يحيى محمد
يمكن إعتبار إبن عربي أبرز من يمثل نظرية المعاينة وسط العرفاء. والتعرف على طريقته يجعلنا نتعرف على طبيعة الاختلاف الذي ساد بين الفلاسفة والعرفاء حول فهم التنزل الحاصل في الوجود. وتعتمد الطريقة الفلسفية في تصوير علاقة المبدأ الحق بغيره عبر الوسائط من الرتب الوجودية على بعض الأمثلة الحسية، مثل تنزلات نور الشمس وضعفه شيئاً فشيئاً عندما يصطدم بعدد من الحواجز كالقمر والمرآة والجدار وغير ذلك، فرغم ان حقيقة النور واحدة إلا ان لها مراتب مختلفة من الشدة والضعف، وكذا هو الحال في علاقة المبدأ الأول بغيره من الموجودات، حيث الحقيقة المشتركة بين الجميع واحدة إلا انها تختلف من مرتبة لأخرى. وهذا الاشتراك في الحقيقة الواحدة هو ما أكدت عليه نظرية المشاكلة، فرأت ان ما ينطق به النص من ألفاظ له حقيقة واحدة ذات دلالات متعددة ومتفاوتة، على غرار ما في الوجود من المراتب المتعددة رغم وحدة الحقيقة فيما بينها. فوحدة الدلالة لظاهر النص مستمدة من وحدة الحقيقة الوجودية، وتعدد مراتب الدلالة وكيفياتها مستمد من تعدد مراتب الوجود وكيفياته، وبالتالي فإن ظاهر النص وألفاظه قد جاءت على شاكلة ما عليه الوجود الخارجي، مما يتسق ومنطق السنخية.
أما الطريقة العرفانية فأمرها مختلف، فهي تعتبر العلاقة بين المبدأ الحق وتنزلاته الوجودية ليست علاقة غيرية كالذي تبديه الطريقة الفلسفية، رغم تقارب النظريتين، إذ لا تعترف بوجود آخر غير الحق، وان علاقته بما يطلق عليه الغير هي نسب إعتبارية وتقيدات تعينية تفرضها قوابل الأعيان الثابتة أو الماهيات التي هي من حيث ذاتها ليست موجودة ولا شمت رائحة الوجود. فالحقيقة هنا واحدة، أما التعدد فيأتي بحسب التعينات واختلاف القوابل أو الماهيات، مثلما يتضح في علاقة النور الملقى على زجاجات مختلفة الألوان، فلولا النور ما ظهر منها شيء، وان اختلاف ألوانها هو بحسب ما عليها من طبائع مختلفة، لكنها تظل معدومة لا تظهر إلا بالنور. وكذا تظهر الأشياء بالحق وهو يختفي فيها، مع ان حقيقة الموجود هو ذاته لا غير، فكان الظاهر هو الخلق، والباطن هو الحق. أو مثلما يتضح في علاقة الفحم المجاور للنار، حيث يكتسب صفاتها عند المجاورة، وكذا هو الحال في تنور الخلق بنور الحق وحمل صفاته، وبالتالي فما من شيء يظهر إلا وهو يحمل صفات الحق، فيكون بهذا الإعتبار حقاً متعيناً ومقيداً بقيده الخاص، فالحق هو الظاهر في الأعيان، وهو ذاته الذي أخفاها. أو مثلما يتضح الحال في ظهور الصورة الواحدة في المرايا المتعددة المختلفة، حيث الصورة واحدة مع انها تظهر بمظاهر مختلفة تبعاً لاختلاف المرايا، وكذا ان الوجود واحد لكنه يتعين بتعينات مختلفة تبعاً للقابليات.
