تنقسم هذه الدراسة الى قسمين مترابطين، احدهما يتعلق بالاساس المنهجي من الفكر الديني، والآخر بالتطبيق. ولنبدأ بالاساس المنهجي كالاتي:
الفكر هو علاقة معرفية تربط الذهن بالموضوع. او هو قراءة الذهن ورؤيته للموضوع. ففيه ان العلاقة قائمة بين القراءة والرؤية من جهة، وبين الموضوع من جهة اخرى. فطالما هناك تفكير بشري فانه لا بد من هذه العلاقة الثنائية. فمثلاً في علم الطبيعة هناك علم من جهة، وهناك طبيعة مستقلة من جهة ثانية، او قل هناك شيئان: شيء لذاتنا وشيء في ذاته.
وهذا التقسيم يجعل العلاقة بين الفكر والموضوع ليست متطابقة بالضرورة، فهي اشبه بعلاقة الماهية بالوجود حسب تصور فلاسفتنا القدماء، اذ الوجود واحد لكنه يتعدد بتعدد قابليات الماهيات ويتنوع بتنوعها. وهكذا فان الفكر يتعدد مع ان الموضوع واحد. وهذا ما يبرر اختلاف القراءات الى الدرجة التي يرى فيها الكثير ان النص مفتوح وقابل الى ما لا نهاية له من القراءات، واليه يعود السبب فيما يطرح احياناً من تساؤل حول ما اذا كان للنص معنى مقصود كشيء في ذاته ام لا؟ فهذه النسبية تدل على ما للفكر من تأثر بكل من الذهن والموضوع، مثل تأثر الصورة في المرآة بكل من الشخص وهذه الأخيرة. فالمرآة المستوية لا تعطي ذات الصورة التي تعطيها المرآة المقعرة او المحدبة، لكن جميع المرايا تظل معبرة عن شيء واحد لا غير، هو ذلك الشخص، دون ان تخلط بينه وبين غيره من الاشياء. ونفس الحال يجري مع الفكر والقراءات.
هكذا ان الفكر مهما كان فانه واقع لا محالة تحت تأثير الذهن البشري واعتباراته القبلية؛ الخاصة منها والعامة، سواء كانت هذه الاعتبارات منضبطة او غير منضبطة. وليس الفكر الديني ومنه الاسلامي بمنئى عن هذه الحقيقة العامة، حيث انه ايضاً متأثر بما عليه الذهن البشري واعتباراته القبلية، فهو بالتالي فكر بشري اجتهادي قابل للتعدد كغيره من مذاهب الفكر. وحتى التيار المتصف بالنقلي او الاخباري او البياني يستند الى عدد من القبليات المعرفية تجعله تياراً اجتهادياً كغيره من التيارات الدينية، كالذي اشار اليه ابن رشد في بعض المواضع[1]. مع هذا فان ما يقدمه الفكر البشري من اجتهاد في قراءته للموضوع لا ينفي وجود حقائق متكشفة مجملة وقليلة للموضوع ( الخام)، وكأن الموضوع يُظهر نفسه بنفسه. فنحن هنا اشبه ما نكون امام غابة كبيرة تشهد بوجود الاشجار الكثيفة دون شك، وكأن الاشجار تعلن عن نفسها، أما سائر الاشياء الأخرى مثل انواع محددة من الحيوانات فانها لا تشهد بنفسها على ذلك الا بعد البحث والتفتيش، وقد تظل هناك اشياء مجهولة عنا في هذه الغابة الكثيفة، كما قد تشتبه علينا اشياء لا نعلم عنها على وجه القطع واليقين لعدم قدرتنا على تحديدها بدقة، وعليه فالموضوع الخام، لم يعد موضوعاً لا ينطق بحقائق فعلية، رغم ان هذه الحقائق تتوقف معرفتها على الادراك، لكنها تظل واضحة لا تحتاج الى جهد في التحديد والتعيين. اذن في المادة او الموضوع الخام هناك حقيقة عامة تشهد عليها القرائن الكثيرة مما يجعلها ظاهرة بنفسها دون جهد ادراك، سواء كان الموضوع الخام عبارة عن واقع او وجود او نص او عقل. لكن حيث ان الحقائق المنكشفة لمضامين الموضوع تبقى محدودة، لذا فان ما يتبقى من مضامين سوف يتم التعامل معه بالتفكير والاجتهاد، وذلك من خلال العلاقات التي تربط قبليات الادراك بالموضوع، فعند هذا الامتزاج يتحول الموضوع الى علم وتفكير، حيث ان العلاقة الكشفية الممتزجة تارة تتم مع موضوع الطبيعة فينتج لنا علوم الطبيعة، واخرى مع النص فينتج لنا علوم النص، وثالثة مع العقل فينتج لنا علوم العقل... الخ.
وبعبارة اخرى انه عندما يُعرض الموضوع على الذات البشرية فله وجه من الحقائق المنكشفة، مثلما له وجه آخر متلبس مع ما عليه قبليات الذات الكاشفة. والحقائق هنا لا يقصد بها الحكم على ما يتضمنه الموضوع من صواب او خطأ، بل يقصد بها الجانب الوصفي فحسب. فمثلاً يمكن ان نصف نصاً ما من حيث هذه الحقائق التي لا تخطئها الذات القارئة بنحو ما من الاجمال والعموم، لكن ذلك لا علاقة له بمضمون ما يريد النص اثباته، سواء كان على صواب او خطأ. لذا يمكن ان نطلق على مثل هذه الحقائق بالحقائق الاصلية او (الموضوعية)، حيث يعبّر الموضوع في انكشافه عن حقائقه الاصلية، وهو كونه على ما هو عليه من الخصائص المنكشفة.
ويلاحظ انه عندما يكون العقل هو الموضوع، ففيه يحصل نوع من الاتحاد بين الكاشف والمكشوف، او العاقل والمعقول، اذ يصبح العقل كاشفاً عما في نفسه، وهو من الحضور المباشر. وليس الامر كذلك فيما يتعلق بغير العقل من موضوعات، حيث فيها يكون الكاشف غير المكشوف، او ان العلاقة بينهما هي علاقة غير مباشرة.
***
لكن السؤال الذي يطرح بهذا الصدد يدور حول التالي: ما هي خصوصية الفكر الديني او الاسلامي، او ما الذي يميزه عن غيره من ضروب التفكير؟
في بداية الامر علينا ان نعرف بان خصوصية اي فكر تعتمد على ما يستند اليه هذا الفكر من مصادر معرفية منضبطة. وهذه المصادر على نوعين متلازمين لا غنى لاي فكر وعلم من ان يرجع اليهما للانتاج والتوليد المعرفي، وهما كالاتي:
مصادر ذاتية: وهي تشكل خصوصية الفكر المعني، وبدونها ينتفي ذلك الفكر. وتمتاز بانها تحمل اعتبارات معرفية خاصة غير مشتركة لدى تيارات الفكر المختلفة.
مصادر عارضة: وهي ليست ذاتية، او ليس لها خصوصية الفكر المعني، لكنها قد تلعب دوراً اعظم من المصادر الذاتية نفسها. وتمتاز بانها تحمل اعتبارات معرفية قد تكون مشتركة وقد تكون خاصة.
