يحيى محمد
بحسب الرؤية الفلسفية، إن لوجود الإنسان غاية تتمثل في اللذة المعرفية. فتحصيل المعرفة، هو السعادة التي وجد لأجلها الإنسان، وان الإدراك العقلي كلما ازداد علماً ومعرفة فإنه يزداد سعادة، حتى يصل الحال إلى السعادة القصوى عند بلوغه العقل الفعال.
فأرسطو كغيره من الفلاسفة يرى الإدراك هو سبب اللذة والسعادة[1]، وكلما تنامى الإدراك تنامت اللذة، حتى يكون تمام الإدراك كفيلاً بتحقيق كمال اللذة. مما يعني ان السعادة القصوى تتحقق في حال كمال العقل، وهو لا يتحقق إلا عبر الاتصال بالـعقل الـمفارق[2]، حيث الـتجرد عن المادة والطبيعة والإلتحاق بعالم الإلوهية الذي فيه النشوة والخلود، وهو ما يمثل غاية الفيلسوف.
وسواء لدى الفلاسفة أم العرفاء، فإن المعرفة تشكل غاية الإنسان وسعادته، وان أبلغ حالات السعادة هي معرفة الحق، مع الأخذ بعين الاعتبار ان الفلاسفة يحددون هذه المعرفة بالعلوم العقلية[3]، أما العرفاء فيحددونها بعلوم المكاشفة. وبالتالي فإن أرفع علوم المكاشفة هي معرفة الحق وصفاته وأفعاله، باعتبارها غاية قصوى تُطلب لذاتها وتُنال بها السعادة العظمى[4].
أو كما أشار إبن طفيل في حكايته (حي بن يقظان) إلى ان كمال الإنسان ولذته هو مشاهدة المبدأ الحق على الدوام مشاهدة فعلية من غير انقطاع حتى لا يتخللها ألم[5].
إذاً، بحسب هذه الرؤية تكون السعادة مطلوبة لذاتها والإنسان يكدح لطلبها ولا ينالها إلا بالحكمة أو العرفان، حتى يتجلى لعقله أو قلبه كل الكون، ويتشبه بالإله الحق، أو حتى يتحقق له الإتحاد بما فوقه من العقول المفارقة والمبدأ الحق. فهذا هو ما يعول عليه الفلاسفة والعرفاء بشكل أو بآخر.
فقد إعتبر الفارابي ان أقصى مراتب الكمال والسعادة التي يمكن ان يبلغها الإنسان هو ان يصير في مرتبة العقل الفعال (جبريل)، وذلك عند مفارقة الجسم والمادة تماماً[6].
وفي محل آخر قرر بأن سعادة الإنسان وكماله لا يحصلان عند بلوغ مرتبة ذلك العقل، بل دونه درجة، وذلك بتأمل حقائقه الأزلية. أما شقاء الأنفس الجاهلة فيحصل بسبب حرمانها عن كسب تلك الحقائق والاتصال بالعقل المفارق[7].
إضافة إلى ان هذا الفيلسوف إعتبر ان من عوامل زيادة الابتهاج والسعادة؛ هو ان النفوس الناطقة بعد الموت تتصل ببعضها للتشابه فيما بينها، فيعقل بعضها بعضاً على جهة اتصال المعقول بالمعقول، وكلما زاد عدد النفوس المجردة زاد تعقلها، ومن ثم زادت لذاتها وابتهاجها تبعاً لذلك. أي ان النفوس السابقة تزداد ابتهاجاً كلما لحقتها النفوس المقبلة التي تتجرد عن أبدانها، وتظل العملية آخذة على التوالي بالابتهاج إلى ما لا نهاية له بحكم الإتحاد بين النفوس المجردة. وتمثل هذه السعادة غاية ما يقصدها العقل الفعال[8].
كذلك رأى إبن سينا - هو الآخر - ان عقل الإنسان في الدنيا آخذ بالتدرج والتحول إلى مراحله العليا حتى تصبح المادة معيقة عن بلوغه أعلى درجات الكمال والسعادة، فتحصل المفارقة عن البدن كلياً عند الموت[9]. وهذا هو معنى القول بعودة النفس إلى أصلها الإلهي، أي تحقيق أعظم قدر ممكن من التجرد والإدراك بسبب مفارقة البدن، حيث تحصل اللذة والسعادة القصوى الأبد الدهر.
هكذا يتضح ان الفلاسفة يجعلون من أمر المعاد أمراً دالاً على ما له علاقة بكمال النفس من الناحية المعرفية والعقلية. وانطلاقاً من هذا الموقف فسّروا المسألة الدينية الخاصة بالثواب والعقاب، وكذا الايمان والكفر والجنة والنار، استناداً إلى وجود العلم والحرمان منه. فالجهل العلمي في الفلسفة يمثل سبباً أصيلاً لمختلف الكفر والعذاب والشقاء، حيث تدرك النفس ما يفوتها من كمال العلم فتعذّب بتلك الحسرة[10]. وعلى العكس، ان النفس حين تحصل على العلوم العقلية اليقينة فإن ذاتها تصير عقلاً قدسياً ونوراً إلهياً من حزب الملائكة المقربين[11]. وأكثر من هذا، إن الفلاسفة اعتبروا العلم باعثاً على السعادة والايمان؛ حتى مع عدم مزاولة العمل الصالح في الحياة[12].
