يحيى محمد
على الرغم من ان صدر المتألهين كان صريحاً وواضحاً في قوله بوحدة الوجود، إلا انه مع ذلك جسّد لحظة هي أبلغ لحظات صور التردد التي شهدتها علاقة الوحدة والشبه. فقد سبق أن ظهرت هذه الحالة من التردد لدى بعض الفلاسفة والعرفاء، كما لدى الغزالي، ثم تضاعفت حالة التردد لدى بعض المواقف التي تنافست على توجيه نظرية ابن عربي في وحدة الوجود، حتى وصلت عند صدر المتألهين الى القمة. فمع أن هذا الفيلسوف أراد أن يدفع التهمة عن ابن عربي في القول بوحدة الوجود العضوية للموجود الواحد المتنزل، الا أنه هو الآخر مع بعض تلامذته لم يسلم من هذا الاتهام.
وواقع الأمر إن لصدر المتألهين نصوصاً كثيرة تبدي تردداً واضحاً بين القول بوحدة الوجود العضوية أو الشخصية، والقول بوحدة الوجود النوعية كما لدى ابن رشد وطريقة الاشراق الفلسفية. فقد ذكر النراقي جملة من عبارات صدر المتألهين متهماً اياه بأنه قائل بمقالة الصوفية في وحدة الوجود العضوية، من حيث تنزّل مبدأ الوجود الأول بذاته مع اعتبارية وجود الغير مطلقاً. اذ استظهر من كلماته أنه يعدّ الوجودات الامكانية بأنها تطورات وشؤون للوجود الواجبي الأول، وهي اعتبارات وحيثيات للنور القيومي. فاتهمه على ذلك بمقالة وحدة الوجود والموجود الذي له تنزلات اعتبارية ملحوظة بلحاظ العقل من غير أن يكون لها حقيقة وحيّز في الواقع، فليس في العين وجود غيره أبداً[1].
فصحيح ان صدر المتألهين أكد بأن الممكنات عبارة عن محض الفقر والتعلق والظل للوجود الواجبي، الا أنه في الوقت نفسه اعتبرها تمثل حيثية وطوراً لتلك الحقيقة الواجبة، كما جاء في وصفها بأنها «لا حقائق لها الا كونها توابع لحقيقة واحدة، فالحقيقة واحدة وليس غيرها الا شؤونها وفنونها وحيثياتها وأطوارها»[2].
وعلى غرار هذا المعنى من عملية التنزل الذاتي للوجود الواجبي بدأ صدر المتألهين ـ وفقاً لقانون الشبه ـ بداية فلسفية ليخلص فيما بعد الى نهاية صوفية، فهو قد اعتبر الممكنات والماهيات مرائي لحكاية وجود الواجب الحق ومجالي لحقيقته، رغم أن المحسوسات لكثرة قشورها وتراكم النقص والامكان فيها لا تتمكن من حكاية الحق الأول إلا في غاية البعد كما جاء في (أثولوجيا). لكن سرعان ما انقلب هذا المعنى الفلسفي لدى صدر المتألهين الى معنى صوفي واضح المعالم، إذ قال بعد ذلك: «إن للحق تجلياً واحداً على الأشياء، وظهوراً واحداً على الممكنات، وهذا الظهور على الأشياء هو بعينه ظهوره الثانوي على نفسه في مرتبة الأفعال، فانه سبحانه لغاية تمامية وفرط كماله فاض على ذاته من ذاته، وفاض ذاته لكونه فوق التمام من ذاته، وهذا الظهور الثانوي لذاته على نفسه، لا يمكن أن يكون مثل ظهوره الأول، لإستحالة المثلين، وامتناع كون التابع في مرتبة المتبوع في الكمال الوجودي، والشعاع نحو المضيء في النورية، فلا محالة نشأت من هذا الظهور الثانوي ـ الذي هو نزول الوجود الواجبي بعبارة، والاضافة بعبارة أخرى، والنفس الرحمانية في اصطلاح قوم، والعلّية والتأثير في لسان قوم آخر، والمحبة الأفعالية عند أهل الذوق، والتجلي على الغير عند البعض ـ الكثرة والتعدد حسب تكثر الأسماء والصفات في نحو العلم البسيط المقدس، فظهرت الذات الأحدية والحقيقة الواجبية في كل واحد من مرائي الماهيات بحسبه، لا أن بحسب ذاتها ظهورات متنوعة وتجليات متعددة، كما توهمه بعض، وإلا يلزم انثلام الوحدة الحقة تعالى»[3].
