يحيى محمد
لقد بحث المتأخرون من رجال النظام الوجودي حول العلاقة الكائنة بين الوجود والماهية، سواء فيما يتعلق بمبدأ الوجود الاول المطلق عليه (واجب الوجود)، او ما يتعلق بالممكنات الصادرة عنه. لكن البحث عندهم اخذ نوعاً من التفكيك بين المطلبين، واحياناً فان النتائج التي ترتبت على ذلك كانت نتائج مختلفة لعدد من المبررات. بل ان الامر قد اضطرهم في الكثير من الاحيان الى الانسياق نحو التعويل على مفهوم الوجود ضمن معان متعددة لا تخلو من غموض والتباس. وسنرى انه في السياقين من البحث، اي سواء تعلق الامر ببحث حقيقة واجب الوجود، او بحث حقيقة ما عليه الممكنات الموجودة، نجد هناك من النصوص المصرح بها ما يجعل المفهوم الذي يتحدثون عنه مفهوماً متعدد المعاني، بل ومتضارب المدلولات احياناً.
وقبل الدخول في البحث عن حقيقة ما عليه الشيء الخارجي إن كان ماهية او وجوداً، ضمن الخلاف الفلسفي المعروف، لا بد من التعرف على معاني كل من هذين المفهومين.
فالمقصود بالماهية – كما يُذكر - انها تطلق على معنيين: احدهما ما به الشيء هو هو، وهي بهذا المعنى قد تطلق على نفس الوجود ايضاً، فيعبر بانها نفس الإنية او تأكد الوجود1، بذلك تتخذ طابع الاعم، فكما تطلق على الوجود تطلق على غيره. لكن ما يراد من المعنى الاخر الذي يقابل الوجود - في محل النزاع - هو ما تكون في جواب (ما هو) جنساً كان او نوعاً، وهو ما اصطلح عليه عنوان (الكلي الطبيعي). وبنظر بعض القائلين باصالة الوجود فان الماهية تطلق في ثلاثة موارد مختلفة كالاتي: 2
1 ـ إما ان تكون إنية، اي محض وجود كما في الباري تعالى، حيث ماهيته عين إنيته ووجوده.
2 ـ او تكون غير إنية ولا مأخوذة بشيء معها، وبهذا الشكل تصبح على هيئة ما هي الا هي، دون ان تكون موجودة بالوجود، فمفهومها هنا محض اعتبار ذهني لكونها غير متعلقة بذلك الوجود.
3 ـ او انها غير إنية، لكنها مأخوذة بشيء مع الانية، ككونها تابعة في وجودها بالعرض للوجود.
فالماهية على ذلك إما ان تكون محض وجود او تابعة له استناداً الى اصالته في العين، او هي محض اعتبار لا وجود لها بأي شكل من الاشكال.
أما الوجود فكما ذكر صدر المتألهين انه يطلق بالاشتراك على ثلاثة معان كما يلي:
الاول: ذات الشيء وحقيقته، وهو الذي يطرد العدم وينافيه. والوجود بهذا المعنى يطلق على الواجب تعالى.
والثاني: المعنى المصدري الانتزاعي المعبر عنه في لغة فارس (به هستى وبودن).
والثالث: معنى الوجدان والنيل.
وعلى رأي البعض ان اطلاق الوجود بالمعنى الاول على الواجب تعالى حقيقة نجده ليس فقط لدى الفلاسفة الحكماء وكثير من المشايخ الموحدين كالشيخين محي الدين الاعرابي وصدر الدين القونوي وصاحب (العروة)3. وكذا هو الحال عند عبد الرزاق الكاشاني والقيصري وحيدر الاملي.
