يحيى محمد
قدّم المفكر المغربي طه عبد الرحمن الكثير من الاعتراضات على الاسس المعرفية للعقل البشري، وضمّنها في العديد من كتبه، وركّز في هذا المجال على نقد مبدأ عدم التناقض، واعترض على الاعتقاد الراسخ بوجود قوانين ثابتة يتفق حولها البشر.
واكتفى بان العقل النظري محدود الافق بما لا يتجاوز مجال الظواهر الطبيعية المادية مثلما كان عمانوئيل كانت يؤكد هذا النحو. بل وصرح بان هذا العقل يؤدي الى التشكك والتحير. وسماه بالعقل المضيق او الضيق، كالذي جاء في دراسته (اسطورة الفلسفة الخالصة) المنشورة عام 1997 والمعاد نشرها في (سؤال المنهج) عام 2015.
النظرية الحسية والنزعة الشكية
من حيث التفصيل سنستعرض رؤية هذا المفكر عبر ثلاثة محاور: الاول منها يدور حول تبنيه للنظرية الحسية الضيقة، والثاني يتعلق بانكاره للمعارف الكونية المشتركة، أما الثالث فيختص بنقده لمبدأ عدم التناقض، وذلك قبل ان يُجري بعض التحولات في هذه الرؤية لدى بعض من كتبه المتأخرة كما سنعرف..
1ـ تبني النظرية الحسية
حاول طه في عدد من كتبه ان يرد المعرفة البشرية الى الحس، سواء على صعيد المفاهيم، او على صعيد الاحكام التصديقية، وذلك باستثناء القضايا الاخلاقية (الدينية). وهو ما سيتبين كالتالي:
الحس والتصورات العقلية
لقد سلّم هذا المفكر بان اصل التصورات العقلية عائد الى الحس، كما في (سؤال الاخلاق) و(سؤال العمل)، فاعتبر ان في الحس عقلاً، ولو لم يكن في الحس عقل فلا يعد حساً، بل فقداً للحس. فالنظر بلا عقل يكون عمى، والسمع بدونه يكون صمماً... الخ. بل ان الوصل بينهما في الشواهد الشرعية يتعدى طور فعل العقل في الحس الى التفاعل بينهما. حيث في العقل حس مثلما العكس. واعتبر ان العقل من جنس الحس، اذ مهما بلغ المعقول من التجريد يبقى حاملاً للاسباب الحسية، ولولا ذلك لما امكن تنزيل المعقولات على الاشياء المحسوسة والمجربة.
واعترض على التفرقة بين العقل والحس، واعتبرها جاءت بفعل تأثير المقابلة اليونانية بين عالمي المعقول والمحسوس. وقدّم اعتراضين على هذه التفرقة، والغريب ان احدهما صاغه بصيغة الدليل رغم انه دخيل اجنبي، ويتمثل بالدليل الشرعي، حيث صرح باننا لا نجد تفرقة بينهما في النص الشرعي كتاباً وسنة. وهو استدلال يجعل من النص وكأنه جاء لطرح القضايا الفلسفية الصرف. لكنه انقلب على هذا الموقف في كتابه المتأخر (سؤال السيرة الفلسفية)، حيث جرّد النص الديني من قضايا العلم والفلسفة التجريدية الخارجة عن الموضوعات الاخلاقية.
أما الاعتراض الثاني فهو قوله بان الفصل بين العقل والحس أدى الى تقديس علماء المسلمين للعقل بما يقرب من تأليهه وعبادته، فأجمعوا على ان العقل هو مناط التكليف، وان به يتميز الانسان عن البهيمة. في حين رأى في المقابل ان بمجرد اعتبار الانسان انساناً يكفي في حصول التكليف. كما رأى ان الفعل الحسي هو كالعقلي يصدر عن القلب ولا مفاضلة بينهما.
ومن الناحية النقدية، لم يميز هذا المفكر بين السبب الحسي والشرط الحسي في المعرفة، فمثلما ان بعض المعارف لها اسبابها ومصادرها الحسية، فان البعض الاخر ليس لها هذه الاسباب والمصادر، انما هي مشروطة بالحس فحسب. فالضرورة التي نجدها في القضايا العقلية ليس لها مصدر حسي تفسر به، او ان يكون الحس سبباً لها، بل علاقتها بالحس علاقة الشرط بالمشروط فحسب، وهو الحال الذي تحدثنا عنه في بعض من دراساتنا مثل (تأملات في اللاشعور).
وعموماً لا يتوانى صاحبنا من رد المفاهيم والتصورات المعرفية الى الحس، ومنها المفاهيم الفلسفية والمقولات المنطقية، حيث اعتبرها مأخوذة من المحسوسات، كالذي اكد عليه في (العمل الديني وتجديد العقل)، رغم ان من ضمنها مقولة الجوهر، وليس لها مصدر حسي.
وفي بعض ابحاثه المتقدمة – كما في مقالة الاصول اللغوية للمقولات الفلسفية المنشورة عام 1974 - اعتبر الاصل في المقولات المنطقية مستمداً من اللغة اليونانية اعتماداً على بعض الالسنيات الغربية. ووفق هذه الدراسات اُعتبرت المقولات الارسطية تجريداً فلسفياً لمقولات الصرف والنحو اليونانيين، ففي قبال كل مقولة ثمة اصل نحوي (يوناني) لها، لذلك اعتقد بان لهذه المقولات ما يقابلها في العربية من اصول نحوية. واهم المقولات العشر هي الجوهر، والتي اعتبر اصلها النحوي العربي هو المبتدأ؛ حيث يُحمل عليه الخبر من دون ان يُحمل على غيره، وكذا الجوهر حيث يُحمل عليه العرض من المقولات الاخرى دون ان يُحمل على اخر. وكرر هذا المعنى في (اللسان والميزان او التكوثر العقلي).
ويؤسف له انه لم يفرق بين الاستخدام النحوي والاستخدام العقلي او الفلسفي لهذه المقولات او عموم الفكر الفلسفي، فهما ليسا بالضرورة متسقين معاً ليتسنى القول بان من المحتمل ان يكون احدهما مقتبساً من الاخر من دون فرق.
وسبق للجابري ان وقع بمثل هذا الوهم[1]، فوظف لهذا الغرض المحاورة الشهيرة التي أوردها أبو حيان التوحيدي بين العالم النحوي أبي سعيد السيرافي والعالم المنطقي أبي بشر متى بن يونس خلال القرن الرابع الهجري[2]. في حين أعاد الفارابي العلاقة الحقيقية بينهما فيما يختلفان وما يشتركان عليه من بحث، موضحاً أنه حتى في مجال ما يشتركان فيه تختلف الغاية بينهما، فغاية ما يريده المنطق من بحث هو عموم اللغة، في حين إن غاية ما يريده النحو من بحث هو خصوصية اللغة لا عمومها[3].
ومن حيث التحليل فان للقضية عدداً من الاحوال المختلفة، لغوياً وعقلياً ووجودياً.
فقد تكون القضية صحيحة على المستوى اللغوي، وممكنة او واجبة من الناحية العقلية والوجودية. فهذا هو حال ما قد يؤدي الى شبهة الاصل اللغوي للمقولات والفكر الفلسفي عموماً.
وفي المقابل قد تكون القضية صحيحة لغوياً لكنها خاطئة عقلياً، ومن ثم فانها مسلوبة الوجود موضوعياً، مثل قولنا: (الاعزب هو من له زوجة). فهذه القضية لا اشكال عليها لغة ونحواً، لكنها متناقضة عقلياً، كما لا تصلح ان يكون لها وجود موضوعي.
كذلك قد تكون القضية خاطئة لغوياً، لكنها صحيحة عقلياً ووجودياً، مثل قولنا: (ان النقيضان لا يجتمعان مطلق). فهذه القضية واجبة عقلاً ووجوداً لكنها غير صحيحة على الصعيد النحوي.
ايضاً قد تكون القضية خاطئة لغوياً، لكنها ممكنة عقلياً ووجودياً، مثل قولنا: (في الكواكب الاخرى كائناتاً يشبهاننا).
الحس والاحكام التصديقية
مثلما اعتبر طه ان التصورات العقلية عائدة الى الحس؛ فانه فعل الشيء ذاته على صعيد الاحكام التصديقية، حيث اعتبر القضايا المعرفية مردها الى الحس بما فيها تلك الموصوفة بالبداهة.
ففي (سؤال العمل) الصادر عام 2012 نفى بداهة القضايا الاساسية في المعرفة، وفسّر الوضوح فيها لتداولها او قوة الاستئناس بها، حتى ان ما يكون بديهياً عند بعضهم قد لا يكون كذلك عند غيرهم، وما يكون بديهياً في سياق معين قد لا يكون كذلك في سياق اخر. واعتبر هذا الشرط هو بمثابة قانون ثالث ينضبط به العقل المجرد، وسمّاه قانون التوسيط، حيث كل علم لا بد فيه من الواسطة، وكل ما لا واسطة فيه فليس بمعلوم، وإلا فلا اقل من انه ليس بجنس ما يمكن العلم به، فحيثما ولّى العقل المجرد وجهه فليس ثمة الا ظواهر موسوطة ولا شيء معها، فيلزم ان العقل بموجب هذا القانون لا يقدر على ان يدرك الاشياء الا متوسلاً بالاسباب المادية.
فهذه هي النظرية الحسية التي لا يتردد صاحبنا من تطبيقها على القضايا البديهية وعلى رأسها مبدأ عدم التناقض الذي عرّضه للكثير من النقد في عدد من كتبه كما سنعرف. ومن لوازم هذه النظرية انها تفضي الى الانبساط على مطلق المعرفة بما فيها المعرفة الاخلاقية (الدينية) التي استثناها طه من هذا التعميم بلا دليل معتبر.
