يحيى محمد
إن العرفان الصوفي هو كالفلسفة جعل من الوجود موضوعاً لقراءته، كما وجعل من الإمتثال للوجود والإتحاد غاية مطلوبة، وجاء في تعريفه بأنه «علم يبحث فيه عن الذات الأحدية واسمائه وصفاته من حيث أنها موصلة لكل من مظاهرها ومنسوباتها إلى الذات الإلهية، وموضوعه الذات الأحدية ونعوتها الأزلية، وصفاتها السرمدية وبيان مظاهر الأسماء الإلهية والنعوت الربانية».
فالعرفان الصوفي المنظّر لا يختلف كثيراً عن الفلسفة من حيث الرؤية وتحليل الوجود رغم إختلاف أداة التفكير لديهما، إذ كلاهما يتأسس على نفس الدينامو من التفكير الوجودي، رغم التباين في الإعتبارات الخاصة بهذا التفكير.
ولا بد من التمييز بين صنفين من الصوفية، مع وجود ثالث يقترب من أحدهما دون الآخر.
فقد أُطلق لفظ التصوف ومشتقاته في تراثنا الإسلامي على مسلك الزهّاد وأصحاب الكرامات والعبادة والتوجهات الروحية والنفسية والأخلاقية، وقد ينتمي إلى المحدثين أو علماء الكلام وحتى الفقهاء. فهو مسلك لا يخرج عن أُطر ومناهج النظام المعياري، وبدأت نشأته منذ القرن الثاني للهجرة. ويمكن تسميته بالتصوف الزهدي.
كما أُطلق هذا اللفظ على مسلك معرفي خاص يقترب عن المنحى الفلسفي المتعارف عليه ضمن النظام الوجودي، وسمته انه يولي أهمية للتعرّف إلى حقيقة الوجود، وانه قائل بنظرية (وحدة الوجود)، وهو الذي يعنينا دون الأول. ويمكن تسميته بالتصوف الفلسفي.
كذلك توسط بينهما اتجاه ثالث يولي أهمية لأحوال النفس وأخلاقها ومقاماتها وايصالها إلى أعلى مراتب التوحيد، مع ابراز العوامل التي تجعلها قادرة على الكشف القلبي والقرب من الحق تعالى والتعبير عن شهودها إياه في كل شيء عبر الفناء عن الخلق وعن النفس وعن الدعوة والاستجابة للرب والبقاء بالحق، وبحسب تعبير المتصوف المعروف أبي القاسم الجنيد (المتوفى سنة 298هـ) عن أحد وجهي توحيد الخواص، كما في رسالة التوحيد، هو أن يتصف الموحِّد بـ «شبح قائم بين يدي الله ليس بينهما ثالث، تجري عليه تصاريف تدبيره في مجاري أحكام قدرته، في لجج بحار توحيده، بالفناء عن نفسه وعن دعوته الحق له وعن استجابته له، بحقائق وجوده ووحدانيته في حقيقة قربه بذهاب حسّه وحركته لقيام الحق له فيما أراده منه».
وهذا الاتجاه صريح القول بما يُطلق عليه (وحدة الشهود) وذلك عبر الفناء، حيث يبدو الشاهد هو المشهود، لكن الحقيقة الوجودية تبقى ثنائية معبّرة عن الخالق والمخلوق. وقد ينزلق إلى ما يؤيد القول بوحدة الوجود. ويمكن تسميته بالتصوف الشهودي.
وتعود نشأته إلى القرن الثالث الهجري، وتم التعبير عنه بأنه يمثل التصوف السنّي تمييزاً له عن التصوف الفلسفي، لا سيما انه لا يدعي (وحدة الوجود) صراحة، لكنه مع ذلك يمتلك الوسائل الكشفية التي تجعله لا يبتعد عنها. لذلك ثمة من رأى ان الجنيد انتهى به الحال إلى القول بوحدة الوجود. وواضح حال تلامذته أمثال الحلاج والشبلي، وكذا هو حال الإمام أبي حامد الغزالي فيما بعد. وبالتالي فهو منزلق خطير، فأرباب القول بوحدة الوجود الصوفية يعتمدون في دعواهم على (وحدة الشهود) المعرفية. وكلا الطرفين يعتمد على ذات الآلية الكشفية، ويمتلك ذات الوسائل الاستبطانية التي تهيء القول بوحدة الوجود، ومثل ذلك حالتا الاتحاد والحلول. والبعض من أصحاب صوفية (وحدة الشهود) متهم بمثل هذه المقولات، وهي أقرب للنصوص الهرمسية كالتي عرضنا بعضاً منها في دراسة مستقلة. ولا يستبعد أنها متأثرة بذلك، ومن ثم نعتبرها ملحقة بالصنف الثاني من الصوفية دون الأول، فكلاهما ينتمي إلى التصوف العرفاني بخلاف الأول، مع أخذ اعتبار وجود بعض الأصناف التي تتميز بالتلفيق بين طبيعتي النظامين الوجودي والمعياري الذين فصّلنا الحديث عنهما في أغلب أجزاء سلسلة المشروع الخماسي (المنهج في فهم الاسلام).
إذاً، لدينا تصوف زهدي وتصوف فلسفي وتصوف شهودي، وان الأخيرين ينتميان للتصوف العرفاني والوجودي بخلاف الأول، وان التصوف الفلسفي يتضمن القول بالتصوف الشهودي من دون عكس. وكلاهما حاضران في الوسط السني، لا سيما التصوف الشهودي. أما في الوسط الشيعي فيبرز التصوف الفلسفي، ويصعب ان نجد ما يقابله من التصوف الشهودي.