يحيى محمد
ليس من التناقض في شيء إذا ما أُعتبر الكشف محدوداً ومصيباً ومفضياً إلى اليقين في الوقت ذاته. فهذا هو جوهر ما يريده أصحابه كأسلم طريق لمعرفة الحقيقة وتجاوز الإختلاف الحاصل بين أصحاب الفكر والمذاهب. فالعارف بنظر أهله معصوم في سلوكه والمعرفة التي يفضيها إليه كشفه. وعلى رأي البعض فإن العارف وإن كان قد يخطئ في مدلول هذا الكشف والتعبير عنه، لكن يبقى الخطأ ليس في الكشف ذاته، بل في الحكم الذي يتصوره العارف، إذ قد يلحقه نوع من التأويل نتيجة الأمور العارضة عليه؛ كالنظر أو التأويل وما إلى ذلك.
فعلى ما يقوله إبن عربي: إن «الكشف لا يخطئ أبداً والمتكلم في مدلوله يخطئ ويصيب إلا أن يخبر عن الله، كصاحب الرؤيا فإن كشفه صحيح وأخبر عما رأى ويقع الخطأ في التعبير لا في نفس ما رأى، وقد اختلفنا في ما يستقل العقل بإدراكه إذا أخذه الولي من طريق الكشف والفتح، هل يفتح له مع دليله أم لا؟ فذهبنا إلى أنه قد يفتح له فيه ولا يفتح له في دليله، وقد ذقناه وذهب بعضهم، منهم صاحبنا الشيخ الإمام أبو عبد الله الكتاني بمدينة فاس، سمعته يقول: لا بد أن يفتح له في الدليل من غير فكر ويرى إرتباطه بمدلوله. فعلمت أن الله ما فتح عليه في مثل هذا العلم إلا على هذا الحد. فإخباره أنه كذا رآه صحيح وحكمه أنه لا يكون إلا هكذا باطل. فإن حكمه كان عن نظره لا عن كشفه، فإنه ما أخبر عن الله أنه قال له هكذا أفعله، وأن غير هذا الرجل من أهل هذا الشأن قد أدرك ما ذهبنا إليه ولم يعرف دليله العقلي، فأخبر كل واحد بما رآه وصدق في إخباره، وما يقع الخطأ قط في هذا الطريق من جهة الكشف، ولكن يقع من جهة التفقه فيه في ما كشف إذا كان كشف حروف أو صور، فإذا خالف الكشف الذي لنا كشف الأنبياء عليهم السلام، كان الرجوع إلى كشف الأنبياء عليهم السلام، وعلمنا أن صاحب ذلك الكشف قد طرأ عليه خلل بكونه زاد على كشفه نوعاً من التأويل بفكره، وما رأينا ولا سمعنا عن صاحب كشف إلهي من المؤمنين خالف كشفه ما جاءت به الرسل جملة واحدة ولا تجده››[1].
هكذا فصاحب الكشف وإن كان قد يخطئ الحكم - كما يرى إبن عربي - لكنه يظل صحيح الكشف. فهو في جميع الأحوال معصوم ومصون عن الكذب والإنحراف. وكما يصف القشيري العرفاء بقوله: «.. بهم يحفظ الله جميع الأمة، وكل من قبلته قلوبهم فهو المقبول، ومن ردّته قلوبهم فهو المردود، فالحكم الصادق لفراستهم، والصحيح حكمهم، والصائب نظرهم، عصم جميع الأمة عن الإجتماع على الخطأ، وعصم هذه الطائفة عن الخطأ في النظر والحكم والقبول والرد››[2].
وهناك خطوة أخرى يضيفها حيدر الآملي بصدد التأكيد على عصمة العارف، مستخدماً بذلك الدليل والبرهان، فكما يقول بأن «الولي لله تعالى لا يقول إلا الواقع، لأن صدور الكذب منه مستحيل. أما بيان الأول - وهو أن الولي الحقيقي لا يقول إلا الواقع - فلأن الولي الحقيقي هو الذي يكون الحق تعالى (سمعه وبصره ولسانه ويده ورجله) بحكم قوله في الحديث القدسي (لا يزال العبد يتقرّب إليّ بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنت سمعه وبصره ولسانه ويده ورجله، فبي يسمع، وبي يبصر، وبي ينطق، وبي يبطش، وبي يمشي). وكل من كان الحق تعالى سمعه وبصره ولسانه ويده ورجله لا يقول إلا الواقع، المطابق الصحيح. وأما بيان الثاني وهو أن صدور الكذب منه مستحيل، فقد ثبت بالدلائل العقلية والبراهين القطعية، أن الإنسان الكامل أفضل من الملك وأشرف منه، وقال تعالى في حق الملك: ((لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون))[3]. والإنسان الكامل الذي هو وليه وحبيبه وخليفته أولى بذلك، ويكفي في هذا قصة آدم (ع) مع الملك وتعليمه لهم وسجودهم له.. ››[4].
