يحيى محمد
في الدين عموماً والاسلام خصوصاً نواجه علاقتين لمحورين مركزيين، سواء على صعيد خطاب الدين ذاته، او على صعيد المتلقي.. ويمكن اجمالهما بكل من علاقة الانسان بربه، وعلاقته بأخيه الانسان..
وتتمثل العلاقة الاولى بمحور الايمان بالله بما يحمل من مضامين تختلف عن تلك التي يقتصر فيها الانسان على الاعتقاد بان له خالقاً اوجده.. فالمفهوم الديني يختلف عن المفهوم الفلسفي والعلمي، اذ لا يستقيم الاول من دون علاقة روحية يتكثف فيها الاحساس بالعاطفة والخشوع والنشوة والحب والطمأنينة مع الايمان بالرعاية فضلاً عن الرغبة في الطاعة والتسليم.. فهي كعلاقة الطفل بأمه. وفي الاسلام تحديداً تتطلب هذه العلاقة ان تكون مباشرة بين العبد وربه من دون وسيط. وتتضمن ركيزتين، احداهما تعبر عن الاحساس الروحي في تعلق الانسان بخالقه؛ معترفاً بربوبيته وشاكراً لنعمه وراضياً بقضائه وقدره، وداعياً الى محبته ورضاه.. اما الثانية فهي ان تكون العلاقة مباشرة من دون شراكة ولا وساطة او شفاعة.
فهذا هو الهدف الذي جاء لأجله الاسلام، وهذا هو مبرر الصراع الذي خاضه ضد ما عبر عنه بالشرك. فليس في القرآن الكريم قضية استقطبت الاهتمام بمثل هذا المحور في علاقة الانسان بربه، حيث الايمان من جهة، والشرك من جهة ثانية.. فأحد المفهومين يقع في تضاد مع الاخر، فالشرك يخلو من المضامين التي يحملها الايمان كلاً او بعضاً. فرغم ان كليهما يتضمنان الاعتقاد بوجود خالق للكون؛ لكن الشرك يضيف آلهة آخرين كشركاء او وسطاء، سواء على مستوى الخلق والتنزيل، او على مستوى التقرب والشفاعة.
ويتضمن الشرك المحض خاصيتين معاً، اولاهما اعتقاد المشركين بوجود وسطاء او شركاء لا غنى عنهم في الخلق والتنزيل، والثانية اتخاذهم لما دون الله اولياء يُعبدون، أو ليقربوهم الى الله زلفى عبر الشفاعة والتوسّل والعبادة: ((وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى)) الزمر\ 3. ومعلوم ان كل من يجعل الالهة وسطاء لزوميين في الخلق يعتبرهم وسطاء في الشفاعة والعبادة والنذور وقضاء الحاجات، والعكس ليس ضرورياً.
وفي قبال ذلك يرد الايمان الخالص، حيث يتميز بعلاقته الروحية المباشرة مع الله. ويتضمن خاصيتين مختلفتين عن الشرك المحض، فهو يتأسس على الاعتقاد بالوحدانية الالهية في الخلق من دون شريك ولا وسيط لزومي، كما يجعل التضرع والعبادة والتقرب وقضاء الحاجات والدعاء كلها محصورة بالله وحده بلا وسطاء ولا شفعاء.
هكذا ان لكل من الشرك والايمان ركيزتين متكاملتين يعبران عن حجم وكثافة كل منهما. وهو المحور الاساس الذي صدح به الاسلام بما لا ينافسه محور آخر، كالذي تدل عليه أغلب الآيات القرآنية باطلاق.
لقد استهدف الاسلام تصحيح العلاقة الكائنة للانسان بربه، ولم يأتِ بثورة جذرية تطيح بهذه العلاقة رأساً على عقب. فهو لم يصادف كياناً ملحداً او جاحداً لأصل العلاقة، بل واجه مجتمعاً أضاف الى الله عدداً من الوسائط والشركاء في الخلق، وعلى الأقل انه مارس العبادة والتشفع بهم للتقرب اليه زلفى. فهم مؤمنون من وجه، ومشركون من وجه ثان.. مؤمنون بالله، لكنهم مشركون به عبر ما ابتدعوه من الوسائط الوثنية. لذلك اقتضى الاصلاح بالحفاظ على الوجه الاول مع انكار الثاني..
