-
ع
+

بين الفهم المجمل والمفصل للدين

يحيى محمد

للعلماء المسلمين سلوك منهجي ثابت، جرى فيما يخص المجمل الذاتي والعارض والمتشابه، وهو البحث عن التفصيل والإيغال في النص أكثر فأكثر، الأمر الذي بعث على المزيد من الإجمالات والتشابهات؛ سواء كان التفصيل والإيغال داخل النصوص المبينة، أو النصوص المتشابهة، أو حتى ضمن ما يتفرع عنهما من قياسات واجتهادات لا تأخذ مبادئ الفهم الديني المشار إليها بعين الاعتبار.

ففي جميع الأحوال هناك تعميق لحالة التشابه، سواء كان التشابه مصدره النص، أو كان مصدره التفريعات من الممارسات الاجتهادية البعيدة عن منطق تلك المبادئ.

وبعبارة ثانية، نحن نقف أمام منهج ساد وأفضى إلى خطأ تاريخي جسيم. ذلك ان الوظيفة الرئيسة لهذا المنهج هو البحث والتنقيب عن المزيد من المفصلات عبر التدقيقات الفقهية اللغوية في النص، حيث الامعان أكثر فأكثر لانتزاع ما يبعث على كثرة الخلاف والمعارضات، وما يترتب على ذلك من اجتهادات وقياسات عارضة. لهذا نطلق عليه منهج الفهم المفصل.

ولإيضاح هذا الخلل لا بد من استعراض عدد من الأمثلة والنماذج الفقهية التي أشبعها الفقهاء اجتهاداً وتفصيلاً، ومن ثم مزيداً من التشابه. فمن ذلك التكثير والاهتمام المبالغ به حول قضايا جزئية مثل الطهارة والنجاسة والاغسال والوضوء وغيرها مما اختلف حولها الكثير من الفقهاء بحسب معالجاتهم المعهودة من التفصيل دون الحفاظ على يقين المجملات المبينة.

فمثلاً إن مسح الرأس في الوضوء هو من المبين الذي اتفق عليه الفقهاء، لكن بسبب منهجهم المفصل قاموا بتوسيع الدائرة إلى سلسلة من التفريعات الخلافية المتشابهة. فقد اختلفوا في القدر المجزئ منه. فذهب البعض إلى ان الواجب مسحه كله، وبعض آخر إلى مسح جزء منه، ثم اختلفوا في مقدار هذا الجزء، فبعضهم حدده بالثلث، واخر بالثلثين وثالث بالربع. كما إن منهم من رأى استحباب البدء بمقدم الرأس فقال بأن يمرر يديه إلى قفاه ثم يردهما إلى حيث بدأ. واختار آخرون ان يبدأ من مؤخر الرأس وليس من مقدمه. كما واختلفوا في مسح الاذنين هل هو سنة أو فريضة، أو لا هذا ولا ذاك، وهل يجدد لهما الماء أم لا؟ ومثل ذلك اختلفوا في المسح على العمامة، حيث أجازه بعضهم ومنعه آخرون[1].

وعلى هذه الشاكلة ما ظهر من تكثير المسائل حول السواك، فقد روي، كما في الصحيحين، أن النبي قال: (لولا أن اشق على أمتي لأمرتهم بالسواك)[2]. فعلى قول الكواكبي ان هذا الحديث مع صراحته الضمنية الدالة بأن السواك لا يتجاوز حد الندب، إلا ان أكثرية الفقهاء جعلوه سنة، وخصصه بعضهم بعود الاراك، وعمم بعضهم الاصبع وغيره بشرط عدم الادماء. وفصّل بعضهم أنه إذا قصر عن شبر، وقيل فتر، كان مخالفاً للسنة. وتفنن آخرون بأن من السنة ان تكون فتحته مقدار نصف الابهام ولا يزيد عن غلظ اصبع. وأوضح بعضهم كيفية استعماله فقال: يسند بباطن رأس الخنصر، ويمسك بأصابع الوسطى، ويدعم بالابهام قائماً. وفصّل بعض آخر ان يبدأ بادخاله مبلولاً في الشدق الأيمن، ثم يراوحه ثلاثاً، ثم يتفل، وقيل يتمضمض، ثم يراوحه ويتمضمض ثانية، وهكذا يفعل مرة ثالثة. وبحث بعض آخر في ان هذه المضمضة هل تكفي عن سنّة المضمضة في الوضوء أم لا؟ ومن قال لا تكفي احتجّ بنقصان الغرغرة. واختلف الفقهاء في أوقات استعماله في اليوم مرة أو عند كل وضوء أو عند تلاوة القرآن أيضاً، حتى صار بعضهم يتبرك بعود الاراك يخللون به الفم يابساً، وبعضهم يعدّ له كثيراً من الخواص؛ منها أنه إذا وضع قائماً يركبه الشيطان، وخالف البعض فقال: بل إذا أُلقي يورث لمستعمله الجذام. وكثير من العامة يتوهم فيحسب السواك بالاراك من شعائر دين الإسلام. إلى غير هذا من مباحث التشديد والتشويش المؤديين إلى ترك الدين، على عكس مراد الشرع الذي يقصد تنظيف الفم كيفما كان[3].

من ناحية أخرى تضلّع أصحاب منهج الفهم المفصل بالتفنن والتدقيق في الألفاظ الحرفية، الأمر الذي زاد من طائلة المتشابه لكثرة الاحتمالات التي تسفر عن هذه العملية المخلة بالمقاصد. فمثلاً ذكر ابن القيم الجوزية ما يقارب عشرين مذهباً مختلفاً حول قضية في غاية الجزئية لها علاقة بالطلاق، وهي فيما لو قال الزوج لزوجته: أنتِ عليّ حرام[4]. وصوّر قاسم أمين وهو بصدد بحث هذه المسألة (الطلاق) بأن الذي يطلع على كتب الفقهاء ‹‹يندهش عندما يرى اشتغالهم بتأويل الألفاظ والتفنن في فهم معانيها في ذاتها، بقطع النظر عن الاشخاص، وعندهم متى ذُكر اللفظ تم الأثر الشرعي. ولهذا قصروا ابحاثهم جميعها على الكلمات والحروف وامتلأت الكتب بالاشتغال بفهم: طلقتك، وانت طالق، وانت مطلقة، وعليّ الطلاق، وطلقت رجلك أو رأسك أو عرقك، وما اشبه ذلك، وصارت المسألة مسألة بحث في اللفظ والتركيب.. على اننا نظن ان علم الشرائع يقبل ابحاثاً أخرى غير تأويل الالفاظ.. ولو ترك فقهاؤنا الاشتغال بالالفاظ وبحثوا في مآخذ الأحكام التي يقررونها وعرفوا تاريخها واسبابها وقارنوا المذاهب بعضها ببعض وانتقدوها، وبالجملة لو اشتغلوا بعلم الفقه الحقيقي لتبين لهم ان الطلاق لا يكون طلاقاً الا إذا كان مصحوباً بنية الانفصال››[5].

ويفرض هذا المنهج مزيداً من المشاكل بغير حل. فالتدقيقات اللغوية وتشقيقات النصوص والتنطع والتفريع كلها موارد تزيد من دائرة الشبهات والاحتمالات. وكل ما تصنعه هذه الطريقة من تخصيص وتقييد، وما على هذه الشاكلة من عمليات تعود إلى التوفيق في الصيغ اللغوية المتعارضة، إنما يبعدها عن جوهر العلاج الصحيح، وهو الرجوع إلى الفاعلية التي ينشط فيها كل من الوجدان والواقع والمقاصد.

وقد ينطبق على الفقهاء مقولة بعض الفلاسفة: إن ما تربحونه من ناحية الدقة إنما تخسرونه من ناحية الموضوعية[6].

بل نقول: ليس من بين المذاهب الإسلامية مَن قام بذبح البقرة ﴿وَإِذْ قَالَ مُوسَىٰ لِقَوْمِهِ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تَذْبَحُوا بَقَرَةً...﴾، وذلك وفقاً لمنهج الفهم المفصل الذي اتكأت عليه هذه المذاهب بالإجماع.

ومن آفات هذا المنهج هو أنه يسفر عن اتباع طروحات يشهد الوجدان بأنها مخالفة لروح الديانة وأهدافها السامية، كإطروحة المذهبية وترجيح الفرقة على الوحدة، وهي من أعظم الأمراض المزمنة التي تفشّت بين المسلمين، وأصبح من المتعذر علاجها؛ ما لم يتم التخلي عن المنهج المذكور وابداله بمنهج الفهم المجمل. فالعلاقة التي تربط بين المنهج الأول وبين الطائفية وما يترتب عليها من نزعة عدائية؛ هي علاقة تأثير مضطرد، فكلما زاد ايغال المنهج في التفصيل؛ كلما زاد تحقق الطائفية، بل وزاد التشاحن والصدام والاقتتال. وعلى خلاف ذلك ما ينشأ عن الالتزام بمسلك الفهم المجمل، فهو يعمل على احياء روح الديانة والحفاظ على بيانها. في حين لا تعبّر التفصيلات الظنية عن هذه الروح ولا تكشف عنها. وقد قال تعالى: ﴿ولا تكونوا كالذين تفرقوا واختلفوا من بعد ما جاءهم البينات﴾[7]، وقال أيضاً: ﴿ولا تكونوا من المشركين، من الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعاً كل حزب بما لديهم فرحون﴾[8]، كما قال: ﴿ان الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعاً لست منهم في شيء﴾[9]. حتى ان عدداً من القدماء اعترف بما آل إليه أمر العلماء من التفرق حسب اختلاف آرائهم وتأويلاتهم ومحاولة كل منهم نصرة مذهبه تقليداً والرد على المخالفين، وبذلك ينطبق عليهم المعنى المستوحى من مثل هذه الآيات الكريمة، ومن ذلك ما قاله الفخر الرازي: ‹‹واقول إنك إذا أنصفت علمت ان أكثر علماء هذا الزمان صاروا موصوفين بهذه الصفة فنسأل الله العفو والرحمة››. كما سبق للغزالي ان أشار إلى مثل هذا المعنى من سوء حال العلماء في الاختلاف والتفرق[10].