والمقصود بالاعتبارات المعرفية انها الدواعي والادلة التي تتولد عنها النتائج المعرفية. ولهذه الدواعي والادلة طبائع مختلفة، فقد تكون ذات طبيعة دينية، او طبيعة علمية؛ كاعتبارات مبدأ البساطة والتجريب، وقد تكون وجودية كاعتبارات مبدأ السنخية، وقديماً قال فلاسفتنا: (لولا الاعتبارات لبطلت الحكمة - الفلسفة -)[2].. كما قد تكون دواعي وادلة مشتركة. ويمكن تحديد الاعتبارات المشتركة، التي هي موضع ثقة جميع الدوائر المعرفية، بكل من: اعتبارات حقائق الواقع الموضوعي، والاعتبارات الرياضية الثابتة، والاعتبارات المنطقية الواضحة كمبدأ عدم التناقض، والاعتبارات العقلية المشتركة كمبدأ السببية، والاعتبارات الوجدانية المشتركة كالتسليم بحقيقة الواقع الموضوعي العام. ويمكن عدّ جميع هذه الحقائق المشتركة ثابتة باستثناء الاولى، باعتبارها نسبية وتخضع لاعتبارات منطق حسابات الاحتمال والترجيح. كما ان هناك نوعاً اخر من الاعتبارات المشتركة يخص قضايا القيم الاخلاقية، وهي وإن بدت ثابتة في عدد من القواعد الكلية، مثلما عليه قاعدة العدل، الا ان مصاديقها متأثرة بما عليه طبيعة الواقع وتغيراته، لهذا فقد تفضي بعض المصاديق الى ان تكون ذات اعتبارات خاصة غير مشتركة. كما قد تتزاحم القواعد عند تضارب مصاديقها مع بعضها بما يمكن ان نطلق عليه (تزاحم القيم)، كالذي يحصل احياناً بين قاعدتي الصدق وحفظ النفس المحترمة.
ومن حيث مصادر المعرفة انه اذا كان العقل والواقع يفضيان تارة الى اعتبارات مشتركة، واخرى غير مشتركة، فان الامر مع النص الديني يختلف، اذ انه لا يسفر الا عن اعتبارات خاصة؛ رغم انها قد تكون مدعومة باعتبارات مشتركة من العقل او الواقع.
ويمكن تطبيق فلسفة الاعتبارات على المجالات الانسانية المختلفة، كالنواحي النفسية والاجتماعية والحضارية وغيرها. فكل طرف في هذه النواحي يرتبط مع الاخر باعتبارات ذاتية وعارضة، كما ويرتبط معه باعتبارات خاصة ينفرد فيها الطرف لنفسه، واعتبارات عامة يشترك فيها مع غيره. فمثلاً ان الحضارات العالمية تختلف فيما بينها بنواحي بنيوية خاصة، يمكن ان تميز حضارة ما عن اخرى، لكن مع هذا الاختلاف هناك مشتركات تجمع بين الحضارات وتجعلها اقرب الى النزعة الانسانية العامة بما تحمله من قيم متقاربة في نواحي عديدة، ومنها القيم الاخلاقية العليا.
ومثلما تتصف المصادر الذاتية بالثبات والاتفاق بين المنتمين للفكر المعني، فان المصادر العارضة يسود فيها التغير والاختلاف. فمثلاً في العلم الحجديث للطبيعة تعد التجربة والاختبار ابرز محددات المصادر الذاتية لهذا العلم، لكن يضاف اليها مصادر عارضة بعضها ميتافيزيقية واخرى تتعلق بما يطلق عليه الحدس والخيال، او غير ذلك. وبالتالي فلو ان هذه المصادر العارضة تغيرت او انتفت فان ذلك لا يغير من طبيعة خصوصية العلم الطبيعي وهو انه قائم على الاختبار والتجريب، بخلاف الحال فيما لو انتفى الاختبار كلياً، حيث ان ذلك يزعزع الطريقة العلمية باكملها ويجعلها نمطاً اخر من التفكير.
وتتحدد المصادر الذاتية للفكر الاسلامي بالنص او الكتاب والسنة، واذا كانت السنة شارحة للكتاب وتبياناً له؛ فسيقتصر الأصل على الكتاب. اما المصادر العارضة فتتنوع وتختلف بحسب الفرق والاتجاهات، ومن هذه المصادر العقل الكلامي والعقل الفلسفي والذوق الكشفي، وكذا القياس والاستصلاح والاستحسان، وغير ذلك من المصادر والاعتبارات.
ولو عدنا الى المصادر الذاتية فسنجد ان ابرز قضاياها المعتبرة هي نظرية التكليف، وذلك لكثرة ما تشهده من القرائن الدالة عليها، وهي من حيث كونها ابرز القضايا فان ذلك يجعلها المحور الذي يدور حوله الفكر الاسلامي والديني عموماً، وبالتالي فان هوية هذا الفكر محددة بهذه النظرية.
وتتضمن نظرية التكليف اربعة محاور هي موضع اتفاق المسلمين اجمالاً، وإن اختلفوا حولها تفصيلاً، وهي: محور المكلِّف والمكلَّف ورسالة التكليف وثمرة التكليف.
لكن اذا اخذنا باعتبار ان كل فكر وعلم يمكن تقسيمه منهجياً الى نوعين من الفكر: احدهما (في ذاته)، والاخر (متحقق)، فسيصبح الفكر الاسلامي بما هو في ذاته معبّراً عن تلك الهوية المجملة من نظرية التكليف، وانه بهذا الشكل يحمل الاعتبارات الذاتية لا العارضة، لكنه من حيث كونه فكراً متحققاً فذلك يعني النظر اليه من حيث تجسده في التراث المعرفي فعلاً[3]. وتعد الاعتبارات العارضة العامل الاهم الذي يقوم بتحديد طبيعة الفكر المتحقق. فعليها يتنوع الفكر ويتجدد، بل وبها يصبح الفكر قائماً على الجمع لا الطرح.
وعليه فان الفضل في تعدد الفكر الاسلامي يعود - في الغالب - الى الاعتبارات العارضة، ومن ذلك ان اغلب الطرق المعرفية لهذا الفكر قائمة على الاعتبارات العارضة لا الذاتية.
لذلك فقد أخذت نظرية التكليف تقرأ - تبعاً للاعتبارات العارضة - برؤيتين متعارضتين في مرآتين مختلفتين تمام الاختلاف. ونقصد بذلك الفهم الذي اقامه كل من النظامين المعياري والوجودي لنظرية التكليف، ففي الغالب ان كليهما اعتمد على الاعتبارات العارضة.
