يحيى محمد
لقد ادعى الفيلسوف الالماني عمانوئيل كانت بأن أدلة الفلاسفة التي تحوم حول اثبات وجود الخالق لا تتجاوز الثلاثة، بل ولا يمكن ان يُؤتى بأدلة أخرى غيرها، وهي الدليل الانطولوجي (الوجودي) والكسمولوجي (الكوني) واللاهوتي، واعتبرها جميعاً غير ناهضة، وانها لا تتجاوز الدليل الانطولوجي المتضمن لفكرة الكائن الأسمى. اذ يتأسس الدليل اللاهوتي على الكسمولوجي، وهذا بدوره يتأسس على الدليل الانطولوجي الديكارتي، وليس هناك طريق آخر. ما يعني ان الأخير هو الوحيد الممكن لاثبات الكائن الأسمى؛ إن كان هناك دليل معتبر، فهو دليل مجرد عن الواقع ولا يتجاوز الذات المفكرة، كالذي استعان به ديكارت. وبالتالي فالأدلة ناقصة[1].
والفارق بين هذه الأدلة هو ان الدليل الانطولوجي ينفرد في تجرده عن التجربة الخارجية كلياً، فيما الدليل الكسمولوجي يعتمد على التجربة العامة من دون تخصيص وتعيين، أما الدليل اللاهوتي فهو يستعين بالتجارب الحسية المتعينة.
ويعتبر الدليل الانطولوجي العمدة في الموضوع لدى (كانت)، ويمتاز بأنه يستدل قبلياً بمفاهيم مجردة ذاتية على وجود علة أسمى. وقد يكون من الأولى ان يسمى بالدليل الذاتي لا الانطولوجي أو الوجودي.
وبحسب بعض الباحثين إن للدليل الانطولوجي تاريخاً قديماً تصل جذوره إلى ما قبل أرسطو، كما يلاحظ لدى نصوص بارمنيدس، فقد رأى هذا الفيلسوف ان الأصل في الأشياء هو وجود كائن لا نهائي وغير مخلوق، فهو وجود خالص بسيط ومطلق مليء بالوجود. واستدل على ذلك بأن هذا الكائن إما ان يكون كاملاً أو ان لا يكون موجوداً على الاطلاق[2]. وكثيراً ما كان القدماء يعتبرون الكائن الضروري لا بد ان يتصف بالكمال مقارنة بغيره، وهم يستدلون عليه بالأمر الوجودي لا الذاتي. وعادة ما يتخذ الاستدلال طريقة التدرج من المعلول إلى العلة، كالنهج المتبع لدى افلاطون وأرسطو وأتباعهما، ومن ذلك ترتيبهم للوجود ضمن مراتب هرمية لا بد ان تنتهي إلى أقصى صور الكمال؛ وفقاً لقاعدة الإمكان الأشرف كما أدلى بها أرسطو. ويعود الفضل في هذا الترتيب إلى منطق السنخية كأصل مولد للتفكير الفلسفي[3].
ومن حيث الدقة – وكما هو معروف - إن أول من صاغ الدليل الانطولوجي صياغة واضحة هو القديس انسليم خلال القرن الحادي عشر الميلادي، فقد أفاد بأن إسم الله هو ذلك الذي لا يمكن التفكير في شيء آخر أكبر منه، فوجود الله ضروري ولا يمكن ان يكون عرضياً. ولا يعتبر هذا الوجود الحقيقي الذي لا يمكن التفكير في شيء آخر أكبر منه مجرد فكرة، بل وجود موضوعي حقيقي ليس هناك ما يمكن ان يكون أعظم منه. فالوجود الالهي مختلف عن وجود غيره في كونه يحمل الكمال، اذ يمكن للغير ان يوجد أو لا يوجد، في حين لا يمكن ان يكون هذا الوجود غير تام وخالص من دون عدم مطلقاً، فهو أعظم وجود متحقق على الاطلاق[4]. وهو ما يعني ان العقل يفرض ان يكون اكمل الأشياء هو سبب وجودها قاطبة.
وفي الأساس ان انسليم أقام بحثه من خلال خطاب وجّهه إلى جاهل مفترض؛ معتبراً ان قضية الكائن الذي لا يمكن تصور أي شيء أكبر منه هي فكرة توجد على الأقل في ذهن الجاهل، وعليه أحال جواز ان تكون هذه الفكرة في الذهن من دون ان يكون لها واقع موضوعي. وهذا هو جوهر الدليل الانطولوجي. وقد برز لانسليم أول خصم راهب يدعى غونيلون، اذ وضع كتاباً بعنوان (الدفاع عن الجاهل). فالجاهل هو ذلك الشخص المفترض الذي سبق لانسليم ان خاطبه[5]. فهو تعبير عن ذات الانسان الخالية من المعارف المكتسبة.
لقد تعرض الدليل الانطولوجي منذ ان ظهر على يد انسليم وحتى يومنا هذا إلى الكثير من الهجوم والدفاع والتأويل، كالذي استعرضه الباحث جوزيف سايفرت في كتابه (الله كبرهان على وجود الله). وكان أول من هاجمه من الفلاسفة هو معاصر انسليم مونك جاونيلو (Monk Gaunilo). وظهرت خلال هذه الفترة الطويلة صياغات مختلفة حوله، أشهرها صياغة ديكارت التي عرف الدليل باسمه، ومثل ذلك صياغة لايبتنز وهيجل وغيرهما.
وبحسب الصيغة الديكارتية فان لهذا الدليل مبرراً فطرياً يتعلق بكون الله جعل فينا فكرة الجوهر اللامتناهي ليمكن من خلالها اثبات وجوده، اذ تستند العلاقة بين هذه الفكرة ووجود الله الحقيقي إلى العلية والسنخية. فديكارت وغيره من العقليين اعتبروا فكرة الكمال اللامتناهي للأصل الضروري هي فكرة متجذرة في الذهن البشري دون ان يكون لها أساس حسي وتجريبي، لذا كان من الطبيعي ان يستنتجوا بأنها صادرة عن حقيقة موضوعية تمثل ذات الإله المتعال، وإلا كيف نفسّر وجودها الفطري في العقل البشري؟!
فكما رأى هذا الفيلسوف انه اذا كانت فكرة الجوهر اللامتناهي موجودة فينا[6]، ونحن جواهر متناهية، فمن الضروري ان يكون مصدر هذه الفكرة حقيقة موضوعية لشيء غير متناه هو الذي وضع الفكرة فينا. ففي الجوهر اللامتناهي وجود أكثر مما في الجوهر المتناهي، وبالتالي لا يفسر هذا الحال إلا الواقع الموضوعي للحقيقة الإلهية، مشيراً إلى ان هذه الفكرة تسبق في أذهاننا لفكرة المتناهي، أي ان الله سابق لذواتنا، وإلا كيف نعرف اننا نشك ونرغب، أو اننا أشياء ناقصة لو لم يكن لدينا فكرة عن كائن هو أكمل من كياننا نعلم بالقياس عليه ما في طبيعتنا من عيوب؟ وعليه انتهى هذا الفيلسوف إلى ان فكرة الله الكامل هي فكرة واضحة جداً وتتضمن من الوجود الواقعي أكثر من أي فكرة أخرى، وبالتالي لا يوجد اصدق منها[7].
لقد نحا ديكارت نحواً افلاطونياً لتبرير اعتقاده بالله، بل واستعان بالعلية والسنخية لاثبات الوجود الالهي، معتبراً الذات البشرية جوهراً حاملاً لفكرة الكمالات، لذلك لا بد ان يكون لها أصل من الشاكلة نفسها كما يتمثل بالحقيقة الإلهية الكاملة[8].
