يحيى محمد
لا تقتصر الممارسة الإجتهادية على البحوث الفقهية؛ رغم أن شيوع إصطلاح (الإجتهاد) لم يعرف إلا في هذه البحوث. فمن النادر ما يُعبّر عن البحث في قضايا العقائد وعلم الكلام بالإجتهاد، بل غالباً ما يعبر عن ذلك بلفظتي (النظر والعلم). فمثلاً يقول علماء الكلام حول قضية عقائدية ما: «يجب على المكلف العلم أو أن يعلم..»، أو يقولون: «يجب عليه النظر أو أن ينظر..»، من غير أن يقولوا: «يجب عليه الإجتهاد أو أن يجتهد.. ».
ويعود السبب ذلك إلى تصور العلماء بأن من الواجب في القضايا الرئيسة لعلم العقائد أن تفضي إلى الجزم واليقين؛ لا الظن الذي هو من لوازم عملية الإجتهاد في الغالب. لهذا يقول البعض: «كل ما هو معقول ويتوصل إليه بالنظر والإستدلال فهو من الأصول. وكل ما هو مظنون ويتوصل إليه بالقياس والإجتهاد فهو من الفروع»[1].
هكذا أخفى علماء الكلام حقيقة الحركة الإجتهادية في الموضوع الذي تناولوه بالبحث والتحقيق. فهم من حيث المبدأ لم يجيزوا الإجتهاد ما دام يفضي إلى الظن، إذ الظن والشك والجهل والتقليد كلها تعتبر - لدى أغلب علماء الكلام - من موجبات الكفر والضلال. الأمر الذي أدى إلى غلق باب النظر في العقائد بالجمود والتقليد، خلافاً لما حصل - نسبياً - في علم الفقه، مع أن النظر أو الإجتهاد في العقائد أشمل وأقدم وأولى منه في الفقه. إذ لولا الأول ما صح الثاني لتوقف مباني الفقه على صدق العقيدة. كذلك فإن الإجتهاد في العقائد عيني يتعلق بكل مكلف، بينما هو في الآخر كفائي.. فرغم هذه الأهمية لعلم العقائد؛ نجده بخلاف نظيره الفقه قد أُسدل الستار عليه، حتى أن الحوزات العلمية لا تخصص له باباً للدراسة والمباحثة، وهي إن فعلت أحياناً فإنما تفعل ذلك لأجل التقرير لا التحقيق. أما على صعيد الحركة العلمية؛ فربما أُقفل باب النظر في العقائد بعد أن وصل الجدل بين المذاهب أوجّه ولم يعد هناك سوى المختصرات والشروحات والتقريرات المذهبية. في حين لا يزال الفقه يتمتع بحركة علمية، كالذي يجري في الوسط الشيعي.
مع أن هناك مفارقة، فحيث أن النظر والإجتهاد في العقائد يعتبر واجباً عينياً يلوح كل مكلف؛ لذا كان المتوقع أن تلزم عنه الحركة والدينامية، خلافاً للفقه؛ حيث الإجتهاد فيه كفائي، مما يجعله أقل حركة وثراء لكونه يقوم في الغالب على التقليد. وعليه نتساءل عن علة تحول ما يلزم فيه الإجتهاد إلى تقليد، وما يلزم فيه التقليد إلى إجتهاد، ولو ضمن حدود؟
بداية نعترف بأن من بين الأسباب الهامة التي جعلت من الفقه يتحرك حركة تفوق حركة علم الكلام، مهما كانت محدودة ونسبية، ما يعود إلى إعتبارات موضوع العلم الذي يبحثه كل منهما. فالعلم الأول مرتبط بحياة الإنسان العملية، وهي متغيرة على الدوام، لذا يتحتم على هذا العلم أن يواكب ما يطرأ عليها من تطورات، خلافاً لعلم الكلام الذي يبحث في قضايا متعالية لا تقبل التغيير والتجديد، ولا تتعلق بزمان دون آخر، الأمر الذي جعل من نتائجه ثابتة لا تتغير بتحول الزمان وتجدد الأحوال[2]..
مع هذا هناك عامل اخر أهم، فرغم أهمية ما يقوم به علم الكلام من الدعوة للحث على النظر والبحث في العقائد؛ إلا أن هذه الدعوة لم تتجرد عن نزعة التكفير التي كان لها أثر بالغ في جمود هذا العلم وتوقفه. فقد يصعب على الفرد في هذه الحالة أن يخرج عن الضغوط النفسية والإجتماعية للبيئة التي تربى في أحضانها، خاصة وأن الإنسان ميّال للتقليد بسبب الإلفة. وهذا ما جعل المكلف مقلداً لا يتجرأ على الإجتهاد والنظر حتى لو تظاهر بذلك؛ كالذي جرى لدى الكثير من المتوسمين بإسم العلم.
ويعتبر ما ذكرناه مخالفاً لما يدعيه الكثير من علماء الكلام من أن الإنسان بطبعه يندفع إلى النظر في البحث عن الحقيقة، بسبب عامل الخوف، حتى جعلوا من الأخير أعظم أدلتهم على وجوب النظر، فذكروا بأنه قد تقرر في العقول وجوب دفع الضرر عن النفس، سواء كان هذا الضرر معلوماً أو مظنوناً، ففي كلتا الحالتين يجب على الإنسان أن يتحمل مسؤولية النظر[3]. ثم راحوا يعددون دواعي الخوف فذكروا منها ما قد يسمع الإنسان من الإختلافات المذهبية لدى الناس، حيث يرى أن كل مذهب يضلل أو يكفّر ما عداه من المذاهب فيخاف من ذلك الضلال والخسران، وهذا ما يدعوه إلى النظر والتفكر لاكتشاف الحقيقة، ومنها ملاحظة ما في نفسه من آثار النعم فيخاف إن لم يعرف المنعم ويشكره فسوف يتعرض إلى العصيان مما يجعله مستحقاً للذم والعقاب، ومنها حصول الخواطر من قبل الله تعالى أو الملائكة[4]. بل افترضوا حتى مع عدم إلتفات الإنسان إلى أي داع يدفعه إلى الخوف من العوامل الخارجية؛ كان لا بد على الله تعالى أن يلهمه الخاطر ليتنبه ويشعر بوجوب النظر[5]. وتأكيداً لهذا الوجوب صرح أبو هاشم الجبائي بأن عدم عقاب تارك النظر ما هو إلا إغراء بالقبيح[6].