وتأييداً للمسعى الصوفي صرح في محل آخر فاعتبر أنه كلما اشتدت معرفة العارف بالجلاء والظهور، فان الشوق يزداد حدّة وقوة، وبالتالي تزداد حركة العارف وسعيه، ومن ثم تكمل المعرفة كشفاً ووضوحاً، حتى يصل الأمر الى أن لا يبقى في البين عارف ومعرفة غير المعروف، ومشتاق وشوق سوى المشتاق اليه، وسالك وسلوك سوى المسلوك اليه. فيصبح الأول عين الآخر، والباطن عين الظاهر، وينحصر الوجود في الموجود والمعبود، إذ لا كثرة ولا اثنينية في الواجب الحق[4].
كما نصّ على ان الوجود المطلق هو نفس حقيقة واجب الوجود، مصرحاً بأن «أظهر الأشياء هو طبيعة الوجود المطلق بما هو وجود مطلق، وهو نفس حقيقة الواجب تعالى..». وهذا ما جعل أحد أتباعه من المعلقين المعاصرين يشعر بأن ظاهر كلامه يفيد المعنى الصوفي، فأخذ يوجه هذا الكلام ليبعد عنه الشبهة الصوفية، فقال: «والحق أن الباري بحسب الفعل والظهور عين كل شيء، عن علي (ع) ظاهر في غيب، وغيب في ظهور»[5].
ومما له دلالة أقوى على المعنى الصوفي لوحدة الوجود اعتباره «كون الموجود والوجود منحصراً في حقيقة واحدة شخصية، لا شريك له في الموجودية الحقيقية ولا ثاني له في العين، وليس في دار الوجود غيره ديّار، وكلما يترآى في عالم الوجود أنه غير الواجب المعبود فانما هو من ظهورات ذاته، وتجليات صفاته التي هي في الحقيقة عين ذاته كما صرح به لسان بعض العرفاء بقوله: فالمقول عليه سوى الله أو غيره أو المسمى بالعالم هو بالنسبة اليه تعالى كالظل للشخص، فهو ظل الله، فهو عين نسبة الوجود الى العالم، فمحل ظهور هذا الظل الإلهي المسمى بالعالم انما هو اعيان الممكنات عليها امتد هذا الظل، فيدرك من هذا الظل بحسب ما امتد عليه من وجود هذه الذات، ولكن بنور ذاته وقع الادراك لأن أعيان الممكنات ليست نيّرة لأنها معدومة وان اتصفت بالثبوت بالعرض لا بالذات، إذ الوجود نور وما سواه مظلم الذات، فما يعلم من العالم إلاّ قدر ما يعلم من الظل، ويجهل من الحق على قدر ما يجهل من الشخص الذي عنه ذلك الظل، فمن حيث هو ظل له يعلم، ومن حيث ما يجهل ما في ذات ذلك الظل من صورة شخص من امتد عنه يجهل من الحق ((ألم تر الى ربّك كيف مدّ الظل ولو شاء لجعله ساكناً))[6]، أي يكون بحيث لا ينشأ منه فيض وجوده وظل وجوده، ثم جعلنا الشمس عليه دليلاً، وهو ذاته باعتبار كونه نوراً لنفسه في نفسه، ويشهد به العقل والحس للظلال الممدودة الوجودية، فان الظلال لا يكون لها عين مع عدم النور ((ثم قبضناه الينا قبضاً يسيراً))[7]، وانما قبضه اليه لأنه ظله، فمنه ظهر واليه يرجع الأمر كله، فكل ما ندركه فهو وجود الحق في أعيان الممكنات، فمن حيث هوية الحق هو وجوده، ومن حيث اختلاف المعاني والأحوال المفهومة منها المنتزعة عنها بحسب العقل الفكري والقوة الحسية فهو أعيان الممكنات الباطلة الذوات، فكما لا يزول عنه باختلاف الصور والمعاني اسم الظل كذلك لا يزول عنه اسم العالم وما سوى الحق. واذا كان الأمر على ما ذكرته لك فالعالم متوهم ماله وجود حقيقي، فهذا حكاية ما ذهبت اليه العرفاء الإلهيون والأولياء المحققون»[8].