إن أبرز نقطة اختلف حولها المهاجمون والمدافعون عن الدليل الانطولوجي تتعلق فيما اذا كانت مقدمة الدليل ذاتية تعريفية أم انها موضوعية وجودية، بمعنى هل انطلق هذا الدليل من التعريف الذاتي، أم من الوجود الموضوعي؟ فالمهاجمون يعترضون عليه بكونه يبتدئ بمقدمة تعريفية ذاتية ليقفز منها إلى نتيجة موضوعية، كما هو واضح من الدليل وكما تدل عليه الصياغة الديكارتية. فيما رأى المدافعون بأن عرض المهاجمين للدليل لم يكن صائباً لسوء الفهم، ومن ذلك الطريقة التي اتبعها كانت في تصويره له، حيث ظن بأن المقدمة تبدأ من التعريف الذاتي، فيما تتصف النتيجة بالموضوعية الوجودية[9]. في حين ان الدليل بنظر المدافعين ينطلق من مقدمة وجودية وليست ذاتية كما يظن المهاجمون، ولعل المقصود بذلك هو اعتبار الفكرة الإلهية فطرية كما ينادي بها ديكارت، وكما يبدو من طريقة انسليم، وبالتالي جاز ان تتأسس عليها قضية وجودية أخرى.
لقد نقد (كانت) التصور الديكارتي للدليل معتبراً ان الكائن الكامل الذي نتصوره لا يجعل منه بالضرورة واقعاً حقيقياً[10]. ويمكن التمثيل على ذلك بالضرورة المنطقية للرياضة، فهي وإن كانت صحيحة عقلاً ومنطقاً وفقاً لافتراضاتها القبلية، لكن الواقع شيء آخر مختلف، فضرورة الأحكام في المثلث المستوي مثلاً لا تبرر وجوده في الواقع بالضرورة. وكان الفلاسفة القدماء يتصورون ان للأفلاك السماوية حركة دائرية تامة لاعتبارات الكمال في الدائرة مقارنة بغيرها من الأشكال الهندسية، وبالتالي عكسوا ما تصوروه ذهنياً على الواقع الموضوعي، مع انه تبين منذ النهضة العلمية الحديثة ان هذا التصور خاطئ. كما كان العالم الفلكي الشهير كبلر متردداً في هذا الأمر نتيجة تأثره بالفلسفة القديمة واعتباراتها العقلية، حتى أنه كان يرى بأن للكواكب عقول مدركة كما هو اعتقاد الفلاسفة القدماء.
ومن الجدير بالذكر انه سبق لعدد من الفلاسفة المسلمين ان طرحوا برهاناً على الوجود الالهي لا يختلف عن الدليل الانطولوجي في كونه يتبع بعض التعريفات الخاصة، وإن كانوا لم يعولوا على القفزة الذاتية للصفات الإلهية كما في الدليل المذكور. فقد استدلوا على وجود الله وكماله من خلال مفهوم الوجود ذاته من دون ان يدعوا حضور الفكرة الفطرية للكمال الالهي كما تضمنها الدليل الانطولوجي. ففي هذا البرهان لا يحتاج الأمر أكثر من تأمل نفس الوجود كمقدمة تعريفية ليصل الحال إلى البرهنة على وجود الله، لذلك كان مبجلاً وأحياناً يعتبر هو الوحيد الوافي دون غيره من الأدلة. وقد أشار إليه ابن سينا في (الاشارات والتنبيهات)، وكما قال: ‹‹تأمل كيف لم يحتج بياننا لثبوت الأول ووحدانيته وبراءته عن السمات إلى تأمل لغير نفس الوجود، ولم يحتج إلى إعتبار من خلقه وفعله.. فشهد به الوجود من حيث هو وجود، وهو يشهد بعد ذلك على سائر ما بعده من وجود.. أقول إن هذا حكم للصديقين الذين يستشهدون به لا عليه››[11].
كذلك اعتمد صدر المتألهين على هذا المنحى التعريفي، وكما ذكر في رسالة (المشاعر) بأن الوجود هو صرف مجرد من غير مشوبة حد أو نهاية أو نقص أو عموم أو خصوص، وهو المسمى بواجب الوجود، فلو لم يكن مثل هذا الوجود موجوداً لما كان هناك شيء موجود، وبه لا يحتاج إلى الاستدلال على نفي التسلسل[12]. وهو دليل يواجه بعض الاعتراضات كالتي ذكرناها في (الفلسفة والعرفان والاشكاليات الدينية). ويمكن ان يوظف بشكل أكثر اتساقاً مع مذاق الصوفية التي تستغني عن الاستدلال على واجب الوجود؛ لبداهة كون الواقع شاهداً على الوجود، وهو عين الحق تعالى، فيثبت لها وجوده وتوحيده ونفي الحلول والاتحاد به مع الغير، إذ لا يوجد غيره ديّار. فهذه الحجة أولى من قول الفلاسفة الآنف الذكر؛ لعدم حاجتها إلى أكثر من كون شيء ما موجوداً، بلا اضطرار لافتراض وجود مراتب الكمال وتحديد هوية الواجب بالمرتبة الأولى وما يفضي إليه من الحاجة إلى دليل نفي التسلسل.
هذا ما يتعلق بالدليل الانطولوجي، أما الدليل الكسمولوجي فهو ذاته دليل الحدوث كما صوره لايبتنز، وهو دليل قائم على السببية الوجودية، حيث الحادث دال على محدث كما سبق للكثير من الفلاسفة ان قالوا به. وفحوى هذا الدليل هو انه يعتمد على وجود شيء ما لا على التعيين، كوجودي أنا مثلاً، فإذا كان شيء ما موجوداً فان ذلك سيفضي إلى وجود كائن ضروري ضرورة مطلقة، اعتماداً على السببية وامتناع التسلسل. وهو الدليل المسمى ببرهان الإمكان والوجوب، وقد أشار إليه الفلاسفة واللاهوتيون ضمن الأدلة المختصة بالمسألة الإلهية، ومن ذلك ما استعرضه القديس توما الاكويني في (الخلاصة اللاهوتية)، حيث أحصى خمسة أدلة مختلفة من بينها هذا الدليل، ومثله الدليل الانطولوجي واللاهوتي الطبيعي[13]. وسبق لإبن سينا ان حرر هذا الدليل في (النجاة) بالشكل التالي: ‹‹إن ههنا وجوداً، وكل وجود إما واجب وإما ممكن، فإن كان واجباً فقد صح وجود الواجب وهو المطلوب، وإن كان ممكناً فإنا نوضح ان الممكن ينتهي بدوره إلى واجب الوجود..››[14].
وبنظر (كانت) ينطوي الدليل الكسمولوجي على الدليل الانطولوجي، اذ يفترض كائناً يمتلك الواقع الأسمى، وهو المتصف بالضرورة المطلقة غير المشروطة، أي انه يحول الضرورة المطلقة مما هي ذاتية إلى وجود موضوعي، فهذه الضرورة هي وجود مشتق من مفاهيم صرفة، وبالتالي فكل القوة التدليلية لهذا الدليل والتجربة التي يستنجد بها انما لايصالنا إلى مفهوم الضرورة المطلقة، وهو مفهوم قبلي يستحيل اثبات ان له وجوداً موضوعياً. اذ يقرر هذا الدليل القضية التالية: ‹‹كل كائن ضروري ضرورة مطلقة هو معاً أكثر الكائنات واقعية››[15].
فبحسب (كانت) ان ‹‹مفهوم كائن ضروري ضرورة مطلقة هو مفهوم عقلي محض، أي مجرد فكرة ما يزال واقعها الموضوعي بعيداً عن ان تدلل عليه مجرد حاجة العقل اليها، وهي لا تفعل سوى ان تحيلنا إلى كمال لا ينال، وتصلح بصحيح العبارة لحد الفاهمة أكثر مما تصلح لتوسيعها إلى موضوعات جديدة››[16].
يبقى الدليل اللاهوتي، وهو ذاته دليل النظام والعناية أو الغائية، ويتصف بأنه ينطلق من التجارب المتعينة ومن القوام الخاص لعالمنا الحسي، ومن ثم يرتفع – كالدليل الكسمولوجي - عبر قوانين السببية إلى العلة الأسمى خارج العالم. وقد احترم (كانت) هذا الدليل لكنه عرّضه كغيره من الأدلة للنقد كما سنرى.