لكن في دراسة مستقلة كشفنا عن موارد الخلل والتناقض لمثل هذه الأدلة المتعالية[7]. فالمكلف سواء قلّد المذهب الذي نشأ وتربى فيه، أو اجتهد وأدى نظره إلى مخالفة هذا المذهب، ففي كلا الحالين يُحكم عليه – مبدئياً - بالكفر أو الضلال.
وشتّان بين الكفرين: إذ الكفر الثاني مفضوح، فهو يتضمن المخالفة والخروج على الدائرة المغلقة لما يسمى بالفرقة الناجية وسط فرق الضلال[8]. بينما الكفر الأول خفي، بل هو مطلوب لأنه يرضي هذه الدائرة بعدم مخالفتها والخروج منها. وهو ما يكرس التقليد دون الإجتهاد، إذ يصبح النظر والإجتهاد مذموماً ومحكوماً عليه بالكفر أو الضلال إذا ما أخرج المكلف عن دائرته المذهبية التي صادف أن تربى في ظلها. في حين يصبح التقليد مرغوباً به - عملياً - لأنه يمثل أفضل سلوك للحفاظ على ثبات المذهب وديمومته.
التكليف بالعقائد والنزعات المتساهلة
لا ينكر أن هناك إتجاهات إتخذت مواقف متباينة دون الاصرار على وجوب تحصيل العلم والقطع في العقائد، ولا وجوب النظر والإجتهاد فيها.
فهناك من رأى صحة تحصيل العلم أو الجزم بالأُصول ولو من حيث التقليد، فقد أباحه قوم من أصحاب الشافعي كما حكاه أبو الحسين المعتزلي[9]، وذهب إليه جماعة من الناس على ما نقله القاضي عبد الجبار الهمداني[10]، كما ذهب إليه الشيخ الأنصاري وكذلك الأصفهاني[11]. وعند البعض إنه وإن كان لا يصح عقد القلب على ما يقوله الغير في أُصول الدين، لكن يجوز الإكتفاء عنده بما يقوله الغير في هذه الأصول إن حصل منه اليقين ولا يشترط الإستناد إلى الدليل والبرهان، كما هو رأي الخوئي[12].
وهناك من رأى كفاية الظن المستفاد من النظر أو الإجتهاد في معرفة تلك الأصول، وهو ما ذهب إليه جماعة من أهل البصرة على ما حكاه القاضي الهمداني[13]، كما أنه المحكي عن الشيخ البهائي[14].
كذلك هناك من إكتفى بتحصيل الظن مطلقاً ولو عن تقليد، وهو المنسوب إلى المحقق الأردبيلي وتلميذه صاحب (المدارك) والمجلسي والمحدث الكاشاني[15]، وإن كان يبدو أن هؤلاء يشترطون أن يكون تحصيل الظن للحق دون سواه، أي أن يكون المكلف ظاناً بصحة الإعتقاد الذي عليه (الفرقة الحقة) أو الإمامية الإثنا عشرية لا غيرها.
واعتقد بعض آخر أن النظر أو الإجتهاد لتحصيل العلم أو الظن في معرفة الأصول وإن كان واجباً عقلياً مستقلاً إلا أنه معفو عنه من قبل الشرع، وبالتالي جاز التقليد في معرفة الأصول، وهو المنسوب إلى الشيخ أبي جعفر الطوسي[16]. وإن كان نفسه رأى تبرئة ذمة المقلد للحق دون سواه، حيث نصّ على أن المقلد للحق معفو عنه[17].
التخطئة والتبرئة
لقد دعت بعض الإتجاهات إلى تبرئة ذمة المجتهد إن أخطأ بعد بذله الوسع في البحث العقائدي. ويلاحظ أن للمعتزلة دوراً بارزاً في تبرئة ذمة المخالف للحق بعد بذله الجهد للنظر والإجتهاد. فقد نُقل عنهم أنهم رتّبوا الكثير من الأحكام العقلية إنطلاقاً من قاعدة العدل، منها ما يلي:
1ـ قولهم إنّ من لم تبلغه دعوة الإسلام وعرف بالعقل توحيد ربه وعدله وحكمته؛ كان حكمه حكم المسلمين، وهو معذور في جهله النبوة وأحكام الشريعة.
2ـ بل قولهم إنّ من لم تبلغه دعوة الإسلام ولم يعرف ربه فلا تكليف عليه، وليس له في الآخرة ثواب ولا عقاب. أما من عرف الله منهم ثم جحده فذلك عليه الحجة[18].
وقد إستدل الجاحظ على كون المخطئ في العقائد معذوراً لا إثم عليه ما دام أنه غير معاند إذا ما بذل أقصى جهده في النظر؛ لقوله تعالى: ((لا يكلّف الله نفساً إلا وسعها))[19]. ومثل ذلك ما رآه عبيد الله بن الحسن العنبري المعتزلي[20].
كما ذهب عدد قليل من علماء الشيعة الإمامية إلى تبرئة ذمة المجتهد المخطئ في العقائد؛ منهم الشيخ البهائي الذي وجد من شنّع عليه في إعتقاده بمعذرية المخطئ في الحق بعد بذله الوسع للنظر[21]. ومثل ذلك ما ذهب إليه الشيخ زين الدين العاملي الملقب بالشهيد الثاني ووافقه عليه الشيخ المعاصر محمد جواد مغنية؛ معتبراً كلامه يتفق مع أُصول الشيعة[22].
ولم يقتصر العاملي على الإعتقاد بمعذرية المخطئ في الحق إذا ما بذل جهده ووسعه في النظر، بل إعتبر المعذرية سارية للمقلّد أيضاً. وهو بهذا يعتبر أن من خالف الحق معذور، سواء عن نظر أو تقليد، الأمر الذي وجد من شدّد عليه النكير كالشيخ الأردبيلي[23].