وكدلالة على ما سبق، التأثير الذي سببه منهج الفهم المفصل في الخلاف المتفاقم حول القضايا العقائدية، وعلى رأسها مسألة التوحيد. فرغم ان النصوص حولها كثيرة؛ الا أنها بادية الإجمال، وهذا ما جعل العلماء لا يكتفون بالفهم المجمل للمسألة، بل سعوا وأجهدوا أنفسهم في البحث عن التفاصيل والتقاط ما أمكن لدعم طروحاتهم حول الكيفية التي عليها هذه المسألة. وبالتالي فاننا نجد التوحيد لدى المعتزلة هو غير التوحيد عند الأشاعرة، وعند هؤلاء هو غيره عند الفلاسفة وكذا الصوفية، بل حتى عند السلفية نجده مورداً للاختلاف والتباين، رغم ان جميع هذه الفرق تتفق على المعنى العام من التوحيد وهو عدم وجود شريك لله تعالى، وأنه لم ينشأ من كائن آخر غيره ولا له ولد يخلفه. فتلك هي الصفات السلبية التي يتفق عليها الجميع، أما الصفات الايجابية فهي مجملة بالمرة؛ كعلمه وقدرته وذاته وحياته. ولا شك ان كل تفصيل لهذه الصفات يفضي إلى الخلاف وتعدد الرؤى، وغالباً ما يدعو إلى التنازع والتضليل والتكفير.

مع هذا فالملاحظ في قضية التوحيد أنها قضية غيبية لا يمكن معالجة تفاصيلها من خلال الواقع، الأمر الذي يختلف عن القضايا المرتبطة بالواقع المباشر كتلك المتعلقة بالمسائل الفقهية.

 

الفهم المجمل والسلوك السلفي

أول ما يلاحظ بهذا الصدد هو أن القرآن الكريم بشهادة السلف اكتفى بما نزّله من مجملات، وأنه بخصوص الأحكام نهى عن التنطع والالحاح في السؤال. فعدد آيات الأحكام في الكتاب قليلة جداً قياساً بغيرها من الآيات، والبعض يرى أنها لا تتجاوز المائة أو المائة والخمسين[11]، أو الثلاث مائة آية. الأمر الذي يتنافى مع الممارسة التي لجأ إليها الفقهاء في تكثير صور التكليف والأحكام عبر البحث اللغوي. وقد ورد ان بعض الأعراب كان يأتي النبي فيعلمه أمور دينه في مجلس واحد فقط. مما يكشف عن ان مدار الأحكام التكليفية المنصوصة هي في غاية الضيق، وان ما ألفه الفقهاء من التدقيقات والتنطعات ليس مطلباً دينياً. والكثير من الروايات تفيد هذا المعنى، ومن ذلك الباب الذي عنونه البخاري في صحيحه (ما يكره من كثرة السؤال)، وجاء فيه ما روي عن النبي (ص): ‹‹إن أعظم المسلمين جرماً من سأل عن شيء لم يحرم فحُرّم من أجل مسألته››[12]. كما روي عنه (ص) قوله: ‹‹ان الله فرض فرائض فلا تضيعوها ونهى عن أشياء فلا تنتهكوها وحدّ حدوداً فلا تعتدوها وعفا عن أشياء رحمة بكم لا عن نسيان فلا تبحثوا عنها››[13]. وعن ابن عباس قوله: ‹‹ما لم يذكر في القرآن فهو مما عفا الله عنه››. وكان يُسأل عن الشيء لم يحرم فيقول عفو، وقيل له ما تقول في أموال أهل الذمة فقال العفو، بمعنى لا تؤخذ منهم زكاة[14]. وجاء في الصحيحين حديث: ‹‹ما نهيتكم عنه فاجتنبوه وما امرتكم به فافعلوا منه ما استطعتم، فانما أهلك الذين قبلكم كثرة مسائلهم واختلافهم على انبيائهم››[15].

فهذا ما يتسق مع ما كان عليه الصحابة، فقد عُرفوا بأنهم لم يكثروا من الأسئلة على النبي، وقد عدّ ابن عباس هذه الأسئلة وقال أنها ثلاث عشرة مسألة فقط[16].

وبذلك يتضح ان الخطاب الديني يفضل الاكتفاء بالمجمل على الخوض في التفاصيل؛ سواء بكثرة السؤال أو بتشقيق النصوص. وعوضاً عن ذلك. وكأن لسان الشرع يقول: اعملْ بما تراه مناسبًا؛ شرط أن تسعى إلى تحقيق المقصد الديني أو تحافظ عليه. وبالتالي فالاجتهاد ليس في النص بقدر ما هو في الواقع ذاته.

وقد كان الصحابة يدركون مطالب الخطاب على اجمالها لعلمهم بأسباب النزول، وكانوا يعملون على ضوء هذه الأسباب محتفظين بفهمهم المجمل، وانهم لم يواجهوا - في الغالب - حوادث ملتبسة تبتعد عن دائرة ضوء البيان التي دارت عليها معاملاتهم.

لكن الفقهاء الذين أتوا بعدهم لم يسلكوا النهج ذاته فإلتزموا بمنهج الفهم المفصل، بل وأوقعوا أنفسهم بمناقضة ظاهرة، وهي أنهم اعتبروا الصحابة أفهم الناس بالشريعة، ومع ذلك لم يتبعوا طريقتهم في الإقلال من الرواية وتجنب التفاصيل وعدم السؤال عما لم يرد فيه نص. وبالتالي خالفوا نهج الصحابة في الفهم والتفكير، إذ اتبعوا النهج المفصل مقابل المسلك المجمل، وهو مسلك يجمع بين الوضوح والاجمال بخلاف ما طرقه الفقهاء من مفصلات لم تخطر ببال الأوائل ولا كان من المتوقع ان ينسبوها إلى شرع الله.

نعم، ان للصحابة آراءاً في التعامل مع القضايا الجديدة التي واجهتهم، لكنهم لم يعتمدوا فيها على ظاهر النص إذا وجدوه مرتبطًا بمقاصد محددة، بل كانوا يراعون علاقته بالواقع. فهو اجتهاد من النوع العقلاني المدعم بالمقاصد، وليس اجتهاداً بالمعنى المتعارف عليه عند الفقهاء من النظر في النصوص والتدقيق في نواحيها اللغوية وما يترتب عليها من تفريع وتفصيل، ومن ثم بناء الظنون على الظنون، والقياس على القياس. ويتجلى هذا النهج في مواقف الخليفة عمر بن الخطاب من المسائل المستحدثة وعلى رأسها موقفه من سهم المؤلفة قلوبهم الوارد ذكره في القرآن الكريم.

فهذا هو المعنى الحقيقي للفقه. لذلك اعتبر رشيد رضا ان المراد بلفظ (الفقه) كما ورد في نصوص الشريعة ومنها النصوص النبوية؛ هو معرفة مقاصد الشريعة وحكمها، وليس علم أحكام الفروع المعروف. فالمعنى الأخير مستحدث مثلما بيّن ذلك الغزالي والحكيم الترمذي والشاطبي وغيرهم. وعليه كان رؤوس المسلمين في عصر النبي والخلافة الراشدة من أهل هذا الفقه المقاصدي في الغالب[17].

على أن هناك تفاوتاً في الارتباط بمسلك الفهم المفصل وكيفيته لدى الإتجاهات المعرفية. فهناك الإتجاه الذي يرى كل شيء محدداً بالنص جملة وتفصيلاً، ويمنع العناصر الأخرى من الدور الفاعل لتحديد الفهم. فمثلاً رأى ابن حزم بأن الله تعالى قد أحكم شريعته وأبان كل شيء مما يحتاجه البشر ودلّ عليه بالبيان والظاهر، وأنه لا شيء من الدين وجميع أحكامه إلا وقد نصّ عليه بالتفصيل، فلا حاجة بأحد إلى القياس وغيره من موارد الاجتهاد، خصوصاً وقد أمر الله تعالى بالرد إليه وإلى رسوله عند الاختلاف والتنازع. وبالتالي فإن دين الله - عند ابن حزم - كامل ليس بناقص، وأنه لا يبدل ولا ينقص ولا يحتاج إلى ما يزيد عليه تفصيلاً، وهو يتحدد بكتاب الله وما بيّنه النبي الأكرم، وبلّغه إلينا أُولي الأمر منّا، وعدا ذلك ليس من الدين بشيء[18]. ومثله ما صرح به الفيض الكاشاني من الإخباريين في الساحة الشيعية، إذ اعتبر ان الكتاب والعترة كافيان لتعليم الأمة معالم دينها ولا حاجة لأحد في ان يجتهد برأيه في الأحكام، أو يعمل بالقياس والإستحسان، وان يضع أصولاً فقهية وطرق استنباطات ظنية[19]. وهو ما سبقت الإشارة إليه ضمن حلقة (نُظم التراث).