شكلان مختلفان للنقد
لقد اتخذ نقد (كانت) للأدلة السابقة شكلين مختلفين، أحدهما اختص بالدليل الانطولوجي، فيما تعلق الثاني بالأدلة عموماً. فهو من جانب اعترض على القفزة غير المشروعة لفكرة الإله من التصور الذاتي إلى الوجود الخارجي، كالتي امتازت بها صياغة ديكارت الانطولوجية. لكنه من جانب ثان اعتبر سائر الأدلة تخفي العناصر الذاتية لفكرة الكائن الأسمى الضروري، لذا اتهمها بأنها تعمل على اسقاط العناصر الذاتية على الوجود الموضوعي كما في فكرة الضرورة اللامشروطة، ومن ثم فان هذه الأدلة لا تختلف عن الدليل الانطولوجي في كونها تحمل ذات المضمون القبلي المتعلق بفكرة الكائن الأسمى.
ومن وجهة نظرنا ان هناك تمايزاً بين صياغة الدليل الانطولوجي وسائر الأدلة، فالصياغة الأولى تدعي ان هناك فكرة لكائن حقيقي كامل، فيما سائر الأدلة لا تدعي هذا الاستنساخ، بل انها لا تحمل فكرة قبلية عن أي كائن مشخص، انما تستند إلى افكار تتعلق بالحصر العقلي لمفاهيم مجردة حاضرة في الذهن مثل فكرتي الممكن والواجب، فالعقل يدرك ان هناك حصراً عقلياً للموجود، فهو إما ان يكون ممكناً وإما واجباً للوجود. وبالتالي فان هذه الأدلة تفضي إلى ان يكون هناك واجب للوجود تبعاً للحصر العقلي. فالعقل بالنتيجة لا يخرج عن هذه الثنائية، وترى في الوقت ذاته ان الدليل ينتهي إلى فكرة واجب الوجود أو الكائن الضروري استناداً إلى السببية فضلاً عن امتناع التسلسل الذي تحاول ان تستدل عليه بأدلة عقلية مستقلة. وهي ترتب على ذلك ضرورة ان يكون الواجب كاملاً لكمال العلة مقارنة بالمعلول.
وكل ذلك لا يجعل من هذه الأدلة تقوم بذات الدور الذي يمارسه المبدأ الديكارتي أو سائر صيغ الدليل الانطولوجي في القفز من الذات إلى الوجود، بغض النظر عن قيمة هذه المحاولات إن كانت صائبة أو خاطئة.
وبعبارة أخرى، لم يعر (كانت) اهتماماً للفارق بين الدليل الانطولوجي والدليلين الآخرين، فالأول يتضمن نوعاً من المسانخة بين ما في الذات من فكرة الكائن الأسمى والوجود الموضوعي، فيما الدليلان الآخران لا يدعيان وجود هذه الفكرة فطرياً كما يصوره الدليل الانطولوجي. فكل ما يؤكدان عليه هو وجود مبادئ عقلية هي التي يستعان بها في اثبات الكائن الأسمى من خلال تطبيقها على التجربة؛ سواء كانت متعينة أو غير متعينة.
وبهذا المعنى فان الدليلين الأخيرين لا ينضويان تحت الدليل الانطولوجي الديكارتي. فليس من الصحيح مؤاخذة الدليل الكسمولوجي – ومثله اللاهوتي - بجريرة الدليل الأول وتصويره بأنه يصل إلى مفهوم عقلي محض هو مفهوم الكائن الضروري. فالأخير لا يعتبر لدى هذا الدليل مفهوماً عقلياً ليسقطه على الواقع الموضوعي كما يفعل الدليل الانطولوجي، بل هو نتيجة موضوعية مستدل عليها بفعل المبادئ العقلية، كالسببية وامتناع التسلسل.
هكذا ليس جميع أدلة وجود الله أدلة ديكارتية أو انطولوجية كما يحلو لهذا الفيلسوف ان يختزلها من خلال اسقاط منظومته عليها. فقد اعتبر القضايا العقلية مجرد روابط تنظيمية دون ان يكون لها دور استكشافي. فاذا كان الاستكشاف ممتنعاً على القضايا العقلية في المجال الطبيعي، فكيف يمكن ان يفسح له المجال فيما هو خارج نطاق الحس والطبيعة؟!
لقد أسقط (كانت) نظريته الضيقة على جميع الأدلة التي قدمها الفلاسفة حول وجود الله، مما جعلها عرضة للجدل بين من يتبنى النظرية الكانتية ومن لا يتبناها. فالعقل لا يمتلك صفة الاستكشاف الموضوعي، بل كل ما يمكن فعله هو الربط والتنظيم. واذا كانت الفاهمة مهيئة لربط وتنظيم الأمور الحسية؛ فان العقل مهيء مثلها لربط القضايا المجردة المتعالية. لذلك اعتبر ان فكرة الكائن الأسمى هي مبدأ تنظيمي للعقل فحسب، اذ يقوم بربط ما في العالم كما لو كان صادراً عن علة ضرورية كافية للتفسير. وعليه رأى ان من المسموح به ان نسلّم بوجود هذا الكائن كعلة أولى للمسببات الممكنة؛ بغية اشباع رغبة العقل في ان يعثر على وحدة لمبادئ التفسير التي يبحث عنها. لكن القول بضرورة وجود كائن أسمى هو شيء آخر مختلف، وهو فرض غير مسموح به مطلقاً[17].
وبلا شك ان المبادئ التنظيمية الصرفة للعقل البشري كما صورها (كانت) تكفي لاغلاق الباب على كل الأدلة المتعلقة بالمسألة الإلهية وما شكالها من المسائل الميتافيزيقية الأخرى، وذلك من دون حاجة للتفاصيل التي أبرزها هذا الفيلسوف بلا طائل. فقد يكفي اعتبار كل الأدلة لا تجاوز الدليل الواحد، وهو الدليل الذاتي الصرف، أو ما سُمّي بالدليل الانطولوجي الديكارتي، والذي لا يغني ولا يشبع من جوع. فالمبادئ التنظيمية في العقل بحسب (كانت) ليست مخولة للكشف عن الواقع الموضوعي. ولكي يجد لفلسفته المغلقة مبرراً مستساغاً حاول ان يثبت بأن خلافها يفضي إلى التناقض الصريح.
فقد ذكر بأن الحدوث والضرورة المطلقة غير المشروطة كلاهما يشكلان مبدأين رابطين للعقل، لكنهما غير مهيئين لتحويل الافكار غير الحسية إلى قضايا وجودية، فاحدهما يناقض الآخر، لذا اعتبرهما فكرتين ذاتيتين فحسب. فلو تعلقا بالأشياء لكان هناك تناقض صارخ، فاحدهما يدعو إلى التوقف عند حد نهائي مطلق غير مشروط، فيما يدعو الآخر إلى الاستمرار في الحدوث المشروط بلا توقف. وبعبارة ثانية، ان أحدهما يدعو العقل إلى ان يدفعنا إلى البحث عن شيء ضروري لما هو معطى بوصفه موجوداً دون الاستمرار بلا حد نهائي. أما الآخر فعلى العكس يمنعنا ان نتوقف عند حد معين غير مشروط. فهذا التناقض يحتم عليهما ان يكونا صالحين للتنظيم فحسب، فهما لا يتعلقان بالأشياء، بل بالغرض الصوري للعقل فحسب، طالما ان أحدهما يدعو إلى شيء والآخر إلى نقيضه[18]. وهو ما يعني ان من المستحيل اثبات الضرورة المطلقة غير المشروطة في الوجود.
على ان من السهل ان يتبين ضعف هذه الفلسفة وهزالتها، فيكفي ان نعرف بأن تسلسل الحدوث ليس ضداً ولا نقيضاً للضرورة المطلقة غير المشروطة كما تتمثل بالكائن الضروري. اذ قد يجتمعان مع بعض كما هو رأي الفلاسفة القدماء وبعض اللاهوتيين من امثال ابن تيمية[19]. بمعنى ان من الممكن ان تكون الحوادث متسلسلة من دون ان يكون لها بداية محددة، ومع ذلك فانها مربوطة باصل ضروري يمثل علتها الأولى الازلية. لذلك كان الفلاسفة يفرقون بين تسلسل العلل الذاتية والعرضية، فالأول ممتنع، فيما الثاني واجب لديهم[20]. بل ان (كانت) ذاته لم يمانع في سياق آخر خارج استدلاله السابق من افتراض وجود علة أولى رغم حدوث السلسلة اللامحدود. وهو يناقض ما سعى إليه آنفاً[21].