أما إعتقاد علماء أهل السنة فقد نقل إبن حزم أن منهم من لا يكفّر ولا يفسّق مسلماً بقولٍ قاله في إعتقاد أو فتيا، بل له أجره على إجتهاده، وهو قول إبن أبي ليلى وأبي حنيفة والشافعي وسفيان الثوري وداود بن علي. وأضاف إبن حزم بأنه قول «كل من عرفنا له قولاً في هذه المسألة من الصحابة، لا نعلم منهم في ذلك خلافاً أصلاً إلا ما ذكرنا من إختلافهم في تكفير من ترك صلاة متعمداً»[24].
لكن مع ذلك يلاحظ أن ما نقله إبن حزم من التبرئة والتصويب لا يخرج عن حدود الدائرة الإسلامية للمكلف. بمعنى أن المكلف مبرئة ذمته ما دام يعتقد بالأُصول الدينية من التوحيد والنبوة والمعاد وما شاكلها..
التخطئة والتكفير
نعود الآن إلى ما سبق أن أشرنا إليه، وهو أن أغلب العلماء ذهبوا إلى وجوب النظر وتحصيل الجزم أو العلم في معرفة أُصول الدين والإعتقاد، حتى أشار صاحب (المعتمد) إلى ان أكثر المتكلمين والفقهاء منعوا التقليد في التوحيد والعدل والنبوات[25]. بل جاء عن البعض ان عليه الإجماع كما هو قول العلامة الحلي في (الباب الحادي عشر)[26].
وإذا كان الحلي لم يحدد جميع الواجبات على المكلف في العقائد سوى تلك التي تتعلق بأُصول الدين المتعارف عليها لدى الإمامية، كالتوحيد والعدل والنبوة والإمامة والمعاد؛ فإن هناك العديد من علماء الكلام جعلوا الواجبات التي تقع على عاتقه لا تقتصر على معرفة مثل تلك الأصول، بل أضافوا إليها الكثير من المسائل الكلامية الأخرى. فالمعتبر عند الكثير أن أُصول الدين الواجب إعتقادها ليست مجرد خمسة أو ثلاثة، وإنما تمثل غالب مسائل علم الكلام كما حددها المعتزلة[27]. وهناك من أضاف إلى ذلك ما أطلق عليه أُصول الشريعة؛ كالصلاة وعدد ركعاتها[28].
من هنا أصبحت الأدلة الكلامية واجبات يلزم على المكلف الإتيان بها. وإزدادت حمولة هذا التكليف عند الباقلاني في إذاعته لمبدأ (بطلان الدليل يؤذن ببطلان المدلول)[29]، حيث أصبح الدليل (شريعة)، والإجتهاد (نصاً).
والأهم من ذلك كله؛ أن الكثير من العلماء مالوا إلى الإعتقاد بأن من جهل أو قلّد أو شكّ في أُصول الدين فهو كافر. وكما ذكر الشريف المرتضى بأن المكلف إذا كان جاهلاً أو شاكاً أو مقلداً؛ فهو مضيع للمعرفة الواجبة وبالتالي يُحكم بكفره. لهذا كفّر المخالف، معتبراً أن المكلف وإن جازت عارفيته لله تعالى إلا أنه «لا يجوز أن يستحق الثواب على معرفته لوقوعه على غير الوجه الذي وجب عنه»[30]. ومثل ذلك ما فعله الشيخ الطوسي كما في بعض رسائله[31]. كما ذكر الشيخ محمد عبده بأنه «قد أجمع أهل التحقيق من كل طائفة، خصوصاً الشيخ الأشعري على أن المقلد في أُصول دينه ليس بمستيقن. وكل من ليس بمستيقن في الأصول فهو على ريب فيها، وكل من كان كذلك فهو كافر. أما الكبرى فظاهرة، وأما الصغرى فقد أقمنا عليها برهاناً حاصله أن المقلد: إما أن يعلم حقية ما عليه مقلده أم لا. الثاني: يستلزم المطلوب، فإنه إذا لم يعلم حقية ما عليه مقلده فهو متردد فيه، إذ ليس بعد العلم إلا التردد أو الجزم بالنقيض. وعلى الأول: إما أن يعلم الحقية بنظره أو بتقليد آخر. وعلى الثاني ننقل الكلام إليه، ويتسلسل، وعلى الأول قد صار مجتهداً ناظراً لا مقلداً، وهو خلاف المفروض، وليس بطلان التسلسل ههنا لما يبرهنون عليه، بل لإستلزامه عدم العلم، إذ لم يصل إلى ما به يعلم. فإذن كل مقلد فليس بمستيقن. بل ذلك يجده كل أحد، فإن كثيراً من الصلحاء الذين يدعون التدين تأتيهم الشكوك من بين أيديهم ومن خلفهم، ويزيلونها عنهم بالإعراض والإشتغال بأفكار أُخر، لكن ذلك لا ينفعهم، فإنه قد وقر في نفوسهم الزيغ، فإذا تعطلت الحواس بدا لهم ما كانوا يخفون، وهو سوء الخاتمة والعياذ بالله تعالى»[32]. وصرح أبو إسحاق الشيرازي قائلاً: «من إعتقد غير ما أشرنا إليه من إعتقاد أهل الحق المنتسبين إلى الإمام أبي الحسن الأشعري فهو كافر»[33]. لهذا كان الشافعي يقول: «رأيت أهل الكلام يكفر بعضهم بعضاً، ورأيت أهل الحديث يخطئ بعضهم بعضاً، والتخطئة أهون من الكفر».
وقد غفل هؤلاء أو تجاهلوا أن ذلك يفضي إلى تكفير أغلب المسلمين، إذ لا حول لهم ولا قوة في التمكن من البحث في الأدلة الخاصة بالأُصول، ومن ثم التوصل إلى القطع واليقين بالبرهان، لا سيما أن هذه الأصول هي موضع إختلاف المختصين وموارد الأخذ والرد بينهم، فكيف يتمكن بسطاء الناس من الإستدلال عليها؟!
هذا بالاضافة إلى أن لعامل الإلفة دوراً في حجب الناس عن التفكير خارج نطاق ما تفرضه عليهم البيئة المذهبية. لذا فالدعوة للمطالبة بالبحث في الأصول ما هي إلا صيغة مكرسة للتقليد كما أسلفنا.
