يحيى محمد
معلوم أن تاريخ الفلسفة يتميّز بالحجاج العقلي، فهو العنصر الثابت تقريباً في مسار الممارسة الفلسفية، مع الاعتراف - غالباً - بوجود قضايا أولية واضحة البداهة تُعدّ أساساً ومنطلقاً لكل معرفة. وقد اقترنت هذه الممارسة في أحيان كثيرة بعنصر آخر هو الذوق الصوفي، الذي يُعبّر عن كشفٍ ذاتيّ خاص، كما تعبّر القضايا البديهية عن كشفٍ عام. بل ان البعض اعتبر القضايا البديهية نابعة عن الذوق الصوفي ذاته.
وعادة ما يُستشهد بالطريقة الافلاطونية للدلالة على الذوق الصوفي، في مقابل الطريقة الأرسطية التي تعبّر عن الاستدلال العقلي المحض. وتبرز هذه الثنائية بشكل جليّ عند أفلوطين الذي جمع بين الطريقتين، مما ترك أثراً واضحاً في الفلسفة الإسلامية، وبلغ ذروته المعلنة في المدرسة الإشراقية بزعامة السهروردي. ومع ذلك، يبقى الأساس في الممارسة الفلسفية الخالصة هو استخدام العقل الاستدلالي الدقيق دون سواه.
وعندما أدرج الفلاسفة عنصر الذوق الصوفي ضمن بنائهم المعرفي، فإنما كان ذلك لكون المنظومة الصوفية مقاربة - في بنيتها الكلية - للمنظومة الفلسفية، ولأن الذوق الصوفي يُعدّ كاشفاً عن هذه البنية في ظل شروط عملية مألوفة لدى أهل العرفان، بغض النظر عن مصداقية ما يكتفى به من الكشف الذاتي الخاص، خلافاً للكشف العقلي العام الذي تُبنى عليه القضايا الفلسفية. أما سائر مصادر المعرفة الأخرى، فلا تُعدّ فلسفية، وإنْ كان لها مشروعية في مجالاتها الخاصة، كالعلم أو الدين أو غيرهما، خاصة عند تناولها القضايا الجزئية دون الكليات، أو لأن المصادر والمناهج الاستدلالية التي اعتمدتها لا تفي بالمعايير الدقيقة التي يتطلّبها البناء الفلسفي الرصين.
وقد جرّب البعض ان يوفّق بين العنصرين الفلسفي والديني فضلاً عن العرفاني؛ إلا أن هذه المحاولة أسفرت عن التلفيق بدلاً من التوفيق، كالممارسة التي زاولها صدر المتألهين الشيرازي والتي انتهت إلى الإضرار بالفلسفة والدين معاً، حيث لكل منهما إشكاليته المختلفة عن الأخرى.
إنّ جوهر الممارسة الفلسفية يكمن في استعمال الأداة العقلية الدقيقة، بعيداً عن الخلط بغيرها، أو فرض الشروط الخارجية عليها بنمط من التقييد، كالذي مارسه طه عبد الرحمن حين أخرج الفلسفة عن طبيعتها الجوهرية، مع أخذ اعتبار تقلباته المعهودة في فهمه للقضايا الفلسفية، وان حديثه عن الإبداع الفلسفي - كما في الترجمة - لا يمت إلى الفلسفة بصلة حقيقية. كذلك ان تقييده للإبداع بالمجال التداولي هو اشتراط متناقض، حيث يستلزم الجمود والتقليد لا الإبداع. لذلك سعى إلى الالتفاف على هذا القيد بإدماج عناصر دخيلة حتى لو كانت شاذة عن المجال التداولي ذاته.
وهذا ما سنسلّط عليه الضوء في الفقرة التالية..
المجال التداولي وازدواجية المعنى
في كتابه (تجديد المنهج في تقويم التراث) تناول طه مفهوم المجال التداولي للتراث بالتفصيل، وعرّفه بأنه محل التواصل والتفاعل بين صانعي هذا التراث. أي إنه وصف لكل ما كان نطاقاً مكانياً وزمانياً لحصول هذا التفاعل. وحدد أسباب هذا التواصل والتفاعل بثلاثة: لغوية، وعقدية، ومعرفية. فكلما كانت الأسباب اللغوية مألوفة للمخاطب من حيث ممارستها كانت أفيد والتأثير أشد. وينطبق هذا الحكم على العنصرين الآخرين: العقدي والمعرفي. ومن ثم انتهى إلى ان المجال التداولي يشكّل ظاهرة ثقافية اجتماعية تنبني على هذه الأسباب المخصوصة.
ومن هذه الزاوية، يقوم المجال التداولي مقام الدليل المرشد الذي يوجّه سائر الظواهر الثقافية الاجتماعية فيما يتطرق إليها من التغيرات، ويحملها على الدخول في التغير متى خالفت مقتضياته الاستعمالية، الأمر الذي يجعله متغيراً هو الآخر. لكنه بالنسبة إلى سواه من الظواهر الثقافية يقع في أدنى درجات التغير.
وبذلك يتصف المجال التداولي بالثبات "النسبي" دون ان يعود إلى المطلقات. أي إنه ثابت بمعنى واحد، ومتغير بمعنيين اثنين، فهو ثابت من حيث تضمّنه للعناصر الموجِّهة للتحولات الثقافية حتى تؤتى ثمارها، وهو متغير لأنه يبعث على التغير، حيث كل باعث على التغير هو متغير، كذلك لأنه يعلّق تغيره بالتغير الموجِّه للظواهر الثقافية التي تسترشد به.
وعليه فالمجال التداولي رغم ثباته بموجب دوره التوجيهي؛ فإنه يتغير باعتباره يدفع بكل ما يرِد عليه من ألوان الثقافة ومظاهر الحضارة نحو التبدّل وفق مقتضياته التواصلية والتفاعلية، رغم ان تغيره يحصل بقوانين خاصة تختلف عن قوانين هذه الأشكال الثقافية والحضارية التي تفِد عليه والتي يمارس عليها توجيهه.
هذا هو التصوّر الذي رسمه طه لمفهوم المجال التداولي. ويمكن التعبير عنه بمجال التداول "الموضوعي" للتراث، إذ يصبح المجال كظاهرة ثقافية اجتماعية فاعلاً ومنفعلاً، فهو فاعل من حيث دوره التوجيهي، لكنه منفعل أيضاً باعتباره خاضعاً للتغير، ولا بد من ان تكون له علة أو علل تجعله يتغير.
لكن يبقى السؤال الجوهري: هل التزم طه بحدود هذا المعنى الموضوعي للمجال، أم تجاوزه إلى معنى آخر مغاير؟
الحقيقة ثمة مؤشرات عديدة تؤكد أنّ طه قد تخطّى المعنى الموضوعي للمجال إلى تصور آخر مختلف. فكثيراً ما تحدّث عن مجالٍ تداولي مغاير يمكن وصفه بالمجال "الشخصاني" أو الذاتي، ويتميز بأنه يهدم المعنى الأول الموضوعي، حيث حمّل المفهوم الجديد "وصايا آيديولوجية" يخاطب بها القارئ، ويدعوه إلى الالتزام بجملة من القضايا بما لا يتناسب مع دراسة المجال بوصفه ظاهرة موضوعية قائمة بالفعل، فحوّل ما هو كائن إلى ما ينبغي ان يكون، بل وجعل ما هو شاذ في التراث أقرب إلى المجال التداولي مما هو سائد متحقق. في حين يُفترض ان العكس هو الصحيح؛ لخصوصية التواصل والتفاعل المتضمنة في مفهوم المجال بالمعنى الموضوعي كما مرّ معنا.
لذلك فالانقلاب على المعنى الموضوعي جعل التعامل مع المجال التداولي يتخذ صبغة ذاتية آيديولوجية ضمن الأفق الشخصاني للطاهية. وهو التناقض الذي سنلاحظه بوضوح خلال بحثنا الجاري..
المجال الشخصاني ومبدأ التفضيل
لنبدأ من نقطة مبدأ التفضيل الذي وصف به طه المجال التداولي، والذي تتفرع عنه جميع القواعد التداولية، وقد صاغه اعتماداً على الأسباب الثلاثة للمجال: العقدي واللغوي والمعرفي، وذلك كالتالي:
“ليس في جميع الأمم أمة اوتيت من صحة العقيدة وبلاغة اللسان وسلامة العقل مثلما اوتيت أمة العرب تفضيلاً من الله”.
وأشار إلى ان هذا المبدأ لم يرد بالصيغة المذكورة أعلاه في نصوص التراث، لكن عناصره الثلاثة (العقدي واللغوي والمعرفي) قد ذُكرت في النصوص؛ إما متفرقة أو مجتمعة. وسمى هذه العناصر بأصول المجال التداولي.
ولكل من هذه الأصول الثلاثة قواعد ثلاث، فللأصل العقدي ثلاث قواعد، وكذا بالنسبة للأصل اللغوي والمعرفي. وكلها مستنبطة من مبدأ التفضيل.
ولسنا بصدد الجدل حول ما إذا كان مبدأ التفضيل بعناصره الثلاثة صحيحاً أم لا، فهو مفترض سلفاً من دون تحقيق، إنما المشكلة التي نلاحظها هي ان صياغة القواعد الثلاث القائمة على مبدأ التفضيل جاءت كتوصيات مطلوبة، دون ان تكون مستنبطة من المجال التداولي الموضوعي، كظاهرة ثقافية اجتماعية ينبغي تسليط الضوء عليها خارج أفق الوصايا الذاتية الشخصانية، ناهيك عن التفضيل المدعى. وهي من المفارقات المفضوحة، إذ يتحول المجال التداولي مما هو ظاهرة موضوعية إلى اعتبارات ذاتية آيديولوجية.
فقد حدد طه هذه التوصيات، فجعل تحت كل أصل من الأصول الثلاثة ثلاث قواعد، وسمى القواعد الأولى لكل أصل بقواعد التفضيل، كما سمى القواعد الثواني بقواعد التأصيل، أما القواعد الثوالث فسماها بقواعد التكميل. واعتبر جميع هذه القواعد تستوفي الاحاطة بمقومات التداول.
وتنص قواعد التفضيل، أي القواعد الأولى لكل أصل، ما يلي: ففي العقيدة ثمة قاعدة الاختيار، وهي كما رسمها طه كالتالي:
سلّمْ بأن العقيدة التي لا تنبني على أصول الشرع الإسلامي - قولاً وعملاً - لا تعد عقيدة مقبولة عند الله. وفي اللغة ثمة قاعدة الاعجاز، وتنص: سلّمْ بأن اللسان العربي استعمل في القرآن الكريم بوجوه من التأليف وطرق في الخطاب يعجز الناطقون على الاتيان بمثلها عجزاً دائماً. وفي المعرفة ثمة قاعدة الاتساع، وتنص: سلّمْ بأن المعرفة الإسلامية حازت اتساع العقل بطلبها النفع في العلم والصلاح في العمل، ولا نفع في العلم ما لم يقترن بالعمل، ولا صلاح في العمل ما لم يقترن بطلب الأجل.
كما تنص قواعد التأصيل، وهي الثواني لكل أصل، ما يلي:
ففي العقيدة ثمة قاعدة الائتمار، وتنص كالتالي: سلّمْ بأن الله واحد مستحق للتقديس والتنزيه والعبادة دون سواه؛ متبعاً تعاليم الرسالة التي بعث بها نبينا الأكرم محمد. وفي اللغة ثمة قاعدة الانجاز، وهي تنص: لا تنشئ من الكلام إلا ما كان موافقاً لأساليب العرب في التعبير، وجارياً على عاداتهم في التبليغ. كما في المعرفة ثمة قاعدة الانتفاع، وهي: لتكن في توسلك بالعقل النظري، طلباً للعلم بالأسباب الظاهرة في الكون، منتفعاً بتسديد العقل العملي.
