حلال وحرام مما لم يميز الأئمة بين فرديه بعلامة فهو حلال حتى تعرف الحرام بعينه[24]. ومن ذلك أيضاً ما روي عن الإمام الصادق أنه قال: «كل شيء يكون فيه حرام وحلال فهو لك حلال أبداً حتى تعرف الحرام منه بعينه فتدعه». وبحسب وجهة النظر هذه أن الإمام «أراد بذلك الشيء المعين الذي قد يكون هو بعينه حراماً لعارض كالطير المأكول اللحم فإن مذبوحه حلال وميتته حرام، لا كالطير المطلق فإن منه ما هو حلال ومنه ما هو حرام، فلا يحل الحرام منه لعدم العلم بحرمته»[25].
وللشيخ البحراني محاولة لتخفيف النزاع بين فريقي الإخبارية والأصولية. إذ علّق على ما ذكره العلماء من أن هناك وجوهاً كثيرة للفوارق بين الإتجاهين[26]، معتبراً أن أغلبها أو جميعها لا يثمر فرقاً في المقام عند التأمل، وذكر أن من أظهر ما اعتمدوه فرقاً في المقام هو كون الأدلة عند المجتهدين أربعة، وهي الكتاب والسنة والإجماع ودليل العقل المتمثل بالبراءة الأصلية والإستصحاب. في حين أنها عند الإخباريين عبارة عن الكتاب والسنة فقط. واعتبر البحراني أن هذا الفارق فيه نظر، ذلك أن الإجماع المذكور لا يعتمد عليه لدى المجتهدين الأصوليين من الناحية التطبيقية، ففي الكتب الإستدلالية يناقشون في ثبوته وحصوله وينازعون في تحققه ووجود مدلوله حتى يضمحل أثره كلية. وأما دليل العقل فبرأي البحراني أن الخلاف في حجيته بين المجتهدين الأصوليين وارد، وأن منهم من قام بمنعه، وقد فصّل المحقق الحلي في أول كتاب (المعتبر) والمحقق الشيخ حسن في كتاب (معالم الدين) وغيرهما الكلام في البراءة الأصلية والإستصحاب على وجه يدفع تمسك الخصم به في هذا الباب. كما أن من الفروق المذكورة هو أن الأشياء عند الإخباريين على التثليث، حرام بيّن وحلال بيّن وشبهات بين ذلك، وأما عند المجتهدين فالأشياء محددة بحسب الأولين فقط. واعتبر البحراني أن في هذا الوجه نظراً أيضاً، ذلك أن الشيخ الطوسي في (عدة الأصول) وقبله الشيخ المفيد كانا قد ذهبا إلى التثليث مثلما كان عليه قدماء الإخبارية ونقلوه عنهم مع أنهما من أساطين المجتهدين الأصوليين.
لكننا عرفنا بأن النسبة المذكورة إليهما خطأ، فهما قالا بالوقف في الأحكام العقلية قبل التشريع، أما بعد التشريع فقد ذهبا إلى الحلية والبراءة الأصلية، وبالتالي فهما من أصحاب التثنية لا التثليث.
كما ذكر البحراني من أن الشيخ الصدوق وهو من الإخباريين القدماء صرح في كتاب (الإعتقادات) وكتاب (من لا يحضره الفقيه) بالتثنية كما عليه المجتهدون، فالأشياء عنده إما حلال أو حرام كما هو معتقد المجتهدين، مع أنه يعد لدى البحراني رئيس الإخباريين. كما أن من الفوارق المذكورة هو أن الإستدلال بالكتاب والسنة هو من خاصة الإخباريين فقط، مع أن الخلاف حوله واقع بينهم، فمنهم المحدث الإسترابادي الذي صرح في (الفوائد المدنية) بعدم جواز العمل بشيء من ذلك إلا ما ورد تفسيره عن الأئمة، في حين اقتصر آخرون على العمل بمحكماته «وتعدى آخرون حتى كادوا أن يشاركوا الأئمة في تأويل متشابهاته»[27].