وسواء اتبعت الطريقة العرفانية النسق الذي يبرزه مثال النور والزجاجات الملونة، أو مثال الفحم المجاور للنار، أو مثال الصورة في المرايا المختلفة، فالأمر هو هو من حيث ان للحق مظاهر وتعينات كلها تدل على ما له من حقيقة وجودية لها علاقة بتلك الأعيان التي لسان حالها طلب الظهور بحسب ما عليه قابلياتها واستعداداتها من غير زيادة ولا نقصان. وقد انعكس هذا التصور على فهم النص وطبيعة التعامل مع الظاهر تبعاً لما أطلقنا عليه المعاينة. إذ تصبح ألفاظ النص حاكية لكل ما تصفه من الوجود وتعيناته ومراتبه وشؤونه الذاتية وأسمائه وصفاته، سواء كانت حسية أو غير حسية، وسواء كانت تشبيهية أو تنزيهية، حيث الوجود يسع الكل، فهو المطلق الذي يتعين بالتعينات بلا حصر ولا حدود، وهو المشهود في كل مشهود، كما انه الغيب بحسب الذات المقدسة وأسمائها ولوازمها من الأعيان الثابتة. فهذا هو الوجود، وذلك هو النص الذي يصور ما عليه الوجود في كافة مراتبه وتعيناته تصويراً عينياً ومطابقاً من غير تحريف.
هكذا فإنه إذا كان الفلاسفة يعولون على المراتب الوجودية المتنزلة من دون أن تمثل المبدأ الحق ذاته، والتي عليها تأسست نظرية المشاكلة للفهم والتفسير الديني، فإنه في القبال إعتبر العرفاء ان هذه التنزلات التي تحدّث عنها الفلاسفة ما هي إلا تنزلات الحق ذاته؛ استناداً إلى وحدة الوجود الشخصية، حيث تظهر بألوان وأشكال مختلفة بحسب ما عليه الأعيان الثابتة من جهة، وبحسب ما عليه الحق الظاهر فيها من جهة ثانية. فالمعاينة هي العين الظاهرة للوجود للحق، كما انها عين الأشياء من حيث ماهياتها وأعيانها الثابتة، فليس في الوجود غير هذه العين الواحدة التي تطوي في ثناياها تلك الأعيان.
ومع أننا لا نجد تنظيراً لهذه النظرية وسط العرفاء، خلافاً لما لاحظناه في نظرية المشاكلة التي نظّر لها الغزالي ومن بعده صدر المتألهين، لكنا مع ذلك نصادف الكثير من الشواهد التطبيقية الدالة عليها، لا سيما لدى إبن عربي. مع الأخذ بعين الإعتبار انه سواء بخصوص الغزالي وصدر المتألهين، أو إبن عربي وسائر العرفاء، فإن كلاً من الجماعتين لم يلتزم بحدود الانضباط كما دلّت عليه هاتان النظريتان، فقد ظهرت لديهما آفاق أخرى من التفاسير المتعددة التي يغلب عليها انعدام الضابط. كذلك يلاحظ أن صدر المتألهين قد لجأ – في بعض الأحيان - إلى طريقة المعاينة كما دلّ عليها إبن عربي، فهو كلجوء الفلاسفة وانزلاقهم أحياناً نحو نظرية وحدة الوجود العرفانية.
وبحسب نظرية المعاينة فإن للنص مرجعيته المعرفية المؤكدة، وان كل ما يظهر على الألفاظ في تصوير الوجود هو حق مطابق لا اختلاف فيه. فالنص عندما يضفي على الصفات الإلهية صفات حسية فانما يعني هذا الجانب الحسي لا غير، وكذا عندما يبدي نفيه لهذا الأمر انما يعني هذا النفي، بل وعندما يبدي الجمع بين المتضادين فإنه يعني التضاد، وهو بالتالي يحكي ما هو الوجود ويصوره على ما هو عليه من غير زيادة ولا نقصان. وهذه هي المطابقة بين الألفاظ والوجود، كما هذه هي المحاكاة العينية بينهما. فالنص بحسب هذه النظرية يتحدث عن المعنى الخاص الذي يصور فيه ما عليه الوجود إن كان حسياً أو غير حسي. فاللفظ بدلالته الحرفية الخاصة يعبر تعبيراً عينياً ومطابقاً للوجود الموضوعي.