والغرض من هذا النقد هو ان العقل أوسع من ان يتضمن مبدأين يبدو عليهما التعارض، فهو يمتلك افكاراً مختلفة بغض النظر عن قيمتها المعرفية، ويمكن ادراجها في أربع كالتالي:
1ـ فكرة وجود حوادث لا نهائية مع أصل ضروري لها، كما هو اعتقاد الفلاسفة القدماء.
2ـ فكرة وجود حوادث منقطعة مع أصل ضروري لها، كما هو اعتقاد اللاهوتيين من اصحاب الديانات السماوية.
3ـ فكرة وجود حوادث وعلل ذاتية لا نهائية من دون أصل ضروري.
4ـ فكرة وجود حوادث منقطعة لا أصل لها. وهي فكرة تتضارب مع مبدأ السببية العامة. وهناك من يحتملها لدى بعض الأوساط العلمية.
ومن وجهة نظر (كانت) فان العقل لا يحتضن سوى فكرتين فحسب، هما الثانية والثالثة المشار اليهما اعلاه. مع انه قد يكون من الصعب ان نجد من يعتقد بالفكرة الثالثة خلافاً للثانية، بمعنى ان الحدس العقلي لا يجعل هذه الفكرة ندّاً ومنافساً معرفياً لما قبلها. اضافة إلى ان هناك بعض الافكار القوية لدى العقل لم يشر إليها (كانت) ضمن سياق استدلاله الآنف الذكر، كما هو حال الفكرة الأولى الجامعة بين الفكرتين المتعارضتين بحسب (كانت)، أي الثانية والثالثة.
من جهة أخرى، لو أننا اعتنقنا فلسفة (كانت) الآنفة الذكر لكان من غير الممكن ان نتحدث عن أساسيات العلم موضوعياً، ولاعتبرناها لا تتجاوز الذات المفكرة اتباعاً لهذه الطريقة اللامعقولة. فالعلم قائم على قضايا مجردة لكنها ليست ميتافيزيقية، مثل التسليم باطرادات الطبيعة وقوانينها. فالتعميمات العلمية تتحدث عن سلاسل لا نهائية، ولو طبقنا عليها تلك الطريقة لقلنا بأنها قائمة على دعوتين متناقضتين، إحداهما تدعو العقل إلى ان يدفعنا للبحث عن اعتبار الحوادث الموضوعية تتخذ سلسلة تعميمية باتساق، فيما الأخرى تفعل العكس وتمنع علينا اجراء أي تعميم متسق طالما يتضمن حوادث غير متناهية، أو مجهولة غير حسية. وبحسب الدعوة الأخيرة انه لا مجال للاقرار باطراد الطبيعة، فلا يحق لنا مثلاً الادعاء بأن قانون الجاذبية ينطبق على كل ارجاء الكون، أو ان كل حديد يتمدد بالحرارة، أو ان كل مادة تتألف من ذرات وجسيمات، أو ان كل حيوان يتركب من خلايا حية، فهذه التعميمات تتضمن ذات المشكلة من انها تمتلك اضافات عقلية غير حسية، فهي مدفوعة بالعقل بين مبدأين أحدهما التعميم التام من دون توقف، كما يسلم بذلك العقليون، فيما يدعو الآخر إلى منع التعميم لعدم وجود ما يبرره حسياً، ويبقى انه لا امل متوقع من معرفة ما اذا كان أحدهما على صواب أو خطأ.
وعليه لو طبقنا نظرية (كانت) على هذه النتيجة لادى بنا الحال إلى استخلاص الحالة الذاتية لقوانين الطبيعة نظراً للاعتبارات المتناقضة. بل ان ذلك سيطعن في أساس فلسفة هذا المفكر، فهو يعتبر السببية قانوناً ضرورياً من الناحية القبلية، وهو يتعامل معه باضطراد لكل ما يتعلق بالتجربة الخارجية، اذ لقائل ان يقول ما المانع من ان تكون بعض القضايا التي لم نصادفها حسياً لا ينطبق عليها ضرورة هذا القانون؟ أو ندعي بأن للعقل دعوتين ضمن مبدأين ضروري وغير ضروري لكل ما هو خارج عن أفق احساسنا المباشر، كما سبقت الاشارة اليه.
صحيح ان فلسفة (كانت) قد لا تعتبر هذه اللوازم الاعتراضية نقضاً لها، بل تأييداً لمسلكها المثالي. لكن يلاحظ بأننا لسنا مضطرين إلى تبني منحى هذا الفيلسوف الذي يسارع إلى المثالية لأسباب غير وجيهة. فهو عوضاً من ان تدفعه الخلافات الفلسفية الحادة وتعارضات الافكار العقلية إلى الشك وتعليق الحكم أو اللأدرية؛ فانه على العكس يجعل منها منصة للقفز نحو المثالية الذاتية.
أساس الإشكال على المسألة الإلهية
يبقى ان الإشكال الأساس المنسجم مع اطروحة (كانت) هو انه اعتبر الأدلة المتعلقة بقضايا اثبات خالق حكيم قادر؛ هي خارجة عن سياق حقل التجربة الممكنة[22]، وبالتالي فمن المستحيل اثباتها.
ومن ذلك انه لم يسوّغ الاعتماد على مبدأ السببية لاثبات الخالق، ومما قاله بهذا الصدد: أنا لست بحاجة إلى الانتقال إلى التأمل النظري كي أتأكد من حقيقة النظام والغائية في الطبيعة، وانما بحاجة إلى ان افسرها بافتراض إلوهية كعلة لها. لكن ربما الاستدلال الذي ينطلق من نتيجة إلى سبب محدد بدرجة من الكمال هو دائماً استدلال غير اكيد ومتعسر[23]. وقدعلل لماذا الاستدلال من نتيجة إلى سبب يعتبر ناقصاً في الكشف عن وجود الله؟ فمن وجهة نظره انه لا يجوز الانتقال مما هو موجود إلى ما هو مختلف عنه، فالموجود مشروط والخالق غير مشروط[24]. فعلاقة السببية العامة باثبات الخالق مشروطة بالتجربة، وبالتالي لا يمكن اثباته لخروجه عن مجال الأخيرة.
وأكد بأنه لا يمكن ان يأتي يوم يتم فيه العثور على دليل على وجود الله، لنفس السبب المذكور، وهو انه خارج نطاق التجربة الممكنة، أو انه لا صلة له بموضوعاتها[25].
إن افتراض وجود علة أولى لا تعني سوى مبدأ إمكان السلسلة بعامة إمكاناً ترسندالياً مجهولاً، وهو مستقل عن كل شروط تلك السلسلة، كما انه ضروري ضرورة لا مشروطة دون ان يتعارض ذلك مع حدوث السلسلة اللامحدود[26]. لكن المشكلة هي انه لا يوجد دليل نظري يثبت هذا المبدأ المتعالي.
فالكائن الضروري هو شرط معقول لا ينتمي بالمرة إلى سلسلة الظواهر كطرف فيها ولا كطرف اعلى. فلا شيء يخولنا اشتقاق وجود من شرط خارج السلسلة الامبيرية أو ضمنها كوجود مستقل وقائم بذاته، فهما من عالمين مختلفين سنخياً. مع ذلك فان (كانت) لا ينكر إن بالإمكان ان يكون مبدأ السلسلة بكاملها متمثلاً بكائن معقول وحر وغير مشروط باي شرط امبيري، وهو مبدأ إمكان جميع الظواهر. فهو أمر ممكن رغم انه لا دليل عليه. فللعقل دربان: امبيري الاستعمال واخر ترسندالي الاستعمال، والأخير خارج مجال الأول ولا يدل عليه[27].