والملاحظ أن مفهوم العقل كما حدده البحراني في الخلاف بين الأصوليين والإخباريين لا يتعدى حدود البراءة العقلية والإستصحاب وما إليهما من أصول عملية. مع أن الأصوليين يختلفون عادة فيما يراد من الدليل العقلي، وعادة ما يُلحقون بذلك قضايا الحسن والقبح، لكن القدماء ركزوا على أصالة البراءة والإستصحاب لإرتباطهما المباشر بالأحكام الشرعية وعلاقتها بالتثنية والتثليث. وظهر هناك موقف وسط استلهمه الفيض الكاشاني ومن قبله الشيخ حسن زين الدين العاملي، ومن ثم جاء الأصوليون وسلموا به منذ وحيد الدين البهبهاني (المتوفى سنة 1206هـ) إلى يومنا هذا، وذلك بعد الإلتفات إلى أن البراءة وغيرها من الأصول العقلية لا تحدد الحكم الشرعي ولا تكشف عنه بقطع أو بظن، بل ما يستفاد منها هو تحديد الوظيفة التي يمارسها المكلَّف إتجاه متعلقات الحكم الشرعي حين عدم وجدان الدليل[28]. وفي جميع الأحوال عُدت مثل هذه القضايا داخلة ضمن ما يُطلق عليه الأصول العملية، وذلك أثر الصراع الأصولي الإخباري.
على ذلك فقد حقق الإخباريون انتصارهم على الأصوليين في منع أن يكون العقل كاشفاً عن الحكم الشرعي، وظل الخلاف بينهما يدور حول الوظيفة العملية، فالمشهور لدى الإخباريين في القضايا المشكوكة هو العمل بالإحتياط، في حين أن الأصوليين يعملون بالبراءة والإستصحاب.
مع ذلك يلاحظ أن الإسترابادي اضطر أحياناً إلى العمل بالإستصحاب خلاف مبناه العام. ففي بعض تعليقاته عمل بهذا المبدأ واعتبره صحيحاً بدونه يقع الحرج والحيرة[29]. كذلك أن الشيخ البحراني اضطر أحياناً إلى أن يعمل خلاف ظاهر النص، فقد جاء في الخبر ما نصه: «ينظران - المتخاصمان - من كان منكم ممن روى حديثنا ونظر في حلانا وحرامنا وعرف أحكامنا فليرضوا به حكماً»[30]، لكن البحراني اعترف بأن ظاهر النص يفيد العموم في العلم بالروايات والنظر ومعرفة الأحكام كلها، إلا أنه رأى الاطلاع على جميع الاخبار ومعرفة جميع الأحكام في الأزمان المتأخرة؛ هو من العسر والصعوبة بمكان، لذا استوحى أن يكون المراد خلاف الظاهر، وهو معرفة ما تيسر من ذلك بحسب الإمكان. وبهذا التبرير إستطاع أن يردّ على المحقق محمد باقر السبزواري صاحب (كفاية الأحكام) الذي ذهب إلى ظهور دلالة العموم في الخبر المشار إليه[31].
3ـ مشكلة القطع والظن
مما يعيبه الإخباريون على العاملين بالدليل العقلي، هو أن نتائجهم لا تفيد العلم ولا الإطمئنان، وذلك لقصور الدليل العقلي وكونه يفضي إلى جملة من التعارضات والتناقضات، وكون النتائج المترتبة على هذا الدليل تتجاوز الموضع الذي تعبدنا به الشرع، وهو ضرورة أن تكون الأحكام قطعية أو مما تدخل ضمن حيز الإطمئنان، لوجود النهي عن العمل بالظن في شرع الله.