غير أن هذه الاعتبارات تأتي على خلاف ما يراه أتباع النظام المعياري، إذ يرون أن سعادة الإنسان ونجاته تتوقف على طاعته لأوامر المكلِّف، وأن الطاعة والعبادة كما يريدها المكلّف هي القنطرة التي تفضي إلى نيل السعادة، بخلاف العصيان والجحود اللذين يؤديان إلى الهلاك. ووفقاً لهذا الفهم، يستخدم هؤلاء مفردات معيارية في الحكم على مخالفيهم، من قبيل: التضليل، والتكفير، والتفسيق.
أما أتباع النظام الوجودي، فإنهم ينظرون إلى المسألة من زاوية مغايرة، إذ يوظفون مفردات معرفية في توصيف مخالفيهم، مثل: التجهيل، وضيق الأفق العقلي أو الذوقي، وذلك بناءً على الغاية التي رسموها للإنسان، والتي تتمثل في بلوغ كمال العقل وسمو الذوق الشهودي.
وفي جميع الأحوال ان النفس بحسب الرؤية الفلسفية تنزع إلى معشوقها من حيث الطبع لتكتمل به، وهو كمال القوة العقلية التي ترتسم فيها صور نظام الوجود وحقائقه وما يترتب على ذلك من السعادة القصوى.
فإذا كانت هذه النفس لاهية عن هذا المعشوق بسبب لهوها بالمادة والبدن؛ فستصاب بالألم والعذاب عند المفارقة بموت البدن وتحررها منه. فمثَلها حينئذ كمثَل الخدر الذي يمنعنا من الشعور بالألم عند وجود ما يستدعي ذلك، لكنه يظهر عند زوال هذا الخدر، فيحصل العذاب. فالشقاوة - إذاً - هي لأولئك الذين لهم القوة العقلية واكتسبوا الشوق إلى كمالها من غير ان يحصلوا على شيء من فعل هذه القوة[13].
وعلى العكس من ذلك بالنسبة إلى النفس التي تبلغ حد الكمال من القوة العقلية، حيث إذا فارقت البدن فإنها تستكمل الكمال الذي تبلغه، إذ في ملابستها للمادة تكون مثل ذلك المصاب بالخدر؛ لا تشعر باللذة التامة والسعادة القصوى، وهي تشعر بذلك عند مفارقة البدن، كمن زال عنه الخدر[14].
مهما يكن فقد أسس الفلاسفة نظرياتهم في تفسير قضايا المعاد استناداً إلى المدارك المعرفية. فالجنة والنار وغيرهما هي تعابير يراد بها قوى الإدراك المعرفي للإنسان وما يترتب عليها من سعادة أو حرمان.
فمثلاً فسّر إبن سينا الصراط والجنة والنار وأبوابهما وما إليها؛ تبعاً لقوى الإدراك الحسية والخيالية والعقلية. فالجنة عنده هي العالم العقلي، والنار أو الجحيم هي عالم الخيال والوهم، والقبور هي عالم الحس. ويتم تحصيل الجنة أو السعادة القصوى من خلال المرور بالصراط الدقيق من الحس فالخيال والوهم ثم إلى العقل[15]. أي ان الجنة لا تتحقق إلا عبر المرور بعالم العطب والجحيم.
وقد كانت هذه الطريقة من التفسير موضع تأييد عدد من الفلاسفة، كالذي ذهب إليه صدر المتألهين، حيث رجح ما عليه الشيخ الرئيس في تفسيره لأبواب الجنة والنار[16].
وثمة من ذهب إلى ان عالم الكون والفساد هو نفسه جهنم، وذلك في قبال الجنة المتمثلة بعالم الأرواح المجردة، وان النفس التي تقصر عن الكمال تبقى في جهنم محرومة عن العالم العلوي، ولا تفارق عالم ما تحت القمر. فالآلام والأوجاع لا تلوح إلا النفوس المتعلقة بالأجساد، أما تلك التي تتجرد منها وتلتحق في عالم الأفلاك فإنها تكون بريئة من هذه الآلام. فالنفس إذا كان عشقها الكون مع الجسد الحيواني، وان معشوقها اللذات المحسوسة وشهواتها الجسمانية، فسوف لا تبرح هذا العالم الأرضي ولا تشتاق الصعود إلى الملكوت الأعلى، وبالتالي لا تدخل الجنة وتتحول إلى النفوس الملكية في عالم الأفلاك السماوية[17].