وفي قبال الإتجاه السابق استند أغلب العلماء إلى القياس وسائر موارد الاجتهاد ليتجاوزوا بها إشكالية الفهم المجمل، معتبرين التفصيل في تغطية القضايا لا يتم بمجرد النص وحده، لهذا أضافوا عدداً من مبادئ الاجتهاد إدراكاً منهم بأن النصوص مهما كانت فانها تظل محدودة لا تغطي مباشرة كل قضايا الواقع، وبعضهم اعترف بتناهي النصوص ومحدوديتها في قبال الوقائع غير المتناهية. مع ما يلاحظ من ان بعض الفقهاء جانب الصواب فأخذ يجعل من أحكام العبادات والحلال والحرام محلاً للقياس. وبذلك زاد الفقهاء من المسائل حتى ‹‹جعلوها تكاليفاً لا تحتمل››[20]. وأمعن المتأخرون في التفصيل، سواء اعتمدوا على النص مباشرة أو غير مباشرة، وكانوا أشد ايغالاً من أسلافهم في تبني مسلك الفهم المفصل، إذ جعلوا من عبارات شيوخهم وأئمتهم نصوصاً يستنبطون منها الأحكام مثلما يستنبطون ذلك من نصوص الشرع، فأخذوا يقيمون القياس على القياس، والاجتهاد على الاجتهاد، حتى صارت الأحكام المنسوبة للشرع تتضاعف مع الزمن باطراد[21].

مع هذا أدرك أغلب العلماء في الساحتين السنية والشيعية إنسداد العلم، أي العجز عن الوصول إلى القطع في التفاصيل الدينية. وبعضهم اعترف حتى بإنسداد الطريق لهذا العلم، لغياب القرائن الدالة على الإطمئنان بمؤدى الأخبار المنقولة؛ من أمثال الوحيد البهبهاني والمحقق القمي وصاحب الرياض وغيرهم[22]. وهو أمر يتسق مع منطق الفهم المجمل. لكنهم رغم ذلك ظلوا محافظين على مسلكهم التقليدي من الفهم المفصل، وكان يمكن لهذا الإعتراف أن يفضي إلى تغيير حاسم وجذري في اسلوب الفهم والتفكير، بعيداً عن المناهج البيانية المتعارف عليها، وذلك بإدخال عناصر جديدة لها دورها الفاعل في تحديد النتائج المعرفية المرتقبة، مثل مبادئ الفهم الديني المشار إليها سلفاً.

***

 وعموماً نشير إلى أن الشريعة أُنزلت انزالاً مجملاً، وأن الصحابة فهموها طبقاً لهذا الإجمال، وتعاملوا معها من موقع القطع والمقاصد. فالطريقة المثلى هي ما كان عليه المسلمون في زمن النبي الاكرم (ص) والخلفاء الراشدين، فإذا عرضت عليهم حادثة ولم يجدوا لها شيئاً في كتاب الله وسنة رسوله؛ جمعوا لها وجهاء القوم فاستشاروهم[23].

وهناك حوادث عديدة تدل على هذا العمل، من ذلك ما صوّره مالك بقوله: أدركت أهل هذا البلد وما عندهم علم غير الكتاب والسنة، فإذا نزلت نازلة جمع الأمير لها من حضر من العلماء فما اتفقوا عليه أنفذه، وأنتم تكثرون المسائل وقد كرهها رسول الله[24].

وبعبارة أخرى، إن عمل الصحابة قائم على بيان النص إن أمكن، وإلا لجأوا للاجتهاد المبني على الواقع والمقاصد بجمع وجهاء الرأي البارزين. أما اليوم فلا شك أننا نواجه اجمالاً يتضاعف مضاعفات عديدة قياساً بما كان عليه الأمر في عصر الرسالة والخطاب، لغياب وضياع الكثير من القرائن الدالة على واقع الحال آنذاك.

 

مقارنة بين المسلكين المجمل والمفصل

يمكن تشخيص الفروق بين الفهمين المجمل والمفصل بحسب النقاط التالية:

أولاً:

إن الفهمين السابقين يفترقان بحسب علاقتهما بالمقاصد. فالفهم المجمل يتسق معها من غير معارضة، في حين يعمق الفهم المفصل حالة التعارض والإنفصال عنها. وهذه النقطة هي من أبرز الإشكالات التي تواجه الفهم المفصل، فهو لا يدع مجالاً للأخذ بالمقاصد؛ طالما ان التمسك بأحدهما يفضي إلى التعارض مع الآخر. وهو ما يفسر كيف أن موقف المنظرين للمقاصد يمتاز بالتبرير لا التشريع. فهم لا يتجاوزون اضفاء الدلالة المقصدية على المفصلات. ومع ان هذا الاضفاء يعد خطوة صحيحة؛ لكن الوقوف عندها يوقع في التناقض. فالمفصلات إما ان تكون دالة على المقاصد، وبالتالي تكون الأخيرة حاكمة على الأولى بإعتبارها الغاية المطلوبة، مما يجعل التشريع قائماً عليها، أو أنها لا تدل على ذلك، الأمر الذي يبرر ثبات العمل بها من دون تغيير.

فالذين نظّروا للمقاصد اعترفوا بما للمفصلات البيانية من دلالات مقصدية؛ لكنهم حصروا العمل بالأُولى وأخفوا دلالة ما تعنيه الثانية من غلبة وحاكمية على الأولى بما فيها تلك التي تتعارض معها. فالعمل الثابت بالمفصل لا يتسق ومقالة المقاصد طالما أن تغايرات الواقع لا تنتهي بحد معين. في حين ليس الأمر كذلك عند التعويل على الفهم المجمل؛ وذلك باعتباره يمتلك أكثر من طرف، الأمر الذي يسمح بالتوجيه وفق ما تفرضه نظرية المقاصد من دون تعارض. وبالتالي ان بمقدور الفهم المجمل ان يجنبنا الكثير من موارد الخلاف والمعارضة، وذلك من حيث الاجتهاد في الواقع وعلاقته بمبادئ الفهم الديني الأخرى، إلى الدرجة التي تصبح التخصيصات والتقييدات والناسخ والمنسوخ كلها ساحة مفتوحة بانفتاح الواقع حضوراً واستشرافاً.

هكذا يقضي العمل بالفهم المجمل على حالة التعارض التي تحصل بين النص من جهة، وبين الواقع والمقاصد والعقل من جهة ثانية. فحين يصادفنا تعارض من هذا النوع نعلم أو نتوقع ان هناك التباساً وتشابهاً قد حدث في فهمنا للنص، مما يقتضي حلّه عبر الواقع أو الوجدان. فمثلاً إذا أسفر حكم النص عن بعض الأضرار المحسوبة دون أن نتوقع ما يقابلها من استشراف للمصالح العقلائية؛ فإن ذلك يجعلنا نعتبر اللبس ليس في الواقع ذاته أو الضرر المترتب عليه؛ بقدر ما هو لبس في فهم النص، مما يتطلب علاجه بصيغة أخرى مفصلة وفقاً لما تمدنا به الخبرة الموضوعية للواقع وهدي المقاصد. وإذا لم نفعل ذلك لأوقعنا النص في تناقض مع مقاصد التشريع والواقع وما ينطوي عليه من مصالح عامة.

وبالتالي لا يمكن قطع الصلة بين النص من جهة، والعناصر الأخرى الفاعلة من جهة ثانية. أو ان قطع الصلة بينهما ليس له مبرر، فالحقيقة لا يمكنها ان تضاد حقيقة أخرى في الموضوع نفسه، وما يُعتقد بأنه نوع من التضاد والمنافاة بين النص من جهة، والعقل والواقع من جهة ثانية، إنما هو تضاد ظاهري يوحي بوجود التشابه في النص حتى لو كان واضحاً وصريحاً، إذ لا يمكن تجريد اللغة عن التشابه والاجمال مهما حاولنا تفصيله أكثر فأكثر.

ثانياً:

إن الفهمين السابقين يفترقان تبعاً لطريقة معالجة قضايا الواقع. فالمسلك المجمل يولي الواقع أهمية كبرى للمعالجة والتأثير والتفصيل، فهو عنده محل بحث وفحص ومراجعة من غير انقطاع، خلافاً لما يعمل به الفهم المفصل الذي يحد من تأثير الواقع ولا يوليه الكثير من الاعتبار.

كما إنهما يفترقان من حيث المنزلة المعرفية التي يحتلها النص عندهما. فالنص لدى المسلك المجمل له صفة توجيه الفكر، ولدى المسلك المفصل له صفة تكوين الفكر. أي ان الأول يتعامل مع النص بوصفه موجهاً أكثر منه مكوناً، على خلاف الآخر الذي يتعامل معه بوصفه مكوناً أكثر منه موجهاً. ولا شك ان الخلاف بين الحالين ينعكس على الموقف من الواقع. فالذي يولي النص صفة التكوين لا يجعل للواقع مكاناً. والذي يمنحه صفة التوجيه يحتاج إلى كتلة معرفية تكوينية تمارس عليها سمة التوجيه، وهو لا يجدها غنية إلا في الواقع. مع لحاظ الأمر النسبي بين التوجيه والتكوين، إذ التوجيه لا يخلو من تكوين مهما بدا ضعيفاً، كما إن التكوين هو الآخر لا يخلو بدوره من توجيه وإن قلّ[25].

كما إنهما يفترقان بحسب التخفيف من حالات الخلاف المعرفي والعلمي. فالخلاف المعرفي بحسب الفهم المفصل يكاد يكون كما هو من غير تناقص، بل غالباً ما يزداد كلما كثر الرجوع إلى التدقيقات اللغوية واحتمالاتها، وليس الأمر كذلك مع الفهم المجمل، إذ الرجوع إلى الواقع وإن كان لا يقضي على الخلاف عادة، الا أنه يمكن تخفيفه وربما ازالته عبر امتداد الزمن.

ويؤيد هذا المعنى ما ذكره الطوفي من شواهد عديدة لما حصل من عداء وتنافر بين المذاهب الفقهية تبعاً للنهج الذي اتبعوه، ورأى ان الحل قائم على المصالح الواقعية كالذي سبقت الإشارة إليه من قبل.

ثالثاً:

إن الفهمين السابقين يفترقان بحسب اضفاء القداسة على نتائجهما الاجتهادية. فالفهم المجمل يجعل القداسة تلوح المجملات المستلهمة من النصوص ولا يولي للمفصلات الظنية مثل هذا الاعتبار. وهو خلاف ما يقوم به الفهم المفصل من جعل القداسة مبسوطة على المجملات المعلومة والمفصلات الظنية بلا فارق جذري بين المجموعتين.