لذلك استعان بالقوانين الأخلاقية لاثبات المبدأ المطروح، فهو على خلاف الفلاسفة اعتبر حجر زاوية اثبات هذا المبدأ قائماً على القضية الأخلاقية لا الوجودية، فيما الفلاسفة كانوا يعتبرون الدليل الوجودي هو ما يحدد القضية الأخلاقية، لقيام الأخيرة عليه[28].
وتجدر الاشارة إلى انه سبق لهذا الفيلسوف ان كتب بحثاً قبل النقد عام 1763 بعنوان (الأساس الممكن الوحيد للبرهنة على وجود الله)، ذكر فيه أربعة أدلة، لكنه تقبّل منها واحداً فقط هو برهان الممكن والواجب، حيث الموجود إما أن يكون ممكناً أو واجباً ضرورياً، فإن كان ممكناً فانه سيحتاج إلى الواجب[29]. كما ان له بحثاً آخر بعنوان (التاريخ الطبيعي العام) رأى فيه ان هناك شواهد كافية تثبت اعتماد المادة وقوانينها الباطنة على الله، أي لا بد ان تكون هناك علة أصلية تمثل عقلاً كلياً أسمى هي التي وضعت طبائع الأشياء لتحقيق اغراض مشتركة[30].
مع هذا فانه شعر فيما بعد بالفشل في العثور على دليل يثبت وجود الله، وهو ما دفعه إلى كتابة (نقد العقل المحض) لرسم طبيعة وحدود المعرفة البشرية، وقد جاء ذلك بتوجيه غير مباشر لعدد من الفلاسفة أبرزهم ديفيد هيوم.
لقد اعتمد فيلسوف بروسيا على النتائج التي توصل إليها عبر مناقشته للأدلة التي طرحها الفلاسفة الذين سبقوه، خصوصاً المحدثين من العقليين والتجريبيين، دون ان يبدي اهتماماً باصل الموضوع وبغض النظر عن الأدلة التي قدّمها هؤلاء، أو محاولة اصلاح ما استعرضه الآخرون وتهذيبها، فقد لا تكفي مثل هذه الأدلة أو يمكن تهذيبها وتشذيبها، ومن الممكن البحث في أدلة مفترضة لم يسبق إليها القدماء. فمن الناحية الابستيمية لا بد من النظر في الأدلة ذاتها من دون علاقة صميمة بالفلاسفة والمذاهب. وبلا شك ينطبق هذا الحال فيما ناقشه حول الدليل اللاهوتي كما هو مطروح من دون تهذيب. فقد استعرضه ليردّ فيه على حجج الفلاسفة واللاهوتيين دون ان يبحثه في ذاته إلا وفق ما اسقط عليه قبلياته وفرضياته التي عرضناها في دراسة مستقلة.
وأول ما يلاحظ هو ان (كانت) لم يميز في الدليل اللاهوتي بين دليل النظام ودليل الغائية أو العناية، رغم الفارق بينهما. فالأخير قائم على الأول من دون عكس. بمعنى انه قد نكتشف النظام وان لم يدل ذلك على غاية محددة أو عناية خاصة، كما هو الاعتقاد العلمي اليوم، حيث يرى النظام الكوني دقيقاً إلى ابعد الحدود، لكن لا دليل يؤشر على ان هناك غرضاً معيناً وراء هذا النظام المدهش. ويمكن تصور لو ان الكون منظم كالساعة الدقيقة، لكن من دون حياة ولا ذكاء، فرغم هذه الدقة إلا انه يفتقر إلى الغاية والعناية. وفي القبال نجد في تكون الجنين وتطوره – مثلاً - غاية وعناية محكمتين، فالغرض من هذا التطور هو خروج الجنين مكتملاً ومعافى من بطن امه. وحتى بعد هذا الخروج فانه يلاقي غايات محكمة ليصل إلى ابلغ ما يمكن من الكمال قبل ان يشيخ ويتهاوى شيئاً فشيئاً. ويبقى السؤال الفلسفي، هل هذه هي نهاية الفرد، أم انها تمهد ايضاً لغاية أخرى فيما بعد الموت، حالها في ذلك حال ولادة الجنين عندما يضيق برحم الام؟.
من جهة ثانية، رأى هذا الفيلسوف ان الدليل المشار إليه يترك مسألة ما اذا كانت علة العالم (الله) ذات ضرورة طبيعية أم تتصف بالحرية؟ مؤكداً بأن هذه المسألة غير محسومة[31]. ومع ذلك فقد بجّل الدليل باعتباره قائماً على دراسة الطبيعة واظهار عجائبها وعظيم فعلها وجمالها وغائيتها. فالطبيعة هي مسرح ‹‹من التنوع والنظام والغائية والجمال إلى درجة كبيرة. وكل لسان يعجز عن التعبير امام هذا العدد من العجائب وهذه الضخامة. فنحن نرى في كل مكان سلسلة من المسببات والأسباب والغايات والوسائل من الانتظام في ما ينشأ وما يفنى..››.
كما أشار إلى ان ‹‹هذا الدليل يستحق ان يذكر دائماً باحترام، فهو الأقدم والاوضح والانسب للعقل البشري العامي››. لكنه مع هذا لم يعتبره كافياً لاثبات وجود الكائن الأسمى، بل رآه مرغماً للاستعانة بالدليل الانطولوجي الديكارتي. فرغم انه أبدى اعجابه بعظمة حكمة الخالق وقدرته وفي الدليل اللاهوتي، إلا انه اعترض على ما اعتقده اللاهوتيون حول حدوث العالم، ولعله قصد مادة العالم أو جوهره وفق الدليل الكسمولوجي، وان هذا الأخير يضمر الدليل الانطولوجي، حيث نرتفع من تعيين هذا الكائن بتضمنه لكل الكمال. لذلك رأى بأن الدليل اللاهوتي متوقف في نصف مشروعه ليقفز من ضيقه إلى الدليل الكسمولوجي الذي يضمر الدليل الانطولوجي[32]. ما يعني ان مشكلة الدليل اللاهوتي تعود إلى كونه يفترض الكمال التام للكائن الضروري مثلما يفترض الحاجة إلى علة أولى غير مشروطة.
ويبدي فيلسوف التنوير أحياناً انه لم يتمكن من نفي كامل الحجة اللاهوتية حول نظام الطبيعة، فقد اذعن لاثبات صانع الصور دون إمكانية اثبات خلق مادة العالم وفق تلك الحجة. فاعتراضه على هذا الدليل هو لكونه لا يقدم شيئاً لاثبات حدوث المادة أو خلق الجوهر، لكنه تقبل صنع الحوادث كصور غائية للمادة. واعترف بأن الدليل يمكن ‹‹ان يثبت على الأكثر مهندساً للعالم سيظل دائماً محدوداً باستعدادات المادة التي يشتغل بها، لا خالقاً للعالم يخضع كل شيء لفكرته. وهيهات ان يكفي ذلك للمقصد الكبير الذي نصبوا إليه والذي هو التدليل على كائن اصلي كاف لكل شيء››. وعليه فمحور نقده لهذا الدليل هو لكونه يصف الكائن الضروري بأنه يمتلك القدرة المطلقة والكمال المطلق الذي يجعله كافياً لكل شيء، فأثار اعتراضات على تفاصيل هذا الكائن الأسمى كما يصادرها الدين[33].
مع هذا فان هذا المفكر قد اعترض في محل آخر على مطلق الدليل الآنف الذكر، الأمر الذي يتسق مع تنظيره الفلسفي لإبعاد أي مجال للميتافيزيقا نظرياً، وان ناقض ذلك ما سبق ذكره. فقد ميّز بين نوعين من الاستعمال الاستدلالي للعقل، أحدهما اعتباري والآخر طبيعي، ورأى ان الاستدلال على وجود الله ينتمي إلى الأول، اذ الثاني مرهون بالحوادث الامبيرية، لذلك فالاستدلال على علة متميزة تمام التميز عن العالم يحتاج إلى الاستعمال الاعتباري أو الترسندالي، اذ لا يوجد في هذه الحالة موضوع تجربة ممكنة. ورأى انه حتى في حالة الكلام على صورة العالم المتبدلة وليس على مادته وجوهره؛ لا يختلف الأمر بكون الدليل جار وفق الاستدلال بالاستعمال الاعتباري، وذلك لتميز العلة تماماً عن العالم. وبالتالي انتهى إلى عقم هذه المحاولة، وكما قال: ‹‹اني ازعم ان كل المحاولات لاستعمال محض اعتباري للعقل بصدد الالهيات هي محاولات عقيمة كلياً، وهي بموجب قوامها الداخلي باطلة ولا طائل تحتها››[34].