وهذا التجليل والتعظيم الذي صوره الآملي إنما كان بمناسبة الشهادة على ولاية شيخه الأعرابي وعصمته، حيث أقرّ له بكمال العرفان ودلل على ولايته من أقواله وأفعاله، وحكى عنه قصصاً من الكرامات، واعترف له بأن كتاب (الفتوحات المكية) قد نزل على قلبه في ليلة واحدة بمكة وأنه إملاء إلهي وإلقاء رباني[5]. كما وشهد له إعتبار كتابه الآخر (فصوص الحكم) معجزاً كالقرآن، وقَبِل منه أنه صادر عن النبي كما أن القرآن نازل عليه[6]. فقد اعتبر إبن عربي كتابه هذا مأخوذاً من الرسول بالرؤيا، فوصف حاله بأنه كان بيد الرسول كتاب «فقال لي: هذا كتاب فصوص الحكم، خذ وأخرج به إلى الناس ينتفعون به.. فقلنا السمع والطاعة لله ورسوله وأولي الأمر منا، كما أُمرنا» ثم قال: «فحققت الأمنية وأخلصت النية، وجردت القصد والهمة إلى ابراز هذا الكتاب، كما حدّه لي رسول الله (ص) من غير زيادة ولا نقصان››[7].
على ذلك زعم الآملي أن كتابي إبن عربي (الفتوحات المكية وفصوص الحكم) هما عديما المثال والنظير لأن نوعيهما منحصران في شخصيهما[8].
كما أن صدر المتألهين هو الآخر قد شدد على عصمة العرفاء. فقد نقد المفسرين من غير أهل الكشف معتبراً أكثرهم واقعين في خطر التفسير بالرأي المنهي عنه، خلافاً لما هو الحال في طريقة العرفاء، وقال بهذا الصدد: إن «العارف الرباني مأمون من الغلط، معصوم من معاصي القلب، إذ كل ما يقوله حق وصدق، حدثه قلبه عن ربه، وقد مرّ أن الفهم لا ينفك عن الكلام الوارد القلبي››[9].
وهنا نتساءل: إذا كان العارف معصوماً في رؤاه المعرفية إلى هذا الحد، فكيف نفسر إختلاف العرفاء في مكاشفاتهم إلى الحد الذي قد يصل أحياناً إلى التناقض، كالذي وقع به نفس أولئك الذين نقلنا عنهم تأكيدهم على عصمة العرفاء؟
صحيح أن بعض أنواع الإختلاف يقبل التوجيه بما ذهب إليه الشيخ إبن عربي من التمييز بين ما هو راجع إلى كشف العارف وما هو راجع إلى حكم نظره الخاص، كما عرفنا من قبل. وصحيح أيضاً أن بعض الإختلاف يمكن توجيهه طبقاً لتباين مراتب كمال الكشف، فيصبح الإختلاف عائداً إلى التكامل لا التناقض. لذلك يرى بعض العرفاء أن إدراكات الناس وإعتقاداتهم بما في ذلك كشف العرفاء كلها صحيحة صادقة، وإن كان أي منهم لم ينل الحقيقة كاملة، بل جزءاً منها تبعاً لوعائه الخاص، كما يتضح مما يقوله صدر المتألهين تأييداً لنظرية إبن عربي[10].
وقد ينطبق هذا الحال أحياناً على الإختلاف الذي قد ينجم حول الكشف الخاص بالمستنبطات الشرعية، فربما تُوجّه هذه الإختلافات بأنها دالة على التكامل لا التعارض، لذلك كان العارف السراج الطوسي يصرح بأن أهل الأحوال والكشف وإن كانوا يختلفون في مستنبطاتهم كإختلاف أهل الظاهر، غير أن إختلاف أهل الظاهر يؤدي إلى الغلط والخطأ، والإختلاف في علم الباطن لا يؤدي إلى ذلك لأنها فضايل ومحاسن ومكارم وأحوال وأخلاق ومقامات ودرجات[11].