كذلك فبقدر ما يضيّق الفهم المجمل حدود دائرة النص وما يترتب عليها من قداسة؛ بقدر ما ينفتح على الواقع بهدي المقاصد. وعلى العكس منه يعمل الفهم المفصل، إذ بقدر ما ينفتح على النص ويستلهم منه القداسة حتى في المفصلات الظنية؛ بقدر ما يبتعد عن الواقع واعتباراته.

فالاجتهاد لدى الفهم المفصل هو اجتهاد في النص. بينما الاجتهاد في الفهم المجمل هو اجتهاد في الواقع المفتوح. وان النتائج التي تسفر عن الاجتهاد في الفهم المفصل ليست مجرد نتائج معرفية فحسب، بل تلتبس مع ما يضفى عليها من ثوب مقدس، رغم أنها لا تتعدى دائرة الظن والاحتمال في الغالب، الأمر الذي يسهل توظيفها، كما ويصعب معارضتها من الناحية الايديولوجية، وواقعنا اليوم زاخر بهذا المعنى المعبِّر. في حين إن ما يترتب على الاجتهاد لدى الفهم المجمل يخلو من مثل هذا الثوب؛ لكونه يعتمد على الواقع لا النص، وبالتالي فهو أكثر تواضعاً من الاجتهاد القائم على الفهم المفصل.

هكذا فبفعل الفهم المجمل يمكن القضاء على الكهنوت المبتدع والقائم على منهج الفهم المفصل، والذي ينسب كل ما هو اجتهادي إلى أحكام الشريعة الإلهية، ومن ثم تلبيسه ثوب المقدس. وبطبيعة الحال قد تتفاوت قداسة هذا المقدس وكذا طبيعة الكهنوت القائم عليه. في حين يتقارب الناس في فهمهم للقضايا الدينية وفقاً للنهج المجمل، شبيه بما كان عليه الأمر زمن الرسالة.

فرغم اختلاف المدارك العقلية للصحابة إلا ان ذلك لم يشكّل عائقاً في ارتباطهم المباشر بالدين بعيداً عن الوساطة الكهنوتية، ويعود السبب في ذلك إلى يسر الدين ومرونته. وقد كان الاجتهاد نافذاً بخصوص الواقع دون النص.

ومعلوم ان التفكير في الواقع لا يبعث على خلق القداسة وما يترتب عليها من الوساطة الكهنوتية التي تتوسط بين الناس والدين.

ولا شك ان ما ذكرناه حول الفهم المجمل يقرّب بين الاتجاهات التي تتنافس في طروحاتها حول طبيعة النظام السياسي، فاذا كان أصحاب التيارات الإسلامية لا يملكون برنامجاً متكاملاً للممارسة والتنفيذ، وكانوا مختلفين في برامجهم السياسية، فإن ذلك يدعو إلى التسامح من جانب، كما إنه يدعو إلى تفعيل فهم الواقع أكثر فأكثر، لغرض فك اشكاليات مجملات النص، وجعل الاجتهاد دائراً حول ميادين الواقع المختلفة، مع أخذ اعتبار التظلل بالموجهات الكلية للنص وعلى رأسها المقاصد.

رابعاً:

إن الفهمين السابقين يفترقان بحسب علاقتهما بالأمة المسلمة. فالمسلك المجمل هو مسلك توحيدي خلافاً للمسلك المفصل الذي يعمل على التفريق والتنازع لإرتباطه بالمقدس حتى على مستوى الظنون المنبعثة عن المفصلات. الأمر الذي تتعارض فيه المقدسات الظنية، فيتولد الخلاف والصراع للإرتباط بهذه المدعيات[26].

كما إنهما يفترقان من حيث التخفيف والتشديد وحدود التزامات الأفراد في قضايا الأحكام والعبادات. فالمسلك المجمل يميل إلى التخفيف والتقليل، خلافاً للمسلك المفصل الذي يتجه صوب التشديد والتوسيع. وقد اعتبر بعض المفكرين ان توسيع الفقهاء لدائرة الأحكام أدى إلى تضييق الدين على المسلمين تضييقاً أوقع الأمة في ارتباك عظيم، بحيث جعل المسلم لا يكاد يستطيع أن يعدّ نفسه مسلماً ناجياً لتعذر تطبيق جميع عباداته ومعاملاته تبعاً لطلبات الفقهاء المتشددين الآخذين بالعزائم[27].

وعلى هذه الشاكلة أدان بعض آخر الفقهاء وأخذ يتهمهم بتضييع الدين لما شددوا الخناق فيه على المكلف بكثرة توسيعهم لقضايا الأحكام ومطالبتهم الالتزام بها، كما هو الحال مع تعليم أحكام الطهارة وغيرها من العبادات التي وضعوا لها المجلدات الكبيرة، فألحقت الضرر بالناس دون فائدة[28].

 

هل الاجتهاد في النص أم الواقع؟

إن القول بالفهم المجمل يجعلنا نعيد صياغة الاجتهاد إن كان يُعد - في الأساس - اجتهاداً في النص أم الواقع؟

فإذا ما اتفقنا على أن المجمل بيّن؛ فإن المشكلة تظل دائرة حول المفصل الذي هو محل التشابه والاحتمال، وبالتالي فعلاج هذا المفصل إما ان يتم عبر النظر في النص ذاته كما هو مسلك الفقهاء، أو عبر النظر في الواقع وهدي المقاصد.

ولإبراز مظاهر الاختلاف بين المسلكين حول طبيعة الاجتهاد المفصل؛ نشير إلى الملاحظات التالية:

1ـ إن الاجتهاد الواقعي أوسع قدرة في التعامل مع قضايا الواقع وحقائقه المتغيرة، مع احتفاظه بالمكانة التي عليها النص ومجملاته المبينة، خلافاً للاجتهاد النصي الذي لا يمتلك قدرة واسعة على التعامل مع قضايا الواقع باتساق، لكثرة اصطدامه بالواقع، وتراجعه بعد كل صِدام.

2ـ إن البحث وفقاً للاجتهاد الواقعي يتخذ صورة التزاوج بين المجمل النصي والمفصل الواقعي، إذ يقوم هذا الأخير بفتح المجملات المغلقة في النص، خلافاً لما تقوم به إطروحة الاجتهاد النصي من البحث في نفس سياق النص اجمالاً وتفصيلاً.

3ـ إن الاجتهاد النصي هو مفصل متشابه ترد فيه الاحتمالات التي لا ترقى إلى القطع أو الإطمئنان. في حين ليس بممتنع على الاجتهاد الواقعي بلوغ درجة القطع أو الإطمئنان.

4ـ طبقاً للاجتهاد الواقعي فإن ما يتم التوصل إليه من نتائج؛ لا يصح أن نعزوه إلى الشرع وحكم الله تعالى، لا ظاهراً ولا واقعاً، إلا عندما يكون الأمر قطعياً بحسب الوجدان العقلي دون أدنى ريب. وهو يؤمن بالسلوك الذي كان عليه العديد من السلف الأوائل الذين لا يحرمون ولا يحللون الا بنص صريح، بل يقولون نكره ونستحسن.

وهنا لا بد من تقسيم القضايا القطعية العائدة إلى الدين إلى قسمين، فهي إما أن تكون عائدة إليه بالعنوان الأولي، وتمتاز بأنها مستنبطة من النص الديني على نحو القطع والوضوح التام دون أدنى شك، كالتوحيد والبرّ والتقوى والصلاة والصوم والزكاة وغيرها من القضايا المجملة الواضحة كما يشهد عليها النص القرآني.. أو أنها تعود إليه بالعنوان الثانوي، وتمتاز بأن قطعيتها المباشرة تأتي عبر طريق آخر غير النص، كتلك التي يقطع بها العقل طبقاً لبعض الدلالات من الإدراكات العقلية الخاصة، كالحسن والقبح، وكذا المقاصد والموجهات الدينية العامة.

5ـ إذا كانت المساند التراثية تؤكد لنا بأن فهم النص لا يسعه بحال ان يغطي مجالات الواقع المفتوح، فلا غنى في المقابل عن ممارسة الاجتهاد في الواقع مع هدي المقاصد. ويؤيد ذلك ما يروى عن النبي (ص) في هذا المجال. بل إن اجتهاد النبي (ص) في القضايا الدنيوية شاهد آخر على كون المطلوب هو النظر في الواقع دون عزو ذلك إلى الله تعالى والشرع.

غالباً ما يكون الاجتهاد الواقعي أقوى ترجيحاً من الاجتهاد النصي إن لم يفضِ إلى القطع. فبالخبرة والتجربة ومرور الزمن يكون أكثر قابلية على الإقتراب من الحقيقة، خلافاً لما عليه الاجتهاد النصي، لإعتبارين مهمين كما يلي:

أولاً: إن العملية المعرفية في حالة ظنون الاجتهاد الواقعي تمر عادة بطرق قريبة وقصيرة للكشف عن الحقيقة، إذ يسهل عليها مراجعة قضايا البحث طبقاً لما تعتمده من مولدات قائمة على خبرة الواقع وهدي الموجهات العامة للنص. في حين تتأسس العملية المعرفية في حالة الظنون النصية البيانية على سلسلة طويلة ومعقدة من الطرق الاستدلالية؛ بما تتضمن من مدارات احتمالية متشعبة، الأمر الذي يجعلها أقلّ قوة وجاذبية مقارنة بما تتصف به الظنون الخبروية للواقع.