العوام ومشكلة التكليف
يتضح مما سبق أنه لا معنى لمطالبة عامة الناس بتقديم الأدلة على الأصول والعقائد. فهم في الغالب قاصرون عن بلوغ المرتبة الإجتهادية. وقد اعترف بعض المتأخرين بمثل هذا القصور فبرّأ ذمة العوام من البحث في الأدلة، كالشيخ الأنصاري الذي صرح قائلاً: «إنّ الإنصاف أنّ النظر والإستدلال بالبراهين العقلية للشخص المتفطّن لوجوب النظر في الأصول لا يفيد بنفسه الجزم، لكثرة الشُّبَهِ الحادثة في النفس والمدوّنة في الكتب، حتّى أنهم ذكروا شُبَهاً يصعب الجواب عنها للمحققين الصارفين لأعمارهم في فنّ الكلام، فكيف حال المشتغل به مقداراً من الزمان لأجل تصحيح عقائده، ليشتغل بعد ذلك بأُمور معاشه ومعاده، خصوصاً والشيطانُ يغتنمُ الفرصة لإلقاء الشبهات والتشكيك في البديهيات، وقد شاهدنا جماعةً قد صرفوا أعمارهم ولم يحصِّلوا منها شيئاً إلا القليل»[34].
أما القول بأنه يكفي معرفة الإجمال من الأدلة كما ذهب إلى ذلك الشريف المرتضى والشيخ الطوسي وغيرهما[35]؛ فهو وإن كان في حد ذاته صحيحاً، لكنه لا يتحقق في الغالب على وجهه الصحيح. إذ تندفع الناس إلى أخذ المجمل من الأدلة بالتقليد من غير تحقيق؛ وفاقاً مع السائد فيما تفرضه الظروف الاجتماعية والبيئات المذهبية.
ومثلما ان هذا الحال من الإلفة يفضي إلى جعل الناس على حالهم من التقليد دون تغيير؛ فكذا أن نزعة التكفير المقترنة بالحث على النظر في الأدلة تكرس التقليد هي الأخرى بعدم مخالفة حدود المذهب. وللسبب السابق، إن نزعة التقليد قد تغلغلت وسط العلماء إلا ما شذّ منهم، إذ العالم لا ينشأ عالماً إبتداءاً، بل لا بد من أن يمرّ بمرحلة التقليد والتغذي من المذهب أو البيئة التي تربى في أحضانها، فتنعكس في نفسه صورة المذهب بما يتضمنه من معارف وميول تنمو معه عند الكبر، فيترآى له حين ذاك أن لديه ما يكفي من الأدلة على العقائد، رغم أنه استمرأها وهو ما زال في مرحلة النشء والصغر. لذلك لا نرى من العلماء من إنقلب على إعتقادات بيئته، فكلٌ يدافع على ما يمنعه الآخر بحسب موقعه المذهبي، من غير تبادل في المواقع إلا ما شذ وندر. فالشيعي يظل شيعياً، كما أن السني يظل سنياً، وكذا اليهودي والنصراني وغيرهم من علماء المذاهب والأديان والطوائف.
وقديماً قام الغزالي بتحليل هذه الظاهرة من تقليد العلماء للبيئة التي نشأوا فيها، تبعاً للحيل النفسية، فقال: «وأما إتّباع العقل الصرف فلا يقوى عليه إلا أولياء الله تعالى الذين أراهم الله الحق حقاً وقواهم على إتباعه، وإن أردت أن تجرب هذا في الإعتقادات فأورد على فهم العامي المعتزلي مسألة معقولة جلية فيسارع إلى قبولها، فلو قلت إنه مذهب الأشعري لنفر وإمتنع عن القبول وإنقلب مكذباً بعين ما صدّق به مهما كان سيء الظن بالأشعري، إذ كان قبح ذلك في نفسه منذ الصبا، وكذلك تقرر أمراً معقولاً عند العامي الأشعري ثم تقول له إن هذا قول المعتزلي فينفر عن قبوله بعد التصديق ويعود إلى التكذيب، ولست أقول هذا طبع العوام بل طبع أكثر من رأيته من المتوسمين بإسم العلم، فإنهم لم يفارقوا العوام في أصل التقليد، بل أضافوا إلى تقليد المذهب تقليد الدليل، فهم في نظرهم لا يطلبون الحق بل يطلبون طريق الحيلة في نصرة ما إعتقدوه حقاً بالسماع والتقليد، فإن صادفوا في نظرهم ما يؤكد عقائدهم قالوا قد ظفرنا بالدليل، وإن ظهر لهم ما يضعف مذهبهم قالوا قد عرضت لنا شبهة، فيضعون الإعتقاد المتلقف بالتقليد أصلاً وينبزون بالشبهة كل ما يخالفه، وبالدليل كل ما يوافقه، وإنما الحق ضده، وهو أن لا يعتقد شيئاً أصلاً وينظر إلى الدليل ويسمي مقتضاه حقاً ونقيضه باطلاً، وكل ذلك منشؤه الإستحسان والإستقباح بتقديم الإلفة والتخلق بأخلاق منذ الصبا»[36].
ورغم أن هذا الحال الذي تتصف به المذاهب الدينية وغيرها يعتبر خاطئاً لا يقره المنطق والعقل باعتباره دالاً على نزعة التقليد المنكرة والمذمومة[37]؛ إلا أنه مقبول من الناحية الواقعية دون رفض ولا نكران. فإخلاص المكلف وحياده العلمي في بحث الأدلة دون إعتبارات أخرى باستثناء الكشف عن الحقيقة؛ يبعث - ولا بد - على الإختلاف، مثلما نلاحظ ذلك في الفقه وغيره من العلوم. وهو ما يفضي إلى تبادل المواقع وتوزيعها بين العلماء داخل الفرق والمذاهب المتنافسة. وهذا ما يجعلها ساخطة على الدوام لإنقلاب أقطابها عليها بين حين وآخر.