واكثر من هذا يمكن القول انه لما كان لكل علم اعتباراته المختلفة، وان بعض هذه الاعتبارات ذاتية والاخرى عارضة، لذا من المتوقع حصول درجات وانواع مختلفة من التعارض، فقد تتعارض الاعتبارات العارضة مع بعضها البعض، كما قد تتعارض الاعتبارات الذاتية مع بعضها، وكذا يمكن ان تتعارض الاعتبارات العارضة مع الذاتية، وقد يمتد التعارض ليكون بين الاعتبارات العارضة من جهة، والحقائق الاصلية او حقائق الموضوع الخام - كحقائق النص العامة مثلاً – من جهة ثانية. فالاعتبارات العارضة قائمة بدورها على موضوع خام اخر ليس هو ذاته الذي تقوم عليه الاعتبارات الذاتية، الامر الذي يعني وجود مدارات مختلفة من التفكير يتنافس بعضها مع البعض الاخر، ومن ذلك التنافس بين مدار التفكير العارض الذي تنشأ عليه الاعتبارات العارضة، ومدار التفكير الذاتي الذي تنشأ عليه الاعتبارات الذاتية، وحيث هناك مداران للتفكير، احدهما ذاتي واخر عارض، او قل ان لدينا موضوعين كلاهما يتصفان بالخام، ولهما حقائقهما المنكشفة المستقلة، احدهما ذاتي، والاخر عارض، فهذا يفضي الى حصول نوع من التنافس وربما الصراع والصدام، حيث لكل منهما اعتباراته الخاصة، وهي الاعتبارات الذاتية والعارضة. وقد يفضي الصراع الى ان يكون صداماً بين الاعتبارات العارضة وحقائق الموضوع الذاتي، ومن ابرز الشواهد عليه ما حصل مع النظام الوجودي، حيث أسفر التفكير ضمن مداره الوجودي العارض الى نتائج لا تتفق مع موضوع النص الخام او حقائقه الاصلية[4]. وبالتالي فالمشكلة هنا ليس في النزاع الحاصل بين الاعتبارين الذاتي والعارض للفهم والتفكير، فكلاهما يعبّر عن فهم وتفكير اجتهادي، انما المشكلة في الصدام الذي قد يحصل بين التفكير العارض من جهة، وبين الحقائق الاصلية للموضوع الذاتي من جهة ثانية. مثلما قد يحصل الصدام بين التفكير الذاتي من جانب، وبين الحقائق الاصلية للموضوع العارض من جانب آخر. فالتفكير الذاتي، وهو في قضيتنا عبارة عن التفكير البياني، قد يتحول الى ما يشكل صداماً مع الحقائق الاصلية للموضوع العارض؛ كالعقل والواقع والوجود.
ومن الناحية النقدية، إن جميع الطرق المتحققة للفكر الديني، باعتباراتها الذاتية والعارضة، قد عانت من مشاكل مزمنة أساسية ثلاث كالتالي:
الاولى: انها لم تمارس المراجعة النقدية المتواصلة في فحص مفاهيمها ومقولاتها، لكونها من المذاهب الدوغمائية التي لا تشكك في مقالاتها.
الثانية: انها غيبت الاعتبارات الخاصة بالواقع، فحتى الاتجاهات العقلية كانت اتجاهات تجريدية، او انها تعاملت في الغالب وفق العقل القبلي وليس البعدي، بل لم يحصل آنذاك تمييز بين هذين النوعين من العقل.
الثالثة: انها استندت في الاساس الى الاعتبارات المعرفية الخاصة دون المشتركة. بل وكانت اعتباراتها والنتائج المترتبة عليها تجريدية في كثير من الاحيان، الامر الذي يصعب اخضاعها للاختبارات الواقعية المباشرة. وهذا يعني انها تقوقعت ضمن دوائر مغلقة من التصورات والمنظومات الذهنية التي يتعذر اختراقها وفحصها من الخارج، او جعلها تحتكم الى المنطلقات العامة المتمثلة بالواقع والاصول العقلية المشتركة، وكل ما يمكن فعله هو الفحص المنطقي غير المباشر وكذا الفحص الضمني لتبيان ما قد تتعرض اليه من تعارضات ذاتية او ضمنية. ومن امثلة الاعتبارات الذاتية المتعارضة في المنظومات المغلقة؛ ما جاء عن الفكر العرفاني حول العذاب وعلاقته بالاسماء. فهناك اعتبارات حكمية وعرفانية متناقضة، فمن الاعتبارات الدالة على عدم الخلود في العذاب ما ذكره صدر المتألهين في عدد من كتبه - كالشواهد الربوبية وغيرها - وهو ان القسر لا يدوم في الطبيعة وان لكل موجود غاية يصل اليها يوماً . كذلك ان الرحمة الالهية وسعت كل شيء. لكن في قبال هذه الاعتبارات هناك اعتبارات اخرى منافية دالة على العذاب الدائم، كالقول بأن النفوس خاضعة للاسماء الالهية، وان من الاسماء الالهية ما يظهر بمظاهر الانتقام والعذاب، وان من مقتضيات الاعيان الثابتة هو ان تكون على ما عليه بعد ان يفاض عليها الوجود، فالسعيد من سعد في بطن امه والشقي من شقي في بطن امه. وكذا يمكن ان يقال حول نظرية الفلاسفة في الصدور وما تتضمنه من تعارضات ضمنية[5]. وايضاً هو الحال مع ما جاء في النظام المعياري من اعتبارات تجريدية وضمنية متعارضة، كالموقف من بعض قضايا الحسن والقبح وغيرها.
وعلى خلاف المنظومات المغلقة هناك المنظومات المفتوحة التي تتقبل التمحيص والفحص الخارجي، كما تتقبل منطق الترجيح والاحتمال، كالذي عليه المنظومات العلمية.
والسؤال المطروح: ما هي المعايير المتبعة للتقسيم الذي عرضناه حول المنظومات المغلقة والمفتوحة؟ فما معنى كونها مغلقة او مفتوحة؟
ان ما نقصده من المنظومات المفتوحة هو ان تكون قابلة للبحث والفحص خارج اطار ما تعارف عليه من المسلمات الضمنية الخاصة، وسحبها الى ساحة خارجية تتصف بالقبول باعتبارها موضع ثقة الجميع. ومن ابرز المعايير المتفق عليها معيار الواقع وحسابات الاحتمال. فكل منظومة تتقبل مثل هذا الاختبار الخارجي فانها تكون مفتوحة، والا كانت مغلقة، مما يجعلها موضع جدل ونقاش لا ينتهي، لعدم القدرة على تمحيصها بنحو محايد وبعيد عن الاعتبارات المعرفية الخاصة. والحوار فيها يصبح كحوار الصم والطرشان. فهي كمن يدعي ان عنده علماً بعدد النجوم ويتحدى من يكذبه على علمه هذا. مع أنه لا يمكن اثبات صحة دعواه او نفيها. وبالتالي لا يمكن التفاهم ما لم يتم الاستناد الى المشتركات، سواء كانت هذه المشتركات عبارة عن حقائق معرفية مستنتجة، او عبارة عن قواعد واعتبارات معرفية يتم التفاهم على ضوئها.
على ان هذا التقسيم لا يوازي تقسيم القضايا الى تجريبية وميتافيزيقية، ذلك ان بعض القضايا الميتافيزيقية تتقبل الاختبار عبر منطق حسابات الاحتمال والواقع، وعلى رأسها المسألة الالهية، وفي القبال هناك قضايا واقعية لا تقبل الاختبار، ولو من الناحية العملية، مثل حساب عدد النجوم في الكون، وحجم الفضاء.
***
تلك كانت نقاط ضعف الاتجاهات المعرفية للفكر المتحقق، بلا فرق بين تلك التي عولت على الاعتبارات الذاتية او العارضة، فالاولى انطلقت من مقولة (انما أُمرنا ان نأخذ العلم من فوق)، اي من النص[6]. أما الثانية التي تشعبت بها الطرق والاتجاهات فأغلبها تجريدية؛ إما بحكم موضوعاتها الخاصة، او لأن معالجتها للقضايا المعرفية كانت تحت سلطة العقل القبلي. وعليه فلو أردنا ايجاد فكر متحقق جديد يتجنب الوقوع فيما وقع به الفكر المتحقق التقليدي؛ لكان لا بد من الأخذ بالنقاط التالية[7]:
1ـ لا غنى عن المراجعة النقدية المتواصلة للفكر الديني، اي مراجعة نقد الذات على التواصل.