كما تنص قواعد التكميل، وهي الثوالث لكل أصل، ما يلي: ففي العقيدة ثمة قاعدة الاعتبار، وهي: سلّمْ بأن كل ما سوى الله لا يكون إلا بمشيئته ولا يحفظ إلا بمنّته؛ معتبراً مقاصده في أحكامه ومعتبراً بحكمته في مخلوقاته. وفي اللغة ثمة قاعدة الايجاز، وهي: لتسلكْ مسلك الاختصار في العبارة عن مقاصدك؛ مؤدياً هذه المقاصد على الوجه الذي يسهل به وصلها بالمعارف المشتركة، ويحمل على استثمار هذه المعارف أقصى ما يكون الاستثمار. وفي المعرفة ثمة قاعدة الإتباع، وهي: لتكن في توسلك بالعقل الوضعي، طلباً للعلم بالغايات الخفية للكون، متبعاً إشارات العقل الشرعي.
نقد قواعد التفضيل
بداية نلاحظ أن بعض القواعد السابقة التي أوصى بها طه لم يلتزم بتطبيقها، لا في الكتاب الذي عرضها فيه، ولا في مؤلفاته الأخرى. من ذلك قاعدة الإيجاز اللغوي التي ليس لها حضور يُذكر؛ لا في نصوصه، ولا في أغلب ما كتبه، بل جاءت كتاباته زاخرة بالافتراضات، بما فيها الاحتمالات المستبعدة، على غرار ما درج عليه كثير من صُنّاع التراث في المجال المعرفي الإسلامي. وتبلغ هذه الظاهرة مداها في افتراضاته اللغوية ومناقشاته المرتبطة بها؛ إلى درجة انها تعمل على تشتيت ذهن القارئ عن المطالب المطروحة، بسبب كثرة التفرعات والاحتمالات الخارجة عن لبّ المسألة.
كذلك ثمة جدل تراثي كبير حول قاعدة "الاختيار في العقيدة". إذ إن أصول الشرع الإسلامي التي تقوم عليها العقيدة ليست محلّ اتفاق بين المدارس التراثية؛ فهي تختلف بين السلفية والمعتزلة والأشاعرة والإمامية وغيرها. فبأي عقيدة وأي أصول شرعية يريدنا طه أن نلتزم ونختار؟
علماً بأنه قد استقى مضمون هذه القاعدة من كتاب (الرد على المنطقيين) لابن تيمية، كما استعار مضمون عدد من القواعد الأخرى من ذات الكتاب المشار إليه ومن فتاوى هذا الشيخ نفسه. وعليه هل أراد بذلك اعتبار المنهج التيمي هو العقيدة الصحيحة التي يرضى بها الله دون سواها؟ وهل يجوز رسم هيكلية المجال التداولي اعتماداً على منهج تراثي محدد دون سواه؟!
والأهم من ذلك ان الوصايا الطاهية بقواعدها التفضيلية ما هي إلا نزعة شخصانية آيديولوجية لتحديد المجال التداولي دون ان يكون لها علاقة بدراسة هذا المجال موضوعياً. فثمة مفارقة بين المجال الموضوعي كما تم تحديد مفهومه في بداية الأمر، وبين هذا المجال الذاتي الآيديولوجي.
كما ثمة مفارقة أخرى، وهي أن طه تعامل مع عدد من قضايا أصول المجال التداولي تعامل الثوابت المطلقة. في حين أقرّ في تعريفه للمجال التداولي بأنه متغير، وان كان تغيره بطيء مقارنة بسائر الظواهر الثقافية الاجتماعية التي يعمل على توجيهها وتغييرها. لذلك كيف يمكن التوفيق بين اعتبار المجال متغيراً، وبين تعامله مع هذا المجال بشكل مطلق وثابت كما في الوصايا السابقة؟ والتي تفضي إلى اعتبار الأصول ثابتة ومطلقة.
وحقيقة ان اعتبار المجال التداولي متغيراً لا يتسق مع ثوابت الأصول الثلاثة التي سلّم بها هذا المفكر من منطلق مبدأ التفضيل، وبدون ذلك لا يُعدّ لهذا المبدأ قيمة معيارية مطلقة، لا سيما فيما يخص العقيدة. فإما ان المجال التداولي متغير، وبالتالي تتغير مضامين عناصره وأصوله الثلاثة مهما كان التغير بطيئاً، أو ان مضامين هذه الأصول ثابتة وبالتالي لا بد من ان يكون المجال التداولي ثابتاً هو الآخر.
هكذا يُفضي التناقض السابق إلى مأزق منهجي تعانيه الأطروحة الطاهية، إذ يكشف عن مفارقة بنيوية تجمع بين الطرح الموضوعي للمجال التداولي من جهة، والرؤية الشخصانية المتحكمة فيه من جهة أخرى.
كما من المفارقات اللافتة أن طه نفسه فرض جملة من المعايير لتحديد ما يُعدّ قريباً من المجال التداولي وما يُعدّ بعيداً عنه، انطلاقاً من الرؤية الشخصانية. فقد ميّز بين العلوم الأصلية تبعاً لمدى نجاحها في توسيع آفاق الاستثمار التداولي وإثمار مضامينه، دون الاكتفاء بالتحديد القائم على النشأة أو الأصل فقط. وبهذا قدّم تصوراً يقضي بأن العلم المنقول قد يكون أقرب إلى المجال من العلم المأصول، متى ما امتلك قدرة على فتح باب الاستشكال الوظيفي والمضموني الذي يعمل العلم ـ بحسب زعمه ـ على سدّه تماماً.
وبناءً عليه، فكل علم منقول أمكنه تحصيل هذه القدرة يُعدّ أولى بالقرب من المجال التداولي، سواء أكان منقولاً أو مأصولاً. ولا تشفع للمأصول نشأته الأولى إلا إذا استعاد هذه القدرة، فإن فعل، فإنه يتفوق بما له من سبق تداولي دون أن يضاهيه أي علم منقول.
وعلى الرغم من أن ظاهر هذا التمييز يوحي بالاعتماد على معيار موضوعي في تحديد المجال التداولي، إلا أن جوهر الموقف يُظهر أن طه يستبطن تصوراً شخصانياً للمجال، يربط القرب والبعد عن المجال بمدى القدرة على التوسع في استثمار الوظائف واثمار المضامين، دون اعتبار لعامل التفاعل والتواصل الجمعي الذي يفرضه المجال التداولي بوصفه ظاهرة ثقافية اجتماعية.
فقد اعتبر الجانب الأخلاقي والعملي هو ما يحدد القرب والبعد من المجال التداولي، بل واشترط قيمة "اليقين" في ان تتصف به عناصر هذا المجال وأصوله. وكما صرّح بأن الأخلاق قد تكون أقرب إلى المجال التداولي من علم الكلام، نظراً لما تفتحه من آفاق للعمل، خلافاً لما يطغى على علم الكلام من نظر مجرد. كما اعتبر أن أصول الفقه أقرب إلى المجال من فروعه، بسبب ما رأى فيه من جمود على جزئيات خلافية لا طائل من ورائها.
وكما يلاحظ ان طه لم يُعنَ - هنا - بمدى سعة التفاعل والتواصل وفق ما يتطلبه المجال التداولي الموضوعي، بل وضع شروطاً أخرى ذاتية مفروضة على هذا المجال، منها تفضيل الجانب العملي على النظري، كما في تقديمه للأخلاق على علم الكلام، كذلك شرطه في ان لا يصبح العلم محل خلافات جزئية لا غنى فيها كما في علم الفقه مقارنة بأصوله، رغم ان الكثير من خلافات علم الفقه عائدة إلى الخلافات المتعلقة بأصوله، بل كان الأوْلى ان يعتبر علم الفقه أقرب إلى المجال التداولي من هذه الأصول، لسبق وجوده ولسعة تفاعله ومقدار حضوره ولكونه يمثل الغاية مقارنة بالأصول التي هي مجرد أداة وسيلة لهذه الغاية. بل أكثر من ذلك انه يمثل جانب العمل التام بما لا يرقى إليه علم الأصول؛ الذي تغلب عليه النزعة النظرية التجريدية.
كما أضاف شرطاً ذاتياً آخر، وهو ان تتصف عناصر المجال التداولي لتراثنا باليقين، أما الظنون فقد وصفها بالفساد. وهو موقف في غاية الغرابة، حيث ان أغلب معارف التراث اجتهادية تفيد الظنون لا اليقين. لذا فأي تراث ومجال تداولي يتحدث عنه هذا المفكر؟!
فقد اعترض على مفكري الإسلام وبعض علمائه ممن قرروا ظنية بعض المعارف الشرعية، مع اعترافه بأنهم أوجبوا العمل بما هو ظني، معتبراً هذا الموقف في غاية الفساد، لذلك قرر بأن “الحكم الشرعي والعقدي أوْلى باليقين من الحكم الوضعي متى أخذنا بعين الاعتبار خاصية الثبات التي ينفرد بها الأول وخاصية التغير التي تلازم الثاني”.
مع ان أغلب الفقهاء وعلماء الأصول يصرحون بأن معظم الأحكام الشرعية ظنية، لا سيما وان علم الفقه قائم على أخبار الآحاد، وهي ما تفيد الظن، دعك عن ظنية المتون. كما ان النظرة التحليلية لسائر العلوم التراثية تكشف عن انها اجتهادية ظنية، وان الأصول التي تقوم عليها هي أصول متنازع حولها؛ كما في علم الكلام والعقائد. فهذا هو صلب ما يتعلق بالمجال التداولي للتراث بالمعنى الموضوعي، ولا قيمة لمعناه الذاتي القائم على التحكمية الشخصانية وما تفرضه من انغلاق. كما ان اشتراط طه لخاصية الثبات في الحكم الشرعي والعقدي يناقضه ما سبق ان اعتبر المجال التداولي يتصف بالتغير البطيء.
***
وقد تجلّى هذا النزوع الشخصاني مرة أخرى في موقف طه من مسألة قِدم العالم، حيث لم يلتزم بالمجال التداولي الموضوعي السائد في التراث، بل انقطع عن أحد أصوله، ومال إلى ترجيح الرؤية الذاتية.
فقد رأى أن القول بقِدم العالم يمثل معنى منقولاً منقطع الصلة بالأصول التداولية للتراث، شأنه في ذلك شأن القول بعدم علم الله بالجزئيات، كما ذهب إليه ابن سينا وأتباعه من الفلاسفة المسلمين، إذ اعتبر كلا الموقفين مخالفَين للشرع الإسلامي.
وفي ما يتعلق بقِدم العالم، اعتبر طه أن ظاهر الفكرة غير مألوف ويثير الشبهات ويفسد مسالك التواصل والتفاعل. فالفكرة منكرة من حيث مخالفتها للأصل التداولي القائم على حدوث العالم. غير أنه في المقابل، رفض القول بالحدوث من العدم واعتبره باطلاً، ومالَ إلى تصور "الحدوث النسبي"، أو الحدوث من شيء. فللعالم حدوث نسبي، حيث ظاهره العرضي حادث وجوهره قديم. وهو يعني “أن العالم موجود وجوداً جوهرياً متحركاً حادثاً حدوثاً نسبياً”، معتبراً هذا الحكم أقرب إلى ان تتقبله العقول لظهور أسباب الصلة بينه وبين العناصر التداولية، وهو من المنقول الموصول الذي ينزل منزلة المأصول. إذ يتضمن ما يأخذ به أهل المجال التداولي، وهو ان "العالم محدث"، كما يتضمن مفهوم "الوجود الجوهري" الذي يقبل المخاطب وصفه بـ "القِدم"، ويحتوي كذلك مفهوم "الحركة" الذي أنِسَ المخاطب بأن يقرنه بمعنى الدوام، حتى انه يكاد لا يرى في القِدم المنسوب إلى العالم إلا دواماً في الحركة لا نهاية له.