فمثلاً حينما يتأسس الحكم الظني طبقاً للعملية البيانية؛ فإن على الفقيه ان يراعي جملة أمور لتفضي قضيته إلى المطلوب. فحيث ان مادته الرئيسة مستمدة من نصوص الحديث؛ وجب عليه ان يبحث في الشروط الخارجية لصحة النص قبل النظر في شروطه الداخلية؛ فيقوم بفحص السند للتعرف على سلسلة رجال الرواية، وهو في هذه المرحلة يسعى للحصول على نوع من الظن في وثاقة الجميع، مع الأخذ بعين الاعتبار ان السلسلة الطويلة تُضعِف من القيمة الاحتمالية لهذه الوثاقة، كذلك فإن التعامل غير المباشر في معرفة رجال السند هو الآخر يعمل على اضعاف هذه القيمة.

وكل ذلك يواجهه الفقيه، إذ يلاقي أمامه سلسلة ليست قصيرة من الرواة، وهو من حيث التوثيق يعتمد على آخرين تناولوا تراجم الرجال بالإجمال المخل، لا سيما وأنه لم تكن بين الطرفين معاصرة واحتكاك مباشر. فالتوثيق غالباً ما يكون متعلقًا بالغائب دون الحاضر، ناهيك عن أنه كلما طالت سلسلة الناقلين؛ كلما قوي احتمال تغير مضمون الرواية بالزيادة أو النقصان. كما أن معظم المنقول يكون بالمعنى لا باللفظ، وغالبًا ما يكون مقطوع الصلة بملابسات الخبر، مما يثير احتمال وجود خصوصية ظرفية غير قابلة للتعميم والإطلاق. فضلًا عن أن الألفاظ نفسها قد تحتمل وجوهًا متعددة من المعاني، مع احتمال تعارضها مع نصوص أخرى تخضع بدورها لنفس التعقيدات الاحتمالية، مما يجعل إحراز الثقة بالظن البياني أمرًا غير مضمون عادة [29].

فهناك تردد في سلامة نقل الخبر كما هو، وتردد آخر في مضمونه ومعناه، وكذا في علاقته بغيره من النصوص؛ إن كانت علاقة نسخ أو تخصيص وتقييد أو غير ذلك من مشاكل متراكبة عديدة تتجمع على محور إضعاف القيمة المعرفية. إذ يصبح الظن الناتج في الحصيلة النهائية عبارة عن ضرب مجموعة كبيرة من الظنون والاحتمالات الواردة، كالتي صورناها قبل قليل، مع أنه كلما ازداد عدد أطراف الضرب في المحتملات كلما تضاءلت قيمة النتيجة. ولا شك ان هذه الحصيلة لا تحدث - عادة - لدى الظنون الخبروية العقلائية، باعتبارها لا تمر بذلك الكم من التفريعات الاحتمالية التي يتوقف بعضها على البعض الآخر، فكثيراً ما يجري التعامل مع قضايا الواقع ضمن دلالات وبينات قابلة لمنح المزيد من الوضوح؛ طالما أنه يمكن النظر في هذه الدلالات والبينات بالتفصيل وبشكل مباشر أو شبه مباشر.

ثانياً: إن ظنون الاجتهاد الواقعي تتقبل المراجعة والفحص والتحقيق بدرجة أقوى كثيراً مما عليه ظنون الاجتهاد النصي. إذ من السهل معاودة الواقع ومراجعته عندما يمر بسلسلة من التغيرات والتغايرات. فكل تنويع جديد يعبر عن بيّنة ودلالة اضافية يمكن توظيفها في سلك الممارسة المعرفية، وبالتالي فإن لها أثراً على الحصيلة النهائية من العملية المعرفية. وهو أمر يختلف كلياً عما هو الحال بالنسبة للنظر في النص؛ لاتصافه بالمحدودية والثبات وعدم التغيير، وبالتالي فإن الخبرة المستمدة منه هي خبرة محدودة وثابتة، وان الدلالات المعطاة عنه هي دلالات لا تقبل الإضافة الجديدة باستثناء ما يمكن ان يستكشفه الباحث من جديد غير ملتفت إليه من قبل، وحتى في هذه الحالة فإن الغالب في الأمر يعود إلى فضل التأثر بحقائق الواقع في الكشف عن مضامين النص، كالذي يلاحظ في الاشارات المتعلقة بالعلوم الطبيعية والتي لم تُدرك في النص إلا بعد ان شاعت الاكتشافات العلمية الحديثة في الغرب. الأمر الذي يعني بأن الخبرة ومراجعة الواقع لهما دور في تصحيح الأفكار والرؤى؛ سواء المستمدة من الواقع ذاته، أو تلك المستنبطة من النص عبر الآليات البيانية. في حين ليس بوسع البيان الماهوي ان يقوم بمثل هذا الدور في المراجعة المعتمدة على النص.

وبعبارة أخرى، إن للواقع معلمين استكشافيين، في حين ليس للنص سوى معلم استكشافي واحد تتم فيه المراجعة والبحث. كما إن هناك مجالين يتم التأثير عليهما بحسب الاستكشاف الاول، في حين ليس للثاني سوى مجال واحد يمكن التأثير عليه. وتوضيح ذلك كالتالي:

لما كان النص ثابتاً ومحدوداً؛ فكل ما يرجى منه هو استكشاف الدلالات التي يتضمنها دون انتظار المزيد، حيث لا يوجد غيره. كذلك لما كانت دلالات النص المتعلقة بالكشف عن الواقع تتصف غالباً بالإشارات المجملة؛ لذا فإن أي مراجعة له لا تكشف عما هو جديد في الواقع عادة. وبالتالي فإن هناك معلماً استكشافياً واحداً لدى النص، كما إن المراجعة الاستكشافية البيانية لا يتعدى تأثيرها المعرفي - عادة - حدود النص ذاته. في حين إن للواقع معلمين استكشافيين، أحدهما يتعلق بالدلالات المعطاة للحوادث الناجزة أو الحاضرة أمامنا، والآخر ما يضاف إلى ذلك من دلالات استشرافية ضمن أفق الإنتظار الخاصة بالحوادث المستقبلية الجديدة، أو التاريخية التي لم يتم استكشافها بعد.

واذا ما قارنّا بين حروف النص وحوادث الواقع؛ سنلاحظ ان الأولى تتصف بالحصر والحضور الكامل، وبالتالي فانها قابلة للاستثمار المعرفي دفعة واحدة، كما إن مراجعتها لا تتعدى سوى النظر فيها دون انتظار إضافة حرفية جديدة. في حين إن حوادث الواقع ليست محصورة أمامنا بكاملها، فبعضها أصبح في عداد المعدوم وما زلنا نجهله ونطلب معرفته بصورة غير مباشرة، والبعض الآخر ننتظر قدومه، وبالتالي فإن الاستثمار المعرفي - في هذه الحالة - هو استثمار مضاعف مقارنة بما يحصل في حالة النص، وان المراجعة في حوادث الواقع تجري تارة باعادة النظر فيما سبق دراسته من غير إضافة معتمدة، واخرى فيما نستكشفه من عوالم تاريخية ومستقبلية تجعل مراجعتنا مستمرة ومؤثرة في أكثر من مجال، فهي تعمل على تغيير رؤانا فيما تم رصده من الواقع، كما إن لها تأثيراً على تغيير افكارنا المستنبطة من النص، بل وتغيير طريقة تعاملنا المعرفي معه.

هكذا يتضح ان لظنون الاجتهاد الواقعي وثوقاً وقابلية للمراجعة والفحص هي أعظم وأوسع من تلك العائدة إلى ظنون الاجتهاد النصي.

 

الشبهات المثارة حول المجمل

هناك بعض الشبهات يمكن ايرادها ضد منطق الفهم المجمل وجعل التفصيل قائماً على اعتبارات العقل والواقع والمقاصد، ومنها ما يلي:

1ـ من هذه الشبهات يمكن ان يقال إن منطق الفهم المجمل يتنافى مع بذل الوسع والجهد في الاجتهاد، وهو الاجتهاد المرهون ببحث النص وشروطه الداخلية والخارجية.

والجواب هو ان هذه الشبهة لا ترد فيما نحن بصدده، إذ لا ينكر لزوم بذل الجهد الكافي في الاجتهاد من حيث هو عمل معرفي يراد منه التحقيق، لكن ليس بالضرورة ان ينصب هذا الجهد حول النص ما لم يورث لنا القطع أو الإطمئنان، بل يتحول جهد الاجتهاد بالبحث في قضايا الواقع وعلاقته بالمقاصد ووجدان العقل.

2ـ ومن ذلك أيضاً ما ذكره الشاطبي من أن في الخطاب الديني نصاً صريحاً يفيد بأن معظم أحكام الشرع هي مبيّنة غير متشابهة، وكما يقول تعالى في آية المحكمات: ﴿هو الذي أنزل عليك الكتاب منه آيات محكمات هنّ أم الكتاب وأُخرُ متشابهات﴾[30]، إذ - كما يذكر الشاطبي - ان أم الشيء هو معظمه وعامته، وأن قوله تعالى ﴿هنّ أم الكتاب﴾ دال على أنها معظمه.

لكن الغريب بأن الشاطبي يذكر - إضافة إلى ذلك المعنى - معاني أخرى يجعلها كأنها مرادفة للمعنى الأول مع وجود الفارق بينها، إذ يذكر ان العرب تقول: (أم الدماغ) بمعنى الجلدة الحاوية للدماغ الجامعة لأجزائه ونواحيه. كما إن معنى الأم هو الأصل، وكل ذلك مما يراه الشاطبي راجعاً إلى المعنى الأول[31]، مع ان معنى الأصل ليس كمعنى المعظم ولا ان أحدهما لازم أو متضمن للآخر، وكذا يقال الشيء نفسه بخصوص معنى الجامع للأجزاء أو الحاوي لها، فهو أيضاً ليس بمعنى معظم الأجزاء، فجلدة الدماغ الحاوية لأجزائه ليست هي أغلب هذه الأجزاء ولا كلها، وهي إن اعتبرناها من أجزاء الدماغ فلا شك أنها لا تمثل سوى الشيء القليل منه.