سن البلوغ ومشكلة التكليف
كما هناك مشكلة أخرى تتعلق بسن البلوغ، إذ السن المقرر للبلوغ والتكليف لا يتناسب كلياً مع المطالبة بمعرفة الأدلة على الأصول والعقائد. فقد ذهب أغلب العلماء إلى أن بداية البلوغ لا تتعدى سن الخامسة عشرة[38]، إذ يحصل التكليف عند الإنزال للغلام والحيض أو الحمل للفتاة. وحيث يمكن أن يتأخر ذلك ويتقدم؛ لهذا إعتبر الفقهاء أن لسن البلوغ إمتداداً بين بداية ونهاية. فهو يبتدئ في سن الثانية عشرة في الذكور وسن التاسعة في الأُناث، أما نهايته فقد إختلف حولها المجتهدون، إذ ذهب أبو حنيفة إلى أنها تتحقق في سن الثامنة عشرة في الذكور والسابعة عشرة في الأُناث، وهو المروي عن إبن عباس. ونقل عن أبي حنيفة قوله: «إنا قد علمنا أن إبن عشر سنين لا يكون بالغاً، وقد علمنا أن إبن عشرين سنة يكون بالغاً، فهذان الطرفان قد علمنا حكمهما يقيناً، ووكل حكم ما بينهما في إثبات حد البلوغ إلى إجتهادنا، إذا لم يرد فيه توقيف، ولا يثبت به إجماع». على ذلك فقد رأى هذا الإمام أن حد البلوغ يكون ثماني عشرة سنة[39].
لكن جمهور الأئمة وصاحبي أبي حنيفة إعتبروا أنها تتحقق في سن الخامسة عشرة في الذكور والإناث معاً[40]. وقال كثير من المتفقهة على ما نقله الأشعري: لا يكون الإنسان بالغاً إلا بأحد شيئين؛ إما أن يبلغ الحلم مع سلامة العقل، أو تأتي عليه خمس عشرة سنة. وذهب ذاهبون إلى سبع عشرة سنة. وقد شذّ عن جملة الناس شاذون فقالوا: لا يكون الإنسان بالغاً ولو أتت عليه ثلاثون سنة أو أكثر منها مع سلامة العقل حتى يحتلم. كما نقل عن جماعة أخرى قولهم: «لا يكون الإنسان بالغاً إلا بأن يضطر إلى علوم الدين. فمن إضطر إلى العلم بالله وبرسله وكتبه فالتكليف له لازم والأمر عليه واجب. ومن لم يضطر إلى ذلك فليس عليه تكليف وهو بمنزلة الأطفال. وهذا قول ثمامة بن أشرس النميري»[41].
والمشهور لدى المذهب الشيعي أن سن البلوغ والتكليف هو الخامسة عشرة في الذكور والتاسعة في الأُناث، إذ المعتبر أن الغلام متى إحتلم بلغ وأدرك وخرج عن حد الطفولة ودخل إلى حد الرجولة. وكذا الأُنثى إذا أدركت وأعصرت فإنها تكون إمرأة كغيرها من النساء[42].
مع أن الواقع يشهد بأن البلوغ الجنسي للغلام والفتاة لا يحولهما في الغالب إلى رجل وإمرأة، كما أنه لا يدخلهما - عادة - في سن الكمال والرشد العقلي؛ رغم ما له من تأثير على نمو العقل وإدراكاته. وبالتالي فمن غير المعقول أن يُحدد التكليف بالعقائد بحسب تلك الإعتبارات من الإحتلام والحيض والإنزال، أو بلوغ سن الخامسة عشرة أو ما دونها. فالملاحظ ان الحدود التي رُسمت لسن التكليف إنما تتعلق بالتكليف في الفروع والعبادات. لكن حيث أن ذلك يتوقف على معرفة العقيدة والإيمان بها بالدليل؛ لذا فإن التكليف بها يقتضي أن يسبق ذلك الوقت وإن لم يحدده الفقهاء أو ربما لم يتطرقوا إليه لعلمهم بأنه عسير أو يصعب تحقيقه. مع هذا يمكن أن يُخصص في أُمور معرفية واضحة لا تحتاج إلى جهد كبير من التفكير والتأمل، كقضية وجود الله ووحدانيته، كما يشهد عليهما الواقع بوضوح لا يحتاج إلى التأمل والبحث والإطلاع.
هكذا ينبغي أن يستند التكليف في العقائد إلى الرشد العقلي بحسب الإستطاعة وبشكل منفصل عما ذُكر من تحديدات هي في حد ذاتها تمنع من التكليف وتدعو إلى التقليد. وقد سبق لبعض المتكلمين أن ذكر بأن البلوغ لا يكون إلا بكمال العقل. وقال بعض آخر: إن البلوغ هو تكامل العقل[43]. بل صرح الأشعري بأن أكثر المتكلمين متفقون على أن البلوغ كمال العقل[44]. مما يعني منع التكليف قبل هذا الكمال، كما صرح بذلك محمد بن عبد الوهاب الجبائي المعتزلي؛ معتبراً أن التكامل يعتمد على النظر والتفكير في الأشياء[45]. كما اعتبر جماعة من معتزلة بغداد أن الإنسان لا يكون بالغاً إلا مع الخاطر والتنبيه[46].
العوام والنظر
يظهر مما سبق أن الدعوة إلى تكليف الناس للبحث في العقائد هي دعوة متعالية فاقدة لشروطها، أو هي فارغة لا معنى لها. إذ عوضاً من أن يكون الحث على البحث في العقائد عاملاً محفزاً يدفع الناس إلى الإجتهاد والنظر؛ فإنه على العكس يكرس - في حد ذاته - ظاهرة التقليد رغم النهي عن هذا الأخير وإعتباره من الأُمور التي يُكفر عليها المكلف كما هو نظر الكثير من المتكلمين. فقد عرفنا أنه ليس باستطاعة عامة الناس الخوض في مثل هذه المسائل. بالإضافة إلى أن سن البلوغ المقرر لا يفي بمثل تلك القدرة.
والأهم من ذلك أن نزعة المعاداة والتكفير الناجمة عن أي مخالفة للبيئة المذهبية تجعل المكلف لا يفكر جدياً في الكشف عن المعرفة والبحث عن حقيقة ما تشرّب وتربى عليه من عقائد. فهي نزعة متناقضة؛ لأن أصحابها يطالبون الناس بالإجتهاد والبحث، لكنهم يستنكرون في الوقت ذاته كل ما لا يوافق آراءهم. وكأن من المحال على الحق أن يتعداهم، فنزّلوا أنفسهم منزلة الشرع. وهذا ما جعل الغزالي يرى مثل هذا التفكير أقرب للتناقض والكفر. إذ قال بهذا الصدد: «ولعلك إن أنصفت علمت أن من جعل الحق وقفاً على واحد من النظّار بعينه؛ فهو إلى الكفر والتناقض أقرب. أما الكفر: فلأنه نزّله منزلة النبي المعصوم من الزلل الذي لا يثبت الإيمان إلا بموافقته، ولا يلزم الكفر إلا بمخالفته. وأما التناقض فهو أن كل واحد من النظّار يوجب النظر، وأن لا ترى في نظرك إلا ما رأيت، وكل ما رأيته حجة. وأي فرق بين من يقول: قلدني في مذهبي، وبين من يقول: قلدني في مذهبي ودليلي جميعاً، وهل هذا إلا التناقض؟!»[47].