وفي هذا السياق، يتحوّل التقابل بين القِدم والحدوث إلى تقابل بين النوعي والجزئي. فالعالم، من حيث نوعه قديم، أما من حيث أفراده الجزئية فهو حادث. وهو المعنى الذي سعى طه إلى تقريبه من خلال المقابلة بين الكل وأجزائه، حيث تقبّل أن تكون الأعراض الجزئية حادثة، بينما أضفى على الجوهر الكلي صفة القِدم دون أن يكون حادثاً.
وهو القول الذي سبق إليه بعض المتشرعة من أمثال ابن تيمية. فقد اعتقد أن الحوادث الكونية لا بداية لها، وهو إقرار بأزلية الأشياء من حيث النوع لا الأفراد. فبرأيه أن كل فرد حادث يسبقه فرد حادث قبله وهكذا من غير بداية محددة، وهو ذات ما ذهب إليه الفلاسفة. ومع أن ما ورد في التراث من وجود عدد محدود من الأشياء قد سبق خلقها قبل السماوات والأرض، إلا أنها تعد بحسب هذا الرأي ليس لها بداية بإطلاق، ومن ذلك العرش، حيث نقل الدواني عن ابن تيمية أنه اعتقد بقِدم العرش من حيث النوع، أي أن كل عرش يسبقه عرش آخر قبله دون بداية محددة، وذلك ليثبت بأن الله فاعل أزلاً وأنه مستقر من عرش إلى عرش أزلاً أيضاً. وقد نسب إبن تيمية نظريته إلى أئمة السنة والحديث، ونقل عن بعض من وُصفوا بالمشبهة بأنهم قائلون بإثبات حوادث لا أول لها. كما نقل بعض أتباع ابن تيمية ما قاله عثمان بن سعيد الدارمي: «كل حي فعال، ولم يكن ربنا تعالى قط في وقت من الأوقات معطلاً عن كماله، من الكلام والإرادة والفعل»[1].
ويُعدّ هذا المنقول من الشواذ، حيث لم يُنقل عن غيره من السلف ما يفيد النص الصريح في إثبات حوادث لا بداية لها. بل ليس من البيانيين قبل ابن تيمية من يثبت ذلك بشكل واضح لا غبش فيه. فإن من يُعزى إليهم القول بذلك هم الفلاسفة. لذلك شنّع عليه الخصوم وعدّوه متأثراً بهم لكثرة الاهتمام بمباحثهم والردّ عليهم، كالذي جرى عليه الحال مع الغزالي الذي قيل فيه إنه أمرضه (الشفاء) لابن سينا، ووصفه معاصره أبو بكر بن العربي في مقولته الشائعة: شيخنا أبو حامد دخل في بطون الفلاسفة ثم أراد أن يخرج منهم فما قدر. وهو القول الذي إستعان به ابن تيمية في الرد على الغزالي، مع أنه في رأي المخالفين قد وقع بما وقع به سابقه.
وعادة ما يُنسب مثل هذا الإعتقاد إلى الملاحدة، ومن ذلك ما قاله أبو يعلى الحنبلي في (المعتمد): الحوادث لها أول ابتدأت منه خلافاً للملاحدة. وكان من ضمن ما أُحتج به على ابن تيمية أنه قد ابتدع فكرة لم ترد عن أهل البيان بإستثناء بعض الشذوذ، وبنظر البعض أنها مخالفة للإجماع، بل وأن الإجماع على تكفير من يقول بها، كالذي حكاه الشيخ عياض وغيره. كما قال ابن دقيق العيد بأنه وقع هنا من يدعي الحزق في المعقولات ويميل إلى الفلسفة وظن أن المخالف في حدوث العالم لا يُكفّر لأنه من قبيل مخالفة الإجماع، وتمسك بقولنا إن منكر الإجماع لا يُكفّر على الإطلاق حتى يثبت النقل بذلك متواتراً عن صاحب الشرع. ثم قال: وهو تمسك ساقط إما عن عمي في البصيرة أو تعام؛ لأن حدوث العالم من قبيل ما اجتمع فيه الإجماع والتواتر بالنقل[2].
***
نعود الآن إلى طه، حيث ينتهي إلى ان الحدوث من العدم باطل، إنما الحدوث من شيء، أو الحدوث النسبي، أي ان ظاهره العرضي حادث وجوهره قديم. لكن المفارقة تأتي بعد حوالي عشر صفحات، إذ صرّح بأن الخالق في المجال الإسلامي هو من يخلق شيئاً من لا شيء، خلافاً للصانع وفق المجال اليوناني الذي يصنع شيئاً من شيء. وهو تصريح لا ينسجم مع ما سبق ان اعتبر بأن الحدوث من العدم باطل، إنما الحدوث من شيء.
وحقيقة تعتبر فكرة خلق الأشياء من العدم أو اللاشيء هي السائدة لدى المجال التداولي الإسلامي، وليس تلك التي فرضها طه وفق المجال الشخصاني. فأغلب أهل التراث لا يقرون الحدوث النسبي، إنما يعتقدون بالحدوث المطلق، أي خلق الشيء من العدم من دون وجود شيء آخر قديم. بل ان اقراره بقِدم العالم على سبيل الجوهر أو الكل، هو أيضاً مما يعتبره أغلب علماء التراث الإسلامي بأنه مخالف للشرع.
ملاحظات نقدية حول المجال التداولي
ثمة عدة ملاحظات نقدية تلوح فكرة المجال التداولي وفق الطرح الطاهي، نجملها بما يلي:
1ـ سبق أن لاحظنا بأن طه لم يتحدث عن المجال التداولي بوصفه ثقافة واقعية تحتاج إلى الرصد والتحليل، فرغم تعريفه له وفق هذا البُعد الوجودي الموضوعي؛ إلا أنه سرعان ما أخضعه لمنظور معياري، يُعبّر عن ما ينبغي أن يكون، لا عن ما هو كائن. فهو يتعامل مع المجال التداولي بحسب صورة مثالية شخصانية، اعتبرها الأنسب والأقرب، دون أن تُستمدّ من واقع التراث ومجاله الحيّ. ولو أنه التزم بالرؤية الموضوعية التي يقتضيها تعريفه نفسه، لكان لزاماً عليه أن يدرج ضمن المجال التداولي ظواهر مثل التضليل والتكفير، بوصفها نابعة من أصل عقدي تراثي. كذلك كان ينبغي عليه أن يضمّن هذا المجال جميع التناقضات التي انطوى عليها التراث.
فالمجال التداولي، بحسب حقيقته، هو بمثابة دائرة واسعة تتضمن في داخلها سائر الدوائر المعرفية الأخرى، من علمية ومذهبية وفلسفية وأدبية وغيرها مما لها علاقة بالفكر والمعرفة، وهي دوائر تتبدّل وتتحول عبر الزمن، وبعضها يكون أكثر تداولاً من البعض الآخر ضمن فترة زمنية من دون ثبات، حيث قد ينقلب ما هو أكثر تداولاً إلى مستوى أدنى وبالعكس.
وعليه كان ينبغي ان يلتزم صاحب هذه الاطروحة بالحد الموضوعي الذي افترضه في تعريفه للمجال، دون أن يحوّله إلى صورة مثالية مبتورة الصلة عن واقع التراث بكل ما فيه من تعقيد وتناقضات. وسبق ان أشرنا إلى نموذجين دالين على هذا الحال، أحدهما يتمثل في موقفه من ظنون الأحكام الفقهية، والآخر يتمثل في تبنيه لفكرة الحدوث النسبي، وكلاهما لا ينسجم مع تعريفه للمجال التداولي للتراث. فالتعريف دال على وجود ظاهرة موضوعية تحتاج إلى التحديد والتحليل من دون ان يُفرض عليها شيء وفق مشتهيات المحلل وتحكماته الشخصانية.
2ـ إن تقسيمه السابق لأصول المجال التداولي يشوبه نقص في العناصر، ويغلب عليه التخصيص غير المبرّر. إذ لا يصحّ إفراد العقيدة وحدها بوصفها أصلاً مستقلاً دون الإشارة إلى ما يناظرها من عناصر دينية أخرى، كالأحكام الشرعية وسائر ما يرتبط بالمصدر الديني. وكان الأجدر بهذا المنظّر أن يتحدث عن "الأصل الديني" بصيغته الأشمل، بدلاً من تقييده بالعقيدة فقط، ما دام الحديث عن المجال التداولي للتراث برمّته، لا عن مجال مخصوص.
كذلك فإن ما سمّاه بـ "العنصر المعرفي" في تقسيمه، والذي جعله ثالث أصول المجال التداولي، قد قيّده بالمعرفة الاجتهادية المستندة إلى العقيدة والمتوسلة باللغة. فهو يعرّف الأسباب المعرفية بأنها المضامين الدلالية والطرق الاستدلالية المعتمدة على اللغة والمبنية على العقيدة. غير أن هذا التحديد يُقصي صوراً أخرى من المعارف التي لا تنبني بالضرورة على العقيدة أو حتى على الدين، لكنها تندرج ضمن المجال التداولي العام للتراث، كالعلوم الطبيعية التي تأسست في بعض مراحلها على النظر العقلي والتجريب، مثل الطب والفلك والكيمياء وغيرها.
فهذا التقييد يجعل من المجال التداولي حقلاً مشوّهاً ومختزلاً، إذ يُفرغه من أنماط معرفية كانت فاعلة ضمن التاريخ الثقافي للتراث، وإن لم تكن دينية أو عقدية بطبيعتها. ومن ثم فإن تحقيب المجال التداولي وتحديد أصوله بحاجة إلى إعادة نظر، بحيث يُراعى فيه التعدّد الواقعي والتاريخي للأنساق المعرفية داخل التراث، لا أن يُحصر وفق نزعة معيارية ضيقة تُسقط الواقع لحساب النموذج المثالي.
3ـ إن التمييز الذي أقامه طه بين "العقيدة" و"المعرفة" ضمن بنية المجال التداولي ليس دقيقاً في التطبيق، بل يبدو أن بينهما تداخلاً يصعب الفصل فيه، إلا من حيث التصور المجمل العام. فقد أفرز العقيدة كأصل مستقل، لكنه في الوقت نفسه لم يلتزم بهذا الحد في التعامل معها، إذ كثيراً ما أدرج العناصر المعرفية الاجتهادية في ثناياها، دون وضوح في التخوم الفاصلة.
ومثال ذلك موقفه من مسألة "قِدم العالم"، فقد عالجها بوصفها قضية عقدية، وأدرجها ضمن نطاق العقيدة، لكنه عند المعالجة مارس عليها قراءة تحليلية تفصيلية لا يمكن توصيفها إلا باعتبارها ممارسة معرفية اجتهادية. إذ لم يتعامل معها بوصفها تسليماً عقدياً محضاً، بل أخضعها لمنهج جدلي تأويلي، ما جعلها تنزاح من حقل العقيدة بالمعنى الصارم، إلى حقل النظر العقلي والفهم الاستدلالي.
وهذا التداخل يؤشر إلى غموض في البناء التصنيفي الذي افترضه، ويفتح السؤال حول مدى دقة تفريقه بين ما يُعدّ من العقائد وما يُعدّ من المعارف، لا سيما في تراث يغلب عليه التداخل والتشابك بين المقولات العقدية والفكرية والفقهية والفلسفية.