فهذا هو رأي اخوان الصفا الذين إعتبروا النفس الآثمة الشريرة تظل معذبة نفسياً، ونادمة عمياء في جهالاتها، وسائحة في قعر الأجسام المدلهمة دون فلك القمر، كل ذلك يجري لها بعد ان تفارق الجسد دون ان تصل إلى عالم الآخرة[18]، بل تبقى هائمة هاوية في عالم الكون والفساد بما يُطلق عليه ‹‹التناسخ››، حتى يتم تطهيرها ومن ثم مفارقتها لهذا العالم الحسي. وهم بذلك ينوهون بوجود العذاب النفسي دون الاعتقاد بالنار الحسية كما هو مصور لدى النصوص الدينية[19].
وأرى ان هذا الرأي لاخوان الصفا هو أقرب التصورات اتساقاً مع المنظومة الفلسفية، وذلك لاعتبارين: أحدهما ان حصر العذاب والشقاء في عالم الأجسام السفلية يتسق مع طبيعة هذا العالم مقارنة بالعالم العلوي السماوي، وحيث لا يوجد غيرهما؛ لذا فمن المنطقي ان يعد الأول نار جهنم، ويعد الثاني جنة الخلد. أما الاعتبار الآخر فهو ان الالتحاق بالعالم العلوي عبر مفارقة النفس للبدن لا بد ان يجعلها سعيدة كاملة باعتبارها قد أصبحت ضمن عالم النفوس والمفارقات السماوية، فمن أين يأتيها الشقاء؟! لذا كاد البعض ينكر العذاب باعتبار ان مفارقة النفس للبدن تعني كمال النفس، وما يبقى منها من كدورات يمكن ان يُمحى بالعذاب المحدود، كإن يكون هذا العذاب لأيام معدودات، ثم بعدها ترجع النفس إلى صورتها الحقيقية من الكمال، فتعود إلى حظائر القدس وحسن المآب[20].
إذاً، فالقول بمفارقة النفس للبدن يستلزم تحقيق غايتها من التجرد والالتحاق بأصولها العقلية المفارقة التي تضفي عليها السعادة والكمال. لكن الفلاسفة المسلمين لم يلتزموا بهذه النتيجة التي تترتب على منظومتهم الفلسفية، إذا ما استثنينا اخوان الصفا، ربما لاعتبارات دينية لا غير.
ولا شك ان الأمر لا يختلف كثيراً عما ذهب إليه العرفاء، حيث الغاية التي أكدوا عليها هي المعرفة والشهود، وانهم واجهوا في بعض الاعتبارات نفس الإشكالية المتعلقة بمسألة العذاب والشقاوة، تبعاً للنصوص الدينية، وإن كانت لديهم اعتبارات أخرى يمكن التعويل عليها في تبرير هذه المسألة.
[1] تفسير ما بعد الطبيعة، ج3، ص1616
[2] المصدر السابق، ج3، ص1612.
[3] السهروردي: رسالة هياكل النور، مصدر سابق، ص93.
[4] تفسير صدر المتألهين، طبعة دار التعارف، ج6، ص97.
[5] إبن طفيل: حي بن يقظان، طبعة دار الافاق الجديدة، ص183.
[6] كتاب السياسة المدنية، طبعة انتشارات الزهراء، ص32.
[7] آراء أهل المدينة الفاضلة، ص85.
[8] المصدر السابق، ص113 و114. كذلك: السياسة المدنية، ص82.
[9] إبن سينا: كتاب النفس من الشفاء، ص220.
[10] تلخيص المحصل، ص390. وأسرار الآيات، ص2-10. ومفاتيح الغيب، ص115. ومقدمة إبن خلدون، ص515.
[11] أسرار الآيات، ص28. وقد قال صدر المتألهين بهذا الصدد: ‹‹الذي يدل على ان العلم جنة والجهل نار، ان كمال اللذة في إدراك المحبوب، وكمال الألم في البعد عن المحبوب، فلذة الذوق عبارة عن إدراك الطعوم الموافقة للبدن... وأما النفس الناطقة الإنسانية فلذتها وكمالها في المعقولات الدائمة.. ولهذا قالت الحكماء: كمال النفس في ان يصير عالماً عقلياً مضاهياً للعالم الموجود، فإن العالم عالم بصورته لا بمادته›› (مفاتيح الغيب، ص110).
[12] لاحظ أسرار الآيات، ص4.
[13] النجاة، ص689-690. والهيات الشفاء، ص427-428.
[14] معارج القدس، ص151. ورسالة هياكل النور، مصدر سابق، ص93.
[15] إبن سينا: رسالة إثبات النبوات، حققها وقدم لها ميشال مرمورة، دار النهار، بيروت، 1968م، ص58-61. وتسع رسائل لابن سينا، ص89-90.
[16] أسرار الآيات، ص218.
[17] رسائل اخوان الصفاء وخلان الوفاء، أعداد وتحقيق عارف تامر، منشورات عويدات، بيروت، الطبعة الأولى، 1415هـ - 1995م، ج3، ص53-54.
[18] المصدر السابق، ج3، ص65-66.
[19] المصدر نفسه، ج3، ص66-67.
[20] تفسير صدر المتألهين، طبعة دار التعارف، ج4، ص338.