لكن قبل ذلك، وبالتحديد في عام 2000، قدّم طه رؤية اخرى مغايرة لنظريته الحسية المشار اليها سلفاً. ففي (حوارات من اجل المستقبل) رأى ان القوة الحسية والعقلية والروحية بعضها متداخل بالبعض الاخر، واذا ما عرفنا بان طه لا يجعل القوة الروحية نابعة من الحس، فهذا يعني ان من الضروري ان يكون الاصل في القوتين العقلية والحسية هو القوة الروحية، وهو انقلاب على النظرية الحسية.
كذلك فانه في كتابه المتأخر (سؤال السيرة الفلسفية) الصادر عام 2023 عرض رؤية صوفية كان من لوازمها ان تتنافى مع النظرية الحسية السابقة، وسوف نستعرضها لاحقاً.
بل وفي كتابه (التأسيس الائتماني لعلم المقاصد) الصادر عام 2022 اعترف بشيء مغاير يناقض ما سبق، وهو ان مبدأ عدم التناقض يمثل بديهة من بديهات العقل المجرد، وليس حقيقة نتوصل اليها بالملاحظة والتجربة، وعلى شاكلته قانون المصلحة العملية، حيث انه ايضاً يمثل حقيقة متعالية على الملاحظة والتجربة، بل هو بديهة من بديهات العقل العملي.
وحقيقة ان القضايا الضرورية وعلى رأسها مبدأ عدم التناقض لا تتوسل بالاسباب المادية والحسية، فالعقل يدركها مباشرة من دون واسطة، لكن انبثاقها – كما سبق ان اشرنا – مشروط بالحس كمرحلة من مراحل نمو الفرد الانساني عند البلوغ.
2ـ انكار المعارف المشتركة
لقد انكر طه وجود معارف كونية مشتركة بين البشر كما في بعض من كتبه، واحتج على ذلك بعدد من الحجج الواهية.
ففي (العمل الديني وتجديد العقل) انكر وجود قوانين كلية وواحدة يشترك فيها جميع العقلاء. واشار الى ان طرائق المناطقة مختلفة، والاختلافات في العلوم الرياضية مشهورة، كما في الهندسات اللااقليدية، ومثلها في الفيزياء؛ كالاختلاف بين نظريتي النسبية وميكانيكا الكوانتم. ومن ثم استنتج بان هذا كاف للتشكيك في امكان وجود خطاب علمي بالمعنى الدقيق عن العقل بوصفه حقيقة واحدة مشتركة بين الناس جميعاً. فاقصى ما يمكن تحصيله هو خطابات تقريبية يركب بعضها بعضاً ركوب الطبقات، وهو ما يزيدها بعداً عن المطلوب.
وكرر مثل هذا المعنى في (سؤال الاخلاق)، حيث اعتبر المنهج العلمي يتصف بثلاث صفات، هي النسبية والاسترقاقية والفوضوية. واستشهد على النسبية والفوضوية بعدد من النظريات والفرضيات المتعارضة في الوسط العلمي، على شاكلة ما سبق ذكره.
وبداية ان طريقة الاستدلال الذي تم تقديمه في هذا المجال، كالذي سبق عرضه، تؤدي الى التشكيك بكل قاعدة يمكن الاعتماد عليها، وهي لا تنسجم مع القناعات التي اعتمدها هذا المفكر، اذ يمكن تطبيقها على الجوانب الاخلاقية والاعتقادات الصوفية والدينية باعتبارها هي الاخرى تخضع للاختلافات البشرية، وبالتالي ينطبق عليها منطق التشكيك الطاهي.
لكن بغض النظر عن هذه اللوازم السلبية؛ فالملاحظ ان الحجج التي قدمها صاحبنا لا تمتلك اي اعتبار، ومن السهل الرد عليها، سواء على الصعيد العلمي او الرياضي او الفلسفي والمنطقي. وسيتبين هذا الحال من خلال النقاط التالية:
1ـ على صعيد العلم ثمة قوانين مشتركة على خلاف الادعاء السابق، مثل قوانين الحركة والغازات والضغط الجوي والثقالة والكهرومغناطيسية والثرموداينميك وعلاقة الطاقة بالكتلة وغيرها. وكل ما ذكرناه غيض من فيض على وجود مساحة مشتركة من الاتفاق البشري من دون شك.
ومن المغالطات بهذا الصدد ان طه ينكر وجود قوانين كلية يشترك فيها العقلاء؛ لكنه يستشهد بمثال التفسيرات المتعارضة للنظريات العلمية في الفيزياء، كالاختلاف بين النسبية والكوانتم. ويمتد سوء الفهم، كما في (سؤال الاخلاق)، الى الخلط ما بين النظامين العقلاني والعلمي، وكذا الحال بين العلم والتكنلوجيا رغم الترابط بينهما، فيتحدث عن العلم وينقده من خلال الاستعباد التكنلوجي، بل وادعائه ان المعرفة العلمية فوضوية، وهي النزعة التي يدعيها بعض الشواذ من فلاسفة العلم مثل بول فيرابند ضمن المنحى المعروف بالابستمولوجيا الفوضوية. يضاف الى انه يعمم بدون دراية تصور ديكارت وبيكون وغيرهما على العلم المعاصر، مع ربطه بين المنهج العلمي المتبع من جهة؛ والديكارتية من جهة ثانية. كما ذكر التعريف الديكارتي للعقل، لكن ضمّنه الاختلافات في الرؤية العلمية؛ كالرؤية النيوتنية والاينشتاينية في الفيزياء.
في حين سبق له ان اعترف في (اصول الحوار وتجديد علم الكلام) بوجود عقلانية برهانية تحكم الممارسة العلمية داخل المختبرات والمصانع والمراصد والمؤسسات الاكاديمية، وينضبط فيها الخطاب العلمي عموماً، وذلك تمييزاً لها عن العقلانية الحجاجية التي يصف بها الفلسفة، كالذي اشار اليه في (حوارات من اجل المستقبل)، مع تأييد ما جاء فيه.
وهذه من التقلبات، حيث ابدى صاحبها في (اصول الحوار وتجديد علم الكلام 1986) شيء، ثم غيّر رأيه في كل من: (العمل الديني وتجديد العقل 1989، وسؤال الاخلاق 2000)، كما انقلب على ما جاء في هذين الكتابين كما في (حوارات من اجل المستقبل 2000) ليعود الى ما كان عليه اول الامر.
وعموماً حينما نتحدث عن المنهج العلمي ونظرياته سنستحضر وجود ثلاثة نظم علمية مختلفة تنتمي اليها هذه النظريات والمناهج، وهي وفق تصنيفنا: النظام الاجرائي والافتراضي والتخميني (الميتافيزيائي). وقد اشبعناها بحثاً في (منهج العلم والفهم الديني).
2ـ كان ذلك على الصعيد العلمي، أما على صعيد الاسس الرياضية المشتركة فهي اوضح الواضحات، فمثلاً لا يمكن الشك في ان الواحد المضاف الى مثله يساوي اثنين. وعلى هذه الشاكلة القوانين الهندسية وفق مسلماتها الاولية او الافتراضية.
أما خطأ الفلاسفة والمناطقة القدماء، كما في المجال الرياضي الهندسي، فيكمن في انهم تصوروا الوجود على شاكلة “الكمال” المفترض في العقل البشري. فالهندسة التي اسسوها قائمة على هذه الفكرة، حيث افترضوا ان كل كمال يتصوره العقل لا بد من ان يكون الواقع الموضوعي على شاكلته طبقاً لقاعدة “السنخية”، وهي التي بنوا عليها تصوراتهم الوجودية العامة. لذلك افترضوا صحة الهندسة الاقليدية على ارض الواقع باعتبارها تمثل الكمال مقارنة بسائر الهندسات. واليوم تبين وجود انساق هندسية مختلفة يمكن ان يفترضها العقل البشري، وكل نسق يعتبر صحيحاً وفقاً لمسلماته الاولية المفترضة. لكن من الناحية القبلية يستحيل معرفة اي منها يطابق ما عليه الواقع الموضوعي. وكل ذلك لا يشكّل خرقاً للقوانين العامة المشتركة، كما تتمثل بالمبادئ الاولية للمعرفة البشرية.
علماً بان مؤسس علم الفلك الحديث يوهانس كبلر كان ممن وقع ضحية هذه العقيدة الراسخة لفكرة الكمال الهندسي. فقد نحا إلى خطوة تبسيطية لنظرية كوبرنيك، إذ اضطر الى استبدال الشكل الدائري للافلاك بالشكل الاهليليجي، وكان الشكل الأول محل تسليم الفلاسفة القدماء، وهو ما عول عليه بطليموس، كما ابقاه كوبرنيك دون تغيير، الا ان كبلر اعتبر مداراته البيضوية المقترحة هي فرضية بديلة مؤقتة، فهو لم يخالف في ذلك كوبرنيك ولا بطليموس ولا ارسطو والفلاسفة القدماء من ان الأشكال البيضاوية هي أقل كمالاً من الأشكال الدائرية. وقد صُدم عندما رأى حساباته تنسجم مع فكرة دوران الكواكب في مسارات غير مثالية[4].
3ـ وعلى نفس شاكلة ما سبق، ذكر طه في عدد من كتبه ودراساته، انه سواء في المنطق او العلوم؛ لا يوجد قانون محفوظ وثابت دون تغير وزوال. واهم ما استدل به في هذا المجال هو ما يتعلق بمبدأ (الكل اعظم من الجزء)، اذ نقض هذا المبدأ بشاهد الاعداد، حيث مجموعة الاعداد الزوجية لها نفس مقدار مجموعة الاعداد الطبيعية، مع ان الاولى جزء من الثانية، كالذي جاء في (سؤال العمل)، وقبله في (اسطورة الفلسفة الخالصة).
وهذه مغالطة كثيراً ما يتم ذكرها في امكانية ان يكون الجزء مساوياً للكل عند التسلسل اللانهائي، في حين انهما غير متساويين، فعلى الرغم من ان كلاً منهما قابل للتسلسل الى ما لا نهاية، لكن مجموع احدهما لا يساوي مجموع الاخر، اذ يفترض في التساوي التام ان يكون الطرفان لكل من المجموعين متساويين، أما اذا كان احد الطرفين لا يساوي الطرف المقابل للمجموع الاخر؛ فستكون النتائج غير متساوية.