4ـ إن التفضيل الذي أسبغه طه على أصول المجال التداولي، ولا سيما في بُعدها المعرفي، يغفل عن أن هذا العنصر ليس نقياً كما يُصوّره، بل تعتريه شوائب عديدة تُفقده صفاءه وتُنزل به عن مرتبة التفضيل. فالمعرفة التراثية - كما هي عليه - لم تكن وليدة التفاعل الخالص بين اللغة والعقيدة أو الدين، بل تسربت إليها عناصر متعددة ومتفاوتة، كالعوامل البيئية والاجتماعية والسياسية والنفسية والثقافية والعقلية، الأمر الذي يجعلها أبعد ما تكون عن التماسك المنهجي أو الانسجام القيمي.
وهذا ما يفسر ظواهر التضليل والتكفير التي ملأت جنبات التراث، بحيث لا يمكن النظر إلى هذا الأخير بوصفه نموذجاً معرفياً مفضلاً دون تفكيك تناقضاته وكشف حدوده.
فمن الوجهة الموضوعية، تبدو المعرفة في المجال التداولي للتراث محمّلة بتناقضات داخلية حادة، تعكس في عمقها محدودية الإدراك البشري وتفاوت مداركه، فضلاً عن التشوهات التي تلحق بالمعرفة حين تخضع لتأثيرات المصالح والانحيازات وسائر الشوائب الدخيلة. ولا يخلو مجال تداولي لأي أمة من مثل هذه التناقضات والانعكاسات الطبيعية.
وعليه فإن التفضيل الذي يقرره طه يفتقر إلى رؤية نقدية داخلية تحيط بالمعرفة التراثية كواقع؛ لا كتصور مثالي مفترض.
5ـ من المعلوم أن طه قد ذمّ الدراسات المعاصرة التي سبقته لقيامها بتجزئة التراث العربي الإسلامي وتفضيل بعضه على البعض الآخر، كما هي طريقة الراحل محمد عابد الجابري في نقده للعقل العربي، فيما ادعى ان الصحيح هو الاعتماد على ضرب آخر من تقويم التراث قائم على النهج التكاملي من دون تفاضل، فدعا إلى التوجه الشمولي الذي يتضمن ضرورة تقبل التراث بوصفه كلاً متكاملاً ووحدة متناسقة من غير انتقاص لأي جزء من أجزائه، أو التقليل من وظيفته.
لكن المفارقة اللافتة أن طه نفسه وقع في ما نهى عنه، فمارس التجزئة وأقام المفاضلة بين مكونات التراث، سواء على مستوى العلوم، أو على مستوى تصنيف العقل. فقد صنّف العقل إلى ثلاثة أقسام متفاضلة: عقل نظري مجرد كما يتمثل في ممارسات علم الكلام، وهو من العلوم الأصيلة لا المنقولة أو الدخيلة. وعقل مسدد كما في علم الفقه. ثم عقل مؤيد كما لدى الصوفية، وهو الأعلى رتبة والأفضل مقاماً.
فهذه ثلاثة عقول يتفاضل بعضها على البعض الآخر.
بل لقد مضى إلى أبعد من ذلك، حين فضّل علم أصول الفقه على الفقه، وفضّل الفقه بدوره على علم الكلام، مما يدل على ممارسة انتقائية لا تُخفي تناقض ما أعلنه من ضرورة الكفّ عن المفاضلة واعتماد النظر الكلي المتسق.
6ـ من المفارقات المنهجية اللافتة في أطروحة هذا المفكر ما يتعلق بتحديده لطبيعة المجال التداولي من حيث الثبات والتغيّر. ففي كتابه (تجديد المنهج في تقويم التراث) قرّر أن المجال التداولي يتصف بدرجة من الثبات النسبي تجعله في أدنى مراتب التغيّر مقارنة ببقية الظواهر الثقافية والاجتماعية، معتبراً هذا الثبات شرطاً أساسياً لتكوّن الهوية الثقافية واستمرارها. لكن بعد مضي نحو ست سنوات، أعاد تعريف المجال التداولي بصورة مغايرة، إذ خصّه بالتداول اليومي وأقرّ بطابعه المتغيّر، متخلياً بذلك عن خاصية الثبات التي سبق أن جعلها سمة مميزة له. وهذا التراجع الصريح عن الموقف الأول يعكس اضطراباً مفاهيمياً في تحديد طبيعة المجال التداولي، ويثير تساؤلات حول مدى الاتساق النظري في هذا المشروع.
فإذا كان المجال التداولي ثابتاً نسبياً في أصل تعريفه كما قرّره أولاً، فكيف يستقيم أن يتحول إلى مفهوم يتغير بتغير التداول اليومي؟ أما إذا كان الأخير هو المعتمد، فما مصير الأسس التي بنى عليها تحليله الأولي للتراث؟
إن هذا التناقض لا يمكن تجاوزه بسهولة، إذ يهدد البنية المفهومية التي تستند إليها الاطروحة الطاهية في تقويم التراث.
7ـ تتضمن بعض أفكار طه وأساليبه اللسانية انزياحاً عن مقتضيات المجال التداولي كما حدّده هو نفسه. ففي أحد حواراته، نصّ على أن ما يدخل ضمن المجال التداولي على صعيد المعرفة هو ما يكون تحته عمل، ووراءه منفعة، وله استناد إلى أصول الشرع. غير أن عدداً من أفكاره وممارساته التعبيرية لا تستوفي هذه الشروط، بل تنأى عنها بصورة واضحة.
ومن أبرز الأمثلة على ذلك: طرحه لفكرة "حدوث العالم النسبي"، التي تفتقر إلى إسناد شرعي صريح، وتقوم على اجتهاد معرفي فلسفي أقرب إلى التأويل الشخصي منه إلى الممارسة التداولية العامة. وكذلك أساليبه في التطويل اللغوي، وكثرة الاستعمال لألفاظ غريبة أو شاذة عن الاستعمال اللساني الشائع، مما يضعها خارج حدود الفهم التداولي الذي يفترض التبسيط والتواصل المعرفي الناجع.
فمثل هذه النزعات تُضعف دعوى التزامه بأصول المجال التداولي وتُبرز المفارقة بين تنظيره المجرد وممارسته الفعلية. وهي مفارقة منهجية تنسحب على عموم مشروعه الذي كثيراً ما يعلي من التنظير دون أن يراعي حدوده الإجرائية والتداولية.
8ـ إن التأكيد المتكرر على ضرورة الحفاظ على المجال التداولي، أو التمسك بالوصايا الشخصانية التي قدّمها طه بوصفها ضوابط للفكر والمعرفة، لا يعدو أن يكون في كثير من الأحيان دعوة مقنّعة إلى التقليد وكبح الإبداع الفلسفي. فبدلاً من أن يتحول المجال التداولي إلى أفق حرّ للتفكير والنقد والتجديد، يتم توظيفه كأداة ضبط وتقييد، مما يتناقض مع ما يعلنه طه نفسه من تحفيز للإبداع وضرورة الخروج من أسر المناهج الغربية والانفتاح على إمكانات العقل المسلم.
فالدعوة إلى الإبداع الفلسفي لا تستقيم مع فرض وصايات معرفية صارمة تحت مسمى التداول، خصوصاً حين يتم تحكيمها بطريقة انتقائية ومثالية، تُعلي من قيمٍ مخصوصة وتقصي سواها. وهو ما يجعل المجال التداولي - كما يتصوره هذا المنظّر - يتحول من إطار للفهم والتحليل، إلى أداة معيارية تقطع الطريق على الاجتهاد الخلّاق، وتعيد إنتاج التقليد في صورة مموّهة.
المجال التداولي والإبداع الفلسفي
عديدة هي إشارات طه إلى ضرورة الإبداع الفلسفي القائم على المجال التداولي، ومن ثم انشاء فلسفة إسلامية. ففي (سؤال السيرة الفلسفية) اتخذ منحى يختلف عما سبقه من كتب، إذ أقرّ بأن السيرة هي أصل الإبداع الفلسفي لا الفكرة في حد ذاتها، حيث التلبس بالأفكار الحية من خلال لحاظ الاتساق بين الفكر والعمل.
كما صرّح بأنه يحق لنا ان نضع تصوراً جديداً للفلسفة بحيث تكون متصلة بخصوصية الذات المسلمة، والعلامة البارزة لهذه الخصوصية هي التزام التوحيد، بالإضافة إلى وجوب ان تتوسل هذه الفلسفة بعقل قادر على ان يستثمر هذه الخصوصية؛ مستوعباً ما يترتب عليها من نتائج تتعلق بتسديد الإنسان في الحياة، حيث التوسل بالعقل المسدد.
وأحصى بهذا الصدد سبعة شروط اعتبرها تفي ببناء فلسفة إسلامية حقة، وهي باختصار: غلق باب التقليد، وإعادة النظر في مفهوم الفلسفة، والتثوير الفلسفي للمفاهيم، وكشف الثراء الفلسفي لمفهوم الفطرة، والتأكيد على الصلاح الكلي للإنسان، والعناية القصوى بالقيم الأخلاقية، والتزام الصدق الكلي في الحياة.
وقبل ذلك كما في كتاب (من الإنسان الأبتر إلى الإنسان الكوثر) حدد ثلاثة شروط لبناء فلسفة إسلامية من خلال ما سماه بمسلمة "نقدية الفلسفة الإسلامية". وأغلب هذه الشروط معنية بنقد الآخر المختلف معه، وهي باختصار:
1ـ أن تتوجه الفلسفة إلى نقد الفكر الفلسفي الذي يصادم المنظور الإسلامي للحياة.
2ـ أن تكون هذه الفلسفة حية، ولا حياة حقيقية لها إلا إذا استمدت مضامينها وقضاياها من دائم تفاعلها مع الواقع العالمي، أحداثاً وتحديات وآفاقاً.
3ـ أن تبني هذه الفلسفة نقدها للواقع العالمي على أهم مقوم يميز صبغتها الإسلامية، ألا وهو الأخلاق بشقيها السلوكي والروحي.
وبغض النظر عن الاختلافات التي نجدها في كتابات طه حول عدد الشروط وماهيتها لبناء فلسفة إسلامية ناهضة؛ فإنه يتحدث بالعمومات المعروفة فيما يسميها آخرون بأنها عائدة إلى علم الكلام الجديد، وليست من الفلسفة بالمعنى التقني.
وعلى العموم ان مراجعة كتب هذا المفكر تُظهر ان غالبية اهتماماته حول قاعدة الإبداع الفلسفي تُعنى بالربط بين الفلسفة والترجمة ضمن المجال التداولي. ففي حوار له اعتبر الإبداع الفلسفي يتحقق عبر الاتصال بالمجال التداولي والذي حدده بالتداول اليومي المتغير، وان تكون للمتلقي العربي القدرة على التفلسف، بجعل الفلسفة قريبة من حياته؛ بحيث يدرك مضامين الفلسفة كما يدرك المضامين المألوفة له، وبحيث يظهر تأثيرها في سلوكه اليومي. واعتبر أن ما يحقق ذلك هو إتباع الترجمة التأصيلية للنص الفلسفي.
وعلى هذه الشاكلة صرّح في (سؤال العمل) بوجوب خلق إبداعية حقيقية تتجاوز حدود المنقول الفلسفي اليوناني، وأطلق على هذه الإبداعية اسم "الإبداعية الموصولة"، وعرّف الفلسفة الإسلامية المبدعة بأنها الفلسفة التي تستند في إبداعيتها إلى المأصول الإسلامي. واعتبر أنه لما كان هذا المأصول نتاجاً للمجال التداولي الإسلامي الخاص، وأن المنقول هو نتاج للمجال التداولي اليوناني، وجب أن تكون الفلسفة الإسلامية ذات الإبداع الموصول هي الأخرى فلسفة تداولية صريحة. وككل فلسفة تداولية ينبغي ان تكون الكونية التي تتطلع الفلسفة الإسلامية للتحقق بها كونية مشخصة لا مجردة، وذلك على شاكلة ما كان الفيلسوف الالماني هايدجر يدعو إليه من فلسفة مشخصة لا تجريدية. واعتبر طه انه يجب تحصيل الاستقلال الفلسفي من خلال عاملين هما:
1ـ شرط حفظ المبادرة الفلسفية.