لذا كان لا بد من أن تبرّأ - قبل كل شيء - ساحة المجتهد والناظر في العقائد مهما كانت النتيجة، إذ لا ينبغي محاسبته على ما إنتهى إليه فكره عند بذل الجهد في البحث والتفكير؛ طالما كان مخلصاً ومحايداً لا يستهدف سوى اكتشاف الحقيقة، سواء أدركها فعلاً، أم لم يدركها. فهذا هو أول شرط معرفي لا بد منه للقضاء على التقليد في العقائد.
يضاف إلى أنه لا ينبغي مطالبة العامي بالإجتهاد كما يطالب المختص بذلك، بل عليه العمل وفق مبنى طريقة النظر، فينظر في أدلة المختلفين ليرجح بعضها على البعض الآخر، أو يأخذ بما يعتقد به عقلاً ووجداناً؛ سواء بالطريقة التفصيلية إن كان من أهلها، أو بالطريقة الإجمالية إن تعسّر عليه ذلك. وسبق أن سقنا الأدلة التي تثبت شرعية هذه الطريقة ووجوبها على كل من هو أهل للتمييز والترجيح في مجال الأحكام الفرعية. وهذه الأدلة هي نفسها تصلح في هذا المقام من العقائد.
أما لو لم يتمكن العامي من النظر، بأيٍّ من الطريقتين الآنفتي الذكر، لقصوره من دون تقصير، فهو معذور لا تكليف عليه، كما ذهب إليه الشيخ الطوسي ونقله الشريف المرتضى عن قوم[48].
لكن لو قيل بأنه يجب على المكلف إحراز العلم أو القطع في معرفة أُصول الدين بدعوى أن الترجيح في الآراء من قبل العامي لا يفيد إلا الظن عادة؟
لقلنا في الجواب إن كثرة الخلاف بين العلماء المختصين حول أُمور العقيدة، ومنها أُصول الدين، يجعل من الصعب على العامي التحقيق والإجتهاد لتحصيل العلم والقطع فيها، وهو ما يعفي الناظر من هذا اللزوم لقصوره عن بلوغ ذلك، مثلما يُعذر العلماء عما يقعون به من أخطاء تتحتم عن خلافاتهم في الموضوع، وهي خلافات تدل على صعوبة المطالب، وأن النتائج فيها ليست قطعية لدى المراقب المحايد؛ وإن تصورها بعض المجتهدين بأنها قطعية.
فمن أبرز علامات الإختلاف العقائدي ما ورد حول تحديد أُصول الدين والمضامين التي تنطوي عليها. فكلنا يعلم مقدار الخلاف بين الفرق الإسلامية حول ماهية الأصول، كما هو واضح بين المعتزلة التي جعلتها خمسة هي التوحيد والعدل والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والوعد والوعيد والمنزلة بين المنزلتين، والإمامية التي وافقت المعتزلة على الأصلين الأولين وأضافت إلى ذلك أُصولاً ثلاثة أخرى هي النبوة والإمامة والمعاد، والأشاعرة التي جعلتها ثلاثة هي التوحيد والنبوة والمعاد، وهكذا يمكن أن يلاحظ مثل هذه الفوارق لدى الفرق الأخرى. أما الإختلاف في المضمون فكلنا يعلم كم هو حجم الخلاف الوارد حول ماهية التوحيد، خاصة بين الأشاعرة المتقدمين من جهة، والمعتزلة والإمامية من جهة أخرى، رغم وضوحه وبداهته على نحو الإجمال، وكذا الحال نفسه يقال بصدد مفهوم العدل وما يترتب عليه من عقائد.
لذا اعترف بعض العلماء بوجود إحتمال ضعيف مخالف لما تتضمنه المعرفة الناشئة عن البحث العقائدي. فكما صرح المحدث يوسف البحراني في كتابه (الدرر النجفية) قائلاً: «.. جعل الشارع الكتاب والسنة مناطاً للأحكام ومرجعاً في الحلال والحرام على الوجه المتقدم ذكره آنفاً، فكل ما أُخذ منهما وأُستند فيه إليهما فهو معلوم ومتيقن عنه، حيث أنه مأخوذ من دليليه الذين أمر بالأخذ منهما والتمسك بهما، والظن ليس هو مناط العمل؛ بل العلم بأنّا مأمورون بالعمل بهما والأخذ بما فيهما، وقيام الإحتمال الضعيف في مقابلة الظن الغالب لا يقدح فيه ولا ينافيه. وما أُشتهر من أنه إذا قام الإحتمال بطل الإستدلال فكلام شعري وإلزام جدلي، إذ لو تم ذلك لإنسد باب الإستدلال، إذ لا قول إلا وللقائل فيه مجال، ولا دليل إلا وهو قابل للإحتمال ولقام العذر لمنكري النبوات فيما يقابلون به أدلة المسلمين من الإحتمالات، وكذا منكري التوحيد وجميع أصحاب المقالات. وأما حمل العلم في هذا المقام على الحكم الجازم المطابق للواقع فهو بعيد غاية البعد بل متعذر، فإنه سبحانه لم يكلف في الشريعة بذلك لا في نفس الأحكام الشرعية ولا في متعلقاتها لما قدمناه في غير موضع»[49].
وهو أمر إن دل على شيء فإنما يدل على أن البحث العقائدي لا يختلف جوهراً عن البحث الفقهي، فكلاهما يعبّر عن إجتهاد يفضي إلى الظن غالباً. وهو ما يبرر للعامي إعتماد طريقة النظر والترجيح بين الآراء حسب رؤيته العقلية والوجدانية، ما دام ليس بوسعه الإجتهاد والإختصاص. وفي جميع الأحوال لا يجوز للناظر التقليد.
[1] الملل والنحل، ص20.