3ـ وهناك شبهة أخرى كثيراً ما يلجأ إليها العلماء والفقهاء في بيان صدق طريقتهم من الفهم المفصل للنص، وذلك بأخذ اعتبار ما تدل عليه آيات إكمال الدين وبيان الشريعة وان كل شيء يمكن ايجاده في الكتاب أو السنة. الأمر الذي يناهض ما ذهبنا إليه من الفهم المجمل، فكيف يمكن التوفيق بين الأمرين؟ ثم ماذا نعمل بالتفاصيل الواردة في العبادات؟ وبعبارة أخرى؛ لو كان المتشابه في الدين كثيراً لكان الإلتباس والإشكال كبيراً، وهو ينافي كون القرآن بياناً وهدى للناس مثلما جاء في عدد من الآيات،  كقوله تعالى: ﴿وانزلنا اليك الذكر لتبيّن للناس ما نُزّل اليهم﴾[32]. إذ يرد الإشكال بأنه لولا ما في القرآن من البيان لما تمت وظيفته من إفهام الناس، ولكان ملتبساً محيراً وليس بياناً وهدى.

وقد يجاب على ذلك من جانب المعارضة، بالقول بأن دلالات ما ذكر من النصوص أو الآيات لم يتفق على فهمها المفسرون خلفاً عن سلف، وان الاختلاف بينهم هو اختلاف كبير، وبالتالي قد يقال إنها لهذا السبب ليست واضحة وصريحة، فالمتفق عليه واضح والمختلف فيه ليس بواضح، وذلك إذا ما أخذنا بنظر الإعتبار أن مثار الاختلاف هو التشابه الذاتي دون الرجوع إلى إفتراضات أخرى خارجية كالاعتبارات الآيديولوجية وما إليها.

نعم، قد يجاب على ذلك مثلما فعل الشاطبي بالقول بأن مسائل الخلاف وإن كثرت فهي ليست من المتشابهات، الا ما هو نادر، وعنده ان الأمر يعود إلى نظر المجتهد وما له من مخارج ومناطات، لا سيما وأن المجتهد لا تجب اصابته لما في نفس الأمر، بل عليه الاجتهاد بقدر وسعه، وبالتالي تختلف الأنظار بإختلاف القرائح والتبحر في علم الشريعة.

ويدل على ذلك ان كل عالم يرى علمه للشريعة واضحاً بلا تشابه ولا التباس سوى القليل والنادر. فما من مجتهد الا وهو مقر بوضوح أدلة الشرع وإن وقع الخلاف في مسائلها، ولو كان وقوع الخلاف في المسائل يستلزم تشابه الأدلة والنصوص لتشابه الأمر على أكثر الناس[33].

ومن حيث المبدأ قد يكون الخلاف بين العلماء مصدره التشابه في النص كالذي ذكرناه، كما قد يكون مصدره عوامل أخرى خارجية. وليس هناك معيار صارم يمكن تحكيمه في ترجيح أي من الفرضين. لكن لا بد من الأخذ بعين الاعتبار دور الوجدان العقلي في التحكيم وإفتراض كونه ذا سلطة متعالية على حجج المختلفين واعتباراتهم الذاتية فيما يحسبونه من الواضحات. إذ قد يكون الأمر واضحاً لدى شخص متأثر بالاعتبارات النفسية، مع أنه ليس بواضح منطقياً. فكما يلاحظ - مثلاً - ان المقلدين هم أكثر الناس إحساساً باليقين والوضوح، مع أن هذا الإحساس غير متحقق لدى العلماء ومراجع التقليد. وقد يحصل العكس، وهو ان يكون الأمر غير واضح لدى شخص، مع أنه جلي وواضح منطقياً، كالذي يلاحظ حول إدراك بعض القضايا المنطقية والرياضية.

على أن كثرة الخلاف في الرؤى حول قضية جزئية تعد علامة قوية بأنها متشابهة وليست بيّنة، سواء كانت بنظر المختلفين واضحة أو غير واضحة، كالذي يلاحظ في دوائر الخلاف الكبيرة بين العلماء.

مع هذا نقول من حيث الحل: إن الوضوح والبيان لا يتنافى مع اعتبارات المجمل، كما هو حال المجمل المبين على ما عرفنا سابقاً، حيث يتجلى في الكثير من النصوص، وبالتالي فليس ثمة تضاد بين المبين والمجمل، سواء كان المجمل من الصنف العارض أو الذاتي، رغم ان المتشابه حاضر هو الآخر مهما كان المبين بيناً. وهو موضع خلافنا مع مسلك الفهم المفصل. إذ نرى أن معالجته لا تصح من خلال التدقيق والاجتهاد في النصوص، بل يعامل طبقاً للرجوع إلى الحجج الثلاث المشار إليها سلفاً. فمثلاً جاء في قوله تعالى: ﴿قد خلت من قبلكم سنن فسيروا في الأرض فانظروا كيف كان عاقبة المكذبين، هذا بيان للناس وهدى وموعظة للمتقين﴾[34]. فتعبير النص بأنه بيان للناس وهو بصدد الحديث عن تلك السنن إنما هو تعبير بالمجمل عن هذه السنن، وان الآية تحث على النظر في الواقع والكشف عن تفاصيله.

وعلى شاكلة ما سبق قد يقال: كيف نوفق بين مسلك الفهم المجمل وما جاء في قوله تعالى: ﴿يا أيها الذين آمنوا اطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم، فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر، ذلك خير وأحسن تأويلاً﴾[35]؟ فهل الرد المذكور هو شيء آخر غير النص، كتاباً أو سنة؟!

ويبدو ان الآية بصدد ما يحصل من تنازع حول المصاديق الواقعية تبعاً لسياقها، ولا علاقة لها بفهم النص، والا أفضى الأمر إلى الدور، إذ يصبح المعنى أنه متى حصل التنازع والاختلاف في فهم النص فلا بد من الرجوع في ذلك إلى النص أو الكتاب والسنة، وهو ما يوقعنا في الدور. أما في عصر الرسالة الزاخر بالوضوح فإن رد المتنازع فيه إلى الرسول يعتبر أمراً بيناً ومطلوباً. لكن بعد غياب قرائن الوضوح مما تلى ذلك العصر الذهبي أصبح الرد في حد ذاته موضع تنازع، نظراً للإختلاف الحاصل في فهم النص، وذلك وفقاً للنهج المفصل. وبالتالي تصبح حالات الرد للقضايا المتنازع فيها سالبة بانتفاء الموضوع، على حد تعبير المنطقيين.

إذاً، لا مفر من اعتبار الرد في الآية هو من المجمل المبيّن، وذلك لما يتضمنه من عناصر بيّنة واخرى متشابهة، فالعناصر البينة هي تلك التي تحقق مفاد الرد إلى الله والرسول، أما المتشابهة فوضعها يختلف ولا تعالج بذات النسق الذي تعالج فيه القضايا الأولى. مع الأخذ بعين الاعتبار ان أهم العناصر البينة التي ينبغي الرد إليها هي تلك التي تتصف بالموجهات الكلية العامة؛ كاعتبارات دفع الضرر والحرج والمقاصد وغيرها مما تنفع في حل التنازع المشار إليه في الآية الكريمة.

وكذا قد يقال الشيء نفسه فيما يخص قوله تعالى: ﴿واذا جاءهم أمر من الأمن أو الخوف أذاعوا به ولو ردوه إلى الرسول والى أولي الأمر منهم لعلمه الذين يستنبطونه منهم﴾[36].

والملاحظ أنه لا علاقة للآية بمفهوم الاستنباط المطبق على النص، إنما مناطها يتعلق بالأمور الحربية والسياسية كما هو واضح من سياقها، مثلما أشار إلى ذلك رشيد رضا ناقداً العلماء الذين فسروا الاستنباط باصطلاحهم المستحدث[37].

4ـ كما قد يقال بأن العمل بالفهم المجمل لا يبقي من الدين شيئاً. فالدين من غير تفصيل هو بحكم العدم. فما معنى مثلاً اننا مكلفون اجمالاً لكن دون ان نعلم ماهيات هذا التكليف ولا حدوده؟ وما معنى اننا مطالبون مثلاً بالجهاد أو الصوم أو الصلاة وغير ذلك؛ مع اننا لا نعرف على وجه التفصيل كيف يتم ذلك ولا حدوده؟ وقد سبق لبعض العلماء ان منع التكليف بالمجمل وحكم بعدم الاحتياط بالنسبة لنا كغائبين[38]، كما ذهب جماعة من العلماء أنه لا يمكن التعويل - في هذه الحالة - على البراءة الأصلية لأنها ترفع جميع الأحكام الدينية تقريباً[39].

هذه هي أعظم شبهة يمكن أن تثار حول الفهم المجمل. وواقع الأمر أن هناك شبهة معاكسة ترد على مبنى الفهم المفصل. ذلك أن طبيعة هذا الفهم تبعث على كثرة الخلاف، إذ تتعدد الآراء المختلفة للمسألة الواحدة لتصل أحياناً إلى ما يقارب العشرة. فلو كانت لدينا مسألة طُرح فيها مثل هذا العدد المتضارب من الآراء، وكل منها يدعي إصابته لمراد الشرع أو يظن بذلك؛ لكان يعني أن تسعة أعشار هذه الآراء – على الأقل - هي ليست من الشريعة بشيء، ولتبين لنا من الناحية المنطقية اننا نراهن على الإصابة باحتمال قدره واحد من عشرة، وذلك على فرض أن أحدها يصيب الشرع، كالذي سبقت الإشارة إليه في (علم الطريقة).