2ـ شرط الخصوصية التداولية.
وبخصوص حفظ المبادرة الفلسفية ذكر بأن استقلال الفلسفة الإسلامية يتحقق بأمور ثلاثة هي:
1ـ الانطلاق من الحقائق المأصولة المأخوذة من المجال التداولي الخاص.
2ـ الاقتدار على ادخال تحويلات على المنقول بما يفي بمقتضيات المجال التداولي.
3ـ اقتناص الحقائق غير المسبوقة التي هي ثمرة التفاعل بين المأصول والمنقول.
ويعود ما أشار إليه من ضرورة تحويل المنقول بما يتفق مع المأصول الى الجزء الأول من مشروع (فقه الفلسفة) الصادر عام 1995. ففيه حدد الإبداع الفلسفي بتتبع خطوات معينة متعلقة بترجمة النصوص الفلسفية كأفكار بما يختلف عما جاء في (سؤال السيرة الفلسفية).
فقد اعتبر "فقه الفلسفة" بأنه العلم الذي يزودنا بالمعرفة بدقيق آليات الممارسة الفلسفية والاحاطة بجليل تقنيات الإنتاج والإبداع فيها، حيث يمكن الارتقاء عبر هذا العلم من رتبة استعمال الفلسفة إلى رتبة صنعها. وأضاف أنه لما كانت الفلسفة التي بين أيدينا هي فلسفة منقولة أو حصيلة أعمال الترجمة؛ لذا فإن أول ما ينبغي على "فقه الفلسفة" ان ينظر فيه هو الصلة الموجودة بين الفلسفة والترجمة.
وبهذا المعنى اشتغل طه على الترجمة من أجل الإبداع والقدرة على التفلسف.
والمعروف أن الترجمة تتبع إما طريقة النقل الحرفي للغة، رغم اخلالها بالمعنى أحياناً، أو طريقة النقل المضموني للغة حتى وإن تم الاخلال بالحرفية اللغوية، وهي المعول عليها عادة لدى من يزاولون الترجمة باحترافية. وتقارب الأولى ما اصطلح عليه طه بالتحصيلية، والثانية بالتوصيلية، ورآهما غير صالحين في اكتساب القدرة على التفلسف، إنما حدد صلاحيتهما في العلم، حيث تتضمن فيهما المعايير الموضوعية، مثل المعرفة العلمية.
وهذا ما دعاه إلى استبدالهما بطريقة ثالثة سمّاها "الترجمة التأصيلية"، حيث اعتبرها ترفع التعارض بين الفلسفة والترجمة، وتجتهد في نقل ما تثبت لديها موافقته لضوابط المجال التداولي المنقول إليه، وهي الضوابط المتمثلة بالأصول الثلاثة: اللغوية والعقدية والمعرفية، كما انها تحرص على ان لا يفوتها شيء مما ينفع في تقوية التفلسف عند المتلقي، حتى لو أوجب تغطية الصفات الأصلية للمنقول، بل ومحوها بالمرة. لذلك - وبحسب طه - سيستخدم المتلقي، أو المترجم، كل آليات التخريج والتغطية؛ مثل الحذف والإبدال والقلب والإضافة والمقابلة، حتى لا يترك للنص الفلسفي الأصلي إلا الجزء الذي لا غنى له عنه، وسيستبدل عوض ذلك أوصافاً تداولية تُنهض المتلقي إلى العمل الفلسفي، لأن العبرة - كما يرى - ليست الحكاية عن الغير وإنما تمكين الذات من الممارسة الفكرية.
وقد برر هذا الاختيار استناداً إلى المسلّمة التي اصطلح عليها "تداولية الفلسفة" والتي تقول بأن الفلسفة ليست معرفة أو ممارسة كونية خالصة كما هو الرأي الشائع، وإنما تقوم ببناء الكونية المقصدية على الخصوصية التداولية، حيث التفريق بين الجانبين الكوني والمحلي، فاصطلح على الأول "المكوِّن العباري"، ويمثل المشترك بين المجالات التداولية، كما اصطلح على الثاني "المكوِّن الإشاري"، ويعكس خصوصية كل مجال تداولي على حدة.
فهذه هي الفكرة الأساسية لطبيعة الترجمة التأصيلية، حيث تحوّل المكوِّن العباري العام إلى المكوِّن الاشاري الخاص.
غير أن مشكلة هذه الترجمة هي أنها تُفضي عملياً إلى إعادة إنتاج النمط ما بعد الحداثي في مقاربة النصوص، عبر تفكيك النص الفلسفي الأصلي وتذويبه، فتفقده عناصره المفهومية الأساسية، وتُخضعه إلى أفق تداولي خاص يُعيد إنتاجه بطريقة تنسف بنيته المفهومية، مما لا يُبقي من معناه الأصلي سوى أشباح بعيدة. وهو مسلك يشبه إلى حد بعيد أطروحات ما بعد البنيوية والنقد الأدبي الفرنسي التي تُقصي المؤلف وتُطلق العنان للقارئ في إعادة تشكيل المعنى دون معايير مرجعية، بل تفتح الباب على مصراعيه أمام التأويلات الذاتية، دون ضوابط عقلية أو معرفية صارمة، وذلك على خلاف ما يفرضه المجال التداولي الإسلامي الذي يدعو إليه صاحبنا.
فقد ذهب طه ضمن مسلكه في "الترجمة التأصيلية"، إلى رفض ما درج عليه منظّرو الترجمة من تضييق دائرة التأويل والاكتفاء بالحد الأدنى منه، معتبراً أن هذا الرأي لا يخدم الغرض التواصلي الذي تتوخاه الترجمة الفلسفية. وبرّر دعوته لفتح باب التأويل على مصراعيه بثلاثة أوجه:
أولاً، أنه لا يمكن ـ بحسبه ـ ضبط مقدار التأويل بمقاييس معيارية موضوعية، نظراً لتغلغل العوامل الذاتية والثقافية في وعي المترجم، مما يجعل كل قراءة مسبوقة بحمولة تأويلية لا فكاك منها.
ثانياً، أن الترجمة بوصفها ضرباً من القراءة والتأويل، تكون خاضعة لما يخضع له التأويل ذاته من تردد بين التناهي واللاتناهي، وبالتالي فالترجمة لا يمكن تحديد مداها التأويلي بصورة نهائية.
ثالثاً، أن الغاية التواصلية للترجمة تُبرّر الأخذ بالتأويل غير المحدود، طالما أن المقصود هو إيصال المعاني إلى البيئة التداولية الجديدة، بما يلزم من تكييف وتحوير يتلاءم مع الخصوصية المحلية كي يخدم التبليغ (أو التواصل).
هكذا رجح طه الأخذ بما أصبح رأياً شائعاً في أدبيات ما بعد الحداثة، حيث يُعدّ النص مفتوحاً على التأويل بلا ضوابط أو نهايات، ويُتاح للقارئ ـ أو المترجم ـ أن يُعيد تشكيله كيفما شاء، دون رجوع إلى معيار موضوعي أو مقصد مؤلف.
وعلى الرغم من تبني هذا الموقف ضمن سياق تأصيلي يدّعي الارتباط بالمجال التداولي الإسلامي، إلا أنه يكشف في عمقه عن انخراط فعلي في المجال التداولي لما بعد الحداثة، الذي يقوم على تفكيك النصوص وتغييب المؤلف وتسييل المعنى. وبهذا فإن طه لا يخدم المجال التداولي الإسلامي كما يزعم، بل يعمل ـ بوعي أو بغير وعي ـ على زرع منطق ما بعد الحداثة فيه قسراً.
ولا شك أنه لو قُدّر لهذا النوع من الترجمة أن ينجح، فسوف يخلق فضاءً من الفلسفة الموازية التي تتجاهل الفلسفة الأصلية وتفكك سياقاتها، تماماً كما فعل هايدجر حينما أقام فلسفة بديلة عبر الالتصاق بالمعنى اللغوي البدئي لألفاظ الفلسفة الإغريقية، متجاوزاً بذلك سياقاتها الاصطلاحية الدقيقة. فمن هذا المنطلق بنى اشتقاقاته اللغوية وفتح المجال لبناء روابط دلالية منفلِتة، أشبه بما يفعله الشاعر في تداعياته الحرة، بل والقيام بإعادة نقل المفهوم إلى لغة أخرى عبر معانٍ منتخبة لا تمت بصلة إلى لسان الأصل ولا إلى مفاهيمه، بل تُنتزع بما يخدم الغرض المسبق الذي يتوخاه المترجم، لا بما يمليه النص ذاته من دلالة أو نسق.
فقد عمد هايدجر إلى تفكيك مفاهيم محورية، مثل "اللوغوس"، من خلال ردّها إلى جذرها اللغوي العادي بدلاً من معناها الاصطلاحي الفلسفي، ثم أعاد تشكيلها داخل اللغة الألمانية بما يتناسب مع رؤيته المسبقة، فبدأت سلسلة من الاشتقاقات الدلالية والربط المفاهيمي الجديد، محكومة بسُلطة التوجيه القبلي، ومقطوعة الصلة عن المجال التداولي اليوناني الأصلي.
فبفضل هذه السلطة القَبْلية، انتهى هايدجر إلى فرض دلالات صوفية-وجودية على المفهوم المنتزع من الأصل اللغوي لـ "اللوغوس"، موهماً بأن اللغة هي نظام وجودي مفعم بالحقائق التي يستكشفها الشاعر بمشاهداته القلبية قبل أن يستجليها المفكر بتحليله النظري. لكن ما قام به في حقيقة الأمر يعبّر عن الإرادة القبلية التي حدد من خلالها المعنى سلفاً لإسقاطه على النص، وليس انكشافاً لما تنطوي عليه اللغة، أو كما ادعى بأن اللغة تحمل سرّ الوجود، أو مسكونة بالكينونة الوجودية.
فقد اعتبر هايدجر ان المفاهيم الفلسفية هي معان مشخصة لا يمكن الحاقها بالاصطلاحات العلمية، لكونها ليست تصورات مجردة، فموطنها الحقيقي ليس في المفاهيم، بل في الإشارات الشعرية التي تنطوي وحدها على المعاني، لهذا دعا إلى ان تُنسب فلسفته إلى "الممارسة الفكرية" لا إلى "المعالجة النظرية"، ساعياً بذلك إلى تحويل الفلسفة من علم منضبط إلى أدب منفلت، عبر استرسالات لغوية تبعث على التصورات الصوفية، فهي أقرب بالتداعيات الحرّة منها إلى مباحث الوجود الممنهجة.
هذه هي طريقة هايدجر كما عرضها طه بالتفصيل المفيد، وقد أيّده فيها وسار على خطاه، ولم يجد ما يعارضه فيها سوى أن هايدجر حصر الاقتدار الفلسفي على اللسانين اليوناني والألماني. وكما صرّح بالقول: «على قدر ما أخطأ هايدجر في ان يقصُر النبوغ الفلسفي على اللسانين اليوناني والألماني؛ فإنه أصاب في ان يعتمد رصيدهما الإشاري في بناء مفاهيمه الفلسفية تاثيلاً لها؛ حتى تحظى بأسباب الاستشكال الفكري المستمر بحيث يكون لنا في هذا الفيلسوف العظيم في أمّته خير نموذج ينبّه المتفلسف الغافل على الكيفية التي ينبغي ان يضع بها مفاهيم فلسفية تكون مؤثلة بحسب الامكانات الاشارية التي تختص بها لغته».