[2] لاحظ جدول الفوارق بين علمي الكلام والفقه في: يحيى محمد: نُظم التراث، ضمن سلسلة المنهج في فهم الإسلام (2)، مؤسسة العارف، بيروت، 2017م.
[3] انظر بهذا الصدد المصادر التالية: الهمداني، عبد الجبار: المجموع في المحيط بالتكليف، عُني بتصحيحه الأب جين يوسف هو بن اليسوعي، المطبعة الكاثوليكية ببيروت، ج1، ص17. الهمداني: المختصر في أُصول الدين، ضمن رسائل العدل والتوحيد، دراسة وتحقيق محمد عمارة، دار الشروق، الطبعة الأُولى، 1407هـ ـ1987م، ج1، ص172. الحلبي، تقي الدين أبو الصلاح: تقريب المعارف، تحقيق رضا الأُستاذي، طبع في إيران، 1404هـ، ص33ـ34. الحلي، جمال الدين يوسف بن المطهر: أنوار الملكوت في شرح الياقوت، إنتشارات الرضي ـ بيدار، إيران، الطبعة الثانية، ص54. الطوسي: تمهيد الأصول، مصدر سابق، ص6.
[4] المجموع في المحيط، ج1، ص17ـ18. وتمهيد الأصول، ص199.
[5] تمهيد الأصول، ص199ـ200.
[6] عثمان، عبد الكريم: نظرية التكليف، مؤسسة الرسالة، بيروت، 1391هـ ـ1971م، ص89.
[7] انظر الفصل الأول من حلقة النظام المعياري. كذلك: منطق الإحتمال ومبدأ التكليف في التفكير الكلامي، مجلة دراسات شرقية، العدد المزدوج (التاسع والعاشر)، 1411هـ ـ 1991م، ص20 وما بعدها.
[8] إعتقد أغلب علماء الإسلام أن الفرق الإسلامية كلها ضالة في النار إلا واحدة ناجية؛ إختلفوا حولها وتنافسوا عليها، وزعمت كل فرقة أنها هي المقصودة، اعتماداً على ما جاء في بعض الروايات عن النبي (ص) أنه قال: «إفترقت اليهود إحدى وسبعين فرقة، وافترقت النصارى إثنتين وسبعين فرقة، وستفترق أُمتي ثلاثاً وسبعين فرقة كلها في النار إلا واحدة». ومن الواضح أن المراد من العدد (73) لا يدل على الكثرة، وإلا لكان التحديد حدياً؛ كإن يرد في الحديث سبعون فرقة أو ثمانون أو مائة أو ألف أو غير ذلك. لذا لا تجد من العلماء من حسِب لهذا العدد دلالة الكثرة، وبالتالي فقد كان عليهم أن يجتهدوا في تعداد هذه الفرق من حيث الواقع التاريخي، لكن الواقع لم يؤيد هذا الحصر. لذا جرت عمليات التعداد عشوائياً من غير انتظام، فكل فرقة عملت على تمزيق غيرها من الفرق الكبرى وتكثيرها بغية ايصال العدد إلى إثنتين وسبعين فرقة لأدنى مناسبة، لتصبح بالنتيجة هي المقصودة بالفرقة الناجية. هكذا فعل الشهرستاني في (الملل والنحل، ص2). ومثله عمل ابن الجوزي في (تلبيس إبليس، ص28ـ29). وكذا فعل البغدادي في فرقه (مختصر الفرق بين الفرق، ص28). والحال نفسه مع كثير من المتكلمين وأصحاب الفرق والفقهاء. وهناك من لم يعين الفرق الضالة على التحديد لعدم معرفة المقياس في ذلك، كما هو الحال مع الطرطوشي الذي أيده الشاطبي في (الاعتصام، ج3، ص80ـ83. والموافقات، ج4، ص181 وما بعدها). لكن في القبال ثمة من اعتبر الحديث موضوعاً من الأساس رغم تعدد رواته، كما هو الحال مع ابن حزم وغيره (الفصل في الملل والأهواء والنحل، ج3، ص138. وبدوي: مذاهب الإسلاميين، ج1، ص33ـ34)، خصوصاً الزيادة القائلة «كلها هالكة إلا واحدة». وقد حذّر الامام اليمني محمد ابراهيم (المتوفى سنة 840هـ) في (العواصم والقواصم) من هذا الحديث بقوله: «وإياك والاغترار بـ (كلها هالك إلا واحدة) فانها زيادة فاسدة، غير صحيحة القاعدة، ولا يؤمن ان تكون من دسيس الملاحدة»، معتبراً ان في سند الحديث ناصبياً كان يسب الامام علياً، وهو أزهر بن عبد الله ـ ابن سعد ـ الحرازي. كذلك فعل الامام الشوكاني حيث ذكر بأن زيادة «كلها في النار إلا واحدة» قد ضعّفها جماعة من المحدثين (انظر: القرضاوي: مبادئ أساسية فكرية وعملية في التقريب بين المذاهب، رسالة التقريب، عدد 13، ص146ـ148. والشوكاني: فتح القدير، مكتبة يعسوب الدين الالكترونية، ج2، ص59). هكذا لا يحظى الحديث بوثاقة تاريخية من حيث عدد الفرق. كما أن مضمونه يتعارض مع مبدأ العدل الإلهي وضرورة حق الإجتهاد والتعبير عن الرأي وحرية الفكر. والأهم من ذلك هو أن متن الحديث يحمل متوالية حسابية تجعل من التاريخ قائماً على صورة رياضية، بحيث أن الفارق في الإفتراق بين الأُمم الثلاث (اليهود والنصارى والمسلمين) هو واحد لا أكثر، وهو أمر من الصعب تصديقه وفقاً لمنطق الاحتمالات. ناهيك عن عدم وجود أي شهادة تاريخية تؤيد تحديد الأعداد التي ينطوي عليها الحديث.
[9] المعتمد، ج2، ص941
[10] الهمداني، القاضي عبد الجبار: شرح الأصول الخمسة، تعليق الإمام أحمد بن الحسين بن علي بن أبي هاشم، حققه وقدم له عبد الكريم عثمان، مكتبة وهبة بمصر، الطبعة الأُولى، 1384هـ ـ1965م، ص60ـ61. كذلك: المغني في أبواب التوحيد والعدل، تحقيق أبي العلا عفيفي، مراجعة إبراهيم مدكور، إشراف طه حسين، الدار المصرية للتأليف والترجمة، ج12، ص125 و531.