فمجموع الاعداد الزوجية له طرفان، احدهما متناه، والاخر غير متناه، وكذلك هو الحال مع مجموع الاعداد الطبيعية. وعند المقارنة بين الطرفين المتناهيين سنجد انهما غير متساويين. فلنفترض ان الطرف المتناهي للاعداد الزوجية يمتلك خمسة حدود لذا سيقابله من الاعداد الطبيعية عشرة حدود. وهما بالنتيجة غير متساويين وذلك كالتالي:
2، 4، 6، 8، 10 ... الخ.
1، 2، 3، 4، 5، 6، 7، 8، 9، 10 ... الخ.
بل حتى لو استخدمنا حالة الجمع لحدود الاعداد لكلا الطرفين المتناهيين فسنجد انهما غير متساويين. حيث سيكون مجموع الطرف المتناهي للاعداد الزوجية هو كالتالي:
2 + 4 + 6 + 8 + 10 + ... الخ.
أما ما يقابله من مجموع الطرف المتناهي للاعداد الطبيعية فسيكون كما يلي:
1 + 2 + 3 + 4 + 5 + 6 + 7 + 8 + 9 + 10 ... الخ.
ومن الواضح ان هذين الطرفين غير متساويين من حيث المجموع، اذ ناتج الطرف الزوجي هو (30)، في حين ان ناتج الطرف الطبيعي هو (55). لذلك نجد تبريراً للقول بان السلسلة اللامتناهية لاحدى المجموعتين لا بد ان تكون غير مساوية للاخرى.
في حين لو خالفنا هذه الحقيقة وقلنا ان السلسلتين متساويتان؛ لاستلزم القول بان النصف والربع والثلث الى ما لا نهاية له من الكسور؛ سيساوي بعضها البعض الاخر، بل وستساوي الواحد الصحيح ايضاً. وهو امر غير منطقي، اذ من الواضح انها غير متساوية رغم قابلية كل كسر ان يتسلسل الى ما لا نهاية، وكذلك الواحد الصحيح.
4ـ من ناحية اخرى صرح طه في الدراستين المشار اليهما سلفاً (سؤال العمل، واسطورة الفلسفة الخالصة) انه ليس كل شيء عليه برهان، كما في مسلّمة جودل، وان الاثبات بحاجة للبرهان من الخارج لا الداخل. وعليه اعتبر المنطق الارسطي لا يفي بذلك، ومن ثم استنتج بان العقل لا يعقل، فهو غير قادر على عقل الكل، كما انه غير قادر على عقل نفسه، اي انه غير قادر على البرهنة على الكل ولا على نفسه.
وهذه من المغالطات، لأن ما هو واضح للعقل لا يحتاج الى برهان، فالوضوح هنا يكافئ البرهان، وهو مشترك بين البشر وفق الحضور العلمي من دون اكتساب. وما يميزه عن الكشف الصوفي انه مشترك عام دون ان ينحصر في افراد محددين.
كذلك ان اعتراضه على الاسس الرياضية اعتماداً على مسلّمة جودل يناقض ما ذهب اليه مؤخراً من تقبل اليقين الرياضي، كما في (التأسيس الائتماني لعلم المقاصد)، معتبراً الحكم (بان العدل حسن) لا يقل من حيث الصدق والصحة عن الحكم (بان الشمس طالعة)، وان (2+2 = 4).
والمفارقة هنا هي ان مسلّمة جودل موضوعة في الاساس حول القضايا الرياضية، فالاستناد اليها في التشكيك المعرفي لا ينسجم مع تقبله لليقين الرياضي. لكن تقبله لهذا اليقين انما جاء مؤخراً، وهو ما يعني الانقلاب على ما كان يعتقده بصدد المسلّمات العقلية والمنطقية.
5ـ اما على الصعيد الفلسفي فمن المؤكد وجود قوانين فلسفية مشتركة بين البشر كافة، وعلى رأسها مبدأ السببية العامة. فحتى الذين شككوا بصدقه لا يسعهم تجنبه عملياً، كما اعترف بذلك ديفيد هيوم[5]. فثمة فطرة انسانية تجعل المعرفة الموضوعية ممكنة من خلال هذا المبدأ المشترك، ومن المحال على البشر ان يعيشوا دون استخدامه، وغالباً ما يُعتمد عليه بشكل لا شعوري. وقد اعتبره كارل بوبر مبدأ ميتافيزيقياً لا يمكن للعلم ان يستغني عنه.
لقد انقاد طه الى النسبية والتشكيك في قيمة المعرفة العقلية من دون يقين، ومن ذلك انه انكر في (الحق العربي في الاختلاف الفلسفي) ان يكون للعقل حقائق يقينة، بل مسلّمات، حيث اعترض على وجود البرهان في الفلسفة بما يعني استنتاج نتائج من مقدمات يقينة، معتبراً المقدمات الفلسفية قضايا مسلّم بها، او قضايا مستنتجة مردها الى تلك المسلّم بها.
وسبق له ان اثبت هذا المعنى في (حوارات من اجل المستقبل)، اذ اشار الى نفي وجود فلسفة برهانية، بل ما موجود هو فلسفة حجاجية كما اوضح ذلك في (اصول الحوار وتجديد علم الكلام)، معتبراً ان الصفة الحجاجية لا يحط من قدرها، بل هي اغنى مضموناً، واقدر على ان تنفذ في الامور اليومية والتفاعل معها.
وهي نتيجة تنسجم مع توجهاته النسبية القائمة على الاختلاف الفلسفي للامم، لكنها تفضي الى التشكيك بالمبادئ المشتركة الكونية، مثل عدم التناقض، رغم انها في غاية الوضوح. كذلك انها لا تعطي فرصة لتقبل النتاج الصوفي الذي يدعو اليه، فهي اولى بعدم قبول نتائجها باعتبارها خاصة وليست مشتركة، ولأن من غير الممكن اثباتها من الخارج.
مع هذا سنجد في (التأسيس الائتماني لعلم المقاصد) طرحاً يختلف عما جاء في كتبه السابقة حول المبادئ العقلية المشتركة، وعلى رأسها مبدأ عدم التناقض.
نقض المشتركات الفلسفية والعقلية
ثمة العديد من الاعتراضات التي سجلها طه بوجه المشتركات الفلسفية، ابرزها ما سنذكره كالتالي:
الاعتراض الاول:
لقد رأى في (سؤال العمل) ان النظر العقلي في المجال الفلسفي ينزل مراتب قد تتفاوت الى حد التعارض، فتتعدد كونياته بتعدد هذه المراتب، كما ان مفهوماته وتعريفاته واستدلالاته لا تنفك تقترن باضدادها المأخوذة من المجال التداولي للفيلسوف. ومن ثم لا يمكن ان يصل الى مبتغاه في تحصيل الكونية الخالصة او المجردة؛ لأن هذه الكونية توجب وحدة النظر العقلي وخلوص القول الفلسفي وجمعية الحقيقة الوجودية.
والملاحظ ان ما ذكره من نقد واعتراض لا يمس الاسس المعرفية التي تقوم عليها المنظومات الفكرية. فرغم الاختلافات الحاصلة في هذه المنظومات؛ الا ان الاسس التي تقوم عليها واحدة؛ سواء كان ذلك بوعي او بغير وعي. فرغم وجود الاختلافات بين المذاهب الفكرية لكنها تخفي وراءها وحدات بنيوية ثابتة هي موضع الارتكاز المشترك فيما بينها. يضاف الى وجود عدد من الحقائق العامة التي يتفق عليها البشر كما سنستعرضها لاحقاً..
الاعتراض الثاني:
وفي كتابه (الحق العربي في الاختلاف الفلسفي) عمل على تفصيل رؤيته المتعلقة بنسبية المعرفة وخصوصيتها، لا سيما على الصعيدين الفلسفي والعقلي. فقد استدل على نفي اعتبار الفلسفة حاملة لصفة (الكونية) باربعة موارد، هي كالتالي:
1ـ ارتباط الفلسفة بالسياق التاريخي الاجتماعي..
2- ارتباط الفلسفة بالسياق اللغوي الادبي..
3- الاختلاف الفكري بين الفلاسفة..
4- التصنيف القومي للفلسفة..
هذه اربعة موارد استدل بها طه على عدم اعتبار الفلسفة ذات سمة كونية. لكنها مع ذلك لا تخل بالمشتركات الاساسية التي تبنى عليها الفلسفة. فالاختلافات الحاصلة انما تلوح المذاهب الفكرية كبناءات فوقية، أما الاسس التي تقوم عليها فتبقى هي هي من دون خلخلة ولا اختلاف، اذ انها تمثل شروط المعرفة البشرية وبدونها تتهاوى المعرفة وتسقط.
فالقضايا المعرفية على قسمين: احدهما واضح، والاخر مثير للشكوك والاختلاف والتناقض. وكان ينبغي على طه ان يجد تناقضاً او اختلافاً واسعاً في القضايا الواضحة الاساسية والحقائق المشتركة العامة، وليس في البناءات الفوقية الملتبسة والتي هي عادة ما تكون محل اختلاف الفكر البشري. فهو لم يميز بين التناقض الموضوعي للعقل من جهة، وتعارض الافكار الفلسفية حول فهم الاشياء الموضوعية من جهة ثانية.
مع هذا فانه في (سؤال السيرة الفلسفية) قد حدد الفلسفة في اطار السيرة الاخلاقية دون غيرها، وذلك بما يجعلها – اي الفلسفة - قابلة ان تكون ذات سمة كونية عامة، لا سيما ان القضايا الاخلاقية مردها الى الفطرة، وهي مشتركة بين البشر. الامر الذي اكد عليه هذا المفكر في مختلف كتبه ودراساته.
الاعتراض الثالث:
كما اعترض على امور مناطة بالعقل ذات صلة بالفلسفة حسب النقاط التالية:
1- انفكاك وحدة العقل عن وحدة الطبيعة الانسانية..