وهناك الكثير من الشواهد التي توضح هذه الطريقة من الفهم بحسب الجمع بين الظاهر وما عليه القبليات الوجودية، خاصة فيما يرتبط بالاشارات التي لها علاقة بوحدة الوجود والأعيان الثابتة، ومن ذلك ما قام به إبن عربي في (الفتوحات المكية) من تفسير قوله تعالى: ((يا أيها الناس أنتم الفقراء إلى الله))[1]، إذ إعتبر الفقراء هم الذين يفتقرون إلى صور الأسباب التي هي عين الله، أو انه المتجلي فيها. فهم - إذاً - يفتقرون إلى الله في كل شيء، وليس إلى غيره حيث لا وجود للغير، طالما ان الله ظاهر في كل شيء[2]. أو يمكن القول طالما ان الناس يفتقرون إلى صور الأسباب ومنها الأسباب الطبيعية، وكذا طالما ان النص القرآني صريح بأن الناس يفتقرون إلى الله، فعليه تكون النتيجة ان الناس في كل ما يفتقرون إليه هو مسمى الله.
كذلك إعتبر إبن عربي في (فصوص الحكم) ان معنى قوله تعالى: ((وما رميت إذ رميت ولكن الله رمى))[3]؛ له دلالة على ان الله رمى بصورة محمدية. فهذه الصورة هي عين الله في أحد تجلياته[4]. وهذا الإستظهار يثبت الرمية لله وللنبي كما هو ظاهر في النص، لكن حيث ان صاحب الرمية بالحس هو النبي لا غير، لذا فأمامنا ثلاثة فروض، وهي ان الرمية إما أن تكون معلقة بكليهما على سبيل التفكيك والاستقلالية؛ كإن يكون الرامي من حيث الحس هو النبي ومن حيث الغيب غيره أو الله، أو انها تكون عائدة إلى واحد منهما مع إبطال الآخر، أي إما ان الحس صادق فتعود الرمية إلى النبي فحسب، أو انه كاذب فتعود إلى الله فقط. أما الفرض الأخير فهو ان الرمية تتعلق بهما سوية بالتوحيد من غير تفكيك واستقلالية، وهو الفرض الذي تركز عليه القبليات العرفانية، إذ من حيث الباطن يكون الله هو الذي رمى بصورة محمد بإعتباره أحد التجليات الإلهية، وذلك استناداً إلى وحدة الوجود.
ولا يختلف الأمر مع نصوص قرآنية أخرى تربط بين علاقة الشيء بالنبي وعلاقته بالله، ومن ذلك قوله تعالى: ((ان الذين يبايعونك انما يبايعون الله))[5]، وقوله: ((من يطع الرسول فقد أطاع الله))[6]، حيث المآل واحد وهو ان الله متعين بحسب الصورة المحمدية. بل كان من الميسور ان يُستظهر المعنى الحرفي للحديث النبوي القائل: ‹‹من رآني فقد رأى الحق››[7]، فبحسب هذا النمط من الإستظهار تكون رؤية النبي هي عين رؤية الله، ومن حيث ان هذا الأخير متعين بالصورة المحمدية مثلما انه متعين بغيرها من الصور، فهو عين النبي، لذلك فمن رآه فقد رأى الله. مع ان هذا الحديث قد وجد تفسيراً آخر بحسب نظرية المشاكلة بعيداً عن وحدة الوجود الخاصة لإبن عربي، تبعاً لمشاكلات الوجود، كالذي أبداه صدر المتألهين ومن قبله الغزالي، والمعنى بحسب هذا التفسير هو أن النبي (ص) يعتبر مظهراً من مظاهر الذات الإلهية، فهو مثالها الأعظم، لذلك من رآه فقد رآى الحق استناداً لهذا النوع من المشاكلة، فمثله كمثل الذي يرى الصورة في المرآة ويظنها حقيقة الشخص لا صورته. ويصدرق الشيء نفسه حول ما ذكرنا من النصوص القرآنية[8].