من جانب آخر تقبّل (كانت) فكرة التخمين حول مسألة وجود الله كما اوردها مؤخراً في (نقد العقل العملي). ولأول وهلة قد تبدو هذه الفكرة بأنها تطور لافت، فكما قال: ‹‹على الرغم من كل الجهود التي يبذلها عقلنا، لا نحصل على أكثر من نظرة قاتمة جداً ومريبة إلى المستقبل، وان حاكم العالم يتيح لنا التخمين فقط بخصوص وجوده وجلاله، من دون ان نبصره أو نبرهن عنه بوضوح، وان القانون الأخلاقي فينا بالمقابل يوجب علينا احتراماً منزهاً عن كل منفعة››. لذلك فهو وحده الذي يتيح لنا القاء نظرات ولو باهتة على علم خارج نطاق المحسوس[35].
لكن لا يبدو ان القصد من فكرة التخمين لديه ما يعادل الاحتمال الموضوعي المرجح، وإلا لكان من الممكن التعرف على المسألة الإلهية عبر رفع مستواها الاحتمالي، وان القضية سوف لا تكون خارجة عن المعرفة المحققة، وان أي معرفة موضوعية اذا ما كانت قابلة لأن تبدأ برفع مستواها الاحتمالي فسيمكنها – من الناحية المبدئية - بلوغ اليقين الذاتي. لذلك فالمعرفة الموضوعية إما ان تكون قابلة للتخمين والاضافة الاحتمالية، ومن ثم قد تؤدي إلى اليقين واثبات القضية، أو انها غير قابلة بدءاً لكل رفع وتصعيد..
إن ما يجعلنا نعتقد بأن (كانت) لا يجعل التخمين عائداً إلى الاحتمالات الموضوعية هو تصنيفه لقضية الاعتقاد بالله ضمن الإيمان مقارنة بالرأي والعلم. فالرأي هو تصديق يعي عدم كفايته ذاتياً وموضوعياً، والعلم على عكسه، فهو تصديق يكفي ذاتياً وموضوعياً. أما الإيمان فهو تصديق كاف ذاتياً وإن كان غير كاف موضوعياً. ويعتبر هذا التقسيم مهماً على مستوى التصديقات والاعتقادات البشرية. وبلا شك ان تصنيف هذا الفيلسوف لمسألة وجود الله ضمن التصديقات الإيمانية هو أمر يتسق مع نظريته العامة وقوله بالتخمين، فما سماه الإيمان التعليمي هو كالمراهنة، ومن ذلك ان الإيمان بوجود حياة مسكونة في كوكب ما على الاقل؛ يأتي نافعاً استناداً إلى حسنات الحياة فيه. كذلك ينفع الإيمان التعليمي المتعلق بالله؛ اذ له شواهد كثيرة دالة على الوحدة الغائية. فهناك رسوخ قوي في الثقة الذاتية بهذا الإيمان، وان افتقر إلى الثقة العلمية أو الموضوعية[36]. ويبدو ان هذا ما قصده (كانت) من التخمين، فهو تخمين ذاتي فحسب من دون ان يكون له صلة بالجانب العلمي الموضوعي.
مع هذا نقول ان الأمثلة التي عرضها هذا الفيلسوف غير متوافقة من حيث علتها التصديقية. فالمثال الأول حول الإيمان بوجود حياة في كوكب ما نظراً لحسنات الحياة فيه، هو إيمان ذاتي بالفعل من دون ان يجد له تبريراً معرفياً من الناحية الموضوعية. لكن الإيمان بالله ليس على هذه الشاكلة، فهو يمتلك تبريراً معرفياً بلا أدنى شك. فالأدلة الاستقرائية كبيرة وغير قابلة للحصر في انسجامها مع هذا الإيمان. وللأسف فان (كانت) لم يطبق حولها منطق الاحتمال والاستقراء ليرى فداحة الفارق المعرفي بين التصديق بالله والتصديق باي قضية معرفية أخرى، لأسباب ذكرناها في محل آخر[37].
والعجيب ان دهشة (كانت) وتعظيمه لعجائب النظام الكوني لم تحرّك فيه السؤال الملح: من أين أتى ذلك وكيف؟ والشيء ذاته يتعلق بالنظام الأخلاقي. فهو معجب بهما غاية الاعجاب، وله عبارة رائعة تشير إلى هذا المعنى، اذ يقول: ‹‹شيئان يملآن الوجدان باعجاب واجلال، يتجددان ويزدادان على الدوام كلما أمعن الفكر والتأمل فيهما: السماء ذات النجوم من فوقي، والقانون الأخلاقي في داخلي››[38].
إن من السهل الكشف عن خطأ موقف (كانت) من المسألة الإلهية عبر تخيلنا لواقع موضوعي مفترض بطريقة ما تدل على المطلوب.. لنفترض انه صادف ان اكتشفنا بأن النجوم والمجرات السماوية تحمل اشارات واضحة جلية دالة على وجود الخالق بما لا يختلف حولها اثنان، كأن نكتشف بأنها تحمل صوراً وأصواتاً وشفرات موجية تشير إلى انها مخلوقة من كائن أسمى، مثل ان تنادي بأعلى صوتها على الدوام: نحن نسبح بإسم الله المتعال الذي خلقنا.. فهل يعقل في هذه الحالة ان لا تثير هذه الاشارات معنىً يدل صراحة على حقيقة وجود الكائن المتعال؟ فهل هناك من سيتردد في كون هذه الاشارات واضحة الدلالة على المطلوب؟ وحتى لو اعتبر البعض انها لم تفضِ بعد إلى القطع واليقين؛ فان من السهل ان نفترض المزيد منها لتدل على ذات المعنى، أو ليرتفع الظن أكثر فأكثر فلا يبقى هناك أدنى شك في الحقيقة الإلهية. فهذا الافتراض يدل على زيف نظرية (كانت) في موقفها السلبي من الميتافيزيقا أو مسألة وجود الله، اذ يكشف عن انه لا مانع من ان يبرهن المشروط على اللامشروط. واذا كان هذا الحال واضحاً بحسب ما تخيلناه سلفاً؛ فانه لا يختلف جوهراً عن لحاظنا للواقع الحقيقي وتحليلنا لنظامه الدقيق، اذ في كلا الحالين يمكننا ان نستدل من المشروط على اللامشروط خلافاً للتعاليم الكانتية.
بل يمكن القول بأن موقف (كانت) من المسألة الإلهية وعموم القضية الميتافيزيقية يناقض نظريته في الشيء في ذاته. فاعترافه بوجود هذا الشيء واستدلاله عليه هو في حد ذاته يمثل استدلالاً على القضية الميتافيزيقية، فكلاهما ضروريان غير حسيين ولا مشروطين بلا فرق يميز أحدهما عن الآخر. وعليه فهو بين أمرين: فإما ان يتقبل إمكانية اثبات المسألة الإلهية بذات الطريقة التي تقبّل فيها اثبات الشيء في ذاته.. أو يمنعهما سوية.. وأي تفكيك بينهما يوقع في التناقض الصارخ لا محالة.