2- انفكاك وحدة الفلسفة عن وحدة العقل..
3ـ انفكاك وحدة الصفات الفكرية عن الاشتراك في الفلسفة..
والملاحظ ان النقطة الاولى غير صحيحة، اذ لا يوجد انفكاك بين الوحدتين العقلية والانسانية، فليس في الانسانية عقول يختلف بعضها عن البعض الاخر نوعياً، وحال العقل هنا كحال الاخلاق، سواء بسواء. أما النقطتان الاخريان فان الانفكاك الحاصل فيهما لا يمس الاسس العقلية التي يقوم عليها الفكر والفلسفة.
وقد نتساءل لماذا تتعارض المنظومات الفكرية، في حين ان الاسس التي تقوم عليها تتصف بالتوحد والاشتراك؟
والجواب هو ان الاسس المعرفية مصممة فطرياً في صميم العقل البشري، لذلك تتصف بالتوحد وعدم الاختلاف، كما ان ما يستنتج عنها منطقياً هو ايضاً يتصف بالتوحد. يضاف الى ان الكشف عن الحقائق المباشرة كالحسية، وكذلك المدعومة بقوة الادلة المشتركة كالدليل الاستقرائي ومنطق الاحتمالات هي ايضاً من القضايا المتصفة بالتوحد او التي تميل الى ذلك. في حين ان البناء القائم على هذه القضايا يتبع اسباباً عارضة مختلفة، كالاختلاف في افق الاذهان، فضلاً عن الاسباب النفسية والثقافية وغيرها، وهي لهذا تتصف بالاختلاف وعدم التوحد.
وفي (علم الطريقة) حددنا الاعتبارات المعرفية المشتركة بين البشر في الاصناف التالية:
1ـ الاعتبارات الرياضية الثابتة.
2ـ الاعتبارات المنطقية الواضحة كمبدأ عدم التناقض.
3ـ الاعتبارات العقلية المشتركة كمبدأ السببية العامة.
4ـ الاعتبارات الوجدانية المشتركة كالتسليم بحقيقة الواقع الموضوعي العام.
وجميع هذه الحقائق المشتركة مطلقة وثابتة.
5ـ اعتبارات حقائق الواقع الموضوعي الجزئية، ومنها اعتبارات القوانين الموضوعية العامة كالقوانين العلمية، كذلك المعارف الحسية. وهي نسبية تخضع لاعتبارات منطق حسابات الاحتمال والترجيح.
6ـ الحقائق الحضورية، كالوعي بالوجود النفسي للذات البشرية المعبّر عنه بالأنا، ومثله تلك التي تكون حاضرة في هذه الذات، والتي تتعامل معها الأخيرة بشكل مباشر كوجودات ذهنية شاخصة في قبال الكينونات الخارجية. وهي من الحقائق النسبية غير القابلة للتشكيك بالنسبة للفرد الذي يباشر الوعي فيها، أما بالنسبة للآخرين فإنها تمثل واقعاً موضوعياً مكتسباً لا يختلف عن اعتبارات حقائق الواقع الموضوعي الجزئية، فتصبح بهذا المعنى من الاعتبارات المعرفية المشتركة كما في الفقرة السابقة، حيث ان ادراكها يتم من الخارج وليس مباشرة من الداخل، لذلك فهي تحتاج إلى أدلة عليها؛ خلافاً لمن يدركها بالحس الحضوري المباشر.
7ـ كما هناك نوع آخر من الاعتبارات المشتركة يخص قضايا القيم الأخلاقية، وهي وإن بدت ثابتة في عدد من القواعد الكلية، مثلما عليه قاعدة العدل، إلا أن مصاديقها متأثرة بما عليه طبيعة الواقع وتغيراته، لهذا فقد تفضي بعض المصاديق إلى أن تكون ذات اعتبارات خاصة غير مشتركة. كما قد تتزاحم القواعد عند تضارب مصاديقها مع بعضها بما يسمى (تزاحم القيم)، كالذي يحصل أحياناً بين قاعدتي الصدق وحفظ النفس المحترمة أو البريئة[6].
الاعتراض الرابع:
يضاف الى ما سبق، اعتراض طه على الفهم السائد بان المعاني الفلسفية هي معان عقلية خالصة تشترك في ادراكها الامم جميعاً وان اختلفت السنتها. وهو يرجح ان يكون هذا الاعتقاد عائداً الى مفهوم اللوغوس المرتبط بالقول الفلسفي؛ حيث من معانيه العقل واللغة معاً، مما دعا اوائل الفلاسفة الى المطابقة بينهما ومن ثم وقع الاستغناء بالعقل عن اللغة.
وحقيقة لولا الاشتراك المعنوي لما امكن فهم بعضنا البعض الاخر. فمثلاً لو كان المعنى الرياضي للواحد يختلف بين البشر، فسوف لا يشتركون في النتيجة التي تقول ان الواحد المضاف الى مثله سيساوي اثنين، او ان الثلاثة المضافة الى مثلها تساوي ستة. وعلى الرغم من حصول الكثير من الاختلاف المعنوي بين الناس، سواء على الصعيد الفلسفي او غيره من الاصعدة؛ لكن ذلك لا يبرر تعميم هذه الحالة. بل ان التعميم يُبطِل الاستدلال القائم عليه، اذ يصبح المعنى المطروح بصيغة الاستدلال هو في حد ذاته محل اختلاف معنوي، وهو ما يجعل التواصل المعنوي معدوماً او مصاباً بحوار الصم.
وعلى هذه الشاكلة اعتقد طه باسطورة ما يقال بان المعنى سابق على اللفظ او البلاغة اللغوية، وانتهى الى ان اياً منهما لا يسبق الاخر. وكما قال: “ان المعاني والافكار الفلسفية ليست معاني شفافة لا يحجبها شيء، ولا متعدية لا يعترضها شيء. كما ان الالفاظ ليست اواني تفرغ فيها المعاني، ولا قنوات تعبر فيها الافكار. ومن هنا يتحقق بان الشكل اللفظي لا يمد المضمون المعنوي بمجرد سند يستند اليه في ظهوره، وانما بالمادة نفسها التي يصير بها شيئاً منطوقاً، كما يتحقق على العكس من ذلك بان المضمون المعنوي لا يمد الشكل اللفظي بمجرد مادة ينطبع فيها، وانما بطريقة العرض نفسها التي ينبغي ان يرد بها”.
وهو ما يعني ان اللفظ والمعنى يتحد احدهما بالاخر من دون اسبقية.
ومع ان الغالب في المعنى لا يظهر بدون اللفظ، كما ان اللفظ ليس بشيء من دون معنى، وهما من هذه الناحية متحدان معاً، لكن عملية السبق الرتبي واضحة لصالح المعنى على اللفظ. فالعقل الذي يؤسس العلاقة بين اللفظ والمعنى، انما غرضه المعنى بالذات، ولو كان غرضه اللفظ، لكان من الممكن ان يلفظ اي شيء سواء بمعنى او بغير معنى. لذلك فحرصه على المعنى يجعله يختار اللفظ المناسب، ويمكنه ان يختار لفظاً اخر للمعنى ذاته، لكنه لا يفعل العكس، اي يختار اللفظ ويضمّنه المعنى، ومن ثم يستبدل المعنى بمعان اخرى مختلفة لذات اللفظ، حيث من الواضح ان هذه العملية تعتبر من التلاعب في المعاني دون ان يكون لها علاقة بالكشف عن الحقائق وتصويرها كما تبتغيها الفلسفة والعلوم. ويمكنها ان تنفع في التفنن الادبي المتجاوز للمعاني الدالة على الحقائق الموضوعية.
ومن الممكن ان نتصور بهذا الصدد وجود دائرتين؛ احداهما مخزنة بالمعاني، واخرى مخزنة بالالفاظ. فاذا كان الغرض هو البحث عن الحقائق فسيتعين على العقل تحديد المعنى ليلبسه ما يناسب من لفظ، وقد يجد جملة من الالفاظ المناسبة لكنه سيختار واحداً منها دون البقية. في حين لو كان الغرض ليس البحث عن الحقائق وانما التفنن الادبي فحسب، فعند ذلك سيحصل العكس، وهو التعلق باللفظ كمركز اهتمام، ومن ثم يختار ما يناسبه من معنى، اي التعلق باللفظ لتوليد معان جديدة ذات صيغ ابداعية، لكنها لا تعنى بمعرفة الحقائق. ولو ان هذا الخيار قام به من يبحث عن الحقائق، كالفلاسفة مثلاً، لادى بهم الحال الى فوضى المعاني وتضاربها.
كذلك فمن الناحية التكوينية، ان الانسان معني بجعل المعاني هدفاً وغاية يتوسل اليها عبر اللغة، ولا يمكن جعلهما بمرتبة واحدة، وبالتالي فان المعنى سابق في الرتبة على اللفظ، كسبق الغاية على الوسيلة. بل حتى من حيث النمو الانساني، حيث يبدأ الطفل باستخدام الاشارات الحسية الدالة على المعاني التي يريدها قبل استخدامه للكلام اللغوي.
ومن الاخطاء الاخرى التي ارتكبها طه في هذا المجال، هو قوله باسطورة الاعتقاد باسبقية النطق على الرسم او الكتابة. اذ يرى انهما متوازيان من دون اسبقية.
لكن حقيقة الحال انه سواء من حيث النمو التطوري للفرد، او من حيث الجانب الانثروبولوجي، نجد على الدوام ان النطق هو ما يسبق الكتابة. فللنطق والكلام صفة غريزية فطرية خلافاً للكتابة المتصفة بالاصطناع والتكلف. أما عكس ذلك كما في جعل النص المكتوب سابقاً على الكلام كما يذهب اليه جاك دريدا من دعاة ادبيات ما بعد الحداثة؛ فهو امر غير معقول. ومن حيث التكوين الذاتي يكون الفكر سابقاً على الكلام، وكلاهما فطريان، والكلام سابقاً على النص أو الاثر المكتوب، أو ان الفكر هو علة القول والكلام، والكلام علة النص أو الأثر المكتوب الذي يحمل خاصية مصطنعة غير فطرية، كالذي فصلنا الحديث عنه في (علم الطريقة)[7].