ورغم تقديرنا لوجود مثل تلك الأنواع من الإختلاف التي لا تعبّر عن وجود خطأ في الكشف بقدر ما تعبّر عن نسبية الكشف ومحدوديته، بالقياس إلى بعضه البعض، إلا أن هناك مكاشفات تعبّر فعلاً عن وجود خطأ ذاتي لا يمكن تبريره بمثل ما مرّ علينا من حالات، فهي مكاشفات بعضها يناقض البعض الآخر، سيما عندما تكون مدفوعة بدوافع مذهبية تعمل على تمزيق الرؤية الصوفية للعرفاء. فللعارف الشيعي مكاشفاته التي تناقض ما ينكشف للعارف السني، وكذا العكس. ولو رجعنا إلى الرجال الثلاثة الذين اعتمدناهم في التأكيد على عصمة العارف، وهم على التوالي: القشيري والآملي وصدر المتألهين، لوجدناهم ممن ينطبق عليهم ما ذكرناه من التناقض.
فالأول منهم، وهو القشيري، قد خطا خطوة يسيرة نحو التناقض. فهو تارة يؤكد على عصمة العرفاء التامة، وأخرى يعترف أن لهم بعض الهنات من الذنوب، خاصة حينما يميز بينهم وبين الأنبياء، إذ يجعل من هؤلاء الأخيرين معصومين تماماً بخلاف اولئك، حيث يراهم محفوظين قد تصدر منهم هنات وزلات نادرة، فعنده أن «من شرط الولي أن يكون محفوظاً، كما أن من شرط النبي أن يكون معصوماً»[12]. وكما قال: «فان قيل: فهل يكون الولي معصوماً؟ قيل: أما وجوباً كما يقال في الأنبياء فلا، وأما أن يكون محفوظاً حتى لا يصر على الذنوب إن حصلت هنات أو آفات أو زلات، فلا يمتنع ذلك في وصفهم. ولقد قيل للجنيد: العارف يزني يا أبا القاسم؟ فأطرق ملياً ثم رفع رأسه وقال: ((وكان أمر الله قدراً مقدوراً))»[13]. وقال أيضاً: «ولا ينبغي للمريد أن يعتقد في المشايخ العصمة، بل الواجب أن يذرهم وأحوالهم، فيحسن بهم الظن»[14].
فهذا الإقرار بعدم العصمة للعارف لا يبالي أن يتجاوزه القشيري وينقلب عليه، فيقرر بأن الولي «لا يكون ولياً إلا إذا كان موفقاً لجميع ما يلزمه من الطاعات، معصوماً بكل وجه عن جميع الزلات»[15]. وكذا يقول: «واعلم أن من أجلّ الكرامات التي تكون للأولياء دوام التوفيق للطاعات والعصمة عن المعاصي والمخالفات››[16].
مع هذا فإن خطوة التناقض هذه لا تكشف عن خطأ الكشف ذاته، فهي مقيدة بحدها المعياري الخاص بسلوك العارف واستقامته. لكن مع السيد الآملي بالخصوص يلوح التناقض ذات الكشف وأداته المعرفية مباشرة ولا يقتصر على الإعتبارات المعطاة لعصمة العرفاء. فالآملي يعتبر كشفه مناقضاً لكشف عارف آخر سبق أن اعترف له بالعصمة وأنه لا يخطئ الواقع. فقد عرفنا كيف أنه عدّ شيخه الأعرابي معصوماً في تصرفاته وأحواله ومكاشفاته، مؤيداً ذلك بالإقرار بصدور كتابه (الفتوحات المكية) عن إملاء إلهي وإلقاء رباني، ومؤكداً بأن كتابه الآخر (فصوص الحكم) جاء كقرآن صادر عن نفس النبي، رغم ما في هذا الكتاب الأخير من بعض المواضع التي لم تقنعه ولم ترضه.