وعلى رأي الإسترابادي أنه لا بد من تحصيل القطع بالحكم الشرعي دون الظن، نافياً أن يكون للظن مكان في مذهب الإمامية لوجود القرائن والعلامات القاطعة والأحكام الشاملة حتى يوم القيامة[32]. ويكفي عنده أن يكون القطع أو اليقين المتحقق في الحكم الشرعي قطعاً ويقيناً عادياً لا منطقي. وهو بذلك يعترض على طريقة الإجتهاد الأصولية الداعية إلى الظن، سيما وأنها على رأيه متأثرة بالدلالات العقلية. وفي القبال نفى أن تكون طريقة الإخبارية مورداً للإختلاف كالذي عليه طريقة الإجتهاد الأصولية، وزعم بأن جميع الإخباريين متفقون على الأحكام لعلمهم القاطع بصدورها عن الأئمة المعصومين، وما يعود إليهم من خلافات يسيرة ينحصر فقط بعدم التمييز بين ما هو تقية أو غير تقية، لكن الأئمة أجازوا العمل بذلك حتى لو كان تقية يخالف حقيقة الحكم الإلهي.
بيد أن هذا الموقف للاسترابادي لقي معارضة حتى من قبل بعض الإخباريين كالفيض الكاشاني والشيخ البحراني والميرزا حسين النوري. فقد إعترض الأخير على الإسترابادي لكونه جعل أحاديث الكليني قطعية، واعتبر أن القرائن التي قدمها لمدعاه لا تنهض[33]. أما الشيخان الأولان فهما قائلان بالإجتهاد والظن لعدم إمكان تحصيل العلم القاطع الذي يدعيه ذلك المحدث. وقد عد الشيخ البحراني ما يقارب عشر مسائل اختلف الحكم فيها بين الإخباريين القدماء؛ لإختلاف الفهم لمعاني الأخبار وتعيين ما هو المراد منها خارج نطاق التقية، فأدلّ بذلك على خطأ ما إدّعاه المحدث الإسترابادي من تحصيل العلم القاطع ونفي الإختلاف بين الإخباريين[34]. كما أشار إلى عدد من المشاكل، منها أن القواعد التي وضعها الأئمة كمقاييس للتعامل مع الأخبار المتنافية - كالعرض على الكتاب والمجمع عليه والأخذ بما خالف العامة.. الخ - لا تنفع إلا ضمن حدود ضيقة، وأيّد ما اعترف به الكليني في ديباجة كتابه (الكافي) الذي لجأ إلى قاعدة التخيير في العمل بالأخبار المتعارضة[35]، في حين خالفه الإسترابادي وعمل بالإحتياط[36].
كما سبق للكاشاني أن أكّد على المعنى المتعلق بفقدان القرائن الدالة على العلم القاطع، فعوّل على الظنون المعتبرة. وما لم يصلنا علمه من الأحكام الشرعية فقد فرض فيه التوقف والإحتياط مع الإمكان أو التخيير[37]. وفي محل آخر إلتزم بالإحتياط لدى المتشابه في الحكم والتخيير عند التعارض، وإن كان الأولى عنده التوقف والإحتياط مع الإمكان[38]، وهو لا ينافي ما صرح به من البراءة العملية لكل ما لم يثبت شرعاً وما لم يصلنا تكليفه. وعلى الرغم من أنه لم يعوّل على طريقة المجتهدين الداعية إلى بعض الدلالات العقلية؛ فإن مضمون طريقته لا تتجاوز الإجتهاد والتسليم بإنسداد العلم القاطع.
وواقع الحال هناك أمور عديدة جعلت تحصيل القطع بغالبية الأحكام الشرعية غير ممكن؛ أهمها كثرة التعارض بين الأخبار، والتي اعتاد علماء المذهب أن ينسبوها إلى أمور عدة إعتماداً على ما جاء في الروايات، كمبدأ التقية لحفظ حياة الأئمة وأصحابهم، وكون الأئمة تقصدوا بثّ الخلاف بين الأصحاب حقناً لدمائهم[39]، ولأن كلام الأئمة يسع لمعاني كثيرة، وأن فيه طبقات من الباطن فيبدو بعضه على خلاف البعض الآخر، حيث يجيبون بأجوبة مختلفة تحتاج إلى نوع من التوجيه[40]، والعديد من الأخبار تؤكد بأن في كلام الأئمة سبعين وجهاً ممكناً[41]، هذا بالإضافة إلى وجود الدس والكذب والتزوير... الخ[42]. ناهيك عن أن بُعدنا عن زمن التشريع جعلنا نجهل مناسبة الحديث وظروفه الخاصة، ومن ذلك ما أشار إليه الشيخ الطوسي من وجود الكثير من الروايات الموهمة باللامعقول لعدم كون السامع سمع الحديث عن المعصوم منذ البداية[43].