3ـ نقد مبدأ عدم التناقض
لقد حاول طه ان ينتقص من قيمة مبدأ عدم التناقض الى درجة اعتباره من المعارف النسبية، فقد يكون صحيحاً في حالات دون اخرى. والذي دفعه الى الحط من قيمة هذا المبدأ هو ظنه بانه نتاج الفلسفة اليونانية. بل وحسِبَ مجمل العقل النظري المجرد نتاج هذه الحضارة الفلسفية.
فمثلاً انه في (التأسيس الائتماني لعلم المقاصد) اعترض على العقل اعتماداً على التصور الفلسفي الارسطي لهذا العقل. رغم ان هذا التصور لا يمثل بالضرورة الاطار العام للعقل، فهو يشكل نظرية من النظريات المطروحة حول هذه الآلة الادراكية، ومن ذلك ان التصور الارسطي لا يعتبر القيم الاخلاقية عائدة الى الضرورات العقلية، خلافاً لبعض التصورات الفلسفية والكلامية، كما لدى المعتزلة.
فالموقف الارسطي حول العقل مجزّء.. كذلك هو الحال مع موقف طه من العقل؛ رغم انه على نقيض المذهب الارسطي. فكلاهما يؤمن ببعض ما تحمله المرآة العقلية الكاشفة من ضرورات دون البعض الاخر. فاذا كان المذهب الارسطي يؤمن ببداهة المعارف المنطقية والفلسفية، ويستثني منها القيم الاخلاقية، فان طه يرى العكس هو الصحيح، حيث يؤمن بكونية القيم الاخلاقية دون المبادئ المنطقية والفلسفية الاخرى، رغم انهما بديهيان وخاضعان لكشف العقل القبلي من دون تمايز جوهري. لكنه مع ذلك اعترف في (التأسيس الائتماني لعلم المقاصد) بان قانون عدم التناقض لا يختلف عن قانون المصلحة العملية في انهما متعاليان على الملاحظة والتجربة، وهو يمثل تغيراً في الموقف اتجاه القضايا العقلية الصرف.
ومن حيث التحليل ان الخطأ الاساس الذي دفع طه الى نقد العقل ومبدأ عدم التناقض يمكن ارجاعه الى عدم التمييز بين المبادئ البشرية المشتركة من جهة، وغيرها من المبادئ التي تخص حضارة او جماعة معينة دون اخرى من جهة ثانية. فالمبادئ المشتركة لا بد من ان تُكتشف من طرف حضارة معينة، سواء كانت يونانية او غيرها، لكنها تبقى مبادئ مشتركة ومتأصلة في العقل البشري دون ان تعزى الى جماعة محددة او حضارة معينة، اي ان اكتشافها من جهة محددة لا يغير من قيمتها الواضحة لدى العقل البشري، وهو ما يعني ليس كل ما تنتجه الحضارة اليونانية او غيرها مقبولاً، بل ما يقبل إما ان يكون واضحاً لدى البشر جميعاً دون حاجة للبرهان والدليل؛ كما في القضايا الفطرية والضرورية، او يكون مبرهناً عليه من دون شك، او مستدلاً عليه وفق الادلة المعتبرة.
انتقاص مبدأ عدم التناقض
شنَّ طه الكثير من الهجمات على مبدأ عدم التناقض للحط من قيمته المعرفية. ففي كتابه (في اصول الحوار وتجديد علم الكلام) الصادر عام 1986 أجاز تقويض هذا المبدأ من دون مخالفة لشروط المنطق، ومن ذلك ان بالامكان بناء نسق منطقي متسق تصدق فيه القضيتان المتناقضتان.
وفي مقالته (اسطورة الفلسفة الخالصة) المنشورة عام 1997؛ قدّم عدة محاولات لتجاوز هذا المبدأ والنيل من المنطق الارسطي عموماً. ففي بعض المواقف أجاز للمرء ان يكون عاقلاً ومتناقضاً مثلما هو عاقل وغير متناقض. ودعا الى المنطق الموسع الجامع لهما. واستعان - في هذا الصدد - بعدد من المفكرين الغربيين من ذوي الاتجاه غير الاتساقي، وهم الذين لا يشترطون عدم التناقض في تقبلهم الاستدلال او البرهان، حيث اعتبروا بعض التناقضات صادقة.
ونقد فكرة الفلسفة الخالصة في جمعها بين الصفة وعدم التناقض الذي عبّر عنه بالاتساق، واعتبر ان من الممكن ان تكون الصفة منفكة عن عدم التناقض او الاتساق، كاشفاً عن ان الصفة المتناقضة قد تنحل الى اجزاء مفيدة، مثل مفهوم الدائرة المربعة، حيث ان هذا المفهوم يفيدنا في المرتبة الاولى للتحليل الدلالي بمعان ثلاثة، هي: التدوير والتربيع واجتماع التدوير والتربيع، كما يفيدنا فيما يتفرع عنها من معان. لذلك خلص الى ان المفهوم يصف ولا وجود له، وقد يتناقض ولا لغو فيه بالمعنى الذي يخلو من الفائدة.
وحقيقة لا يعتبر هذا النقد جاداً، فالفلسفة الخالصة تمنع بين الصفة والتناقض على صعيد الوجود لا المفهوم. فالمفهوم يمكن خلقه وان كان متناقضاً، وهو من الوضوح بمكان، فبدون ذلك كيف يمكن التفكير في مفهوم التناقض ذاته، حيث اننا ندرك التناقض جلياً، لكننا نمنع حصوله وتحققه عيناً. والحكم في ذلك بيّن بيان المفهوم ذاته.
كذلك فقد اعتبر الجمع بين الحكم والاتساق (عدم التناقض) ليس ضرورياً، ورأى ان الحكم المتناقض قد يحافظ هو الاخر على القيمة التصديقية.
هذا ما صرح به رغم المغالطة التي جعلته ينتهي الى نفس قرار منطق الفلسفة الخالصة، فاعتبر ان تأليف التصور المتناقض مع غيره من التصورات قد تنتج منه اقوال تحتمل الصدق والكذب، فقولنا (الدائرة المربعة مربعة) او (الدائرة المربعة معدومة) صادق، لكن قولنا ان (الدائرة المربعة غير مربعة) كاذب.
وبلا شك ان هذه الصور المفترضة هي ايضاً لا تشكل نقداً للفلسفة الخالصة ولا المنطق الارسطي؛ لأنها هي الاخرى تفترض مقدمات متناقضة مع نتائج صادقة او كاذبة وفق ذات الافتراضات، لكنها في جميع الاحوال تعتبر كاذبة من حيث صدقها الموضوعي. بمعنى ان من المحال ان نجد في الواقع الموضوعي مصاديق لهذه المقدمات او الافتراضات المتناقضة.
وفي مجال الاستدلال القياسي قدّم مثالين مختلفتين في المنطق للرد على مبدأ عدم التناقض، احدهما مؤلف من قضية متناقضة مع غيرها من القضايا، لكنها يمكن ان تنتج استدلالاً صحيحاً في حالات معينة، مثل قولنا: (هذا دائر مربع، وكل مربع متساوي الاضلاع، فهذا متساوي الاضلاع). وهو استدلال صحيح لا ينقض الاستدلال المنطقي. أما المثال الثاني فهو قولنا: (هذا دائر مربع، وكل دائر متساوي الاقطار، فهذا غير متساوي الاقطار). وبلا شك انه استدلال فاسد.
وقد اعتبر المثال الاول يرد على الفلسفة الخالصة كما في المنطق الارسطي. في حين ان الاستدلال غير متناقض، اذ المقدمة الاولى المتناقضة هي مقدمة مفترضة اصلاً ولا تتناقض مع النتيجة.
وبلا شك ان الامثلة التي أثارها طه – وقبله العديد من المفكرين الغربيين - في الرد على مبدأ عدم التناقض تتصف بالمغالطات المفضوحة، وبالتالي لا تشكّل اعتراضاً على طبيعة استدلال المنطق الصوري، وكان يفترض ان يقدم دليلاً على صحة الدليل المتناقض. اي ان يجد تناقضاً في صورية الدليل لا مادته. حيث من الممكن افتراض مادة الدليل باي شكل كان، سواء كانت متناقضة، او غريبة، او اي شكل يمكن للذهن البشري تصوره وافتراضه. وهي في جميع الاحوال لا تؤثر على طبيعة الاستدلال الصحيح منطقياً، لكنها لا تصدق بالضرورة على الواقع الموضوعي.
كما حاول هذا المفكر ان يثبت وجود ظواهر عقلية وفلسفية متناقضة تلازم الخطاب الانساني، فذكر اربع حالات اغلبها تعبر عن وجهات نظر تتعلق بتفسير مظاهر العقل والطبيعة والمجتمع[8].
واهمها تلك المتعلقة بالنقائض الفلسفية الاربع كما ادلى بها عمانوئيل كانت، وهي[9]:
1ـ قضية العالم ان كان ذا بداية زمانية ومحصوراً ضمن حدود مكانية، او لا متناه؛ سواء في الزمان أو المكان.
2ـ قضية اجزاء العالم ان كانت بسيطة تتركب منها جواهر الاشياء، ام انها هي ايضاً مركبة، وهكذا الى ما لا نهاية له من الاجزاء.
3ـ قضية السببية الحتمية ان كانت تنتهي الى سببية حرة، ام لا يوجد غير القوانين الطبيعية الحتمية.
4ـ قضية العالم ان كان بحاجة الى كائن ضروري يشكّل علة له، ام لا يوجد مثل هذا الكائن.
لقد اعتبر طه ان فائدة هذه النقائض الكانتية كونها لا ترتفع، وانها تكشف عن ان للعقل حدوداً ومجالاً لا يتعداها، وهو المجال المتعلق بالظواهر الطبيعية وحدها دون غيرها.