ولو حذفنا المعنى الاخير للوجود، لعدم اهميته الدلالية على المقاصد الفلسفية، فسيقتصر بحثنا على المعنيين الاول والثاني. فهناك المعنى الانتزاعي العام، وهو الذي ينتزع من الاشياء في الخارج، كانتزاع المعاني المصدرية العامة مثل الشيئية والممكنية والحيوانية وغير ذلك من المفاهيم الذهنية المصدرية. ويضاف اليه المعنى الذي يراد به ما يقابل العدم، وهو بهذا المعنى له حقيقة واحدة هي عبارة عن محض التحصل والثبوت والكون والتحقق والفعل والصيرورة في الاعيان4. وكمقارنة بين هذين المعنيين حدد صدر المتألهين الوجود الذي يقابل العدم بان حقيقته لا تحصل بكنهها في ذهن من الاذهان، حيث انه ليس امراً كلياً، فوجود كل موجود هو عينه الخارجي، والخارجي لا يمكن ان يكون ذهنياً. أما المتصور من الوجود فهو مفهوم عام ذهني منتزع؛ يقال له الوجود الانتسابي الذي يكون في القضايا، والعلم بحقيقة الوجود لا يكون الا حضوراً اشراقياً وشهوداً عينياً، وحينئذ لا يبقى الشك في هويته5. وفي تعبير له يرى ان مفهوم الوجود هو نفس التحقق والصيرورة في الاعيان، كما انه في الاذهان ايضاً، اذ هو مفهوم عام بديهي التصور ويكون عنواناً لحقيقة نورية. والوجود هو ابسط من كل شيء واول كل تصور، فهو متصور بذاته بحيث لا يمكن تعريفه بما هو اجلى منه لفرط ظهوره وبساطته. واذا اريد تصويره فانما لاجل التنبيه والاخطار، وذلك عن طريق الاسماء المرادفة له كالثابت والحاصل وغير ذلك، ومفهومه معنى عام واحد مشترك بين الموجودات6. لذلك فان بعض العرفاء منع تعريفه لبداهة تصوره وبساطته من اي شيء اخر.7
ولا شك ان هذا المعنى للوجود هو على الضد من ذلك المعنى الذي يشكل قضية ذهنية او مقولة منطقية، وهو يشابه المعنى الذي لجأ اليه بعض المفكرين الغربيين من امثال هايدجر الذي اعاب معالجة الوجود بحسب وصفه كقضية او مقولة ذهنية، انما اخذ بمعالجته على النحو الفينومينولوجي المعتمد على الاتصال المباشر بالمعطيات الخارجية، فالوجود عنده ليس غير تلك الكينونة التي ندركها مباشرة بلا واسطة. ومنه يُفهم كيف ان كوجيتو ديكارت (انا افكر فانا موجود) يمكن اخذها بعنوانين، احدهما باعتبارها قضية استدلالية، حيث يكون الفكر والوجود معبرين عن قضيتين متلازمتين، اذ لا يوجد فكر بلا وجود، او ان الاول يقتضي الثاني. كما يمكن اخذ تلك المقولة باعتبار ما عليه الواقع المباشر لعلاقة الوجود بالفكر، اذ تعبر المقولة عن علاقة حضورية لا يصح معها الاستدلال لوضوحها وبداهتها العينية، اذ يصبح الفكر فيها وجوداً حاضراً، او ان عينية الفكر هي الوجود بلا وساطة شيء اخر كالذي تفرضه طبيعة الاستدلال من الحدود الوسطى.
والواقع ان المعنى الانتزاعي للوجود منتزع عن المعنى الذي يقابل العدم، فلولا هذا المعنى الخاص ما كان ذلك المعنى، فنفهم ان الاول عنوان للاخر، والاخر معنون له. واذا كان الفلاسفة قد اتفقوا حول المعنى العام للوجود من كونه اعتبارياً لا حقيقة له في الخارج، فانهم اختلفوا حول معناه الاخر إن كان له حقيقة خارجية ام لا؟ وقد آل العديد من المتأخرين الى تبني القول بحقيقته واصالته في العين، واصبح منذ مجيء صدر المتألهين هو الاعتقاد السائد، في حين مالَ عدد من الفلاسفة والمحققين قبله الى اعتبار الماهية هي الحقيقة العينية، كما هو الحال عند الشيخ السهروردي والمحقق الدواني والسيد باقر الداماد، ولم يتجرأ احد ان يقول باصالة اشتراك الوجود والماهية معاً في العين، اذا ما استثنينا شيخ الطريقة الاحسائي ومن بعده الشيخ هادي النجفي8، لعدة اعتبارات اهمها: ان القول بالاشتراك يعني كون الامر الواحد يصبح شيئين متباينين، وهذا ما يؤدي ايضاً الى التركيب في العقل الاول الذي صدر عن الحق تعالى، فضلاً عن ان ذلك يفضي الى ان لا يكون الوجود عبارة عن نفس تحقق الماهية وكونها9.