فقد شهد الشيخ إبن عربي في (الفصوص) وغيره من الكتب على نفسه وعلى النبي عيسى بختم الولاية، إذ عدّ نفسه خاتم الأولياء بالولاية الخاصة، وأن عيسى هو خاتمهم بالولاية العامة، فذكر أنه اجتمع مع جميع الأنبياء حين أقام بقرطبة فبشّره هود بأن الأنبياء اجتمعوا لتهنئته على ختمه للولاية. وهو القائل:
لما أتاني الحق ليلاً مبشراً بأني ختام الأمر في غرة الشهر
وفيه أنا وارث لا شك علم محمد وحالته في السر مني وفي الجهر
وإني لختم الأولياء محمد ختام اختصاص في البداوة والحضر
وهو القائل أيضاً:
وأنا ختم الولاية دون شك يورث الهاشمي مع المسيح[17]
ومن الطبيعي أن لا يُرضي هذا التقدير عارفاً شيعياً كالآملي الذي سبق أن اعترف لإبن عربي بالعصمة وإصابة الواقع. فحول هذه النقطة المذهبية الحساسة اعترض الآملي على شيخه وخطّأه في كشفه في أكثر من موضع، إذ ردّ عليه في بعض المواضع قائلاً: «.. وإن كان بالكشف فالكشف يكون حجة عليه - أي على إبن عربي - لا على غيره، ومع ذلك لِمَ لا يجوز أن يكون كشف غيره أعلى وأعظم، وأصحّ منه وأوضح، مثل الأنبياء والمشايخ والعلماء الذين سبق ذكرهم؟ فإن أكثرهم ذهبوا إلى هذا، وكشف لهم هذا المعنى وحكموا بخاتمية علي (ع) للولاية المطلقة دون غيره، وعلى الخصوص كشفنا الذي طابق الكل ووافق الجميع..››[18].
كما ردّ عليه في موضع آخر قائلاً: «والعجب كل العجب أن أمثال هؤلاء يدعون الكشف والعرفان ويحصل منهم مثل هذا الكلام، أما القيصري فقد عرفت خبطه ومهملاته.. وأما الشيخ الحاتمي - إبن عربي - فإنه حيث كان يعرف أن عيسى (ع) ينزل في آخر الزمان ويحضر عند المهدي ويكون تابعاً له ولجدّه في النبوة والولاية، كيف حكم أنه خاتم الولاية المطلقة، مع وجود علي (ع) بها ثبت له استحقاق هذه الصورة نقلاً وعقلاً وكشفاً، وبقوله أيضاً: وحيث كان عارفاً بحال المهدي (ع) إلى هذه الغاية التي ذكرها، وخصّ به الختمية للولاية المقيدة المحمدية، كيف كان ينسبها إلى نفسه ويجزم بذلك بعقله؟ والعجب أنه يثبت هذا المقام لنفسه بحكم النوم، وقد ثبت هذا لغيره بحكم اليقظة، بمساعدة النقل والعقل والكشف، وأين النوم من اليقظة؟ وأين القياس من الدلائل العقلية والشواهد النقلية التي تطابق الكشف الصحيح؟ ومع ذلك فإن كان هذا ثبت بالنوم، فكم رأينا بالنوم هذا وشاهدناه وسمعناه من النبي وأهل بيته (ع)، وهذا أيضاً قريب إلى تعصب القيصري ودلائله التي هي أوهن من بيت العنكبوت، مع أن الشيخ إبن عربي يدعي الإطلاق والخروج عن قيد المذهب والتعصب مع كل أحد.. ››[19].
أما مع صدر المتألهين الشيرازي فيصل التناقض أقصاه. فقد أصبح كشف العارف بشخصه متناقضاً في الموضوع الواحد. وكشاهد على ذلك تقريره لمسألة الخلود في العذاب. فهو قد اعترف إبتداء بأن علماء الكشف يختلفون في ما بينهم حول خلود الكافرين في العذاب، فبعضهم أقرّ ذلك، والبعض الآخر ذهب إلى أن لهم نعيماً بعد العذاب، وإن اتفقوا على بقائهم ماكثين في دار الشقاء إلى ما لا نهاية له[20]. أما رأيه فقد ظهر فيه التناقض واضحاً، فرغم ما أحاله في بعض كتبه لمثل هكذا خلود، إتّباعاً للشيخ إبن عربي وإستناداً إلى ما ادعاه من صريح الكشف وصحيح البرهان، لكنه خالف هذا الإعتقاد بكشف جديد، وذلك في رسالته المسماة (حكمة العرشية)، إذ قال فيها: «وأما أنا والذي لاح لي بما أنا مشتغل به من الرياضيات العلمية والعملية أن دار الجحيم ليست بدار نعيم وإنما هي موضع الألم والمحن وفيها العذاب الدائم.. وليس هناك موضع رحمة وراحة واطمينان..»[21].
لكن رغم وجود هذا التعارض الصريح لكلمات صدر المتألهين، فقد حاول تلميذه ملا هادي السبزواري نفيه؛ معتبراً كلام استاذه في (العرشية) من المحكمات، وما عداه من المتشابهات. وهو توجيه لم يحظ بقبول بعض المعاصرين من أتباع هذه المدرسة؛ كجلال الدين الأشتياني[22].