لكن من وجهة نظر (كانت) ان هذه النقائض التي يعجز العقل عن حلها تفضي الى رفع موضوعاتها المطروحة للجدل الترسندالي الميتافيزيقي من أرض الواقع. فهذه هي الطريقة المثالية التي سلكها (كانت) لفض النزاع. وهي تعني انه لا معنى للجدل الديالكتيكي على لا شيء موجود واقعاً، فوجود العالم رهين باحساسنا لذاتنا في التمدد الامبيري لسلسلة الظواهر[10].
العقلانية المتقلبة والانقلاب عليها
لقد اتفق طه مع المنطق غير الاتساقي الذي تبنّاه عدد من المفكرين - كما اشرنا - في مسألتين، هما التصوير والتحقيق، لكنه خالفهم في التنسيق لانهم حافظوا في الاستدلال على الاتساق، ولم يتقبلوا من الادلة الا ما كان متسقاً، وسموا ذلك بمبدأ عدم الابتذال. وقد لقي اعتراضاً من قبل هذا المفكر الذي دعا الى ما سماه بالعقلانية المتقلبة، فهي ممارسة حية موسعة دون التقيد بقيود معينة، فتشمل النسق والقصص، حيث الشواهد والاحداث تحضر بوصفها اثاراً دالة على معان خفية، واسباباً دالة على مسببات بعيدة، فيكون النظر فيها اعتباراً.
ومثّل على القصص بقصة النبي يوسف وما اليها حيث لا تقوم على نسق الدليل، رغم ان الدليل عليها هو الخبر الوحياني المتمثل بالقرآن الكريم.
ويقوم النسق عند طه على امرين سماهما: التأسيس والتنتيج، والاول معني بتصدير بعض القضايا، أما الثاني فمعني بتوليد القضايا وفق منطق اللزوم. وكلاهما مرفوض لديه، فالاول غير مقبول لأن صاحبه يقع في محذورات منها التحكم والتسلسل والدور.
ويبدو انه قصد بان صاحب التأسيس سيقع إما في التحكم او التسلسل او الدور.
وعادة ان النسق المنطقي يلتزم في نهاية الامر بقضايا اساسية بديهية لا غنى عنها، وهي العملية التي يصفها طه بالتحكم، والتي لا يتقبلها، ويعتبرها تواطئية نسبية، تختلف من شخص لآخر. أما التنتيج (الاستنتاج اللزومي) فهو ايضاً غير مقبول لديه، حيث اعتبره ضيّقاً، واعترض عليه فقال: ألا يمكن ان نعرِّف من غير تنسيق وننظم من غير لزوم؟!.
لقد رام طه الى تكوين معرفة من دون بناء محكم يمكن التحاجج به. فالقابلية على تشكيل المعرفة امر تلقائي، وهي يمكن ان تتولد باي شكل كان، لكن فقط المعرفة الراجحة وفق الادلة المتسقة هي ما يمكن لها ان تؤدي الى بناء العلم الدقيق، بعيداً عن الفوضى والجهل والسفسطة وعدم الضبط. وفي (علم الطريقة) ميزنا بين المعرفة والتحقيق المعرفي، حيث للاخير مبرراته المنطقية او العقلية او التجريبية، في حين ان المعرفة غير المحققة فلها مبررات نفسية اكثر مما هي منطقية او عقلية او تجريبية. ويمكن تقسيم التحقيق الذهني بإطلاق إلى ثلاثة أصناف من حيث النتيجة: مطابق يقيني، ومبرر، ومخمّن. ويتميز التحقيق المطابق بتطابق الحكم الذهني مع الموضوع الخارجي. في حين يتميز التحقيق المبرر باستناد نتائجه إلى المبررات الكافية لقيامه دون بلوغ مستوى اليقين أو تطابق الحكم الذهني مع الموضوع الخارجي. أما التحقيق المخمّن فنتائجه تخلو من المبررات الكافية للتمسك به من الناحية المنطقية أو الموضوعية، رغم انه قد ينفع من الناحية البراجماتية كما يمارسه العلم الطبيعي[11].
لكن في جميع الاحوال لا يمكن بناء معرفة منضبطة من دون قضايا اساسية واضحة تتحكم فيها، وعلى رأسها مبدأ عدم التناقض المنطقي. بل ان هذا المبدأ هو اشبه بالشيء المقدس الذي ما من احد اراد الطعن فيه الا وكان هو المطعون.
كما من غرائب طه في هذا الصدد، انه اعتبر نقيض الحقيقة هو الاشتباه، ونقيض نسق الدليل هو القصص!!. في حين لا يختلف اثنان على ان نقيض الحقيقة هو نفيها.
وعلى هذه الشاكلة قوله: ان المتناقض التصديقي لا حكم فيه، وان ما لا حكم فيه فهو مشتبه. في حين يفترض ان يقول ان المتناقض التصديقي فيه حكم واضح وهو الاستحالة لا الاشتباه.
***
ان كل ما سبق عرضه لآراء طه انما جاء في بحث (اسطورة الفلسفة الخالصة) المنشور ضمن ندوة بعنوان (العقل ومسألة الحدود) عام 1997، والذي اعيد نشره ضمن (سؤال المنهج) عام 2015. لكنه في كتاب (حوارات من اجل المستقبل) الصادر عام 2000 عاد واتفق مع المنطق غير الاتساقي حول مبدأ عدم الابتذال الذي سبق ان رفضه، والذي لا يُقبل فيه من الادلة الا ما كان متسقاً غير متناقض.
واشار بهذا الصدد الى ان المنطق الصوري ليس جامداً، بل هو متطور، حيث مر باطوار متعددة، واصبحت هناك انواع كثيرة من الانساق المنطقية في شتى المجالات المعرفية، بما فيها المجالات الادبية، حيث يبطل في بعضها هذا المبدأ او ذاك من المبادئ التي كنا نعدها مبادئ عقلية نهائية لا يمكن الخروج عنها؛ مثل مبدأ الهوية وعدم التناقض والثالث المرفوع، كما هو حال ما يعرف بـ “المنطق المجانب للاتساق” او ما سبق ان سماه في (اسطورة الفلسفة الخالصة) بالمنطق غير الاتساقي كما اشرنا، وعبّر عنه بانه منطق حسابي نستغني فيه - مثلاً - عن مبدأ عدم التناقض، اي نجعل من مسلّماته ما تجمع بين النقيضين. ثم انتهى الى انه لا يمكن القول بوجود “مبادئ ثابتة تكون بمنزلة مبادئ العقل دون غيرها، انما الشيء الذي يبقى ثابتاً، هو انك عندما تختار مسلّماتك وتختار قواعدك للاستنتاج من هذه المسلّمات، ينبغي لك الالتزام بها الى النهاية في ترتيب النتائج عليها، فحينئذ لا يبقى للعقل من معنى الا كونه عبارة عن التقيد بالنسق الذي تختاره، فالعقل اذن عقول لا بالمعنى القومي او بالمعنى الفردي، وانما بالمعنى الاجرائي، اي ان كل نسق هو عقل، فتعدد العقول بتعدد الانساق”. لذلك أخذ يذكّر بما كان يؤكد عليه في كتبه بان العقل ليس ذاتاً قائمة في الانسان، وانما هو فعل من الافعال يصدر عن الانسان، كما يصدر عنه السمع والبصر والكلام.. واعتبر ان ما يؤيد هذا الرأي هو ما نراه من تطور الافعال وثبات الذوات، فلو كان العقل ذاتاً ثابتة لما تطور.
وسواء في هذا النص او فيما سبقه من طرح لدى بحثه (اسطورة الفلسفة الخالصة) نجد سفسطة مفضوحة، اذ العقل من دون ثوابت وحقائق مطلقة لا يثبت شيئاً اطلاقاً. فمثلاً ان نفس هذا النص ان لم يشترط قيامه على الحقيقة المطلقة لمبدأ عدم التناقض؛ فسيكون فاقد القيمة، ولأصبح قول كل شيء ممكناً بحمله للنقائض، وهو يذكّر بمفكر ما بعد الحداثة الشهير جاك دريدا والذي نعتناه في (علم الطريقة) بصاحب النظرية النقائضية، حيث يتعامل مع النصوص تعاملاً حراً من دون قيود، فوفقاً له ان النص عبارة عن أداة لإنتاج سلسلة من الإحالات اللامتناهية، فهو رسول «التعامل الحر» عبر عدم امكان تثبيت المعنى. فليس للنص معنى نهائي، أو هو بلا معنى، إذ كل معنى يجد نقيضه في النص ذاته، أو انه يحيل إلى معنى آخر لا علاقة تربطه بالأول، ويظل معنى النص مرجأً. وهكذا تبدو سلسلة الإحالات اللامتناهية وما تتضمنه من تنافرات المعنى وتناقضاته، دون امكانية الحفاظ على معنى محدد، بل ولا امكانية التواصل.
وتنتهي هذه النظرية إلى ان كل القراءات متساوية[12]. وهو معنى مقارب للعقلانية المتقلبة التي دعا اليها طه كما عرفنا.
ما بودنا قوله هو انه اذا كان العقل خالياً من الثوابت والحقائق المطلقة كيف يبرر طه اعتقاده الراسخ بالاسلام والتصوف والاخلاق الفطرية؟!
الفلسفة الائتمانية ونقض مبدأ عدم التناقض
ان من بين الاعتقادات الغريبة التي ادلى بها طه؛ هو ما جاء في (بؤس الدهرانية) الصادر عام 2014، حيث جعل مبدأ عدم التناقض وتفريعاته تحت عنوان (مبادئ العقل الاولى) للفلسفة من ضمن ما سماه بغير الائتمانية، وتتحدد بثلاثة مبادئ: الهوية وعدم التناقض والثالث المرفوع. وفي قبالها ما تحدده الفلسفة الائتمانية حسب الترتيب، وهي مبدأ الشهادة والامانة والتزكية، فهو يرى ان هذه الفلسفات الثلاث هي ما تمثل الفلسفة الاسلامية الحقيقية.