ومع ان هذا النص صريح بجعل الأشياء عين الحق بسريان الذات على الممكنات، الا أن خضوع فيلسوفنا لمنطق التردد جعله بعد صفحات من مقالته هذه يعود ليوجّه مقالة الصوفية توجيهاً فلسفياً، وكأنه بذلك ينقض ما قد بناه من قبل، فهو يوجّه قول الصوفية بأنهم اذا اطلقوا الوجود المطلق على الحق تعالى، فان مرادهم بذلك هو الحقيقة بشرط لا شيء ـ اي الذات الإلهية وهي في مرتبتها الخاصة ـ لا الوجود المنبسط «وإلا لزمهم المفاسد الشنيعة». وعليه اعتبر مراتب الوجود ثلاث: مرتبة الهوية الغيبية الخاصة به تعالى، ومرتبة الوجود المقيد المتعلق بغيره كالعقل والنفس والجسم، ومرتبة الوجود المنبسط المطلق، وهو الوجود الذي بعد الهوية الغيبية والمتمثل بفعله تعالى، وهو غير منحصر في حد معين من القدم والحدوث والتقدم والتأخر[9].
وليس النراقي وحده من إتهم صدر المتألهين بمقالة الصوفية، فقد إتهمه كذلك الشيخ احمد الاحسائي الذي أيد طعنه بمقالة نصّ عليها صهره وتلميذه الفيض محسن الكاشاني (المتوفى سنة 1091هـ)، إذ جاء في قوله: «كما أن وجودنا بعينه هو وجوده سبحانه، إلا أنه بالنسبة الينا محدث وبالنسبة اليه قديم، كذلك صفاتنا من الحياة والقدرة وغير ذلك، فانها بعينها صفاته إلا أنها بالنسبة الينا محدث وبالنسبة اليه قديم، لأنه بالنسبة الينا صفة لنا ملحقة بنا والحدوث اللازم لنا لازم لوصفنا، وبالنسبة اليه قديم لأن صفاته لازمة لذاته القديمة. وإن شئت أن تتعقل ذلك فانظر الى حياتك وتقييدها بك فانك لا تجد إلا روحاً تختص بك وذلك هو المحدث ومتى رفعت النظر من اختصاصها بك وذقت من حيث الشهود أن كل حي في حياته كما أنت فيها وشهدت سريان تلك الحياة في جميع الموجودات علمت أنها بعينها هو الحياة التي قامت بالحي الذي قام به العالم وهو الحياة الإلهية، وكذلك سائر الصفات، الا أن الخلائق متفاوتون فيها بحسب تفاوت قابلياتها، كما نبهنا عليه غير مرّة. وهذا أحد معاني قول أمير المؤمنين عليه السلام حيث قال: (كل شيء خاضع له، وكل شيء قائم به، غني كل فقير، وعزُّ كل ذليل، وقوة كل ضعيف، ومفزع كل ملهوف)»[10]. وقد شنّع الشيخ الاحسائي على الفيض الكاشاني عند شرحه لرسالة (عرشيه) لصدر المتألهين، وقال متهكماً: «قل أنا الله ولا تخف فإنك بالتصريح تستريح وتريح»[11].