2ـ احضار الواقع بقوة ضمن مفاصل الفكر الديني، واحضار الدراسات التي تخص واقع الانسان وحقوقه.
3ـ تقليص الاعتبارات الذاتية مع توسعة الاعتبارات العارضة. وهذا ما يتطلب العمل بجعل الاولى مجملة، على خلاف الثانية، سيما تلك التي تتعلق بالانفتاح على الواقع. والجمع بين هذين النوعين من الاعتبارات يتيح لنا ان نجعل من الاعتبارات الذاتية موجهات دون ان يكون لها سلطة ذهنية تكوينية، خلافاً للاعتبارات العارضة كما تتمثل بالواقع[8].
4ـ العمل على تفعيل الاعتبارات العارضة المشتركة لا الخاصة. فقد جرّب الفكر المتحقق الديني العمل وفق الاعتبارات الخاصة دون نجاح، وهو لم يجرب بعد العمل وفق الاعتبارات المشتركة. وحيث ان هناك نسقاً منطقياً يتحكم في العلاقة بين المعرفة والوجود والقيم، لذا كانت المهمة الملقاة على عاتق الاعتبارات المشتركة؛ الانطلاق من البعد المعرفي ليتم بناء كل من النسقين الوجودي والقيمي، واخص بالذكر هنا ضرورة الارتكاز على منطق الاحتمال والاستقراء في التكوين المعرفي.
***
ومن حيث التطبيق يمكن للفكر الديني أن يجعل من نظرية الاستخلاف قاعدته للتحرك تبعاً للمقاصد، فهي جامعة لأصلين هامين على مستوى الاعتقاد والسلوك، هما الايمان بالله الواحد والعمل الصالح. فهي نظرية تستقطب عدداً من القضايا، هدفها بناء (الانسان الصالح) وفقاً لمنظومة القيم، عبر الاطلاع على تجارب البشرية. فلو رجعنا إلى النص الديني، كما في القرآن الكريم، نجد أنه يستهدف هذين الأصلين دون قيد أو شرط، وبالتالي فإنه يستهدف بناء ذلك الانسان، كما يدل عليه ما لا يحصى من التعاليم الدينية. فغرض وجود هذه التعاليم واضح، وهو العمل على جعل الانسان صالحاً، سواء مع نفسه أو مع غيره من افراد المجتمع، وسواء مع الطبيعة أو مع الله تعالى.
ولا يتعلق مفهوم (الانسان الصالح) هنا بالجانب الفردي للانسان، كما لا يتعلق بالمجتمع ككل، سيما أن الصورة الأخيرة لا تخلو من طوباوية من الصعب تحقيقها، ويبقى أن يتعلق المفهوم بالإمكانات الواقعية لعدد كبير من الأفراد والشرائح الاجتماعية التي تتقبل التغيير تبعاً لهذا المنطق الانساني، كما لها القدرة على التأثير الايجابي وسط المجتمع استناداً الى ما تحمله من قوة في المنطق والقيم. وتتصف مقومات هذا الانسان بأنها لا تميز بين عرق وعرق، ولا بين مذهب وآخر، ولا دين وآخر، ولا بين مسلم وغيره، الا بقدر ما يمتلك من عناصر ومقومات الصلاح، فهي نزعة انسانية عامة تستهدي بقوله جلّ وعلا: ((يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا إن اكرمكم عند الله اتقاكم)) الحجرات/13.
وعلى الصعيد النظري تختلف أبعاد هذا التصور عن تصور الحضارة الغربية، حيث تطالب الأخيرة بأن يكون الانسان حراً دون قيود ما لم يمس حريات الآخرين، وليس الأمر هكذا في التصور الديني الذي يطالب الانسان ان يكون صالحاً، وان الحرية - ضمن حدود - لا تعد غاية في هذا الصدد، بل وسيلة حقة دونها يعجز الانسان عن تحقيق مبتغاه من الصلاح المنشود.
كما يختلف التصور السابق عن الفهم التعبدي الذي يضفي على الوسائل والآليات الدينية صفة التعبد، فيرى العمل بالدين هو ذاته عبارة عن العمل بما هو جاهز من الآليات والوسائل الدينية بكل ما تتضمنه من تشريعات جزئية. وبالتالي فبحسب التصور الأخير لا يمكن فصل الدين عن آليات النُظم الاجتماعية المستنبطة من الأصول الدينية ومفاهيمها، وعلى رأسها آليات النُظم السياسية والاقتصادية والقانونية، والتي يكون غرضها تطبيق تلك الجاهزية من التشريعات.
ونحن نطلق على الدعوات التي ترى هذه الآليات وتطبيقاتها جزءاً لا ينفصل عن الدين؛ سمة (الفهم التعبدي للدين). ونطلق على التصور السابق المخالف لهذه النظرية؛ سمة (الفهم المقصدي للدين).
وبحسب الفهم التعبدي للدين هناك مسألتان، إحداهما الآليات كوسائل، والأخرى الجاهزية من التشريعات الجزئية التي تلعب - في الغالب - دور الغاية لتلك الوسائل، والتي تمثل لديه عين الدين ذاته. ومنه يفهم قول الإمام الغزالي: «الملك والدين توأمان، فالدين أصل والسلطان حارس، وما لا أصل له فمهدوم، وما لا حارس له فضائع»[9].
وكلا المسألتين معرضتان للنقد الذاتي. فاذا بدأنا بالغاية، فإن مفادها اعتبار الدين هو عين الجاهزية من التشريعات التي يراد تطبيقها عبر تلك الوسائل أو الآليات. فالدين هو الشريعة، والشريعة هي الدين. ومن الممكن ان تأخذ المسألة بعداً آخر، وهو اعتبار تطبيق تلك الجاهزية عين العدل، فكل ما يطرح خلاف تلك الجاهزية ليس من العدل ولا من الدين في شيء. فالشريعة هي العدل، والعدل هو الشريعة. وقد يعني هذا ان من غير الممكن الارتكاز على الوجدانيات العقلية لتقرير ما هو عدل وانصاف، وذلك تأثراً بالموقف الأشعري. وبالتالي لا توجد مراعاة لما يمكن ان تفضي اليه النتائج من تطبيق تلك الجاهزية من التشريعات، وما قد تفضي اليه الأمور خلاف الهدف المنشود، وهو بناء الانسان الصالح. بل نحن على ثقة بأن التطبيق لا بد من أن يسفر عن نتائج هي خلاف العدل ومقاصد الدين، باعتبارهما ليسا لازمين عن تلك المفاصل الشرعية بالضرورة، بل الأمر يتوقف على طبيعة الواقع والظروف، وحيث ان هذين الأخيرين في حالة تغير مستمر؛ لذا فمن المحال أن تناسب تلك المفاصل طبيعة العدل والمقاصد على الدوام. فقد جاءت المفاصل الشرعية وفق ما كان عليه الواقع من أحوال، وبالتالي لا يعقل أن تكون ثابتة كثبات المقاصد، فهي ذات طبيعة اجرائية جزئية قد تتفق مع المقاصد أحياناً، وقد تتضارب معها أحياناً أخرى، وكل ذلك يعتمد على طبيعة الواقع وتغيراته غير المتناهية.