وهي مقابلة هزيلة تجعل الفلسفة الائتمانية فاسدة ومتهافتة، حيث فيها تمتلك الفلسفة الائتمانية قيداً لكل مبدأ ليتميز عن مبادئ ما سماها بالفلسفة غير الائتمانية، فمبدأ الشهادة يقيد الهوية فيقضي بان الشيء هو هو متى شهد عليه غيره. ومبدأ الامانة يقيد عدم التناقض فيقضي بان الشيء ونقيضه لا يجتمعان متى كان العقل مسؤولاً. ومبدأ التزكية يقيد الثالث المرفوع فيقضي بان الشيء اما هو واما نقيضه متى كان العمل مطلوباً.
ولو حللنا هذه القضايا الثلاث ابستيمياً فهي تعني ضرباً للمنطق، اذ مع رفع القيود الموضوعة فانها تفضي الى ان من الممكن ان يحصل ما يخالف مبدأ الهوية وعدم التناقض والثالث المرفوع، لأن هذه المبادئ وفق الفلسفة الائتمانية الطاهية تصبح صحيحة عند وضع قيد لكل منها كما اسلفنا، ولو رُفع القيد لما كانت صحيحة، ولكان من الممكن ان يكون الشيء ليس هو هو، كذلك من الممكن ان يجتمع الشيء بنقيضه، او بان الشيء ليس هو ولا غيره. فأي منطق يتقبل مثل هذه النتائج المتهافتة الهزيلة. ثم ان وضع المبادئ الثلاث الائتمانية لا يمكنه ان يثبت ما لم تتأسس هي بذاتها على مبادئ العقل المجرد الثلاثة والتي جعلها طه بانها مخالفة للفلسفة الاسلامية.
وحقيقة ان مبادئ طه الائتمانية لا علاقة لها تماماً بمبادئ المنطق الثلاثة. فلا وجه لمثل هذا التقابل الضدي بين الطرفين، بحيث لو اعتقدنا باحدهما فلا بد من التخلي عن الثاني. اذ الاعتماد على هذه الطريقة المتهافتة يمكنها ان تفسح المجال للقول بأي شيء ليقابل المبادئ الاخيرة.
بل ان المبادئ الائتمانية التي رآها طه مخالفة لمبادئ العقل المتعارف عليها (الهوية وعدم التناقض والثالث المرفوع)، هي ذاتها يجعل منها هذا المفكر – كما سنرى - دلالة غير مصرح بها على وحدة الوجود مثلما هو الحال لدى العرفاء، لا سيما عند مقام الشهادة التي يترقى اليها المتزكي الحافظ للامانة حتى يصل الى حال ان الشاهد والمشهود واحد لا غير، فليس في الدار من دَيّار غيره.
وبغض النظر عن هذه النتيجة فانه في (التأسيس الائتماني لعلم المقاصد) تخلى عن المعنى المتهافت السابق، فجعل من مبادئ المنطق النظرية ما يقابلها في القوة من المبادئ العملية الاسلامية، وعلى رأسها المصلحة الشرعية، وكما قال: لما كان مجال العمل يقابل مجال النظر؛ كانت قيمه وقوانينه تقابل قيمه وقوانينه، فالخير يقابل الصدق، والشر يقابل الكذب. كما ان قانون المصلحة بحكم تضمنه للقيمتين المتضادتين جلباً او دفعاً؛ يقابل قانون مبدأ عدم التناقض في مجال النظر، اذ الشيء لا يجتمع مع نقيضه، معتبراً مبدأ المصلحة بالنسبة للعمل بمثابة مبدأ عدم التناقض بالنسبة للنظر.
وكرر هذا المعنى فاعتبر المصلحة كما صاغها الغزالي (وهي جلب المنفعة او دفع المضرة) تعبر عن قانون او مبدأ ينزل من العمل منزلة قانون عدم التناقض من النظر، وانها بالتبع تحدد العقلانية العملية تحديد قانون عدم التناقض للعقلانية النظرية، مما يجعلها مبدءاً يتأسس عليه علم المقاصد وليس كما ظنه الغزالي بانها احد المقاصد.
بل زاد على ذلك واعتبر القول (بان الشريعة وضعت لمصالح العباد) له من قوة البداهة ما لمبدأ الهوية، ان لم يكن اقوى بداهة، وذلك متى اخذنا بعين الاعتبار كمال الشارع.
كما اضاف الى ما سبق بان مبدأ (التنور المؤيد) ومقتضاه جلب النور ودفع الظلمة ينزل منزلة مبدأ عدم التناقض. وبناء على هذا يكون مبدأ التنور مؤسساً لاعلى رتبة في العقلانية العملية، فليس في الاعمال اعقل من العمل الذي يلتزم قيم الكمالات الالهية مهتدياً بها ومترقياً.
وبذلك يتبين بان طه في (التأسيس الائتماني لعلم المقاصد) قد خفف من النزعة المتطرفة في نقده لمبدأ عدم التناقض كالتي وردت في كتبه السابقة.
بل يُستشم منه احياناً في بعض من كتبه السابقة تقبله للمعارف العقلية الضرورية بدلالة غير صريحة. فمثلاً في (تجديد المنهج في تقويم التراث) اشار الى نقد ابن تيمية لموازين الغزالي الخمسة في كتابه (الرد على المنطقيين) والذي اعتبرها لا تختلف عن منطق اليونان مع تغيير الفاظها. لكن طه رد على ابن تيمية بانه نفسه قد سلّم بوجود بعض من هذه الاستدلالات في الفطرة الانسانية، مثل التلازم والسبر والتقسيم والشكل الاول من القياس الحملي. كما نقل عن ابن تيمية بانه اعتبر هذه الادلة قد مارستها الامم في مختلف الازمنة والامكنة قبل اليونان وبعدها. ولا تشترك الامم في صور هذه الموازين فحسب، بل تشترك ايضاً في مادتها، فمبادئ مقدماتها لا بد ان تكون امراً ضرورياً في النفوس حتى تكون نتائجها صادقة وعادلة.
هذا ما نقله طه عن ابن تيمية في وجود جملة من المعارف العقلية الضرورية والادلة الفطرية دون ان يبدي اعتراضاً عليها.
قاعدة التناقض ووحدة الشاهد والمشهود
مبدئياً لا يمانع طه من امكانية التناقض، وهذا ما صرح به في عدد من كتبه، ومنها (روح الدين)، بما يوشك ان يقول بوحدة الوجود كالذي يصرح بها العرفاء. فكما قال في مشاهدة المتزكي لله: “انك على الحقيقة لم تشاهد ما شاهدت، ولا شهدت بما شهدت، ولكن شهد وشهد على ما شهد هو الحق سبحانه، فانت المشاهِد لا المشاهِد، وانت الشاهد لا الشاهد. والحق هو وحده الذي يشهد كل شيء ويشهد على كل شيء، ويبدو ان هذه الحال تفارق العقل الشائع بقدر ما تصادم الاعتقاد الساذج”.
ثم كشف عن ان مفارقة العقل الشائع في تلك المشاهدة هي لأن المتزكي اصبح يجمع بين النقيضين، اذ فعله غير فعله، ووصفه غير وصفه، بل ذاته غير ذاته، بل صار هو غير هو. واعتبر هذه الرتبة التي يبلغها المتزكي “تتعدى حدود المنطق المعهود الذي غلب على العقول، والذي يقضي بان صدق احد النقيضين يوجب كذب الاخر، وكيف لا تتعداه وهي ثمرة عمل قادر على ان يجدد العقل نفسه، فما بالك اذا كانت الممارسة العقلية التي تعوّد عليها الناس ليست الا ادنى رتب العقل، ولا ادل على دونيتها من ملازمتها للحس. فالعقل المعهود عقل محسوس وان اعطي القدرة على التجريد؛ لان هذا التجريد وان اخرجه من مواد الاشياء فانه لا يخرجه من صورها، لان كل ما بني على المحسوس فهو محسوس مثله”.
لكنه استدرك ورأى امكانية التأويل العقلي لما ذكره بحيث ينزع عنها صبغة المفارقة، وذكر ثلاثة وجوه للتأويل، وذلك دون ان يتطرق الى حل رابع متسق من دون تكلف ولا ما يوهم التناقض، وهو القول بوحدة الوجود التي لم يعلن عنها صراحة كلما اقترب منها.
ويؤيد ذلك تبنيه لبعض الافكار التي تتسق مع هذه الاطروحة العرفانية. فصحيح انه نفى الاعتقاد بمقالة الحلول والاتحاد مع اعتقاده بالشهود والاتصال، لكنه أيد المقالات الدالة على وحدة الشهود، والتي تقول ما رأيت شيئاً الا الله، او ما رأيت شيئاً الا ورأيت الله قبله وبعده وفيه.. وما الى ذلك، واعتبرها حالات شهودية لا يطلع عليها العقل المجرد.
كما استشهد بمقالة ابن عربي في ان الشهود او المشاهدة ثلاثة اساسية، وهي: مشاهدة الخلق في الحق، ومشاهدة الحق في الخلق، ومشاهدة الحق بلا خلق.
ومعلوم ان ابن عربي هو ابرز القائلين بوحدة الوجود بشتى الوان التعبير، بما في ذلك تصنيفه الثلاثي السابق للمشاهدة الصوفية. في حين نجد طه في (سؤال الاخلاق) لم يستسغ العرفان النظري كما جاء عن ابن عربي واتباعه، لكنه في (روح الدين) اخذ يقترب من هذا المعنى.
وفي موقف اخر رأى ان المتزكي المشغول بشهود ربه لا يلبث ان يرتقي درجة اخرى فيدرك انه لا يملك من امر شهوده نفسه شيئاً، فشهوده هو بعينه شاهد من عنده تعالى يشهد به وله، ثم انه يترقى الى رتبة يغيب فيها عن شهوده بمشهوده، فيعرف انه لم يكن على الحقيقة شاهداً وانما كان مشهوداً به، وان الشاهد الحقيقي هو الله. فهو الذي شهد بنفسه ولنفسه، ولا احد سواه شهد به وله. وهكذا يتحقق المتزكي بمعنى (وحدانية الشاهدية). اي الشاهدية لله وحده. واستعان بهذا الصدد بنص عن الغزالي يعرّف الله بانه الشاهد والمشهود.