ومن حيث الواقع فإن كلاً من الأصوليين والإخباريين يعملون بالظن وإن رأى الأخيرون أنفسهم قاطعين. وبالتالي لا إختلاف بين الطرفين - في هذه الناحية - كما أكّد عليه البحراني الذي اعترف بأنه لا يمكن تجاهل وجود الإحتمال الضعيف مقابل الظن القوي؛ حتى بالنسبة لإثبات النبوات والتوحيد وجميع المسائل الأخرى. ومع ذلك فقد استظهر بأن النهي عن الإجتهاد والظن؛ هو ذلك المتعلق بالآراء الذاتية والأهواء والقياسات والإستحسانات وكل ما خرج عن دليل الكتاب والسنة[44]. الأمر الذي يتفق عليه الأصوليون، إذ عملوا بالظن المعتبر العائد إلى العلم بالكتاب والسنة. وهم بذلك يخضعون لسلطة البيان، وأن إستخدامهم للعقل وأدلته أحياناً لم يغيّر من مسارهم شيئاً، وهو أنهم من أصحاب البيان، وإن لم يكن هذا البيان خالصاً كما يتصف به نظراؤهم الإخباريون.
[1] الفوائد المدنية، ص266.
[2] المصدر السابق، ص202.
[3] المصدر السابق، ص227ـ228.
[4] الحدائق الناضرة، مكتبة يعسوب الدين الإلكترونية، ج1، ص124.
[5] الحدائق الناضرة، ج1، ص125.
[6] نفس المصدر السابق، ج1، ص126ـ127.
[7] المصدر السابق، ج1، ص125ـ126.
[8] المصدر السابق، ج1، ص124.
[9] المصدر السابق، ج1، ص131.
[10] بحوث في علم الأصول، ج5، ص10.
[11] الفوائد المدنية، ص138 و162.
[12] الفوائد المدنية، ص241.
[13] نفس المصدر السابق، ص167.
[14] من هذه الأخبار ما جاء عن الإمام علي (ع) أنه قال: إن الله حدّ حدوداً فلا تعتدوها وفرض فرايض فلا تنقصوها وسكت عن أشياء لم يسكت عنها نسياناً فلا تتكلفوها رحمة من الله لكم فاقيلوها. ثم قال: حلال بيّن وحرام بيّن وشبهات بين ذلك، فمن ترك ما اشتبه عليه من الاثم فهو لما استبان اترك، والمعاصي حمى الله فمن رتع حولها يوشك أن يدخلها. وفي حديث آخر عن الرسول (ص) أنه قال: الأمور ثلاثة: أمر تبين لك رشده فاتبعه، وامر تبين لك غيه فاجتنبه، وامر اختلف فيه فرده إلى الله. وفي حديث آخر عنه (ص) أنه قال: الأمور ثلاثة: حلال بيّن وحرام بيّن وشبهات بين ذلك، فمن ترك الشبهات نجى من المحرمات، ومن أخذ بالشبهات ارتكب المحرمات وهلك من حيث لا يعلم.. ثم قال: فإن الوقوف عند الشبهات خير من الاقتحام في المهلكات (يوسف البحراني: الدرر النجفية، مؤسسة آل البيت لاحياء التراث، ص28ـ29).
[15] الدرر النجفية، ص27.
[16] الحدائق الناضرة، ج1، ص44.
[17] لاحظ: عدة الأصول، ص296. والمفيد: شرح عقائد الصدوق، ص244، او: تصحيح الإعتقاد، ضمن سلسلة مؤلفات الشيخ المفيد (5)، ص143.
[18] نجم الدين الحلي: المعتبر في شرح المختصر، مكتبة يعسوب الدين الإلكترونية، ص6ـ7. وكذا في الحدائق الناضرة، ج1، ص45. والفيض الكاشاني: الأصول الأصيلة، تصحيح وتعليق مير جلال الدين الحسيني، سازمان چاب دانشگاه، ايران، 1390هـ، ص18.