إذاً لا يمكن للفهم السابق أن يقيم الدين من دون ان يعرّضه للتشويه والإلغاء. فإما أن يعبّر الدين عن مقاصده بغض النظر عن طبيعة ما تكون عليه التشريعات، أو يعبّر عن جاهزية التشريعات فحسب، أي دون أخذ اعتبار ما عليه المقاصد ذاتها، ومن المحال واقعاً ان يكون الدين جامعاً بين المقاصد وجاهزية التشريعات أو ثباتها، فالاهتمام بأحدهما يلغي الآخر ويهدمه. وبالتالي فإما ان نعمل على مراعاة المقاصد وعلى رأسها مبدأ العدل فنلغي الثبات والجاهزية من التشريعات، أو نعمل على مراعاة هذه الأخيرة فنلغي المقاصد والعدل، ومن ثم سوف يكون نظرنا للدين إما أن يمثل العدل والمقاصد، أو يمثل تلك الجاهزية الثابتة. ومن التعسف اعتبار الأخيرة عين العدل، فيصبح العدل صورياً بلا قيمة، كالذي ترمي اليه نظرية الأشاعرة بما يخالف العقل والوجدان.
هكذا فالمقاصد هي المعنية بتحديد ما هي التشريعات المناسبة وفق ما عليه الواقع المتغير، أما العكس فغير صحيح، بمعنى أن التشريعات ليست معنية بتحديد المقاصد. والتصور الآنف الذكر قام بقلب هذه المعادلة الوجدانية فأصبحت المطالبة بإقامة الدين تعني في الوقت ذاته إلغائه وتعطيله أو تشويهه.
واذا كان هذا الأمر ينطبق على ما اعتبر غاية، فإنه ينطبق على الآليات بالأولوية، فهي الأخرى لا يمكن اعتبارها تعبدية ولا توقيفية، بل كل ذلك يخضع لموجهات المقاصد بمراعاة ظروف الواقع وأحواله. صحيح أنه سواء من حيث الآليات أو التشريعات هناك صور لها قابلية أعظم على الثبات والاتساق مع المقاصد، لكنها في جميع الأحوال قليلة، وهي لا تتعالى على ظروف الواقع وتقلباته. وينطبق هذا الحال حتى على الصور التي يكثر فيها جوانب التعبد؛ كالصلاة والصيام مثلما بينا ذلك في كتاب (فهم الدين والواقع)[10].
أما بحسب الفهم المقصدي للدين، فلا توجد وسائل تعبدية ثابتة لتحقيق تلك المهمة السامية؛ غير العمل بالقيم الوجدانية والاخلاقية وترسيخ حالات الصلة بالله. فليس هناك تفصيل يتعلق بطبيعة آليات النظام السياسي فضلاً عن غيره من آليات النُظم الأخرى. فمثلاً لا يوجد هناك ما ينص على آليات التنصيب ولوائح الدستور العام وطبيعة العلاقة بين الحاكم والمحكوم، وكذا صلاحيات الحاكم وشروط استمراريته في الحكم. فنحن نعلم - مثلاً - بأن عملية التنصيب التي جرت مع الخلفاء الراشدين بعضها يختلف عن البعض الآخر، فما جرى من تنصيب للخليفة الأول يختلف عما جرى مع الخليفة الثاني، وهما غير ما حدث مع الثالث، وكذا ان ما جرى مع الثلاثة مختلف عما جرى مع الرابع. ولم تكن جميع صور التنصيب السابقة قائمة على مبدأ الشورى، كما ان الأخيرة التي حدثت بفعل قرار الخليفة الثاني لم تكن بين جميع المؤمنين ولا جميع أهل الحل والعقد، وكذا يقال بخصوص البيعة حيث لم تحدث على وتيرة واحدة، وبالتالي لا توجد هناك آليات ثابتة ومفصلة للتنصيب. والحال ذاته ينطبق على ما يتعلق بطبيعة العلاقة التي تحكم الحاكم بالمحكوم، ونعلم كم الفارق بين الطريقة التي سار عليها الخليفتان الأول والثاني، وبين ما أحدثه الخليفة الثالث من تغيير.
ومن حيث النصوص القطعية، يعترف بعض الفقهاء المعاصرين ان المبادئ الدستورية في القرآن الكريم تعد قليلة للغاية. فالاستاذ عبد الوهاب خلاف يعتقد بأن نصوص القرآن قد اقتصرت على تقرير مبادئ اساسية ثلاثة عامة، وهي كل من الشورى ((والذين استجابوا لربهم وأقاموا الصلاة وأمرهم شورى بينهم ومما رزقناهم ينفقون)) الشورى/38، والعدل ((واذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل)) النساء/58، والمساواة ((انما المؤمنون اخوة)) الحجرات/10[11]. مع ان للمبدئين الأول والأخير دلالة على كل من الشورى والمساواة بين المؤمنين فحسب، وهو أمر لا يتناسب والواقع الحديث للدولة. كما ان نصوص القرآن في القانون الاقتصادي قد اقتصرت على تقرير حق الفقير في مال الغني، وكذا حق الفقراء والمساكين في مال الدولة، حيث لهم سهم من الصدقات والغنائم والفيء، وعلى رأي الاستاذ خلاف لم تُفصَّل أحكام هذا البر بالفقراء؛ لتُفصِّل كل امة ما يناسبها[12]. وفي قانون العقوبات وتحقيق الجنايات اقتصرت نصوص القرآن على تحديد خمس عقوبات لخمس جرائم، هي: القتل والسرقة والسعي في الأرض بالفساد، والزنا، وقذف المحصنات، أما غيرها فهو - على رأي الاستاذ خلاف - متروك لولي الأمر[13].
وعلى الصعيد السياسي نحن نعلم ان الأنبياء لم يُطلب منهم أن يكونوا قادة سياسيين، مثلما طُلب منهم التبليغ بدواعي النبوة والرسالة. أو أنهم غير مكلفين بهذا الأمر ما لم يبايعهم الناس، سيما أن بعض الأنبياء والرسل لم يتولوا هذه المهمة ولم يطلبوها[14]. ومن الشواهد على ذلك ان موسى وهارون (ع) لم يذهبا الى فرعون للانقلاب عليه وابدال منصبه بمنصبهما، بل ذهبا اليه لاجل الاصلاح فحسب، كالذي يكشف عنه قوله تعالى: ((إذهب انت وأخوك بآياتي ولا تنيا في ذكري. إذهبا إلى فرعون إنه طغى، فقولا له قولاً ليناً لعله يتذكر أو يخشى)) (طه/42ـ43). وكذا الحال فيما إرتضاه يوسف (ع) من عمل تحت امرة وزعامة أحد ملوك مصر، مع انه نبي مبعوث من قبل الله تعالى، فقال جلّ وعلا: ((وقال الملك أئتوني به استخلصه لنفسي فلما كلمه قال إنك اليوم لدينا مكين أمين. قال اجعلني على خزائن الأرض إني حفيظ عليم. وكذلك مكنّا ليوسف في الأرض يتبوأ منها حيث يشاء نصيب برحمتنا من نشاء ولا نضيع أجر المحسنين)) (يوسف/54ـ56). كما من الانبياء من طلب منه الناس ان يولّي عليهم ملكاً يرأسهم، وقد تحقق هذا الطلب، كالذي حصل في زمن نبي الله داود، كما جاء في قوله تعالى: ((ألم تر الى الملأ من بني اسرائيل من بعد موسى اذ قالوا لنبي لهم ابعث لنا ملكاً نقاتل في سبيل الله.. وقال لهم نبيهم ان الله قد بعث لكم طالوت ملكاً)) (البقرة/246ـ247). ويخمن بعض العلماء ان هذا النبي الذي لم يسمّه القرآن هو صموئيل[15]. وابلغ من ذلك دلالة ما جاء في قوله تعالى من الفصل بين النبوة والملك او الرئاسة والسياسة: ((اذكروا نعمة الله عليكم اذ جعل فيكم انبياء وجعلكم ملوكاً)) (المائدة/20). لذا لو تخيلنا بأن الله بعث نبينا (ص) إلى دولة يحكمها حاكم أسلم على يديه، وليس إلى قبائل كثيرة متناثرة كما هو واقع ما شهدته شبه الجزيرة العربية، فهل نتصور أنه سيطالب بخلع الحاكم وتنصيب نفسه بحجة النبوة؟
كل ما يمكن قوله ان قيادة النبي للأمة على المستوى الاداري قد تمت بشكل تلقائي لعدم وجود زعامة مسبقة.