ويصل إبن عربي في (الفتوحات المكية) إلى النتيجة ذاتها من خلال ما يستعرضه من قضية البدل. ففي الصنعة العربية هناك ما يطلق عليه بدل الاشتمال مثل ان تقول: أعجبني الجارية حسنها، وأعجبني زيد علمه، حيث ان الحسن بدل من الجارية، والعلم بدل من زيد. كما هناك بدل الشيء من الشيء وهما لعين واحدة، مثل ان تقول: رأيت أخاك زيداً، فزيد أخوك وأخوك زيد. ومنه يفهم بدل الشيء من الشيء، وقد يكون هذا البدل بصورة التبعيض، كما في الآية ((وما رميت إذ رميت ولكن الله رمى)) المشار إليها سلفاً، أي بدل البعض من الكل، مثلما يقال: أكلتُ الرغيف ثلثيه. والمعنى واضح من حيث ان الحق لا يتجلى في تلك الصورة المحمدية في رميها فحسب، بل له الاطلاق. وعلى هذه الشاكلة يفهم معنى قوله تعالى: ((تجري بأعيننا))[9]، حيث ان مدير السفينة يحفظها، والمقدم يحفظها، وكذا كل من له تدبير في السفينة يحفظها، فهي بالتالي تجري بأعين الحق وما ثم إلا هؤلاء الذين يقومون بحفظ السفينة، فالحق مجموع الخلق في الحفظ. ومثل ذلك ما جاء في الحديث النبوي: ‹‹.. كنت سمعه وبصره..››[10]، حيث ان الكل من عند الله ((قل كل من عند الله)) [11]. ومثله ما جاء في الحديث القدسي: جعتُ فلم تطعمني، مرضتُ فلم تعدني، ظمئتُ فلم تسقني››[12].
ويمكن التعبير عن هذا الإستظهار بصورة من صور الاستدلال المنطقي المعتمد على الحس، وهو ان ظاهر النص القرآني مأخوذ به، حيث تجري السفينة بأعين الله، لكن تفسير ذلك يعتمد على القبليات الوجودية من خلال الاستعانة بالحس، فهذا الأخير يطلعنا على ان السفينة تجري وفق قبطانها ومن على شاكلتهم من الأسباب التي تهيء لها السير، وحيث ان الحس لا يمدنا بأكثر من ذلك، لهذا فمن حيث الباطن ان هؤلاء هم المقصودون بأعين الله، فهم يشكلون بعضاً من تجليات الحق في الوجود.
ومن ذلك إستظهار قوله تعالى: ((كل شيء هالك إلا وجهه))[13]، حيث لا وجود لغيره أزلاً وأبداً، مثلما قيل: ‹‹الباقي باقٍ في الأزل والفاني فان لم يزل››[14]. وقريب من ذلك قوله تعالى: ((كل من عليها فان ويبقى وجه ربك ذو الجلال والاكرام))[15]، حيث وجه الشيء هو حقيقته وذاته.
مقارنة بين نظرية المشاكلة والمعاينة
لا شك ان باستطاعة نظرية المعاينة ان تعول على ظاهر النص الذي يتحدث عن أعيان الوجود بأشكاله وعلاقاته المختلفة دون حاجة للتأويل، وان تفسيرها لهذا الظاهر يقوم على الباطن المتمثل في القبليات الوجودية. فهي تتقبل الظاهر قبولاً تاماً، وتعترف ان ما تريده من تفسير يتطابق مع دلالة الظاهر من غير مخالفة. فهي من هذه الناحية تتفق مع نظرية المشاكلة، لكنها تختلف عنها بإعتبار ان الأخيرة تعتبر الظاهر الحرفي هو روح المعنى العام المشترك، والذي من خلاله أمكنها تفسير الجوانب الإلهية والغيبية بعيداً عن الفهم الحسي. في حين إن الأمر مع المعاينة لا يحتاج إلى مثل هذا التحويل، لأنه يمكن التعويل على الفهم الحسي حتى عندما يتضمن النص ذكر صفات الحق وعلاقاته بخلقه. فالفهم لدى المشاكلة يقوم على الظاهر العام غير المتعين، بينما الفهم لدى المعاينة قائم على الظاهر المنزل تنزيلاً بحسب ما عليه التعينات ومنها التعين الحسي. أو يمكن القول إن الفهم لدى كل منهما لا بد ان يختلف عن الآخر بحكم ما تحدده قبلياتهما، فإذا كان الظاهر عندهما يدور حول المعنى الحقيقي للنص، سواء كان عاماً كما لدى المشاكلة أو مشخصاً كما لدى المعاينة، فإن الباطن المتمثل في هذه القبليات مختلف. فالباطن لدى نظرية المشاكلة يعبّر عن مشاكلات المراتب الوجودية، بينما هو لدى المعاينة يعبّر عن وحدة الوجود الشخصية والعلاقة بين الحق والأعيان الثابتة في الغالب. وانه إذا كانت نظرية المشاكلة منتزعة عن مشاكلات الوجود من جهة، وعن مشاكلات اللفظ الحرفي الظاهر من جهة ثانية، وبالتالي حقّ علينا ان نطلق عليها هذه التسمية، فإنه في القبال تستند نظرية المعاينة إلى العينية الوجودية التي تفرزها نظرية وحدة الوجود الشخصية، سواء كانت هذه العينية تتمثل في عينية الحق في كل شيء، أو انها عينية الأعيان الثابتة، كما وتستند إلى حرفية اللفظ الذي له علاقة عينية مطابقة لما عليه الوجود، ومنه الوجود الحسي، الأمر الذي دعانا إلى ان نصك لها تلك التسمية.