لذا فمن قال باصالة الماهية، اعتبر الوجود لا حقيقة له خارجاً، واكتفى بعدّه من المفاهيم الذهنية المنتزعة عن الماهيات في العين. وكذا من قال باصلة الوجود؛ اعتبر الماهية لا حقيقة لها خارجاً بحسب الذات، واكتفى ان يضفي عليها صفة الاعتبار والانتزاع الذهني، اذا ما أُخذت في حد ذاتها، والا فقد قُدّر لها ان تكون موجودة بالعرض والتبع للوجود.
على ان التحقق الخارجي للوجود الذي جاء بمعنى الكون والحصول والثبوت قد افاد في حل الكثير من المشكلات الفلسفية، ولا شك ان المقصود به يقابل معنى الماهية، اي ان الماهية من حيث ذاتها لا توصف بالوجود والعدم، انما توصف بالوجود عندما يكون لها تحصل وفعلية. لكن مع هذا فهناك معنى اخر مختلف تردد لدى نفس من يقول بالمعنى الاول، حيث يقصد به هذه المرة بأنه عين الماهية عند تحققها، الامر الذي يجعل بينها وبينه نوعاً من السنخية والشبه، اذ تكون ظلاً له في عالم التصور والتحليل، لكنها عينه في عالم التحقق والتشخص. اي ان للماهية اعتبارين احدهما تعبر فيه عن نفس الوجود عند تحققها، والاخر لا تعبر عن الوجود لكونها من حيث ذاتها لا توصف بالوجود والعدم.
هكذا لدينا معنيان للوجود، احدهما له دلالة فعلية او كونية، حيث يشير الى الكون والفعل والتحقق، والاخر له دلالة ذاتية لانه يشير الى معنى الذات او الهوية والماهية. ولكل من المعنيين فائدته الاستثمارية.
1 الإنّية هي اصطلاح فلسفي قديم تعني تحقق الوجود العيني، والمرجح انها مشتقة من (إنّ) التي تفيد التأكيد والقوة في الوجود (جميل صليبا: المعجم الفلسفي، الشركة العالمية للكتاب، بيروت، 1414هـ ـ1949م، ج1، ص169).
2 صدر المتألهين الشيرازي: شرح الهداية الاثيرية، طبعة حجرية قديمة، 1313هـ، ص322-323.
3 صدر المتألهين: ايقاظ النائمين، مقدمة وتصحيح محسن مؤيدي، مؤسسة مطالعات وتحقيقات فرهنگي، 1982م، ص10.
4 محمود شهابي الخراساني: النظرة الدقيقة في قاعدة بسيط الحقيقة، انجمن حكمت وفلسفة ايران، 1399هـ، ص4-5.
5 ملا محمد جعفراللاهيجي: شرح رسالة المشاعر، مقدمة وتصحيح وتعليق جلال الدين اشتياني، نشر مكتب الاعلام الاسلامي، طهران، ص1434.
6 صدر المتألهين: المبدأ والمعاد، مقدمة وتصحيح جلال الدين اشتياني، انجمن حكمت وفلسفة ايران1976م، ص101.
7 حيدر الاملي: رسالة نقد النقود في معرفة الوجود، منشورة في ذيل جامع الاسرار ومنبع الانوار للاملي، ص624.
8 فقد وضع الشيخ هادي بن محمد امين الطهراني النجفي (المتوفي سنة 1321هـ) رسالة في (اتحاد الوجود والماهية) اثبت فيها كونهما اصيلين معاً، لا واحد منهما فقط (عبد الله نعمة: فلاسفة الشيعة/حياتهم وآراؤهم، منشورات دار مكتبة الحياة، بيروت، ص366).
9 ملا هادي السبزواري: شرح المنظومة، طبعة حجرية، ص29-30.