ويخطئ أصحاب الفهم التعبدي حينما يجعلون آليات النظام الديني السياسي، أو غيره من النُظم الاجتماعية، جزءاً متأصلاً في اللحمة الدينية لا تقبل الخلع والانفصال، حالها في ذلك كحال الصلاة والصيام إن لم يكن ابلغ منها، وكأنها الشعيرات النابتة في حجر الرخام (المرمر)، فمن المعروف أنه لا يمكن عزلها عنه بأيّ شكل من الأشكال ما لم يتم تهشيمه كاملاً. فهذا هو الفهم التعبدي الذي جرى اتخاذه بعناوين مثل عنوان الخلافة، وولاية الفقيه، وقبل ذلك الإمامة. وقد أصبح العنوان الأخير معطلاً لا فائدة ترجى منه سياسياً، والشيء ذاته فيما يخص شروطه الموضوعية، كشرط القرشية لدى الإتجاه السني، وشرط العصمة لدى الإتجاه الشيعي.
وواقع الامر انه ليست الامامة التي يتحدث عنها الناس بانها من صلب الدين وضروراته هي الامامة بالمعنى السياسي. فهذا المعنى تخالفه الكثير من القرائن والشهادات، وذلك بخلاف ما لو اخذت بالمعنى الديني[16].
هكذا لمّا كان اختيار النظام السياسي ليس في حد ذاته مطلوباً، بل لِما يمكن ان يحققه من أهداف مرهونة بالحاجات الانسانية، فإن ذلك يجعلنا أمام عدد من الخيارات الممكنة، ونرى ان خيارنا للنظام الذي يخدم اطروحة (الفهم المقصدي) يعتمد على ما يحمله هذا النظام من فقرات دستورية، وامكانات فعلية للتنفيذ، مع أخذ اعتبار الظروف الواقعية بعين الاعتبار.
وبعبارة أخرى، حيث أنه لا يوجد تصور محدد ثابت لآليات النُظم الاجتماعية يمكن رصده في طيات النص الديني، فهذا يعني ان هناك أشكالاً عديدة مفتوحة قابلة للتطبيق. وبالتالي فآليات هذه النُظم تختلف عما عليه سائر آليات القضايا الدينية التعبدية كالصلاة والصيام والحج وغيرها. ومن ثم فبقدر ما تكون آليات هذه النُظم باعثة على خلق أجواء مناسبة لبناء (الانسان الصالح) بقدر ما تكون مطلوبة، وبقدر ما تفعل العكس بقدر ما تصبح مستبعدة. فمثلاً من الناحية السياسية، لا يمتنع ان يكون المطلوب نظاماً علمانياً عندما تثبت أفضليته في تهيئة مثل تلك الأجواء مقارنة بالنظام الديني. فالعبرة هنا بصلاح الوسيلة، وذلك لعدم وجود برنامج محدد، سواء من حيث النظر العلماني أو الديني.
ومن الناحية النظرية يمكن ان نتصور نوعاً من الأفضلية في نظام يعتمد على الموجهات الدينية والوجدانية في صور التعامل مع الوقائع والأحداث، مع أخذ اعتبار الإجتهاد في الواقع بكل ملابساته والعمل طبقاً لمعطياته تحت حاكمية تلك الموجهات بما فيها المقاصد الدينية. لكن حيث ان الواقع ما زال يفتقر إلى مثل هذه الصورة، فإن الخيار لا يتم بمعزل عن لحاظ طبيعة البرامج المقدمة، والظروف التي تنفذ فيها، مع القدرة على التنفيذ. فالغرض هو كل ما يمكن ان يقربنا نحو بناء ذلك الهدف المنشود؛ سواء تمّ الأمر عبر وسيلة دينية أو وسائل أخرى قد تكون أنجع منها، سيما عندما تعمل على إشاعة الحريات العامة والمساواة بين الناس أمام القانون؛ لا فرق في ذلك بين الحاكم والمحكوم، وكذا عندما تفصل بين السلطات الثلاث التشريعية والتنفيذية والقضائية، كذلك عندما تجعل العمل التربوي والتغييري في المجتمع ممكناً، الأمر الذي يشكل ارضاً خصبة للداعين إلى تكوين ذلك الانسان: ((ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة)) النحل/125.
على أن علاقة (الانسان الصالح) بالمقاصد الدينية هي علاقة ضرورية غير قابلة للانفكاك، فلا يمكن تصور أحدهما دون الآخر. فالغرض من الدين لا يحيد عن هذا المطلب النبيل. وليس الأمر كذلك مع آليات النُظم الاجتماعية وعلى رأسها النظام السياسي، حيث لا يمتنع ان يكون الدين محايداً ازاءها اذا ما استثنينا مطالبته بجملة من القيم والموجهات ذات العلاقة المباشرة بالغرض الديني الآنف الذكر. مما يعني أنه لا يوجد نظام محدد تفصيلي؛ سواء استعنّا بالنظريات الشيعية أو السنية. وبالتالي فليس هناك ما نعده من التعبديات كما يزعم أصحاب الفهم التعبدي، ولا توجد مؤشرات تشير إلى هذا المعنى من التعبد.
***
هكذا ليس هناك تضاد بالضرورة بين البرامج الاجتماعية - السياسية والاقتصادية وغيرها - لدى الفكرين الديني والعلماني. فالفارق بينهما يمكن ان يتحدد ببعض المصادر المعرفية، فالفكر الديني لا يمانع من الأخذ بجميع ما يعتمد عليه الفكر العلماني ويضيف اليه خصوصيته المتعلقة بالنص. وهو معنى كون هذا الفكر يتخذ طابع الجمع لا الطرح في الغالب. وبالتالي قد يحصل تقارب بين الرؤيتين في بعض الحالات، منها ما قد يحصل من تقارب عند اعتماد الرؤيتين على الاعتبارات العقلية والواقعية وغيرها من الاعتبارات المعدة عارضة لدى الفكر الديني. كما قد يحصل تقارب بين الرؤيتين في النتائج رغم اختلاف الاعتبارات المعتمدة لدى كل منهما، كإن يكون الإعتماد لدى الفكر الديني على الاعتبارات الذاتية (النص)، ولدى الفكر العلماني على العقل والواقع. مع هذا فالفوارق بينهما تظل متوقعة وكثيرة، لكن ذلك يحدث ايضاً بين البرامج المختلفة التي يقدمها ذات الفكر الديني بأطيافه المتنوعة، وكذا يحدث بين البرامج المختلفة التي يقدمها الفكر العلماني.