ولإيضاح الاختلاف في طريقة التفسير بين النظريتين نعود إلى فكرة الصفات الإلهية المذكورة في عدد من النصوص القرآنية والنبوية، والتي هي موضع اتفاقهما من حيث انها دالة على الجمع بين هيئتي التنزيه والتشبيه، ويمكن تلخيصها بقوله تعالى: ((ليس كمثله شيء وهو السميع البصير))[16].. فإذا كان التنزيه متفقاً عليه بين النظريتين، كالذي يبدو من المقطع الأول للآية، إلا ان التشبيه هو موضع الاختلاف بينهما. فبحسب نظرية المشاكلة ان المقصود من التشبيه هو ان لله صفاته التشبيهية المذكورة لكنها مجردة بحسب تشاكلات الوجود ومراتبه، فيد الله وعينه هي ليست كهذه الأيدي والأعين الطبيعية، لكنها في الوقت ذاته غير منفية عنه، وانما لها مرتبة وجودية ذات مكانة مقدسة، ومن خلالها تنزلت مراتب الأيدي والأعين ومنها تلك التي نشهدها في الحس. وكذا يمكن القول ذاته في سائر الصفات، ومنها السمع والبصر والمجيء والهرولة والضحك والتعجب وغير ذلك من الصفات المنصوص عليها في القرآن والحديث. وهذا ما ذهب إليه صدر المتألهين، حيث جمع بين التنزيه والتشبيه ليوافق من سبقه من الإشراقيين وبعض العرفاء كالغزالي، وإن استخدم لهذا الغرض أحياناً نصوص إبن عربي، حتى دون الإشارة اليه[17].
أما المقصود من التشبيه لدى إبن عربي وأتباعه فهو يعود بنا إلى وحدة الوجود الشخصية عبر مرآتي الحق والخلق. فهناك ثلاثة محاور لهذه العلاقة، هي الحق والأعيان الثابتة والخلق، وبين هذه المحاور الثلاثة مسانخات بعضها يتضمن البعض الآخر، أو ان بعضها يكون مرآة للبعض الآخر، فالأعيان الثابتة هي صور الحق، وهي من هذه الناحية تمثل ذات الحق من غير اختلاف، كما ان الخلق يمثل الأعيان عند ظهورها وتجليها، فالخلق مُشاكل لما عليه الأعيان، كما ان الخلق لا يظهر إلا من حيث تجلي الحق، وبالتالي فالخلق يعبّر عن صور تفاصيل الحق المتمثلة بالأعيان، لذلك فبالتجلي يكون الخلق حقاً، وكذا فإن الحق خلق، مثلما هو الحال في العلاقة بين الحق والأعيان، حيث الحق هو الأعيان، والأعيان هي الحق.