وبالتالي فنحن أمام شبهتين متقابلتين، كلاهما يفتحان الباب أمام تعطيل الشريعة، إحداهما تعمل على تعطيلها بطريقة الاصطناع، أي أنها تصطنع شريعة وتتوهم صدقها، رغم ان احتمال كذبها وارد وكبير، لكثرة الخلاف وذهاب القرائن الدالة على الصحة. أما الأخرى فانها تعمل على تعطيلها من خلال إبعاد هذه الاحتمالات والابقاء على المعنى المشترك العام الذي يتصف بالمبين الصحيح، أو على المعنى المخصوص طبقاً للمجمل العارض.

مهما يكن فقد أفاد بعض القدماء ما هو شبيه بهذه الشبهة؛ حين اعتقد أن عدم التعويل على خبر الآحاد يفضي إلى نفي الشريعة[40]، باعتبار أن الأخيرة مستمدة – غالباً – من هذا الخبر الناقص الذي لا يبعث - عادة - على الإطمئنان لكثرة التباسه بالتشابه والمحتملات. وهذه هي من أبرز مشاكل الفكر الإسلامي التي لم تجد لها حلاً بعد. وفعلاً ان العمل بالمجمل لا يتسق مع التمسك بهذا الخبر ما لم يقترن بقرائن أخرى اضافية وكافية للوثوق. فما لم يتحقق الوثوق والإطمئنان بهذا الخبر فإنه لا عبرة للعمل به ولا حجية لوجوب الالتزام بمؤداه. ولا أظن ان هذا مما ينبغي الخلاف عليه. لذا أقرّ بعض العلماء كالشيخ الأنصاري من أن الدلالات الخاصة بحجية خبر الواحد لا تدل إلا على وجوب العمل بما يفيد الوثوق والإطمئنان بمؤداه، بحيث يكون احتمال مخالفته لواقع الحكم الإلهي بعيداً لا يعتني به العقلاء ولا يسبب لهم الحيرة والتردد. وأكثر من هذا إنه نفى أن يكون الاجماع والضرورة من الدين ثابتين في وجوب الرجوع إلى الأخبار التي لا تفيد القطع[41]. فكيف إذا ما كانت لا ترقى عند التحقيق إلى الوثوق والإطمئنان؟! بل على العكس فإن التعويل على الأخبار مع عدم الوثوق يبعث على اختلاق دين جديد مصطنع. وهذا في حد ذاته يؤكد عدم جواز ربط الدين بالظنون والترددات التي تطفح بها الروايات والأخبار[42].

كما عبّر العلماء قديماً عن كثرة الخلاف حول فتور الشريعة، فذكر الغزالي في (المنخول) بأن العلماء أجمعوا على جواز فتور الشريعة بالنسبة إلى من قبلنا خلافاً للكعبي، لأَجل قوله بوجوب مراعاة الأصلح على الله. أما بالنسبة إلى شريعتنا فمنهم من منع الفتور فيها، لأنها خاتمة الشرائع، إذ لو فترت لبقيت إلى يوم القيامة. ورجح الغزالي بأنه من الناحية العقلية لا مانع من أن يصيب الفتور شريعتنا ما أصاب قبلها من الشرائع، لا سيما وقد ورد في الحديث: (يأتي عليكم زمان يختلف رجلان في فريضة فلا يجدان من يقسم بينهما). لكن من حيث وقوع الفتور فعلى رأيه أن فيه تفصيلاً يغلب على الظن، وهو إن قامت القيامة على قرب فلا تفتر الشريعة، خلافاً لما لو إمتدت إلى خمسمائة سنة مثلاً، لأن الدواعي متوفرة على نقلها في الحال فلا تضعف إلا على التدرج، وإن تطاول الزمن فالغالب فتورها، ومن ثم ارتفاع التكليف. ونقد الغزالي ما ادعاه أبو اسحاق من أنه إذا فترت الشريعة فسيكلف الناس بالرجوع إلى محاسن العقول، إذ اعتبر كلامه لا يليق بالمذهب المتبنى، وهو المذهب الأشعري القائل بالتحسين والتقبيح الشرعيين[43]. هذا ما نقله الغزالي (المتوفى سنة 505هـ). وقد مرّ على الشريعة فترة طويلة يفترض أن يلحق بها الفتور كسائر الشرائع، وهو ذات ما عبّر عنه جماعة من علماء الشيعة بإنسداد باب الدليل والطريق، وهو حاصل فعلاً عند التعويل على منهج الفهم المفصل وما يعتريه من كثرة الخلاف والتعارض في مسائله، بخلاف الحال فيما لو اعتمدنا على منهج الفهم المجمل.

لذا نقول بأن من الخطأ اعتبار الفهم المجمل يفضي إلى تعطيل الشريعة أو فتورها. إذ يعترف هذا المنهج بالأحكام المبينة وهو يرى ديمومة بقاء الشريعة بكلياتها ومقاصدها، خلافاً لمنهج الفهم المفصل الذي اعتمد على المتشابهات المحتملة بلا دليل.

فقليل مضمون الصحة أفضل بما لا يقارن من كثير مشكوك فيه[44].

نعم طبقاً لما سبق تكون دائرة المبين في الدين دائرة ضيقة جداً. لكن في قبالها تصبح دائرة الاجتهاد بحسب مبادئ الفهم الديني، من الواقع والوجدان وهدي المقاصد، دائرة واسعة بلا حدود. فمثلاً يكفينا في التوحيد من الناحية الدينية الاعتراف بوحدانية الخالق وصفاته المقطوع بها، أما التفاصيل التي تخص طبيعة الذات والصفات والعلاقة بينهما فهي من القضايا المفصلة التي لا تعلم بالدين على وجه القطع، أي أنها من الأمور المتشابهة التي لا ينبغي اضفاء القداسة الدينية عليها. واذا كان من المحال ان يتوصل العقل إلى التفاصيل الخاصة بطبيعة الذات والصفات؛ فالأَولى الاحتفاظ بالمجمل دون ولوج ذلك العالم الغيبي. ويؤيد هذا أن النصوص القرآنية تحث على الإذعان للإله الواحد عبر التفكر في الخلق والنظر في الآيات الكونية، بمعنى أنها تكتفي بالمطالبة المجملة من التفكير والتأمل دون استخدام مقاييس الأدلة والصنعة، رغم أن هذه القضية هي أعظم قضية دينية وأبلغها تأثيراً.

أما فيما يتعلق بالمجملات الدينية التي لها علاقة بالواقع المباشر؛ فواضح أن التفصيل فيها يأتي عبر مبادئ الفهم الديني الآنفة الذكر دون عزو ذلك إلى حكم الله تعالى كما أسلفنا.

وعموماً نقول: بقدر ما تُضيّق دائرة الدين بقدر ما يُضمن الصواب، والعكس بالعكس. ويكفي ذلك من الفائدة ما لا تُقدّر بثمن..

 

الفهم المجمل والتعبدات

تظل هناك شبهة تواجه الفهم المجمل حول موقفه من التعبدات المفصلية، فهل يتم الرجوع فيها إلى الواقع والوجدان وهدي المقاصد، أم لها سبيل آخر مختلف؟

واقع الأمر أن للمجمل ثلاثة أنواع تخص العبادات كالتالي:

الأول: المجمل المتشابه، وذلك فيما لو كنّا في شك بنوع محدد من العبادة أو الحكم، ففي هذه الحالة لا يرى الوجدان العقلي لزوم الإتيان به طالما أنه يفتقر إلى البيان المجمل.

الثاني: المجمل المبين الذاتي، وذلك فيما لو كنّا نعلم على نحو الإجمال نوع العبادة المطلوبة، لكنها مترددة بين عدد من الأصناف التفصيلية، ففي هذه الحالة لا يرى الوجدان ضيراً في إتيان أي منها.

فمثلاً فيما يتعلق بالصلاة، نعلم بأنها مؤلفة من ركعات، إلا أن هناك اختلافاً في كيفية اتمام الركعة مع وجود الاختلاف في البسملة والسورة والاجهار والاخفات والتكتيف وما يسجد عليه، وكذا حول الوضوء وغيره. ومع أنه لا بد من العمل بحسب طريقة النظر والترجيح أو الاجتهاد داخل سقف النصوص قدر الإمكان، لعدم علاقة هذا الأمر بالواقع، لكن لا بد في الوقت ذاته من التسامح بشأنها إن لم تصل إلى مورد الإطمئنان. وكذا لا بد من التسامح مع الآراء الأخرى المخالفة، طالما أن العمل هو عمل اجتهادي، فضلاً عن كونه يتسق مع مقصد الشرع من توطيد حالة الأخاء بين المسلمين مهما ظهر بينهم من اختلاف الرأي[45]. وعلى ما يقوله رشيد رضا إنه عند اختلاف الأفهام لا يقتضي الشقاق، بل ينبغي النظر والترجيح بينها، وما كان ظني الدلالة فهو موكول إلى اجتهاد الأفراد في التعبدات والمحرمات، والى أولي الأمر في الأحكام القضائية[46].

الثالث: المجمل العارض، وذلك فيما لو طرأت بعض المستجدات التي تغير من موضوع الحكم وشروط الإتيان به تبعاً لتبدلات الظروف، فلا بد في مثل هذه الحالة من لحاظ المقاصد والإتيان بما يمكن إتيانه من العبادة، ولو على نحو المكافئ والنظير. فمثلاً كلنا يعلم عدد الصلوات اليومية وشروطها، وكذا صيام شهر رمضان وشروطه، لكن كيف يمكن تطبيق ذلك في بلاد تبلغ فيها ساعات النهار أو الليل عدداً طويلاً يفوق ساعات اليوم مثلاً؟ فهنا نرى ان مقاصد التشريع لا تسمح بالغاء أحكام الصيام والصلاة في مثل هذه الحالة؛ طالما كان بالإمكان أن نجتهد لتقدير الأوقات والساعات التي تقام فيها العبادات المشار إليها.

***

أخيراً ثمة قضايا تعترض الباحثين وذوي النزعات المذهبية المختلفة، ويمكن علاجها عبر منهج الفهم المجمل كالتالي:

1ـ قضايا مجملة مبينة لا خلاف حولها.