فمثلاً ينقسم النظام السياسي داخل الفكر الديني إلى نظام ديني استبدادي، والى نظام يعمل بالتعددية. وكذا هو حال ما يحصل داخل الفكر العلماني. وهذا يعني أن الخطأ وارد في البرامج والمشاريع المقترحة، سواء كانت دينية أو علمانية، وان صفة الإجتهاد لدى كل منهما قائمة، وأنه لا قدسية في الإجتهاد الديني، وان الأحكام الواردة فيه ليست أحكاماً لاهوتية أو إلهية بحتة، وكذا ان السلطة والسيادة ليست إلهية ثيوقراطية، بل لها طبيعة بشرية مصطبغة بالصبغة الدينية، وحصيلتها في النتيجة هي حصيلة بشرية قائمة على الفهم والإجتهاد، ومن ثم فهي قابلة للخطأ. وان الأفضلية بين الفكرين لا تتحدد بمجرد الانتماء، بل لا بد من معرفة طبيعة ما عليه البرامج؛ سواء كانت دينية أو علمانية. فللنزعتين عدد غير محدد من البرامج التطبيقية. وبالتالي قد يتفوق برنامج ديني على علماني، كما قد يحصل العكس، طالما ان المصادر والاعتبارات المعتمدة قد تتفاوت وتختلف فيما بينها، وقد يطغى بعضها على البعض الآخر، مما قد يختلف فيه الأمر من برنامج إلى اخر. فليس كل من يعول على النص يصيب الإجتهاد الصحيح، ومثل ذلك من يعول على العقل والواقع، وان الصواب صواب سواء كان مستمداً من النص أو غيره.
ويمكن القول ان الأنظمة الحديثة قاطبة لم توفق بعد إلى الصواب في تعاملها مع الشعوب المحكومة، وان الداء فيها متنوع، إذ قد يتمثل بإبتعادها عن الروح الدينية وقيمها السامية، كما قد يتمثل بإهمالها للموجهات الوجدانية المناطة بالممارسة والتطبيق؛ كالإخلال في العدالة والتمييز والاضطهاد، أو لكونها لا تعير اهمية للمقاصد الدينية واعتبارات الحقائق الواقعية. فلا يخلو نظام من انظمة الحكم الحديثة دون ان يمسه داء أو أكثر مما قدمنا. وبالتالي فهي لا تعبّر عن طموح (الانسان الصالح) سواء كانت مصطبغة بالصبغة الدينية او العلمانية. وان المسؤولية الملقاة على عاتق النظام الديني كبيرة، باعتباره يمارس نوعين من الفهم والإجتهاد، أحدهما يتعلق بالنص، والآخر بالواقع، وان اغفال اهمية فهم هذا الأخير هو الداء المزمن الذي رافق التفكير الديني منذ نشأته والى يومنا هذا، وبالتالي فأزمة هذا النظام وفشله يعودان في الغالب إلى عدم الوعي بأهمية الواقع وعلاقته بالنص. لذلك تتفوق بعض التجارب العلمانية الغربية على مشروعاتنا السياسية. ومع ان لكل نواقصه، إلا أن الفوارق في النقص والخلل بين هذين النوعين من المشاريع والتجارب كبيرة للغاية. وقديماً قال ابن تيمية أيام الحملة المغولية، نقلاً عن بعض العلماء: إن «الله يقيم الدولة العادلة وإن كانت كافرة، ولا يقيم الظالمة وإن كانت مسلمة»[17]. ومثل ذلك ما أفتى به الفقيه رضي الدين علي بن طاووس بتفضيل الحاكم العادل الكافر على المسلم الجائر، أيام السلطان هولاكو. وهو ما أيده بعض رواد الاصلاح الديني الحديث مثل الكواكبي[18]؛ مفضّلاً أن يحكمنا الملوك الغربيون عن أن يحكمنا الرؤساء المسلمون، معتبراً الأوائل أفضل من الآخرين وأولى منهم حكماً، شرعاً وعقلاً، لكونهم أقرب للعدل وأقدر على إعمار البلاد وترقية العباد ومن ثم تحقيق المصالح العامة. لذا اعتبر التشريع الغربي هو حبل الله لأنه بيد الأمة[19].
يبقى أن الخيار الديمقراطي هو الخيار المطلوب، وأن التيار الديني هو أقوى التيارات التي يمكنها توظيف هذا الخيار في مجتمعاتنا الاسلامية، إلى حدّ قد يفضي التحقيق فيه - دينياً - إلى اعتباره واجباً متعيناً قبال غيره من الخيارات، فهو خيار استراتيجي لا تكتيكي، فالمكسب فيه معلوم، سواء في الفوز أو الفشل، إذ هناك فرص حقيقية لتجنيد الطاقات في التوعية والتغيير الاجتماعي، وأن من الممكن الاستفادة من الحرية المتاحة وقابلية مجتمعاتنا لقبول الخطاب الديني أكثر من غيره[20].
ومن الغريب فعلاً أن يعرض أغلب الكتّاب الاسلاميين والكثير من حركات التيار الديني عن ذلك الخيار، بدل التهافت عليه. وهم إذ يفعلون ذلك فلتمسكهم ببعض ألوان الاستبداد الديني والسياسي، رغم ما يفضي اليه الأمر من تشويه سمعة الدين وفقدان الثقة وحالة الاحباط التي تصيب المجتمع جراء التطبيق، كالذي رأيناه في أكثر من مكان وتجربة.
نعلم ان هناك تحسساً للتيار الديني إزاء عدد من القضايا التي تتضمنها فكرة التعددية والخيار الديمقراطي، ومن ذلك الجلوس مع الاحزاب المعارضة في المجالس النيابية. وقد يجاب عليه بأن ذلك لا يكون أعظم من قبول النبي (ص) لصلح الحديبية مع ما فيه من بعض الخسارة المعنوية قبال الكسب الذي تضمنته المعاهدة. فما يحصل في المجالس النيابية من الخسارة المعنوية للطرف الديني، بل وجميع الأطراف، ليس بأعظم من تلك الحالة التفاوضية التي جرت بين النبي وخصومه من المشركين، ولا أعظم مما عاهد به النبي يهود المدينة المنورة وغيرهم، ضمن ما يُعرف بصحيفة المدينة التي لها طابع المواطنة والحقوق المدنية. وفي جميع الأحوال هناك مكسب تناله جميع الأطراف المتعارضة، وهو رفض العنف وتحويل الصراع مما يمكن ان يكون صراعاً دامياً إلى صراع التنافس حول التأثير لكسب المقاعد والأصوات.