وبحسب هذه التقابلات فإن الحق عند التجلي قد اختفى في الخلق وأظهره، كالمرآة التي تظهر الصورة وتختفي بسببها، مع ان كل ما يظهر من صور الخلق فانما هو الحق في تعيناته وشؤونه؛ كالذي تشير إليه الآية الكريمة: ((كل يوم هو في شأن))[18]. أو كما يقول إبن عربي انه إذا كان الحق هو الظاهر فالخلق مستور فيه، فإذا كان متجلياً في مرايا الأعيان لا يكون الظاهر إلا هو، والأعيان باقية في الغيب على حالها من العدم الخارجي، وبذلك يكون الخلق جميع أسماء الحق كالسمع والبصر وجميع نسبه وإدراكاته. أما إن كان الخلق هو الظاهر فالحق مستور باطن فيه، كالصورة الظاهرة التي تستر المرآة، وبذلك فإن الحق يكون سمع الخلق وبصره ويده ورجله وجميع قواه[19]. وله في ذلك بيت من الشعر يقول فيه:
فالحق خلق بهذا الوجه فإعتبروا وليس خلقاً بذاك الوجه فادّكروا
مما يعني ان الحق خلق حيث يظهر في المظاهر الخلقية ويختفي بها، مع ان المشهود غيباً وشهادة هو الحق الصرف لا غير، فالحق المنزه بهذا الإعتبار هو الخلق المشبّه، أما كونه ليس خلقاً فهو انه منزه عن الصفات الخلقية ومختف بحجاب عزته باق في غيبته لا يُشهد ولا يُرى، فكل ما يُشهد ويُرى انما هو خلق[20]. أما إعتبار الحق مشبهاً بالخلق فهو لأن اطلاق الصفات يصح عليهما معاً، فكما يصح ان يقال عن الخلق أو العبد انه يسمع ويرى، فكذا يصح ان يقال عن الحق نفس القول، وهذا هو معنى التشبيه الذي جاء حول الآية الكريمة: ((وهو السميع البصير)).
فكل صفات المحدثات والخلق حق للحق، مثلما ان كل صفات الحق حق ثابت للخلق، إذ الخلق يظهر بصفات الحق من أولها إلى آخرها، خاصة الإنسان الكامل أو الحقيقة المحمدية مثلما يشير إلى ذلك قوله تعالى: ((ولقد كرمنا بني آدم))[21]، وقوله: ((وعلم آدم الأسماء كلها))[22]، وكذا ما جاء في الحديث: ‹‹خلق الله آدم على صورته››[23].
إذاً، إن من أبرز مظاهر التشبيه التي أكدها إبن عربي هو التشبيه الذي يعبّر عن الرتبة الخلقية التي يظهر فيها الحق بمختلف أشكال الصور، فيظهر بصور الأيدي والأعين والسمع والبصر والكلام وغير ذلك، حيث ظهور الحق بصفات المحدثات والنقص والذم، واليه الإشارة في قوله تعالى: ((كل يوم هو في شأن))[24]. فللآية دلالة على ظهور الحق بمظاهر المحدثات والنقص، وهي تعني ان من المحال ان تبقى الأشياء في العالم على حالة واحدة زمانين، بل تتغير عليها الأحوال والأعراض في كل لحظة، فهذه هي شؤون الحق لا غير[25]. أو ان الحق يظهر بصفات الفقر والحاجة كالذي يشير إليه قوله تعالى: ((من ذا الذي يقرض الله قرضاً حسناً))[26]، أو ما جاء في الحديث القدسي: ‹‹جعتُ فلم تطعمني، مرضتُ فلم تعدني، ظمئتُ فلم تسقني››[27].
مهما يكن فإن إستظهار النصوص التي تتعلق بالصفات الإلهية لدى كل من نظرية المشاكلة والمعاينة؛ انما يدل على تعددية التفسير لظاهر النص الواحد. مع ان كلا النظريتين استهدفتا هدفاً واحداً مشتركاً هو التوفيق بين العينتين الدينية والوجودية، حيث الدينية بحسب الظاهر، والوجودية بحسب التفسير والباطن.
وعلى العموم ان اسلوب الجمع والتوفيق الذي لجأ إليه أصحاب نظريتي المشاكلة والمعاينة انما تمّ تبعاً لمبرر مبدأ الإعتبار، لكنه أدى في الكثير من الاحيان إلى ان يكون أداة لممارسة التلفيق والاستغراق في المباطنة. كما تحول في أحيان أخرى إلى صيغة من صيغ استخدام التأويل وتحريف الآيات رغم الجهد الذي قدّمه أولئك الأصحاب في ذم التأويل والانكار الشديد على المتأولين، ولزوم التمسك بالنص وترجيحه على الكشف عند التعارض.