وعلى الرغم من أن طه اعتبر اللسان العربي غنياً بالقابلية على التفلسف، بما لا يقتصر على اللسان اليوناني أو الألماني، إلا أنه لم يستثمر هذا اللسان في حمل أسرار الوجود، رغم وجود اعتبارين كانا يتيحان له ذلك:
أولهما أن العربية هي لغة الدين الإسلامي، وهو الدين الإلهي الحق، إذ ﴿إِنَّ الدِّينَ عِندَ اللَّهِ الْإِسْلَام﴾ آل عمران\ 19، كما هو اعتقاده.
وثانيهما أن من الممكن توظيف نظرية "التوقيف" في تفسير نشأة اللغة، بدلاً من سائر النظريات الأخرى كالتواضع والاصطلاح، وهو الرأي الذي ذهب إليه عدد من العلماء، مستدلّين عليه بالآية الكريمة: ﴿وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاءَ كُلَّهَا﴾ البقرة\ 31، حيث فُسّرت الآية بأن الله علّم آدم جميع أسماء الأشياء، ألفاظاً ومعاني، أي علّمه اللغة كاملة.
وينسجم هذا التفسير مع ما ذهب إليه العرفاء من أن اللغة حاكية عن الوجود، وأن كل حرف عربي ينطوي على سرّ وجودي، كما أن كل كلمة مركبة من الحروف تشير إلى تركيبات وجودية بين الأشياء.
وسبق للشيخ داود القيصري ان أشار إلى أن الحروف كلها دالة على المعاني الغيبية في مفرداتها ومركباتها، لأن الكلمات موضوعة بإزاء الحقائق الإلهية والكونية، وأن الواضع الحقيقي لها هو الله تعالى، لذلك كان بين الأسماء ومسمياتها مناسبات حيث وضعت الألفاظ بإزائها[3]، ومن ثم كثرت التقابلات بين اللغة وحقائق الوجود واشتقاق الألفاظ بعضها من البعض الآخر لتعطي دلالات وجودية محددة وفق الرؤى القبلية. ويُعدّ ابن عربي أكثر الممارسين لهذا النمط من التفنن والاشتغال اللغوي بين جميع العلماء والمفسرين[4].
مهما يكن، فقد جاءت "الترجمة التأصيلية" على شاكلة النهج الهايدجري، عبر إنشاء فلسفة محلية موازية، مغلقة على ذاتها، لا تمتد جذورها في التربة الأصلية للنصوص الفلسفية، بل تُعاد صياغتها بما يتماشى مع المقاصد القبلية المسبقة للمترجم، لا مع مقتضيات الأمانة المعرفية.
فلقد حوّل هايدجر الفلسفة إلى مبنى فكري أشبه بالأدب، وذلك من خلال إعادة المفاهيم إلى أصولها اللغوية الأولى، معتبراً أن المعاني الفلسفية قد انحرفت عن دلالاتها الأصلية، غير عابئ بالبعد المعنوي للفلسفة ولا باستدلالاتها العقلية، بل رجّح على ذلك البعد اللغوي وتشقيق ما بدا له من اشتقاقات وارتباطات انسيابية مفتوحة. وهي ذات الطريقة الأدبية مهما أصبغ عليها هايدجر من بعد وجودي والتي توسعت آفاقها لدى تلامذته وأتباعه من رواد ما بعد الحداثة.
وكذلك الأمر في النهج الذي تبنّاه طه في ترجمته التأصيلية، حيث حوّل المعنى الفلسفي الذي يتوسل بالاستدلال ويبحث في حقائق الكليات إلى معنى أقرب إلى الأدب والفكر، وذلك وفق مقتضيات المجال التداولي. وفي الحالتين ثمة قتل للفلسفة ودفن لمقاصدها المعنية بالبحث عن الحقائق الكلية عبر الوسائط العقلية المتاحة.
لكن ثمة اختلاف بين مسلكي هايدجر وطه، فبينما ركّز الأول جهده على تحويل المفردة الفلسفية إلى مفردة لغوية، ليبني عليها منظومة فكرية موازية عبر الاشتقاقات والارتباطات الدلالية، جعل طه اهتمامه منصباً على تحويل النص الفلسفي إلى نص لغوي مغلق، ينضوي ضمن نسقه التداولي الخاص، يضاف إلى اهتمامه الثانوي بتحويل المفردة اللغوية إلى ما يقابلها من ترجمة تأصيلية، كما بدا في إشاراته إلى مذهب المفكر الفرنسي جيل دولوز خلال استعراضه له.
لكن في كلا الحالتين لم يذهب طه بعيداً في إنشاء منظومة فكرية اشتقاقية جديدة مثلما فعل هايدجر. بل بقي حبيس الترجمة اللسانية وإمكاناتها الاستشكالية بما لا يختلف من هذه الناحية عن الطريقة التي انتهجها شيخه الألماني.
فإذا كان المفكر الألماني قد بلغ غايته ببناء منظومة فكرية متكاملة عبر الترجمة والانخراط في اشتقاقات لغوية أفضت إلى فلسفة موازية، فإن المفكر المغربي لم يبلغ مثل هذه الغاية، بل ظل أسير الترجمة وما تحمله من تشوّهات وانقطاعات. ورغم سعيه إلى تأسيس مسار للإبداع الفلسفي من داخل المجال التداولي، إلا أن نهجه المغلق قد أضلّ السبيل، إذ لم يجعل من الترجمة التأصيلية منطلقاً لخلق مفاهيم جديدة تنبثق من جدلية التفكيك والتركيب، تؤول في النهاية إلى بناء منظومة مغايرة، تختلف تماماً عن النص الأصلي، كما وتختلف عن النص المترجم ذاته.
ولعلّ عذره في ذلك أنه لم يكن بصدد إنتاج فلسفة بعينها، بل انحصر همّه في بيان الكيفية التي يمكن من خلالها ابتكار فلسفة جديدة تنسجم مع المجال التداولي. فما قدّمه لا يعدو أن يكون رسماً لمخطط المصنع المفهومي، أو إعداداً لأرضية تأليفية تُبنى عليها فلسفة تتّسم بالاستقلال والجدة والأصالة، عبر توليف الحقول المفهومية المختلفة، كالذي أكّد عليه في خاتمة الجزء الثاني من (فقه الفلسفة).
ومثل ذلك ما صرّح به في أحد حواراته، من أن اللغة التي صاغ بها نظريته في الإبداع الفلسفي تتسم بقدر عالٍ من الدقة المضمونية والتقنية الاصطلاحية، بخلاف اللغة المطلوبة لوضع فلسفة مبتكرة خاصة، والتي – بحسب اعترافه – لم يشتغل فيها فعلياً، معتبراً أن لغته في بيان كيفية الإبداع الفلسفي هي أقرب إلى لغة العلم منها إلى لغة الفلسفة.
الترجمة التأصيلية والإبداع الفلسفي
لتبيان كيفية الاقتدار والإبداع الفلسفي اختار طه كوجيتو ديكارت ليطبق عليه الانماط الثلاثة للترجمة، وقد جاءت في ثلاثة فصول ابتداءاً من الترجمة التحصيلية، ومروراً بالترجمة التوصيلية، ومن ثم انتهاءاً بالترجمة المقترحة التأصيلية، وهي النمط الجديد الذي اعتبره يفي بشروط هذا الابداع.
وبحسبه تتمثل الترجمة التحصيلية للكوجيتو بالصيغة التالية: (أنا أفكر، اذن فأنا موجود) مثلما طرحها محمود محمد الخضيري، والتي اعتبرها صيغة تتضمن بعض المخالفات للأصل الفرنسي، فحسِبها متكلفة حيث ان “تركيبها غير قصير وفهمها غير قريب”. واعتبر أن النقل الصحيح للصيغتين اللاتينية والفرنسية هي القول: (أنا أفكر)؛ إن لم تكن أوفى بغرض ديكارت منهما، معللاً ذلك بأن هذا التعبير - العربي - يجمع بين حصول التفكير الذي يخبر به لفظ (أفكر)، وبين وجود الذات الذي يدل عليه لفظ (أنا)، وهو الجمع عينه الذي تفيده الصيغتان الأجنبيتان المشار إليهما. بل زاد على ذلك معنى إضافياً لمراد ديكارت تفي به اللغة العربية دون اللاتينية والفرنسية، وهو اظهار صفة الحدث التي يتصل بها التفكير لا الحالة.
أما الترجمة التوصيلية فتتمثل بهذه الصيغة: (أفكر، اذن أنا موجود) كالتي طرحها نجيب بلدي، وبحسب طه انها تختلف عن سابقتها لكونها تحذف بعض العناصر المطولة للجملة، مثل لفظ ضمير المتكلم المنفصل (أنا) الذي اعتبر ذكره ثقيلاً على اللسان وغير مصون عن اللغو وزائد عن اللزوم، من حيث سبقه للفعل المضارع عند الابتداء[5]. مع ذلك أشار إلى ان آفة هذه الصيغة ما زالت تحتضن تهويل بعض المعاني والحقائق التي يتضمنها المنقول، حيث تقع في تهويل أداة الربط "اذن"، ومثله لفظ "موجود".
فقد صرّح بأن من سمات التهويل في الترجمة العربية للكوجيتو استعمال لفظ "اذن"، حيث جميع النقلة لم يحذفوا هذا اللفظ كدلالة على الاستدلال؛ رغم ان ديكارت ما فتئ يؤكد بأن الكوجيتو ليس استدلالاً منطقياً وإنما هو استبصار حدسي.
كما أشار إلى تهويل لفظ "موجود"، حيث اعترض عليه من جهات لغوية، فاعتبر صيغة الفعل من هذا اللفظ أدل على مقصود ديكارت، بل وأن ألفاظاً أخرى تفضله في أداء هذا المقصود، مثل: (الكون والشيء والذات والحق). ومن ثم انتهى إلى ان الترجمة التوصيلية وان اجتهدت في اجتناب الاخطاء اللغوية للترجمة التحصيلية فإنها وقعت في اخطاء معرفية صريحة.
تبقى ترجمته التأصيلية المقترحة التي حددها بهذه الصيغة: (انظر تجد). وقد اختارها بعد أن استبعد صلاحية استخدام لفظ "الفكر" ومشتقاته للدلالة على ما يقابل معنى الكوجيتو.
فالترجمة المقترحة هي من وجهة نظر طه تمثل واحدة من الترجمات التأصيلية الممكنة، ووضعها بقصد أصلي هو تمكين المتلقي العربي من التفلسف. ففيها يتحول النص المترجم إلى مجالنا التداولي بخلاف الترجمتين الأخريين.
وقد استقبل الباحثون العرب هذا النمط من الترجمة بالاعتراضات المختلفة. وأجاب طه على بعض منها، بل وبرر فعله بالممارسة الهايدجرية كطريقة فلسفية قائمة على هذا النمط من التفكير اللغوي.
وقبل التطرق إلى نقد هذه الترجمة، نلاحظ انه لا فارق بين الترجمتين التحصيلية والتوصيلية للكوجيتو، أي ان ما اعتبره طه بأن ترجمة الكوجيتو التحصيلية هي حرفية بخلاف التوصيلية المعنوية؛ لا يعبّر عن حقيقة الحال. حيث كلاهما قد اجتهدا في نقل المعنى والمضمون، وان حذف الضمير المنفصل (أنا) من الترجمة الثانية أو ابقائه وفق الترجمة الأولى لم يغير من المعنى شيئاً، كما انه لا يخل باللغة، فليس بقاء الضمير المنفصل بالزائد أو الشاذ أو انه يسبب أي ضرر لغوي، فذكره متعارف عليه لدى الاستخدام العربي، سواء في النصوص الدينية أو غيرها، حيث يبدأ الكلام بهذا الضمير أحياناً عند استخدام الفعل المضارع.