كما أن من القضايا التي يتحسس منها التيار الديني هو أنه يرى المشاركة في المجالس النيابية ما هي الا تعبير عن الرضوخ لتقبل (المنكر)؛ لما تحمله أطراف المعارضة من برامج علمانية. مع أنه يمكن الإجابة على هذه الحساسية بأن تلك المشاركة ليست بأعظم من تقبل الفرد المسلم للمنكر عندما يصعب تغييره فيعمل بأضعف الايمان، وهو الرفض القلبي، تبعاً للحديث النبوي: «من رأى منكم منكراً فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك اضعف الايمان». فالجلوس على طاولة المجالس النيابية فيه حفظ لحياة الجماعة لا الفرد وحده، وان الخسارة المعنوية التي تطال الجميع يستعاض بها في القدرة على تغيير الأوساط الاجتماعية، وذلك لأن الخيار الديمقراطي مشروط بحماية الحريات العامة، ومنها الحرية الدينية والثقافية والاعلامية والسياسية.
تبقى الإشكالات التي توردها الحركات الدينية على التعددية السياسية كثيرة، أهمها أنها مناقضة لأصول الاسلام، فالاسلام يقر بالوحدة لا التعددية، وأنه لا يقر الا بحزب الله كجماعة دون غيره، وان الحرية في الاسلام مقيدة لا كما هو الحال في التعددية، وان المجالس النيابية وما تتضمنه من المعارضة لا تنسجم مع الفكرة الاسلامية الموحدة، وان الاسلام يعمل طبقاً للحق وليس بحسب الأكثرية، وان العمل بتعيين مدة الحكم يعد شرطاً ليس للاسلام فيه أصل، وان الاسلام يدعو إلى بيعة أهل الحل والعقد بعد التعيين، وعلى الأقل بين المؤمنين كافة، في حين ان الإنتخاب يكون من قبل الناس جميعاً دون تمايز... الخ.
ويمكن أن نضيف إلى ذلك؛ ما كان يجمع عليه الفقهاء من عدم شرعية التعددية في الدولة الاسلامية، وتقييد المنصب الرئاسي بالشرط القرشي تارة وبالعصمة تارة اخرى[21]. لكن الملاحظ بأن هذه الشروط والقيود أخذت تتراجع ولم يعد لها ذلك الصيت والأثر لعدم امكانية تحقيق بعضها، وصعوبة تحقيق البعض الآخر.
وتذكرنا الإشكالات السابقة بما كان يُطرح من إشكالات على التعددية العقائدية، تبعاً لمقولة الفرقة الناجية وسط فرق الضلال، حيث ان الحق المختلف فيه واحد. لذا تعني التعددية المعرفية بأن جميع الفرق المختلفة باستثناء واحدة منها هي فرق ضالة إن لم تكن كافرة، وبالتالي فإن الاسلام لا يقر الا بواحدة، هي فرقة حزب الله، أو الجماعة التي تدعيها كل فرقة لنفسها[22]، وكذا ان الحرية الفكرية في المجال العقائدي غير مقبولة، وكثيراً ما يمنعها العلماء بأساليب مختلفة، كاسلوب الفتوى التي تأمر بحرق كتب أهل الضلال... الخ.
ومثلما أن الإشكالات في المجال العقائدي تفترض وجود عقائد ثابتة يمكن تحصيلها دون التباس، فكذا أن الإشكالات في المجال السياسي تفترض وجود برنامج ديني مثالي ناجح للتطبيق، وهو أصل الخلاف، إذ لا يوجد برنامج موحد يتفق عليه جميع أصحاب الحركات الاسلامية، فكل برنامج يقتضي الممارسة الإجتهادية مع النص، كالذي يجري في المجال العقائدي، يضاف إلى أنه حتى مع سلامة الإجتهاد وفق متطلباته الدينية، فذلك لا يفي بحل المشكل السياسي؛ للإلتباس الحاصل في الواقع المتغير، إذ لهذا الأخير أثره البالغ في نجاح المشروع السياسي أو فشله. وبالتالي فإننا نتعامل مع أطياف مختلفة، سواء في الحالة الدينية أو العلمانية.
ومن حيث التقارب في مواقف الفكر الديني إزاء القضايا العقدية والسياسية، يلاحظ ان الفرق الدينية كان لها طابعها الإجتهادي، رغم أنها تتنكر - في الغالب - لهذا الإجتهاد ولا تعترف به[23]. وهي وإن كانت تعددية من حيث الواقع الا أنها أحادية التصور؛ لا تجيز التعدد ولا تقبل للآخر الإختلاف، وبعضها يتهم البعض الآخر بالضلال والكفر، مع أنها ليست تعددية من حيث الواقع فحسب، بل متداخلة فيما بينها، سواء على صعيد المضمون الفكري، أو على نحو المنهج والطريقة.
فمثلاً على مستوى المضمون رغم ان جميع الفرق تتفق على اصل التوحيد، لكنها تختلف فيما بينها حول مضمون هذا الاصل، فهناك التوحيد بالمعنى التشبيهي، وفي قباله التوحيد بالمعنى التنزيهي، كما هناك التوحيد بالمعنى الاشعري، وكذا بالمعنى الفلسفي والمعنى العرفاني المعبر عن وحدة الوجود، وغير ذلك من المعاني. وهذا الاختلاف في المعاني لا يمنع من وجود حالة التداخل والتضمن لدى الفرق الكبيرة. فالمعنى التنزيهي للتوحيد وارد سواء في الساحة الشيعية او السنية، ومثله المعنى التشبيهي، وكذا المعاني الأخرى، فضلاً عن موارد الاختلاف في غيرها من القضايا، فالاعتداد بمرجعية العقل وارد لدى الساحتين، كما ان انكار العقل وارد هو الآخر لديهما[24]، وكذا يقال بخصوص قضايا رئيسة اخرى كقضية الحسن والقبح العقليين[25]، وقضية القياس وما اليها[26]، حيث مثل هذه القضايا تجد من يعول عليها في الساحتين، كما تجد من ينكرها فيهما ايضاً. فالتعددية الاجتهادية في الساحتين هي تعددية تداخلية وليست تعارضية. وينطبق هذا الحال على الخلاف المنهجي، فجميع المناهج التي يتضمنها كلا النظامين المعياري والوجودي في الفكر الاسلامي واردة في الساحتين دون اختلاف.
كذلك فإن الحركات السياسية الدينية وإن كانت حركات إجتهادية وتعددية يتداخل بعضها مع البعض الآخر، الا أنها تتنكر لطابعها الإجتهادي وتنظر للأمور بعين واحدة دون أن تعترف بتعدديتها وتداخلها، سيما تلك التي تقسّمها الاعتبارات المذهبية. وهو الأمر الذي شهدناه في الفكر الديني على المستوى العقدي كالذي اشرنا اليه قبل قليل. ناهيك عن أنها تقتبس - أحياناً - الفكر الآخر عند الحاجة وتصبغ عليه ما تراه مناسباً من مرجعيتها الدينية، ومن ذلك قضية الديمقراطية التي قد تعني عندها مفهوم الشورى دون اختلاف.
هكذا ينبغي ان لا نربط مصير الدين بالقضية السياسية أو غيرها من النُظم الاجتماعية بقدر ربطه بالغاية التي استهدفها الدين ذاته. وبعبارة أخرى ان العبرة بالغايات لا الوسائل والآليات، الأمر الذي يجعل التصدي إلى جوانب التربية والفكر والتثقيف من الأولويات للعقل المسلم، أما التصدي للمسألة السياسية فهي من الأمور التابعة لتلك الجوانب، والعمل معها ينبغي ان يتخذ الكثير من الحيطة للخطورة التي تترتب عليها، سواء من الناحية الدينية أو الواقع الاجتماعي.