[11] انظر: فرائد الأصول، ج1، ص283. والفصول الغروية، ص416.
[12] الإجتهاد والتقليد للخوئي، ص411.
[13] المغني في أبواب التوحيد والعدل، ج12، ص526 .
[14] فرائد الأصول، ج1، ص272.
[15] المصدر السابق، ج1، ص272.
[16] المصدر نفسه، ج1، ص272ـ273و288.
[17] المصدر نفسه، ج1، ص148 و288.
[18] كرم، أنطون غطاس/اليازجي، كمال: أعلام الفلسفة العربية، نشر لجنة التأليف المدرسي ببيروت، الطبعة الثانية، 1964م، ص126.
[19] سورة البقرة/ 286.
[20] الإحكام للآمدي، ج4، ص409. ومناهج الإجتهاد في الإسلام، ص371ـ372.
[21] نعمة، عبد الله: فلاسفة الشيعة/حياتهم وآراؤهم، منشورات دار مكتبة الحياة، بيروت، ص406.
[22] مغنية، محمد جواد: الشيعة في الميزان، نشر دار التعارف ببيروت، ص282.
[23] الجواهر، ج41، ص18ـ19.
[24] إبن حزم: الفصل في الملل والأهواء والنحل، تصحيح عبد الرحمن خليفة، مطبعة محمد علي صبيح وأولاده بميدان الأزهر بالقاهرة، الطبعة الأُولى، 1989م، ج3، ص137ـ138.
[25] المعتمد، ج2، ص941.
[26] فرائد الأصول، ج1، ص272 و282.
[27] تمهيد الأصول، ص نهم و1.
[28] المعتمد في أُصول الفقه، ج2، ص941.
[29] تاريخ إبن خلدون، ج1، ص835ـ836 .
[30] رسائل المرتضى، ج2، ص316 و391.
[31] الطوسي: رسالة الإعتقادات، ضمن الرسائل العشر للطوسي، تقديم محمد واعظ زادة الخراساني، مؤسسة النشر الإسلامي لجماعة المدرسين في قم، ص103.
[32] عبده، محمد: الشيخ محمد عبده بين الفلاسفة والكلاميين، تحقيق وتقديم سليمان دنيا، دار إحياء الكتب العربية، الطبعة الأُولى، 1958م، القسم الأول، هامش ص23ـ24.
[33] شرح اللمع، ج1، ص111. كما انظر بصدد التكفير: الفصل في الملل والأهواء والنحل لإبن حزم، ج3، ص137ـ138. والمستصفى للغزالي، ج2، ص357ـ358.
[34] فرائد الأصول، ج1، ص283. كما انظر بهذا الصدد: كفاية الأصول، ص379 و380. والفصول الغروية، ص416.
[35] رسائل المرتضى، ج2، ص321. وعدة الأصول، ج1، 355. ومعالم الدين، ص387.
[36] الغزالي: الإقتصاد في الإعتقاد، دار الأمانة ببيروت، 1388هـ ـ1969م، ص173.
[37] أشار المفيد ـ بهذا الصدد ـ إلى ضرورة أن ينقاد الباحث إلى ما يصل إليه عقله حتى لو خالف جميع المذاهب والبشر، فقال بصدد إحدى المسائل: «وقد جمعت فيه بين أُصول يختص بي جمعها دون من وافقني في العدل والإرجاء بما كشف لي في النظر عن صحته، ولم يوحشني من خالف فيه، إذ بالحجة لي أتم أُنس ولا وحشة من حق والحمد لله» (المفيد: أوائل المقالات، مكتبة الداوري بقم، ص130). كما جاء عن تلميذه الشريف المرتضى ما قوله: «إعلم أنه لا يجب أن يوحش من المذهب فقد الذاهب إليه والعاثر عليه، بل ينبغي أن لا يوحش إلا مما لا دلالة يعضده ولا حجة يعتمده» (عن: أوائل المقالات، هامش ص130).
[38] قال السبكي: إن الحكمة في تعليق التكليف بخمس عشرة سنة هي أن عندها بلوغ النكاح وهيجان الشهوة والتوقان، وتتسع معها الشهوات في الأكل، ويدعوه ذلك إلى ارتكاب ما لا ينبغي، ولا يحجره عن ذلك ويردّ النفس عن جماحها إلا رابطة التقوى وتشديد المواثيق عليه والوعيد. وكان مع ذلك قد كمل عقله، واشتد اسره وقوته، فاقتضت الحكمة الالهية توجه التكليف اليه، لقوة الدواعي الشهوانية والصوارف العقلية واحتمال القوة للعقوبات على المخالفة. وقد جعل الحكماء للانسان أطواراً، كل طور سبع سنين، وانه إذا تكمل الاسبوع الثاني؛ تقوى مادة الدماغ، لاتساع المجاري، وقوة الهضم، فيعتدل الدماغ، وتقوى الفكرة في الذكر، وتتفرق الأرنبة، وتتسع الحنجرة فيغلظ الصوت، لنقصان الرطوبة وقوة الحرارة. وينبت الشعر لتوليد الأبخرة، ويحصل الانزال بسبب الحرارة (السيوطي: الأشباه والنظائر، دار إحياء الكتب العربية، ص245).
[39] الفصول في الأصول، ج3، ص371.
[40] الفقه الإسلامي في ثوبه الجديد، ج2، ص778ـ779.
[41] مقالات الإسلاميين وإختلاف المصلين، ص482.
[42] فقه الإمام الصادق، ج5، ص95ـ96.
[43] مقالات الإسلاميين وإختلاف المصلين، ص480.
[44] مقالات الإسلاميين وإختلاف المصلين، ص482.
[45] نفس المصدر، ص481.
[46] المصدر ذاته، ص481.
[47] الغزالي: فيصل التفرقة بين الإسلام والزندقة، تحقيق سليمان دنيا، دار إحياء الكتب العربية، الطبعة الأُولى، 1381هـ ـ1961م، ص133.
[48] رسائل المرتضى، ج2، ص321. وفرائد الأصول، ج1، ص288.
[49] الدرر النجفية، ص63.