العقل الأخلاقي كملاذ أخير
لقد يأس (كانت) من العقل النظري في اثبات وجود الله، ما اضطره إلى اللجوء إلى العقل العملي الأخلاقي. فقد اعتبر ان بين عوالم الأخلاق والطبيعة والله انسجاماً واضحاً، وهو ان الغايات السامية تتمثل بالأخلاق. وبحسب العقل العملي الأخلاقي فان هناك ضرورة لافتراض وجود الله، وان قانون الأخلاق المقدس هو وصايا إلهية لكوننا ملزمين بها من الداخل[39]. هكذا انه افترض وجود الله من خلال العقل الأخلاقي، أي من خلال إمكانية الخير الأسمى في العالم، وعلى حد قوله: ان ‹‹من الضروري أخلاقياً ان نقر بوجود الله››[40]. أو بتعبير آخر ان هناك مصلحة حرة للعقل العملي المحض في قرار القبول بصانع حكيم للعالم، وهو مبدأ ذاتي بصفته حاجة[41]. وكما قال: ‹‹يستطيع الانسان قويم الخلق ان يقول بحق: انني اريد ان يوجد إله، وان يكون وجودي في هذا العالم، ايضاً خارج الرباط الطبيعي، وجوداً في عالم معقول محض، وأخيراً ان يكون دوام وجودي لا متناهياً، اني اتمسك بهذا من دون ان اعير أي اهتمام للسفسطات.. واني لن ادع احداً ينزع مني هذا الاعتقاد، لأنها هذه هي الحالة الوحيدة التي تكون فيها مصلحتي››[42].
بهذا لا يخفي (كانت) حاجة العقل العملي إلى مصادرات، مثل حاجة العقل النظري إلى افتراضات، فقد عبر في البداية عن الحالة الأخيرة قائلاً: ارتقي ‹‹من المستنبط صعوداً نحو الاعلى في سلسلة المبادئ بالقدر الذي اريده.. كي ارضي بشكل كامل عقلي الباحث في هذه الأمور››.. أما الحاجة إلى العقل العملي فهي ‹‹مؤسسة على واجب ان يجعل من شيء ما (أي الخير الأسمى) موضوع إرادتي لكي اقوم بكل ما بوسعي لأحققه››. لذا يجب عليّ افتراض إمكانية الشروط لذلك، أي افتراض الله والحرية والخلود. ويقيني في هذا مستمد من القانون الأخلاقي، حيث انني اريد ان يوجد إله[43].
هذه هي الفائدة التي جناها فيلسوف بروسيا بعد شكّه المطبق وتعليقه للحكم، وهو موقف يشابه ما سبق إليه قديماً بعض الشكاكين اليونانيين، مثل شيشرون وسكستوس، فالاول كان يقول: ‹‹لقد أفضيت بكلماتي لا لكي اهدم الإيمان، بل لكي أقدم صورة عن الغموض الذي يكتنف المسألة كلها، مسألة وجود الله والطبيعة الجوهرية، وعن الصعوبات التي تواجه اية محاولة لتفسيرها››. لكنه مع ذلك رأى في الدين فائدة اجتماعية. أما سكستوس، وهو آخر الشكاكين اليونانيين، فقد رأى انه لا تعارض للشاك بين تعليقه للحكم نظرياً، وفق مبدأ اللاأدرية، وبين تسليمه عملياً بأن يؤمن بالله ويشارك في ممارسة العبادة الدينية؛ من دون ان يتضمن ذلك أي تناقض.
هكذا فكلا هذين الفيلسوفين اعتبرا القضايا الميتافيزيقية مما تتجاوز قدراتنا النظرية، ومع ذلك فان من الممكن علاجها عملياً. وهي النزعة التي وجدت لها صدى مشابهاً لدى كل من مونتاني وشارون خلال القرن الساس عشر الميلادي، أي قبل ان تكتمل وتتوج نهائياً لدى فيلسوف التنوير (كانت)[44].
ومن حيث علم اجتماع المعرفة تحدى هذا المفكر ان تكون طريقة الفلاسفة قادرة على اقناع الجمهور في الأدلة المتعلقة بحرية الإرادة والخلود ووجود الله. فبحسب رأيه ان الفاهمة العامة هي غير مؤهلة لمثل هذه الاعتبارات اللطيفة. لذلك نقد المسؤولين عن المناهج التدريسية باعتبارها لا تسمح بنقد الاداة العقلية، وذلك بدعوى الحفاظ على المصلحة العامة. وعلى رأيه ان النقد لا يعارض الاسلوب الدوغمائي الذي يطالب به هؤلاء المسؤولون[45].
ومن الناحية الابستيمية رأى انه اذا لم تتخذ القوانين الأخلاقية كأساس؛ فان من المحال ان تكون هناك الهيات للعقل. ومعلوم ان الالهيات الطبيعية تتضمن ازدواجاً من السببية الضرورية والحرية. وعليه استدل بأن هناك نظامين طبيعي وأخلاقي، حيث يرتفع الاستدلال من قوام ونظام ووحدة العالم ليتجه إلى العقل الأسمى؛ بوصفه مبدءاً لكل نظام وكمال طبيعيين كانا أم خلقيين. وتسمى في الحالة الأولى الهيات طبيعية، وفي الثانية الهيات أخلاقية[46].
هكذا ان الالهيات الأخلاقية هي اقتناع بوجود كائن أسمى مؤسس على قوانين خلقية، وان مفهوم العقل الأسمى مشتق من طبيعة انفسنا[47]. وهذا التحليل هو أقرب المعاني للنظرة الكلامية القائلة بنظرية الحسن والقبح العقليين كما التزمت بها العديد من المدارس الدينية، كالمعتزلة مثلاً، وهي ليست على وفاق مع الرؤية الفلسفية التقليدية التي لا تعيير للمجال الخلقي شيئاً لكونها من المذاهب الحتمية.
وبالتالي فمفهوم الله ينتمي إلى الأخلاق لا الفيزياء أو العقل النظري، والشيء نفسه يقال حول مفاهيم الخلود وحرية العلية كمصادرات للعقل العملي. وهذا ما أشار إليه (كانت) مراراً في (نقد العقل العملي)[48]، لكنه في (نقد العقل المحض) اعتبر هذه الموضوعات الثلاثة تارة تمثل غرض العقل الترسندالي، وأخرى غاية الميتافيزيقا، من دون ان يزيد عليها موضوع رابع[49]. وللجمع مما جاء في الكتابين نحصل على ان هذه الموضوعات الثلاثة هي الغايات المبتغاة، وفي الوقت ذاته هي المصادرات التي لا دليل عليها.
فمن منطلق اعتبار الغايات، دلل (كانت) على حياة النفس بعد الموت؛ طالما ان للطبيعة وحدتها الغائية كمصادرة أخلاقية عملية[50]. فمن حيث الأساس اعتقد بأنه من المحال ان يكون الخير الأسمى ممكناً عملياً إلا بافتراض خلود النفس[51].
إن أهمية الاعتقاد بالله والوعد والوعيد بالنسبة إلى الأخلاق، وعلاقة ذلك بالخير الأسمى، هو ما يجعل المرء جديراً بالسعادة. والامل هو الذي يهتم بهذه السعادة عبر جمعه بين العقلين النظري والعملي[52].
وهو يعتبر ان اثبات الحرية شرطاً ضرورياً للأخلاق، فمفهوم الحرية يشكل حجر الغَلَق في بناء منظومة العقل المحض بكاملها حتى النظري وكافة المفاهيم الأخرى، وهي الله والخلود.
وسبق لباركلي ان اعتبر بأن القانون الأخلاقي محكوم بمبدأين هما حرية الانسان ووجود الله[53]. وقبل ذلك رأى الفيلسوف الحسي جون لوك بأن الأخلاق تتأسس على وجود الله، لهذا فانه وإن تسامح مع اختلاف الطوائف والاديان فانه لم يتسامح مع الملحدين[54]. ومثل ذلك ما ذهب إليه روسو في علاقة الأخلاق بوجود الله، وقد كان له تأثير بارز على الأخلاق الكانتية، وقيل انه من علّم (كانت) احترام قيمة كل انسان من حيث انه غاية في ذاته[55]. في حين نجد نظرية أخرى مختلفة ترى القضية الأخلاقية مستقلة تماماً عن المسألة الإلهية، وهي الدعامة الأساسية للأخلاق العلمانية، كالتي طرحها الفيلسوف الفرنسي بيير بيل خلال القرن السابع عشر الميلادي، وبحسبه ان لدينا معرفة طبيعية يقينية بثلاثة مبادئ اجتماعية، وهي: ان نحيا حياة شريفة، وان لا نؤذي احداً، وان نعطي لكل انسان حقه [56].