2ـ قضايا مجملة مبينة لدى البعض وغير مبينة لدى البعض الآخر.

3ـ قضايا مجملة متشابهة لدى الجميع.

4ـ قضايا مفصلة مختلف حولها.

والملاحظ في هذه الدوائر الأربع من القضايا؛ أن الدائرة الأولى هي محل الاتفاق التي ينبغي قبولها ما لم تتصادم مع وجدان العقل والواقع والمقاصد. وأن الدائرة الثانية هي محل الاختلاف حول القدر الذي يثبت كونها ترقى إلى المبين فعلاً أم لا؟ وبعبارة أخرى، إن منشأ الخلاف ينبغي أن يتحول مما هو خلاف حول التقرير فيما إذا كانت صحيحة أو لا؛ إلى خلاف دائر حول ما إذا كانت ترقى إلى المبين أم أن فيها من الشكوك ما يجعلها ليست بيّنة. ولعل أفضل مثال على ذلك مسألة الخلاف المتعلق بالنص على الإمامة، ذلك ان من المجدي ان تُبحث من زاوية غير تلك الزاوية التي ألِف المسلمون بحثها، انطلاقاً من التدقيق في مدى بيانيتها وتشابهها. فما هي القرائن الدالة على بيانيتها؟ كذلك ما هي القرائن الدالة على تشابهها؟ وأي القرائن أقوى وأوضح؟

أما حول الدائرتين الأخيرتين فإن معالجتهما مرهونة بعملية الاجتهاد عبر الواقع ووجدان العقل قدر الإمكان، وذلك فيما لو أن الإختلاف له مبرراته القوية وأنه لا يدور حول المسائل التعبدية التي لا علاقة لها بالاجتهاد المشار إليه. لكن تبقى القضايا التعبدية، ومختلف الأحكام، التي تدخل ضمن إطار المجمل المتشابه، هي مما ليس عليها إلزام وتكليف، طالما أنها مفتقرة للبيان المجمل أو المفصل.

وربما يشمل هذا الذي ذكرناه ما حكاه أبو جعفر النحاس عن قوم بأن الحرام ما أجمعوا عليه، وما اختلفوا فيه فليس بحرام. واستدرك النحاس على ذلك بقوله: هذا عظيم من القول يلزم منه القول بحل كل شيء اختلف في تحريمه ولو كان مستند الخلاف واهياً[47]. وهو حق وصحيح.

***

هكذا ننتهي أخيراً إلى ان أركان النظام الواقعي أربعة، هي:

1ـ الفهم المجمل للنص. 2ـ المقاصد الدينية العامة. 3ـ الوجدان العقلي. 4ـ الواقع.

واعتقد ان في هذا كفاية للمسلم مع ازالة الحرج عنه بكثرة التكاليف المصطنعة، سواء كانت فقهية أو عقدية، كالتي غرق فيها المتشرعة بظنونهم المفصلة.


[1]  انظر مثلاً: بداية المجتهد، ج1، ص15-18.

[2]  صحيح البخاري، حديث 847 وحديث 1831 وحديث 6813. وصحيح مسلم، حديث 252.

[3]  عبد الرحمن الكواكبي: أم القرى، الأعمال الكاملة للكواكبي، مركز دراسات الوحدة العربية، الطبعة الاولى، 1995م، ص326-327.

[4]  اعلام الموقعين، ج3، ص65 وما بعدها.

[5]  تحرير المرأة، مصدر سابق، ص404.

[6]  هنري بوانكاري: قيمة العلم، ترجمة الميلودي شغموم، دار التنوير، بيروت، الطبعة الاولى، 1982م، ص19.

[7]  آل عمران/ 105.

[8]  الروم/ 32.

[9]  الانعام/ 159.

[10]               المنار، ج4، ص49-50.

[11]               أم القرى، ص336. والكواكبي: طبائع الاستبداد، مصدر سابق، ص508.

[12]               صحيح البخاري، حديث 6859. وفتح الباري، ج13، ص226-227. وتهذيب الفروق، ج1، ص180.

[13]               جامع البيان، ج7، ص85. وتهذيب الفروق، ج1، ص179-180.

[14]               تهذيب الفروق، ج1، ص180.

[15]               صحيح البخاري، حديث 6858. وصحيح مسلم، حديث 1337. والمنار، ج5، ص218.

[16]               اعلام الموقعين، ج1، ص71. وجامع أحكام القرآن، ج6، ص333. وتهذيب الفروق، ج1، ص180. وانظر أيضاً: الاجتهاد والتقليد والاتباع والنظر، الفصل الأول.

[17]               المنار، ج5، ص196.

[18]               ابن حزم: الإحكام في أصول الأحكام، ج8، ص2ـ3، وج1، ص10. والمحلى، ج1، ص52.

[19]               الفيض الكاشاني: تسهيل السبيل بالحجة في انتخاب كشف المحجة لثمرة المهجة، تحقيق مؤسسة آل البيت لاحياء التراث ـ مؤسسة البحوث والتحقيقات الثقافية، طهران، الطبعة الاولى، 1407هـ، ص22ـ23.

[20]               المنار، ج5، ص219.

[21]               لاحظ بهذا الصدد: المنار، ج6، ص166.

[22]               محمد باقر الصدر: المعالم الجديدة للأصول، مكتبة النجاح، طهران، الطبعة الثانية، ص93-94.

[23]               لاحظ بهذا الصدد: الاجتهاد والتقليد والاتباع والنظر. كذلك: المنار، ج5، ص195-196.

[24]               الجامع للقرطبي، ج6، ص332.

[25]               للتفصيل انظر: القطيعة بين المثقف والفقيه.

[26]               يقول الكواكبي في هذا الصدد: ‹‹وا أسفاه على هذا الدين الحر الحكيم السهل السمح.. اتخذوه - أي الفقهاء - وسيلة لتفريق الكلمة وتقسيم الامة شيعاً.. فضيعوا مزاياه وحيروا أهله بالتفريع والتوسيع والتشديد والتشويش.. حتى جعلوه ديناً حرجاً يتوهم الناس فيه ان كل ما دوّنه المتفننون بين دفتي كتاب ينسب لاسم إسلامي هو من الدين، وبمقتضى ذلك ان لا يقوى على القيام بواجباته وآدابه ومزيداته الا من لا علاقة له بالحياة الدنيا، بل واصبحت حياة الإنسان الطويل العمر، العاطل عن كل عمل، لا تفي بتعلم ما هي الإسلامية عجزاً عن تمييز الصحيح من الباطل من تلك الآراء المتشعبة التي أطال أهلها فيها الجدال والمناظرة، وما افترقوا الا وكل منهم في موقفه الأول يظهر أنه الزم خصمه الحجة واسكته بالبرهان، والحقيقة إن كلاً منهم قد سكت تعباً وكلالاً من المشاغبة›› (طبائع الاستبداد، ص451).

[27]               الكواكبي: أم القرى، مصدر سابق، ص344.

[28]               الأعمال الكاملة للامام محمد عبده، حققها وقدم لها محمد عمارة، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت، الطبعة الثانية، 1980م، ج3، ص196.

[29]               انظر بهذا الصدد ما يقوله المفكر محمد باقرالصدر في: اقتصادنا، مصدر سابق، ص417ـ418. كما انظر التفاصيل في: مشكلة الحديث.

[30]               آل عمران/ 7.

[31]               الموافقات، ج3، ص86.

[32]               النحل/ 44.

[33]               الموافقات، ج3، ص94-95.

[34]               آل عمران/ 138ـ139.

[35]               النساء/ 59.

[36]               النساء/ 83.

[37]               المنار، ج5، ص299-301.

[38]               فرائد الأصول، ج2، ص451-452.

[39]               المصدر السابق، ج1، ص187 و207.

[40]               عدة الأصول، ج1، ص355. أيضاً: فرائد الأصول، ج1، ص187.

[41]               فرائد الأصول، ج1، ص174 و 173.

[42]               انظر تفاصيل ذلك في: مشكلة الحديث.

[43]               الغزالي: المنخول في تعليقات الأصول، تحقيق محمد حسن هيتو، دار الفكر، دمشق، 1400هـ، عن مكتبة المشكاة الإلكترونية، ص484ـ485. والبحر المحيط، مصدر سابق، فقرة 91.

[44]               ما سبق يذكّر بما قاله فولتير: ما هي العقيدة التي تتفق عليها جميع العقول؟ عبادة الله والاستقامة، فهناك دين كوني مؤسس في كل العصور وفي كل البشر، والنقطة التي يتفقون فيها جميعاً هي حقيقية لذلك، والنظريات التي يختلفون من خلالها هي خاطئة لذلك (فولتير: قاموس فولتير الفلسفي، ترجمة يوسف نبيل، مراجعة جلال الدين عز الدين علي، مؤسسة هنداوي، ص278).

[45]               من المنقولات ذات الدلالة المفيدة لهذا الغرض ما كان عليه النبي (ص) من تسامح إزاء مواقف عديدة للممارسات العبادية التي اختلف حولها الصحابة فهماً وممارسة. فمن ذلك قول النبي: ‹‹ألا لا يصلين أحد العصر إلا في بني قريظة››، ومثله ما جاء حول اختلاف عمر ومعاذ حول اتيان الصلاة عند الجنابة في السفر ولم يجدا ماءاً.. حيث لم يعنّف النبي أصحابه أو يستنكر عليهم أخطاءهم (انظر: فواتح الرحموت بشرح مسلم الثبوت، ج2، ص375. والبحر المحيط، فقرة 1714، ص224. والاعتبار في الناسخ والمنسوخ، ص61).

[46]               المنار، ج2، ص109.

[47]               فتح الباري، كتاب الأطعمة، فقرة 5256.

comments powered by Disqus