وهناك من وجّه كلام الكاشاني الى ما يخرجه عن مقالة الصوفية، فاعتبر مراده من الوجود المضاف الى الله تعالى هو الوجود المنبسط الذي يتمثل بأمر الله وفعله، وفي هذه الحالة يصبح من المعلوم أنه لا يتقيد بقدم وحدوث، حيث يكون في العوالي قديماً، وفي السوافل حادثاً. كما اعتبر مراده من صفات الله تعالى هي تلك الخاصة بالصفات الفعلية لا الذاتية، وهي التي تمثل عين الفعل فتكون بالنسبة لله تعالى قديمة بقدمه، وبالنسبة الينا حادثة بحدوثنا[12].
وربما يعكس هذا التوجيه مراد النص السابق، فيصبح معنى (وجوده سبحانه) في قوله: «ان وجودنا وجوده سبحانه» هو فعله المتمثل بالوجود المنبسط، لولا أن ما جاء عنه من نصوص أخرى ـ في نفس الكتاب ـ تدل صراحة على التعبير عن مقالة الصوفية، كقوله: «فهو الوجود المطلق، وهو الذي يطلق ـ عليه ـ الله سبحانه.. ويسمى الوجود من حيث هو هو، وهو غير مقيد بالاطلاق والتقيد، ولا هو كلي ولا جزئي ولا عام ولا خاص ولا واحد بالوحدة الزائدة على ذاته ولا كثير، ولا جوهر ولا عرض ولا غير ذلك من المفهومات الذهنية والخارجية، بل يلزمه هذه الأشياء بحسب مراتبه ومقاماته المنبّه عليها بقوله عزّ وجل ((رفيع الدرجات ذو العرش))[13]، فيصير مطلقاً ومقيداً وعاماً وخاصاً وكلياً وجزئياً وواحداً وكثيراً من غير حصول تغير في ذاته وحقيقته.. ولا يصح أن يحكم عليه بحكم أو يعرف أو يضاف اليه نسبة ما، من وحدة أو وجوب وجود أو مبدئية ايجاد أو صدور أثر أو تعلق علم منه، بنفسه أو بغيره، إذ كل ذلك مقتضى التعين والتقيد، ولا طريق الى العلم به بوجه»[14].
وقوله أيضاً وهو يصف الله تعالى: «هو عين الأشياء فهو محدود بحدود كل ذي حد، إذ هو الساري فيها كلها، بل هو الكون كله، فهو تشبيه وهو بعينه تنزيه، إذ هو نفي لما سواه، وأيضاً إذا أحاط بالكل ولم ينحصر في واحد منهما ولا في الكل لم يكن محدوداً، فسبحان من تنزه عن التشبيه بالتنزيه، وعن التنزيه بالتشبيه»[15].
[1] النراقي: قرة العيون، ص181.
[2] قرة العيون، ص181.
[3] قرة العيون، ص190ـ191.
[4] صدر المتألهين: كسر أصنام الجاهلية، تحقيق وتقديم محمد تقي دانش پژوه، مطبعة جامعة طهران، 1962م ـ1340هـ. ش، ص79ـ80.
[5] المظاهر الإلهية، ص11.
[6] الفرقان/45.
[7] الفرقان/46.
[8] الاسفار، ج2، ص292ـ 294. وقرة العيون، ص196ـ197. كذلك لطائف العرفان، ص56ـ57.
[9] الاسفار، ج2، ص327 ـ330.
[10] محمود شهابي الخراساني: النظرة الدقيقة في قاعدة بسيط الحقيقة، انجمن حكمت وفلسفة ايران، 1399هـ، ص و.
[11] فلاسفة الشيعة، ص356.
[12] النظرة الدقيقة في قاعدة بسيط الحقيقة، ص ح ـ ط.
[13] غافر/15.
[14] الفيض الكاشاني: كلمات مكنونة، تصحيح وتعليق عزيز الله القوچاني، انتشارات فراهاني تهران، ص16ـ17. كذلك: كاظم الرشتي: شرح آية الكرسي، طبعة حجرية، مكتبة أدبيات مشهد.
[15] المصدر السابق، ص44.