إن أي قراءة موضوعية للقرآن الكريم تجد أمامها هذه القضية واضحة تماماً.. فهناك دعوة للمجتمع الجاهلي للايمان بالله وحده من دون وسيط ولا شريك، وهناك دعوة لعبادته وحده، وهناك دعوة للتمسك بحبله دون الحبال الاخرى المتفرقة.. حتى النبي (ص) لم تكن له ميزة على بقية البشر سوى حمله للرسالة المقدسة.. فهو مخلوق كغيره من العباد، وهو يتعبد ويتضرع ويخشى غضب الله، وهو يستعين به لا بغيره، وهو لا يجد لنفسه نفعاً ولا ضراً من دونه.. فهو لا يختلف في كل ذلك عن سائر البشر..
لقد أتم الله هذه الرسالة بالبيان الشافي، وله الحجة البالغة، حيث تتكرر الدعوة بألوان وصور شتى نحو هدف مقصدي واحد هو الايمان بالله والتعلق به مباشرة من دون وسيط ولا شريك. وبذلك تحقق الهدف بانتشال المجتمع من عبادة الوسائط والاوثان الى عبادة الله وحده دون سواه، فزال كل لبس وتمت الحجة، فأي دعاء كان موجهاً اليه لا الى غيره. وهذا ما تميز به الاسلام عن عبادة المشركين. وقد أكد القرآن الكريم هذه الدعوة الخالصة في مئات وآلاف الآيات التي تتمحور حول استهداف هذا المطلب العظيم بأساليب شتى.. رغم ان المسلمين آلوا الى تجاوز الحد الذي طالب به القرآن الكريم، وبرز هذا التجاوز عندما انشغل المسلمون بالحديث وأخذوا يتّبعون ظنون الرواية ودعواتها المناقضة للقرآن.. وكان بامكانهم ان يعودوا الى الاصل لتدارك الخطأ والتعافي من عدوى الجاهية الاولى.
إن المناداة بـ (يا محمد) كما لدى اغلب اهل السنة، و(يا علي.. يا حسين.. يا زهراء.. يا مهدي) كما لدى الشيعة باستثناء القليل، كلها لا تنسجم مع الدعوة التي صدح بها القرآن الكريم.. فقد جاء قوله تعالى: ((قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَنَ أَيّاً مَا تَدْعُوا فَلَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى)) الاسراء\ 110.. ولم يأتِ بالقول: ادعوا فلاناً او علاناً من العباد.. وقال: ((ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ)) غافر\ 60.. ولم يقل: ان فلاناً قاضي الحاجات وصاحب الكرامات..
وبلا شك ان كل هذه الممارسات تمثل ارتداداً عن الدعوة التي جاء وحارب من اجلها الاسلام. مع انه ليس من الصعب على المسلمين ان يعودوا الى قراءة القرآن ثانية ليجدوا ضالتهم من دون لبس وفقاً للمنطقين الاستقرائي والاحصائي.. فالرسالة جاءت للهدف المذكور في اغلب ما تضمنته من آيات..
***
هذا هو المحور الاول الذي اكد عليه القرآن بشكل واضح لا لبس فيه. أما المحور الثاني المتمثل بعلاقة الانسان بالاخر فهو مكمل للسابق وان اعتراه الالتباس دون الوضوح الكافي. فالكثير من النصوص القرآنية تقرن العمل الصالح مع الايمان كطوق نجاة، بل وتوحي ان هذا العمل هو من لوازم الايمان، وذلك في قبال لوازم الشرك والكفر. ولبعض الآيات دلالة فيما نحن بصدده، مثل قوله تعالى: ((حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحاً فِيمَا تَرَكْتُ كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ)) المؤمنون\ 99ـ100. اذ اصبح العمل الصالح هدفاً مبتغى في قبال الكفر، وبالتالي فهو بمثابة الايمان.
ومع ان الايمان كان واضحاً بحسب ما افادته اغلب الايات الكريمة، لكن لوازمه المتمثلة بالقيم الاخلاقية او العمل الصالح لم تكن واضحة بسبب تعارض بعض النصوص.