[1] فاطر/15.
[2] الفتوحات، مصدر سابق، ج2، ص495.
[3] الانفال/17.
[4] شرح الفصوص، ص602. والفصوص والتعليقات عليه، ج1، الفص الثاني والعشرين، ج1، ص185. كما لاحظ: كشف الغايات، مصدر سابق، ص354.
[5] الفتح/10.
[6] النساء/80.
[7] صحيح البخاري، حديث 6595ـ6596. وصحيح مسلم، حديث 2267.
[8] تفسير صدر المتألهين، طبعة دار التعارف، ج4، ص427-428.
[9] القمر/14.
[10] أصل الحديث القدسي هو: ‹‹لا يزال العبد يتقرب الي بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي به يسمع، وبصره الذي به يبصر، ولسانه الذي به يتكلم، ويده الذي بها يبطش، ورجله الذي بها يمشي›› (تفسير إبن عربي، ج1، ص20). وجاء في صيغة مقاربة وهي: ‹‹ان العبد اذا تقرب إلى الله بالنوافل أحبّه، فإذا احبّه كان سمعه الذي يسمع به وبصره الذي يبصر به..›› (الفتوحات المكية، مصدر سابق، ج2، ص186). وعلى شاكلته يُحتج بالحديث القدسي: ‹‹جعت فلم تطعمني، مرضت فلم تعدني، ظمئت فلم تسقني››.
[11] النساء/78. انظر: الفتوحات المكية، مصدر سابق، ج4، ص247.
[12] الفتوحات المكية، مصدر سابق، ج1، ص503.
[13] القصص/88.
[14] نقد النقود، مصدر سابق، ص668.
[15] الرحمن/26.
[16] الشورى/11.
[17] فمثلاً هناك نصّ بهذا الصدد يوهم انه لصدر المتألهين في حين انه يعود إلى إبن عربي كما ذكره في (الفتوحات، ج2، ص116)، وهو قوله: ‹‹فالعامة في مقام التشبيه أبداً. والعقلاء في مقام التنزيه خاصة. فجمع الله لأهله وخاصته بين الطرفين، وشرفهم بالجمع بين المرتبتين، فمن لم يعرف هذا؛ فما قدر الله حق قدره. فمن لم يقبل بأن الله ((ليس كمثله شيء)) فهو ثنوي، وان لم يقبل بأن الله خلق آدم بيديه: ((فما قدروا الله حق قدره)) الانعام/ 91، وأين التجرد من التجسم، وأين الانقسام من عدم الانقسام، وأين التوحيد من التعدد، وهذا لا يعلمه إلا الراسخون›› (ايقاظ النائمين، ص19).
[18] الرحمن/29.
[19] مطلع خصوص الكلم، ج1، ص361-362.
[20] مطلع خصوص الكلم، ج1، ص346-347.
[21] الاسراء/70.
[22] البقرة/31.
[23] مطلع خصوص الكلم، ج1، ص359-360.
[24] الرحمن/29.
[25] لاحظ الفتوحات المكية، مصدر سابق، ج2، ص437. وج 1، ص834.
[26] البقرة/245.
[27] ورد الحديث في صحيح مسلم عن أبي هريرة. عن النبي ان الله يقول يوم القيامة: يا إبن آدم! مرضت فلم تعدني. قال: يا رب! كيف أعودك؟ وأنت رب العالمين. قال: أما علمت أن عبدي فلانا مرض فلم تعده. أما علمت أنك لو عدته لوجدتني عنده؟ يا إبن آدم! استطعمتك فلم تطعمني. قال: يا رب! وكيف أطعمك؟ وأنت رب العالمين. قال: أما علمت أنه استطعمك عبدي فلان فلم تطعمه؟ أما علمت أنك لو أطعمته لوجدت ذلك عندي؟ يا إبن آدم! استسقيتك فلم تسقني. قال: يا رب! كيف أسقيك؟ وأنت رب العالمين. قال: استسقاك عبدي فلان فلم تسقه. أما أنك لو سقيته وجدت ذلك عندي (صحيح مسلم حديث 2569).