وتقف نظرية (كانت) موقفاً وسطاً بين النظريتين السابقتين، فهي لا تعتبر القانون الأخلاقي مستقلاً عن المسألة الإلهية، كذلك فانها لا تعتبر من جانب آخر فكرة الله ومثلها الخلود شرطاً للقانون الأخلاقي. فالمهم لدى هذا المفكر هو مفهوم الحرية، حيث ان به يكون لبقية المفاهيم قوام وحقيقة موضوعية، لأن إمكانيتها قد حازت على برهان بحسب العقل العملي بأن الحرية حقيقية، وتتجلى هذه الفكرة عبر القانون الأخلاقي. وهي وان لم ندركها لكنها شرط هذا القانون كما نعرفه[57].
إن الأخلاق هي قانون قبلي ذات صلة بالسعادة، وان ضرورة الله وعالم الاخرة هي لحوافز الفعل الأخلاقي. وان الأخلاق هي كالرياضيات لا تخضع للرأي بل للعلم. فكلاهما يقينان[58].
مع هذا فهناك فرق لم يشر إليه (كانت) في الموضوع، وهو ان الرياضيات ذات يقين مستقل، أما القانون الأخلاقي فهو يقين مشروط بالحرية، وهي لديه مصادرة لا دليل عليها، وبالتالي فمحاولته تبقى ناقصة دون ان تكلل بالنجاح..
وعموماً نجد ان كل ما طرحه (كانت) في موضع العقل العملي هو مصادرات يعترف هذا الفيلسوف بأنه لا رجاء من ان يقام عليها الأدلة والبراهين. فوجود الله والحرية وخلود النفس كلها لا تخضع للأدلة النظرية، وإن كان الاعتقاد بها يعبّر عن فائدة مصلحية، فهي على شاكلة ما سبق إليه باسكال في تقريره بأن المراهنة على وجود الله تجني ثمرة عملية لمن لم يعثر على دليل نظري للبرهنة عليه[59].
[1] نقد العقل المحض، ص312 و296 و316.
[2] جوزيف سايفرت: الله كبرهان على وجود الله، ترجمة وتقديم حميد لشهب، دار افريقيا الشرق، المغرب، 2001م، ص50.
[3] للتفصيل انظر: الفلسفة والعرفان والاشكاليات الدينية. كذلك القسم الثاني من كتاب: مدخل إلى فهم الاسلام.
[4] الله كبرهان على وجود الله، ص65 وما بعدها.
[5] جونو وبوجوان: تاريخ الفلسفة والعلم في أوروبا الوسيطية، ترجمة علي زيعور وعلي مقلَّد، مؤسسة عز الدين للطباعة والنشر، بيروت، 1414هـ ـ 1993م، ص74ـ75.
[6] نشير إلى ان ديكارت استخدم صيغة المفرد للدلالة على ذاته الخاصة، باعتباره أراد ان يؤسس الحقائق الوجودية انطلاقاً من هذه الذات الفردية. لكننا استخدمنا صيغة الجمع باعتبار ان الأمر يتعلق بكل انسان عاقل.
[7] رينيه ديكارت: تأملات ميتافيزيقية في الفلسفة الأولى، ترجمة كمال الحاج، منشورات عويدات، بيروت، الطبعة الرابعة، 1988م، التأمل الثالث، فقرة 22ـ25، عن مكتبة الموقع الإلكتروني: www.4shared.com.
[8] المصدر السابق، فقرة 35.
[9] انظر: الله كبرهان على وجود الله، ص107. كذلك: الله في الفلسفة الحديثة، ص100ـ101.
[10] نقد العقل المحض، ص297.
[11] ابن سينا: الاشارات والتنبيهات، طبعة دار المعارف، القسمان الثالث والرابع، ص482-483.
[12] لاحظ: صدر المتألهين: الحكمة المتعالية في الأسفار العقلية الأربعة، مصدر سابق، ج6، ص14ـ15. وأسرار الآيات، مقدمة وتصحيح محمد خواجوي، انتشارات انجمن اسلامي حكمت وفلسفه ايران، 1402هـ، ص26ـ27.
[13] وهي كل من: دليل الحركة والحاجة إلى محرك غير متحرك، ودليل العلية أو حاجة المعلول إلى علة مؤثرة، ودليل حاجة ممكن الوجود إلى واجب الوجود، ودليل مراتب الكمال والغاية في الخير والحق والشرف وما إلى ذلك، ودليل غايات أفعال الطبيعة (توما الاكويني: الخلاصة اللاهوتية، ترجمة الخوري بولس عواد، دار صادر، بيروت، ج1، ص32ـ34، عن مكتبة الموقع الإلكتروني: www.4shared.com).
[14] ابن سينا: النجاة، مطبعة السعادة، ص235.
[15] نقد العقل المحض، ص301ـ305.
[16] المصدر نفسه، ص296.
[17] المصدر نفسه، ص308 و305.
[18] المصدر نفسه، ص306ـ307.
[19] انظر: العقل والبيان والاشكاليات الدينية.
[20] ابن رشد: تهافت التهافت، المطبعة الكاثوليكية، بيروت، ص56ـ57.
[21] نقد العقل المحض، ص285.
[22] نقد العقل المحض، ص339ـ340.
[23] نقد العقل العملي، ص242.
[24] المصدر نفسه، ص315.
[25] نقد العقل المحض، ص359ـ360.
[26] المصدر نفسه، ص285.
[27] المصدر نفسه، ص283ـ284.
[28] المصدر نفسه، ص315.
[29] يوسف كرم: تاريخ الفلسفة الحديثة، ص211.
[30] الله في الفلسفة الحديثة، ص238.
[31] نقد العقل المحض، ص313.
[32] المصدر نفسه، ص309ـ312.
[33] المصدر نفسه، ص310ـ312.
[34] المصدر نفسه، ص315.
[35] نقد العقل العملي، ص249.
[36] نقد العقل المحض، ص392 و394.
[37] انظر: الاستقراء والمنطق الذاتي. كذلك: وجود الله أعرف من كل معروف، موقع فهم الدين، تاريخ النشر: 4-3-2014م : http://www.fahmaldin.com/index.php?id=2244.
[38] نقد العقل العملي، ص269.
[39] نقد العقل المحض، ص390ـ391.
[40] نقد العقل العملي، ص219.
[41] المصدر السابق، ص247.
[42] المصدر نفسه، ص243ـ244.
[43] المصدر نفسه، ص242.
[44] الله في الفلسفة الحديثة، ص68 و63.
[45] نقد العقل المحض، ص39ـ40.
[46] المصدر نفسه، ص315 و313.
[47] المصدر نفسه، ص313.
[48] انظر مثلاً: نقد العقل العملي، ص228 و239.
[49] نقد العقل المحض، ص204 و382.
[50] المصدر نفسه، ص394.
[51] نقد العقل العملي، ص215.
[52] نقد العقل المحض، ص386 و388ـ389.
[53] الله في الفلسفة الحديثة، ص169 و146.
[54] جون لوك: رسالة في التسامح، ترجمة منى ابو سنه، تقديم ومراجعة مراد وهبه، نشر المجلس الاعلى للثقافة، القاهرة، الطبعة الأولى، 1997م، ص57، عن مكتبة الموقع الإلكتروني: www.4shared.com.
[55] وليم كلي رايت: تاريخ الفلسفة الحديثة، ترجمة محمود سيد احمد، مراجعة وتقديم إمام عبد الفتاح إمام، دار التنوير، بيروت، الطبعة الأولى، 2010م، ص244، عن مكتبة الموقع الإلكتروني: www.4shared.com. كذلك: الله في الفلسفة الحديثة، ص146 و169 و231.
[56] الله في الفلسفة الحديثة، ص193ـ194.
[57] نقد العقل العملي، ص44.
[58] نقد العقل المحض، ص386ـ393 و251.