إن العمل الصالح مرتبط بالسلوك ومرهون بالقيم الاخلاقية. وقد حدد القرآن الكريم موقفه المبدئي من كليات هذه القيم بشكل واضح لا لبس فيه. انما ظهر الالتباس في جزئيات القيم وتطبيقاتها دون الكليات. ففي النص القرآني ترد المطالبة بالعدل والاحسان والبر والمعروف والتعاون والتراحم والتكافل والعفو والرحمة والتقوى والصدق والاخلاص والاستقامة والموادعة وافشاء السلام وغيرها من القيم الاخلاقية. وفيه تكثر الاشارة الى ان الله ذاته متمسك بالقيم العليا، مثل تمسكه بعدم ظلم العباد ومحبته للعدل والاحسان وفعل الخير. لذلك فان تمسك الانسان بالقيم هو من لوازم الايمان شرعاً. وتعتبر القيم من هذه الناحية مستقلة بذاتها، وانها هدف يراد للتشريع الديني ان يتوسل اليها ويمتثل لها.
لقد ظهر الالتباس في القيم الجزئية للاخلاق نتيجة جدل الخطاب الديني مع واقع التنزيل، فبدت بعض النصوص منافية لهذه القيم. ومع اخذ اعتبار ما عليه ملابسات واقع التنزيل يزول هذا الالتباس.
وحقيقة الحال ان هناك عدداً من العوامل أدت الى ظاهرة التباس القيم الاخلاقية في ذهن المسلم، منها التمسك بالنص الديني المجرد دون ربطه بواقع التنزيل، ومنها اعتبار النص حاكماً على القيم دون العكس، كالذي روّج اليه الاشاعرة والفقهاء، وهو ما جعلهم يستسيغون الخروقات والافعال الشائنة بدعوى انها منصوصة بالشرع او مستندة اليه عبر ادوات الاجتهاد المختلفة، او لأن ذلك يخضع لمشيئة الله في خلقه وملكه كما يرى الاشاعرة، وهو يفعل ما يشاء، ولا يُسأل عما يفعل وهم يُسألون. وحتى الذين قالوا باستقلالية القيم الاخلاقية وان الشرع ممض لها؛ نجد كلامهم متأثراً بالمقالات الكلامية المجردة دون ان يرقى الى الواقع الفعلي، لذلك كثيراً ما يتم خرق هذه القيم عبر النتائج الفقهية الهشة لقيامها على الرواية..
هذه هي الفجوة العميقة التي ترسخت لدى ذهن المسلم منذ بزوغ العلوم الاسلامية وحتى يومنا هذا. فما زلنا نشهدها في تعاملات المسلمين فيما بينهم او مع الاخرين من غير المسلمين، واصبحت مشاهدها المختلّة عادية لا يرمش لها جفن او يهزّ لها ضمير.. فلم تعد القيم الاخلاقية حاضرة لدى المتدين، بل ما يحضر هو النص الديني او سيرة السلف او المرجع والشيخ الفلاني او الفتوى الفلانية.. حتى حركات المقاومة الاسلامية رغم مشروعيتها وهدفها السامي الا انها لم تتحرر من هذه الفجوة بجعل ممارساتها محتكمة الى الضمير الاخلاقي، حيث التمييز بين ما يجوز أخلاقياً وما لا يجوز، تمسكاً بالفطرة وهدي الحس الوجداني.
وبناءً على ما سبق ان التعامل مع الثغرة المشار اليها يحتاج الى أداتي كل من الواقع والعقل، فهما أداتان مستبعدتان لدى مناهج الفهم الديني كما يمارسها المسلمون. فالواقع للتفسير، والعقل للتأسيس. فبفعل الأول يمكن رفع التعارضات الدينية عبر ربط مفاصل النص بوقائع التنزيل. أما بفعل الثاني فمن الحري تأسيس القيم الاخلاقية تبعاً للفطرة البشرية، وجعل النص الديني محكوماً بها لا حاكماً عليها، وان اي تجاوز لهذه القيم يعني تجاوزاً للعقل ذاته، فكما لا يصح تجاوز العقل النظري عندما يكشف عن الحقائق التي لا شك فيها، فكذا هو حال العقل العملي..