[19] الحدائق الناضرة، ج1، ص49.
[20] الدرر النجفية، ص25.
[21] الحدائق الناضرة، ج1، ص49ـ50. والدرر النجفية، ص26.
[22] الحر العاملي: الفوائد الطوسية، المطبعة العلمية، قم، 1403هـ، ص205.
[23] الدرر النجفية، ص34.
[24] الأصول الأصيلة، ص70.
[25] الأصول الأصيلة، ص74ـ75. وانظر أيضاً: الفوائد الطوسية، ص211.
[26] حيث نقل عن شيخه المحدث عبد الله بن صالح البحراني أنه انهى الفوارق إلى ثلاثة وأربعين فرقاً (الحدائق الناضرة، ج1، ص167). وهناك من اعتبر الخلاف أكثر من ذلك كما هو الحال مع محمد بن فرج الله الدزفولي الذي ذكر في (فاروق الحق) أن الخلاف يصل إلى ست وثمانين مسألة (اغا بزرك الطهراني: الذريعة إلى تصانيف الشيعة، دار الاضواء، بيروت، 1403هـ ـ1983م، الطبعة الثالثة، 1403هـ ـ1983م، ج16، ص95).
[27] الحدائق الناضرة، ج1، ص167ـ169.
[28] بحوث في علم الأصول، ج5، ص10ـ11. والأصول الأصيلة، ص19ـ20.
[29] الدرر النجفية، ص37.
[30] وسائل الشيعة، ج18، ص99.
[31] الدرر النجفية، ص47ـ48.
[32] الفوائد المدنية، ص48.
[33] حسين الطبرسي النوري: خاتمة مستدرك وسائل الشيعة، تحقيق مؤسسة آل البيت لاحياء التراث، مكتبة يعسوب الدين الإلكترونية، ج3، ص470.
[34] الدرر النجفية، ص88ـ91.
[35] نص ما قاله الكليني هو: «.. لا نجد شيئاً احوط ولا اوسع من رد علم ذلك كله إلى العالم (ع) وقبول ما وسع من الأمر فيه بقوله (ع): (بأيّما اخذتم من باب التسليم وسعكم)». وهذا النص جلي على أن مراد الكليني هو العمل بالتخيير في مطلق الأخبار المتعارضة التي لا حل لها. لكن ما فهمه الإسترابادي خلاف ذلك - كما نبه عليه البحراني - حيث ظن أنه يريد التخيير بقضايا العبادات فقط، أما غيرها فظن أنه اعتبرها مما يجب فيه الارجاء والتوقف عند عدم ظهور شيء من المرجحات. ويبدو أنه اضطر إلى مثل هذا التوجيه ليوحي بأن طريقة المحدثين عارية من الإختلاف والإجتهاد (لاحظ حول ذلك: الفوائد المدنية، ص273. والدرر النجفية، ص59ـ60).
[36] الدرر المجفية، ص59ـ60.
[37] الأصول الأصيلة، ص153.
[38] لاحظ: الكاشاني: رسالة الحق المبين، وهي ملحقة خلف كتاب (الأصول الأصيلة) ص11. وتسهيل السبيل بالحجة في انتخاب كشف المحجة لثمرة المهجة، تحقيق مؤسسة آل البيت لاحياء التراث ـ مؤسسة البحوث والتحقيقات الثقافية، طهران، الطبعة الأولى، 1407هـ، ص24.
[39] الدرر النجفية، ص165 وما بعدها. والحدائق الناضرة، ج1، ص5ـ6. وفرائد الأصول، ج2، ص809. والأصول من الكافي، ج1، باب إختلاف الحديث، حديث 5.
[40] فرائد الأصول، ج1، ص115.
[41] لاحظ الدرر النجفية، ص87ـ88. والأصول الأصيلة، ص17ـ18.
[42] أنظر حول ما سبق كتابنا: مشكلة الحديث، الفصل الرابع من الكتاب الثاني.
[43] عدة الأصول، ج1، ص284ـ285.
[44] الدرر النجفية، ص63 و91.