والملاحظ ان الترجمة العربية لا تختلف عن الترجمة الانجليزية، سواء من حيث وجود لفظ الذات (أنا)، أو من حيث لفظ (اذن)، بل وحتى لفظ (موجود) أحياناً، ولفظ الذات أحياناً أخرى. أي ان الترجمة الانجليزية هي بمثابة ما يعبّر عنه طه بالتحصيلية. وربما أكثرها شيوعاً هي الصيغة التالية:
"I think, therefore I am"
وتأتي بعدها هذه الصيغة:
"I think, therefore I exist"
وثمة صيغ أخرى مقاربة لما سبق، أو قليلة الشيوع.
تحليل كوجيتو ديكارت
لقد استخدم ديكارت لفظ (أنا) للإشارة إلى الادراك الذاتي، وكانت كتاباته في هذا المجال مزدحمة باستخدام هذا اللفظ، حيث يعبّر عن تجربته الفكرية الخاصة، كالذي نلاحظه بوضوح في كتاب (تأملات). بل ان الكثير من الباحثين الغربيين اعترضوا عليه في استخدامه للفظ الذاتي (أنا). فكما سنرى ان هذا الاعتراض إنما جاء عن فيلسوف فرنسي معاصر لديكارت قبل ان يتكرر النقد ذاته لدى عدد من الباحثين الغربيين.
وللتفصيل استخدم ديكارت صيغاً مختلفة للتعبير عن مبدأ الكوجيتو. فاول صيغة ذكرها جاءت في كتابه (مقال عن المنهج) عام 1637، وهي تلك التي اشتهرت ضمن الترجمات الانجليزية والتي ركزت على (الأنا المفكرة I think). ثم اورد في (تأملات) عام 1641 عبارة تربط الشك بالوجود، وهي قوله: “لا يمكننا الشك في وجودنا حينما نشك”[6]. كما كرر هذه العبارة في كتاب (مبادئ الفلسفة) عام 1644[7].
وفي (تأملات) كشف عن استحالة ان يشك في وجوده الخاص. فحتى لو كان هناك كائن شديد القوة في المكر والخداع فإنه يعجز عن ان يجعل الشاك لا شيء، بل تبقى قضية وجوده يقينة غير قابلة للتضليل والخداع[8].
كما عبّر عن هذه الرؤية بالترادف أو البدل بين صيغتي "الشك" و"التفكير" في محاورته غير المكتملة، والتي كتبها سنة 1647 ضمن عنوان (البحث عن الحقيقة)[9]، حيث قال: “أنا أشك اذن أنا موجود، أو الشيء نفسه: أنا أفكر اذن أنا موجود”[10].
وفي هذه المحاورة قال أيضاً بلسان ايدوكس: أنتَ موجود وتعرف أنك موجود، وتعرف ذلك لأنك تشك، ولكنك أنتَ الذي تشك في كل شيء لا تستطيع ان تشكك في نفسك، فمن أنت[11]؟
وكان أول من أثار نقداً لاستخدام الذات أو (الأنا) في الكوجيتو، ومثل ذلك لفظة (اذن)، هو معاصر ديكارت الفيلسوف الفرنسي بيير جاسندي Pierre Gassendi الذي اعتبر صاحب الكوجيتو قد استخدم (الأنا) سلفاً، في حين ان أقصى ما يحق لديكارت قوله هو ان “التفكير يحدث” وليس “أنا أفكر”.
وعلى شاكلة جاسندي اعترض عالم الرياضيات والفيزياء الالماني جورج ليشتنبرغ Georg Lichtenberg بأنه بدلاً من افتراض وجود كيان يفكر، كان ينبغي لديكارت أن يقول: “التفكير يحدث”.
كما انتقد فريدريك نيتشه صيغة الكوجيتو لأنها تفترض وجود (الأنا) سلفاً. كذلك أكّد الفيلسوف الدنماركي سورين كيركجارد هذا الخلل في الكوجيتو الديكارتي، ورأى أن الصيغة المنطقية السليمة للحجة هي أن الوجود مفترض بالفعل أو مفترض سلفاً من أجل حدوث التفكير، لا أن يُستنتج الوجود من هذا التفكير[12].
وحقيقة ان الكوجيتو يعبّر عن دليل فطري لا يتفوق عليه دليل آخر. فهو يقدم الفكر على الوجود معرفياً، خلافاً للثبوت الذي يكون فيه العكس هو الصحيح. بمعنى ان الوجود سابق على الفكر ثبوتاً، فلا يمكن تصور الفكر بلا وجود، في حين يمكن العكس، حيث نفترض الوجود بلا فكر. لكن من دون الفكر من المحال معرفة إن كان ثمة وجود أم لا؟
فهذا هو فحوى ما يتضمنه النص الديكارتي، وهو بالضرورة لا بد ان يتخذ شكل (الأنا) من حيث انها الذات التي تفكر وتعي وجودها الخاص قبل وجود أي شيء آخر.
فالتفكير لا يحدث معلقاً في فراغ، بل هو مشروط بوجود محلّ خاص، خلافاً للمثال الأفلاطوني المستغني عن المحل. لذا لا مناص من التعبير عن (الأنا) صراحة أو ضمناً، تماماً كما لا يمكن إثبات وجود (الأنا) من دون افتراض حصول التفكير ابتداءً.
ومعلوم ان كتابات ديكارت ممتلئة في التعبير عن تجربة ذاته المدرِكة واسترسالاته الطبيعية من دون حاجة للحجاج المنطقي، كما يلاحظ مثلاً في (تأملات)، حيث أظهر بأن الكوجيتو هو مبدأ بديهي تام الوضوح وليس استدلالاً منطقياً، لذلك ردّ على ناقده جاسندي بهذا الخصوص. ورغم انه أبدى أحياناً طابع الاستدلال المنطقي للكوجيتو، لكن من دون ان يخل بالطابع البديهي لهذا المبدأ. فالاعتراف ببداهة المبدأ لا يتنافى مع تضمنه للبرهنة المنطقية.
وبحسب بعض الباحثين ان لفظة (اذن) الدالة على الاستدلال المنطقي قد ظهرت في (مقال عن المنهج) سنة 1637، لكنها اختفت في (تأملات) سنة 1641، لتعود مرة أخرى في (مبادئ الفلسفة) سنة 1644. أما في (البحث عن الحقيقة) فقد أكّد على عدم الحاجة إلى المنطق وصياغة الحجج مكتفياً بانوار العقل والحس السليم[13].
مع لحاظ أن الأصوب هو أن تكون العلاقة ليست بين الفكر والوجود، ولا بين الشك والوجود، بل بين الإدراك ــ بجميع أشكاله ومستوياته ــ والوجود. فالإدراك، مهما كانت صيغته، يدل على الوجود؛ سواء تمثّل بالفكر أو الشك أو حتى بمجرد التصور البسيط من دون حكم أو تصديق. إذ الشك والفكر قائمان على التصور، ولولاه لما أمكن الشك ولا الفكر.
لذلك فمن الناحية المنطقية كان الأجدر أن تُعاد صياغة الكوجيتو إلى القول: (أنا أُدرك فأنا موجود)، أو حتى: (أنا أتصوّر فأنا موجود). فكل هذه الصيغ تمثل الأساس الذي يقوم عليه الكوجيتو الديكارتي المعروف: (أنا أفكر فأنا موجود.. أو أنا أشك فأنا موجود). لكن مع مراعاة أن ديكارت قد ضمّن مصطلح "الفكر" كل صور الإدراك: الشك والإدراك والتخيل والتذهّن والحس والإرادة. وهو تعميم لحالة الفكر بجميع أنشطته الادراكية، بل ويشمل حتى بعض القوى النفسية، كالإرادة مثلاً[14].
مع هذا نرى أن من الناحية الحجاجية، تظل صيغة الشك هي الأقوى، إذ يصعب التشكيك فيها، بل إنها تُقدَّم كصخرة صمّاء لا يمكن نفاذ الشك منها، ومن ثم فهي أحق بأن تُتّخذ نقطة ارتكاز للمعرفة، كما أراد ديكارت.
فديكارت لم يبحث عن مضمون محدد للوجود بقدر ما كان ينشد نقطة يقين مطلقة، لا ينفذ إليها أي احتمال للخطأ أو التضليل. وقد مثّل لحالة هذا اليقين بما يشبه حالة أرخميدس، حينما طلب نقطة ثابتة ليحرّك منها الأرض. فكما أن أرخميدس طلب قاعدة مادية لتحريك الكوكب، فإن ديكارت طلب قاعدة معرفية لتحريك منظومة المعرفة البشرية من الشك إلى اليقين[15].
وفي محاورته قال بلسان ايدوكس: “من خلال الشك المطلق، باعتباره نقطة ثابتة وغير متحركة، أريد ان استنبط معرفة الله، ومعرفتك، وأخيراً معرفة كل الأشياء الموجودة في الطبيعة”[16]. كما أشار إلى ان كل الحقائق تتعاقب الواحدة تلو الأخرى وهي متماسكة فيما بينها بالرباط نفسه. فالسر كله يكمن في البدء بالحقائق الأولى، وبالأكثر بساطة، والارتقاء بعد ذلك ببطء وعلى درجات حتى الحقائق الأكثر بعداً والأكثر تركيباً[17].
مع هذا فديكارت ليس بصاحب إبداع جذري في التعبير عن الكوجيتو، حيث سبقه في ذلك العديد من الفلاسفة، وكل ما سعى إليه هو جعل الوضوح في هذا المبدأ اساساً مشروعاً لمحاولة إثبات سائر الموجودات المشكوك فيها؛ ابتداءاً من المسألة الإلهية، ومنها إلى العالم الموضوعي.
وربما يعود الأصل في الكوجيتو – بصريح العبارة - إلى الفيلسوف اوغسطين أوائل القرن الخامس الميلادي، فقد قال في كتابه (مدينة الله): “فيما يتعلق بهذه الحقائق، لا أخاف على الإطلاق من حجج الأكاديميين عندما يقولون، ماذا لو كنتُ مخطئاً؟ لأنه إذا كنتُ مخطئاً، فأنا موجود”.
وقد أبدى ديكارت، في عام 1640، امتنانه لأندرياس كولفيوس، صديق معلّمه إسحاق بيكمان، على تنبيهه إلى سبق أوغسطين في طرح فكرة الكوجيتو. وقال بهذا الصدد: “إنني ممتن لك لأنك لفتّ انتباهي إلى مقطع القديس أوغسطين المتعلق بعبارتي (أنا أفكر، إذن أنا موجود). لقد ذهبت اليوم إلى مكتبة هذه المدينة لقراءته، ووجدت بالفعل أنه يستخدمه لإثبات يقين وجودنا.. أما أنا فأستخدم الحجة لإثبات أن هذا (الأنا) الذي يفكر هو جوهر غير مادي.. ومن السهل والطبيعي استنتاج أن الإنسان موجود لمجرد كونه يشك؛ إلى حد يمكن أن يكون قد خطر على بال أي كاتب”[18].
وحقيقة يجد الناظر في كتابات ديكارت في هذا المجال استحضاراً لبعض الأفكار التي سبق طرحها على يد عدد من الفلاسفة القدماء، أبرزهم ابن سينا في نظريته "الرجل المعلق"، والغزالي في كتابه (المنقذ من الضلال).
خلل الترجمة التأصيلية
نعود الآن إلى الترجمة التأصيلية (انظر تجد)، فالملاحظ انها تحريفية مشوهة ومخلة بالمجال المعنوي المستخدم في الكوجيتو. وقد برر طه هذه الصيغة التحكمية بأنها كفيلة بالابداع الفلسفي. وكان من نتائجها استبدال مجال النص الخاص بالكوجيتو إلى مجال آخر بعيد. فالأول يتحدث عن شيء، والآخر يتحدث عن شيء مختلف تماماً. يضاف إلى ان الترجمة لم تحتفظ بطابع الحدس الفطري في الاستدلال الحضوري كما يتضمنه الكوجيتو. فالاخلال في الترجمة هو اخلال مادي (مضموني) وصوري.