لكن هذا المعنى لا يتسق الا وفق مقالة (وحدة الوجود).
كما ان تصوير هذا الحال عائد من حيث الاساس الى الجنيد خلال القرن الثالث الهجري، فهو من زرع في نفوس المتصوفة - من بعده – مضامين آية الميثاق او الذر، حيث المعنى الدال على وحدة الشهود. فقد كشف عن هذا المعنى العرفاني من خلال وصف الموحِّد بأنه: «شبح قائم بين يدي الله ليس بينهما ثالث، تجري عليه تصاريف تدبيره في مجاري أحكام قدرته، في لجج بحار توحيده، بالفناء عن نفسه وعن دعوته الحق له وعن استجابته له، بحقائق وجوده ووحدانيته في حقيقة قربه بذهاب حسّه وحركته لقيام الحق له فيما أراده منه»[13].
فقد وظّف الجنيد آية الميثاق للتدليل على وحدة الشهود، وحالة الاستذكار التي يتوصل اليها المتصوف في اعادة الشاهدية من جديد، كما هو حال النظرية الافلاطونية. وهي التي اعاد طه توظيفها على نفس الخطى والطريق. لكنه ادعى في (سؤال السيرة الفلسفية) بان اغلب الباحثين ينسبون نظرية الاستذكار الى سقراط الذي يتكلم عن العالم الالهي والذي سماه افلاطون بعالم المثل.
واستناداً الى نظرية الاستذكار اعتقد طه، كما في (شرود ما بعد الدهرانية)، بانه لما خرج الانسان الغيبي الى عالم الشهادة بقي يحمل اثار الكينونة الغيبية في روحه وتمثلات هذه الاثار الروحية في شواهد غيبية ومعان روحية وقيم خلقية. وان الامر الغيبي هو نور كاشف لطريقة الحياة. فهذا النور هو ما حمله الانسان من عالم الغيب، وهو سبب وجود النور في عالم الشهادة. لهذا رأى ان الحقائق لا تُدرك على ما هي عليه الا بطريق الروح، وليس بطريق العقل، واستدل على ذلك، كما في (سؤال السيرة الفلسفية)، بان الروح لطيفة نورانية لا جسمانية، والحقائق الخالصة هي نفسها لطائف، ولا يدرك اللطيف الا اللطيف، فيلزم ان التخيل الذي يكون احق بمقام المثالية بالنسبة لغيره هو التخيل الذي يصدر عن مقام الروح، وهي التي تنتسب الى عالم فوقي لا جسماني؛ مذكرة بأصل الفطرة يوم الاشهاد الالهي.
لكن هذا التصوير يخالف حقائق الواقع تماماً. اذ نعلم ابتداءاً ان البشر يتعلمون في البدء من الحس بعد الولادة. وخلال مرحلة من العمر لا يوجد مصدر اخر يمد البشر بغير هذا الحس والذي يترتب عليه الخيال. فالخيال الذي ينشأ من البشر هو ذو مصدر حسي واضح. فالمعنوي لا يسبق الحسي من حيث العمر الزمني لمراحل النمو الانساني. وان الخيال مرتبط بالحس تماماً. والغريب ان طه يجعل الخيال يصدر عن مقام الروح لا الحس، رغم ان التشابه بين الخيال والمصدر الحسي كما يتمثل بعالم الاجسام الخارجية هو في غاية الوضوح. لذا كيف يمكن ان يكون عالم التخيل مصدره غير حسي، وهو مشابه للحس؟ بل هو لازم من لوازم الارتباط الحسي منذ الطفولة البشرية فما بعدها، وذلك على خلاف التجريدات العقلية الصرف التي لا تجد تشابهاً بينها وبين عالم الحس.
مع هذا لو اقتنعنا جدلاً بطريقة طه؛ لكان حال الادراكات الاخرى لا يختلف عن حال الخيال، وهي انها تصدر عن مقام الروح بما يجعلها قائمة على نظرية الاستذكار لاصل الفطرة يوم الاشهاد الإلهي، بدلالة ان صاحبنا يجعل من الصوفي يتخذ من المعنوي وسيلة لتبيان الحسي، ومنه استخدامه للتعقل، فيصبح مصدر التعقل متمثلاً بالمعنوي لا الحسي، وحاله في ذلك حال الخيال، والا فكيف يتمكن الصوفي من تحقيق هذه العملية لولا ان هذه الادراكات مرتبطة باصل الفطرة. وهذا يعني ان التعقل يجب ان يكون كالخيال نابعاً عن الفطرة لا الحس، وهو من اللوازم التي تخالف ما سطّره هذا المفكر في كتبه السابقة من رد التعقل الى الحس لا الفطرة.
بل يشمل الحال حتى الحسي ذاته، حيث انه من المدركات التي يدركها الصوفي من خلال المعنوي. وبالتالي ان اصل الادراك الحسي ينبغي هو الاخر ان يعود الى الفطرة ومقام الروح في عالم الاشهاد. وهو تعبير اخر عن نظرية الاستذكار الافلاطونية.
وهذه النتائج يمكن تأملها بما نصّ عليه هذا المفكر في (سؤال السيرة الفلسفية)، ففي معرض رده على ابن باجة، اعتبر الصوفي يعمل على تقديم الاسماء المعنوية على الاسماء الحسية، بل ويتوسط بالاسماء المعنوية في امر الاسماء الحسية. فمثلاً لا يتوسط بالبصر في امر البصيرة؛ تصوراً لها وتحققاً بها، وانما يتوسط بالبصيرة في امر البصر؛ ادراكاً له وعملاً به. لذلك فهو يعتبر الصوفي يتخذ من المعنوي وسيلة الى تبيّن الحسي، حيث لا يدرك الحسي ولا يعمل به بمجرده ابداً، مما يجعل رتبة المعنوي من الحس عند المتصوف بمنزلة رتبة المعقول من المحسوس عند المتنظّر (العقلي). لذا فالمتصوف يبدأ في معرفته بما يشبه ما ينتهي اليه المتنظّر في علمه، منزلاً اياه اعلى الرتب. بل انه يؤسس قواه الادراكية الاخرى على هذه الحقيقة، يتخيل ما يتخيل ويتذكر ما يتذكر ويتعقل ما يتعقل انطلاقاً لا من الحسي كما تقرر عند المتنظّر وانما من المعنوي الذي من وراء الحسي.
وبلا شك ان من لوازم هذا الطرح القول بان جميع المدركات البشرية بما فيها العقلية لا تمت الى الحس بصلة خلافاً لما كرره في عدد من كتبه السابقة. ويمكن ان ينسجم هذا الطرح بما جاء في حوار له ضمن (حوارات من اجل المستقبل) الصادر عام 2000، حيث ادعى بان القوى الادراكية للانسان على اختلافها متصلة بعضها ببعض، ففي القوة الحسية بعض من العقل، وفي القوة العقلية بعض من الروح، والعكس صحيح، كالذي سبق ان اشرنا اليه. لكن مع ضرورة اعتبار ان الروح هي الاساس.
[1] للتفصيل انظر: نقد العقل العربي في الميزان.
[2] التوحيدي، أبو حيان: الإمتاع والمؤانسة، تصحيح أحمد أمين وأحمد الزين، منشورات دار مكتبة الحياة ببيروت، الليلة الثامنة، ج1، ص107 وما بعدها.
[3] الفارابي: إحصاء العلوم، تصحيح وتقديم وتعليق عثمان محمد أمين، مطبعة السعادة بمصر، 1350هـ - 1931م، ص18–19. وانظر ايضاً: نقد العقل العربي في الميزان.
[4] للتفصيل انظر: منهج العلم والفهم الديني.
[5] للتفصيل انظر: الاستقراء والمنطق الذاتي، دار العارف، بيروت، الطبعة الثالثة، 2022م.
[6] للتفصيل انظر سلسلة حلقات فلسفة النظام الاخلاقي، موقع فلسفة العلم والفهم:http://philosophyofsci.com:2082/index.php?id=11
[7] انظر: علم الطريقة، الفصل السابع.
[8] هي باختصار كالتالي:1ـ الصعوبات او المطالب العويصة: وهي استحضار الناظر لقولين متعارضين لتبيان ايهما اصوب. وهي حالة مستخدمة بقوة لدى الفكر الفلسفي وغيره.2ـ المفارقات: وهي عبارة عن دليل ظاهر الصحة بمدلولين متناقضين، مثل مفارقات زينون، ومثل مفارقات الكذاب الذي يقول انه كذاب، حيث يكون صادقاً اذا كذب، وكاذباً اذا صدق.3ـ النقائض: وهي التي يقع العقل في التناقض متى خاض في قضايا عالم المطلق بمقولات عالم الظاهر، كما في نقائض عمانوئيل كانت الاربع.4ـ المجادلات: وهي التناقضات التي يأتيها الجدلي ويراها حقيقة كونية تظهر في الطبيعة والعقل والمجتمع والتاريخ، كجدليات هرقليطس وهيجل وماركس (سؤال المنهج). مع ذلك يلاحظ ان الفقرة الثانية تحمل مثالين مختلفين تمام الاختلاف من حيث الجنس والطبيعة. وليس من الصحيح جمعهما في صنف واحد.
[9] نقد العقل المحض، ص227 وما بعدها.
[10] انظر: مفارقات نقد العقل المحض.
[11] للتفصيل انظر الفصل الثامن عشر من: علم الطريقة.
[12] للتفصيل انظر الفصل الحادي عشر من: علم الطريقة.
[13] ابو القاسم الجنيد: رسالة التوحيد، ضمن رسائل الجنيد. وانظر ايضاً: كتاب الميثاق، ضمن نفس الرسائل.