ونتساءل: لماذا هذا التحريف المتعمد وفق الطريقة الجديدة المستلهمة من الروح الهايدجرية؟ ولماذا كان لا بد من ان تتخذ خصائص التحريف والتغطية والحذف، بحيث لم تترك للنص شيئاً يمكن ان يُذكّر به؟
وأيّ فتح للإبداع الفلسفي يمكن ان نجده في الترجمة المشوهة الدخيلة، وهي أقرب إلى روح العبثية التي امتازت بها الكثير من ثقافات ما بعد الحداثة؟!
كما أيّ أوصاف تداولية تشترطها الطاهية في صيغتها المترجمة، لا سيما ان اسلوبها شبيه باسلوب ما جاء في الانجيل[19]، بل ورغم وجود بديل عنها شائع لدى التراث كما سنرى؟
فقد أورد طه صيغته المترجمة في الجزء الأول من (فقه الفلسفة) قبل أن يصادف نصاً تراثياً صريحاً بذات الصيغة، وهو بيت شعر لابن عجيبة يقول:
يا تائهاً في مَهمَه عن سره انظر تجد فيك الوجود بأسره
لكن هذا الاستشهاد يبدو يتيماً وسط المجال التداولي للتراث[20].
أما عن الإبداع الذي تحدث عنه هذا المفكر فهو اسم بلا مسمى، فقد اعتبر أن التوصل إلى ترجمته (انظر تجد) يفتح باب الإبداع بما يزيد على أصلها اللاتيني أو الفرنسي، فواضع الكوجيتو أراد إثبات وجود الذات (الأنا)، ثم استنتاج وجود الله ووجود العالم من هذا الإثبات الأول. في حين ان صيغة (انظر تجد) تفتح الطريق للإثبات من نفس الرتبة لهذه الموجودات الثلاثة (الذات والله والعالم)، بحيث يمكن القول: انظر تجد نفسك، وانظر تجد الله، وانظر تجد العالم. وكما قال: نحن أمام عبارة نستطيع ان نستنتج منها أدلة ديكارت الثلاثة المعروفة بالسوية. ويبقى الباب مفتوحاً لترتيب هذه الأدلة بحسب اعتبارات أخرى للمتفلسف؛ كأن يختار ان يقدم إثبات وجود الله باعتبار الأصل الذي يتفرع منه لإثبات الآخر وهكذا..
وحقيقة، لا يوجد أي تكافؤ معنوي بين الدلالة التي يتضمنها كوجيتو ديكارت وعبارة طه التحريفية، فالكوجيتو مخصص لشيء محدد مرتبط بإثبات الأنا الذاتية من خلال العلاقة الفطرية التي تربطها بالفكر. وهي علاقة تُفضي إلى يقين مطلق لا يقبل الشك، وتمثّل نقطة ارتكاز يتأسس عليها إثبات المسألة الإلهية أولاً، ثم العالم الموضوعي ثانياً، وكل ذلك ضمن نسق من الاستدلالات العقلية. في حين ان عبارة طه تفتقر إلى هذه العلاقة الفطرية مقارنة بالكوجيتو الديكارتي، كما أنها تخلو من التسلسل الضروري في العلاقة بين الموجودات. فهي لا تنطلق من يقينية إثبات الذات كبداية ضرورية للبرهنة على سائر الموجودات، بل تضع الموجودات الثلاثة في صيغة أفقية متجاورة لا يُفهم منها ترتُّب في الدلالة، ولا ترابط في الحجية. وبالتالي فإنها تتعامل مع هذه الموجودات على قدم المساواة، من دون أن يكون لبعضها مدخلية في إثبات البعض الآخر. وهو ما يُخالف جوهر الكوجيتو القائم على أولوية الأنا في الإثبات، كما أن ظاهر العبارة الطاهية يخلو من أي طابع استدلالي أو استنتاجي.
مهما يكن فإن مبدأ الكوجيتو هو ذو طابع الزامي حتمي لا يقبل الاحتمال بأي شكل من الأشكال. فالاستنتاج المطروح يمكن اعتباره بديهياً من دون امكانية أخرى. في حين ان عبارة طه لا تحمل هذا الأساس الملزم، حيث تفتقر إلى اللزوم بين النظر ووجدان الأشياء، أو انه ليس فيها من اليقين والضرورة ما لدى الكوجيتو، حيث ان الناظر قد ينظر ولا يصل إلى وجدان شيء، سواء كان الشيء موجوداً بالفعل أو معدوماً، خلافاً للضرورة التي يتضمنها الكوجيتو.
فأقصى ما يمكن أن تدل عليه عبارة (انظر تجد) هو أنها تفترض وجود الشيء سلفاً، وأن التوصّل إليه رهن بحدوث النظر، الذي قد يُفضي إلى نتيجة، وقد لا يُفضي، على شاكلة ما صوّره هانز ريشنباخ في تفسيره الوضعي الاستقرائي للعلم من منظور براجماتي، حيث شبّه ذلك بصياد السمك الذي يُلقي شبكته في موضع محدد من البحر، من غير أن يجزم بوجود السمك، لكنه يعلم أن الاصطياد إن كان ممكناً فسيكون رهين الإلقاء في البحر[21].
من جهة أخرى، فإن الصيغة الطاهية تقترب من العبارة المألوفة في تداولنا الثقافي (من جَدّ وجد)، وهي عبارة متجذّرة في كتب الأدب والأمثال التراثية، ويمكن تلخيصها بلغة أقصر وأكثر اقتصاداً بالقول: (جِدْ تجد) [22]. وهذه العبارة أوفق من عبارة طه، إذ تستند إلى مصدر لغوي واحد يجمع بين الفعلين (جَدَّ، وجدَ)، خلافاً للصيغة الطاهية التي تستند إلى مصدرين منفصلين (نظرَ، وجدَ)، كما لا تجمعهما رابطة معنوية متينة مقارنة بالأولى.
كذلك لو ان طه استخدم لفظ "الإبصار" بدلاً من "النظر"، لكان أقرب إلى الدلالة الصوفية التي يدعو إليها. فالبصيرة، بخلاف النظر العقلي، تشير إلى مقام أرقى، كما عبّر الغزالي عن ذلك حين قال: «من لم يشك لم ينظر، ومن لم ينظر لم يبصر، ومن لم يبصر فهو في العمى والضلال»[23]. فالإبصار يحمل دلالة مزدوجة: حسية وباطنية، عقلية وذوقية، مما يجعله أوفق لما يطمح إليه الخطاب التأويلي الطاهي.
مع هذا نقول إن كل ما سبق يمثل تحريفاً مشوهاً للكوجيتو الديكارتي، حيث تفقد فيه الترجمة مبررها وجدواها، لتتحول إلى تمرين لغوي عبثي، بلا عائد فلسفي يُذكر. إذ يمكن انشاء الصيغة الطاهية وما شاكلها بأيسر الطرق، ومن دون حاجة إلى ترجمة أصل فلسفي دقيق. فإنْ نحن عجزنا عن إبداع حكمة جديدة، فالأوْلى أن نرجع إلى تراثنا الزاخر بالحِكَم البليغة، وتطويرها بأساليب إبداعية معاصرة، دون السقوط في فخ الترجمة التأصيلية التي تُقحم الأدب في الفلسفة، وتُقوّض البنية الحجاجية العقلانية، وتُقدّم نصوصاً أقرب إلى الشعر منها إلى نسق المفاهيم الفلسفية الصارمة.
[1] شفاء العليل في مسائل القضاء والقدر والحكمة والتعليل، ص156. وشرح العقيدة الطحاوية، فقرة (قوله: ما زال بصفاته قديماً قبل خلقه).
[2] انظر حول ما سبق: النظام المعياري.
[3] مطلع خصوص الكلم، ج2، ص434-435.
[4] للتفصيل انظر: النظام الوجودي.
[5] المصدر السابق، ج1، ص424.
[6] رينيه ديكارت: تأملات، ترجمة كمال الحاج، منشورات عويدات، بيروت - باريس، الطبعة الرابعة، 1988م، الفصل الثاني، فقرة 4.
[7] رينيه ديكارت: مبادئ الفلسفة، ترجمه وقدّم له وعلق عليه عثمان امين، مكتبة النهضة المصرية، القاهرة، 1960م، ص92.
[8] تأملات، الفصل الثاني، فقرة 4.
[9] لقد نُشرت هذه المحاورة بعد وفاة ديكارت في (29 صفحة) من القطع المتوسط (انظر مقدمة المترجم مجدي عبد الحافظ للمحاورة، ص22.
[10] رينيه ديكارت: محاورة ديكارت: البحث عن الحقيقة بواسطة النور الطبيعي، ترجمة وتقديم مجدي عبد الحافظ، المركز القومي للترجمة، القاهرة، الطبعة الأولى، 2007م، ص103.
[11] محاورة ديكارت: البحث عن الحقيقة بواسطة النور الطبيعي، ص90.
[12] انظر الاراء السابقة في:https://en.wikipedia.org/wiki/Cogito,_ergo_sum
[13] انظر: محاورة ديكارت: البحث عن الحقيقة هامش المترجم المرقم 12، ص112-113.
[14] تأملات، الفصل الثاني، فقرة 9.
[15] المصدر السابق، الفصل الثاني، فقرة 2.
[16] محاورة ديكارت: البحث عن الحقيقة، ص90.
[17] المصدر السابق، ص108.
[18] انظر:https://en.wikipedia.org/wiki/Cogito,_ergo_sum
[19] هذا ما استدل به بعض الباحثين، وهو ان الترجمة الطاهية (انظر تجد) قد جاءت على شاكلة الصيغة الواردة في انجيل متى ولوقا كالتالي: “اسألوا تعطوا. اطلبوا تجدوا. اقرعوا يفتح لكم” (انظر: أمير الغندور: حول نظرية الترجمة عند طه عبد الرحمن، ضمن مقالات مؤسسة مؤمنون بلا حدود، 2016م). انظر: https://www.mominoun.com/articles/-4600
[20] لقد عبّر طه في أحد حواراته عن سروره بأن جاءه شخص بعد صدور (فقه الفلسفة) يحمل إليه كتاباً يتضمن بيت الشعر المذكور، حيث وردت فيه ذات العبارة التي استخدمها في الترجمة، وهو كتاب (تقييدان في وحدة الوجود) لابن عجيبة (انظر: الحوار اُفقاً للفكر). ويتضمن البيت الشعري فكرة وحدة الوجود كالذي يفيده عنوان الكتاب.
[21] نشأة الفلسفة العلمية، ص215. أيضاً: الاستقراء والمنطق الذاتي.
[22] بحثنا في الشبكة العنكبوتية عن العبارة التي اقترحناها (جِدْ تجد) فصادف ان وجدناها مذكورة بالنص لدى أحد دروس الخطيب السعودي علي القرني، إذ يقول: “أنت لا تعيش لنفسك، ويجب أن تقنع نفسك أنك لا تعيش لها، جِد تجد، ليس كمن سهر من رقد”. لاحظ: علي بن عبد الخالق القرني: دروس صوتية قام بتفريغها موقع الشبكة الإسلامية، الدرس 17، ص20. انظر: http:// www.islamweb.net
[23] الغزالي: ميزان العمل، تحقيق وتقديم سليمان دنيا، دار المعارف بمصر، الطبعة الأولى، 1964م، ص408 و228. كذلك: نظم التراث، ضمن سلسلة المنهج في فهم الإسلام (2).