***
هكذا نصل إلى قناعة بأن الكشف ليس منزهاً عن الإختلاف والتناقض كما يصوره لنا العرفاء. ومع ذلك فنحن نقر بحقيقته كواقع إنساني يفرض علينا الإذعان له، رغم أن مضامينه ورؤاه ليست مؤكدة دائماً، وهو لا ينحصر بفرد دون آخر، وإن كان هناك تفاوت بين الأفراد طبقاً لإختلاف الطبيعة والظروف مع كم ونوع المجاهدة. ولكي نبعده عن التناقض والشطحات لا بد من ابراز الضوابط التي يلزم عنها تمييز الكشف الصائب عن الخاطئ، بغية صيانة العملية الكشفية من الغلط. فمن الواجب قبل كل شيء أن لا تعطى مضامينه درجة اليقين إلا في حالات خاصة، فنستعين بهذا الإحتمال الممكن لضبط العملية العرفانية، كي لا يفلت زمام المبادرة الكشفية بانحلالها إلى شطحات خيالية.
نعم من القضايا ما نؤمن بها إيماناً مطلقاً، رغم افتقارنا إلى الدليل عليها؛ سوى إعتبارها من حالات الكشف العرفاني الصادق، كالإعتقاد بالسببية العامة، وعدم التناقض الوجودي[23]، ومجمل الواقع الموضوعي[24]. فلولا كون هذه القضايا عرفانية لانتابنا حولها الشكوك المؤكدة، لكونها من الأمور الإخبارية المركبة التي لا دليل عليها[25]. ولو أن طبيعة الإنسان ليست بالشكل الذي هي عليه لكان من الجائز أن تكون تلك القضايا غير واضحة وتحتاج إلى نوع من الدليل، كما هو الحال مع القضايا النظرية التي لم تتضح ضرورتها إلا بعد الدليل والفحص[26].
أما الحال مع القضايا النظرية - غير الضرورية - فأمر مختلف، بإعتبارها معرضة للصواب والخطأ، ومع ذلك فإن من المجدي أحياناً تعريضها للعملية العرفانية. ولعل التجربة الذاتية للعلماء والمفكرين والأدباء هي أكبر شاهد على ما يحصل من أسرار عظيمة في عالم الكشف، إذ تخرج الأفكار بذاتها من مسرح اللاشعور إلى الشعور بلا تفكير ولا استدلال. وربما كانت نظرية نيوتن في الجاذبية تستند إلى هذه التجربة إذا ما صح النقل بأنه توصل إلى اكتشافه بعد أن رأى تفاحة تسقط على الأرض وهو جالس في حديقة منزله يتأمل، فصاح صارخاً: وجدتها.. وجدتها، كما سبقه في هذه الصيحة أرخميدس.
. فالحدس الكشفي مزود بطاقة حيوية كبيرة تشدّ نفوسنا للأخذ به، ومن يتعرّض له قد لا يحتاج لفحصه وإختباره من الخارج.
وتكثر هذه الحقيقة في حالات الخلوة والتفكير الدائم مع عدم تشتيت الذهن. ولعل أنسب فتراتها وقت السحر، ففيه يزداد توارد الأفكار وتأثر الشعور بعالم اللاشعور المجهول، وهو سرّ عظيم لم يستكشف منه شيء إلى الآن.
وإذا كان الإهتمام والممارسة التأملية يعدّان من العناصر الهامة والفعالة لتحقيق التجربة الحدسية، كما سبق أن أوصى بها الفلاسفة المتأخرون من المسلمين، فإن ما يُجنى من هذه التجربة يجب أن يُصاغ ضمن القوالب المنطقية التي تليق بالعلم المعنية به، كما نبّه على ذلك إبن خلدون، إذ أوصى بالرجوع - بعد تلك الحالة - إلى صور الأدلة وقوالبها لإفراغ المطلوب الحدسي فيها وايفائه حقّه من «القانون الصناعي» ثم كسوته بصور الألفاظ وابرازه إلى عالم الخطابة والمشافهة كي يكون وثيق العرى صحيح البنيان[27].
[1] الشيخ الأكبر إبن العربي، ص179.
[2] القشيري: لطائف الإشارات، دار الكاتب العربي بالقاهرة، ج1، ص144ـ145.
[3] التحريم/6.
[4] حيدر الآملي: المقدمات من كتاب نص النصوص، تصحيح وتحقيق هنري كربين وعثمان يحيى، طبعة طهران، 1975م، ص105.
[5] روى الآملي أنه بعد أن أتم الشيخ الأعرابي تصنيف (الفتوحات المكية) سُرق منه، فاغتم أصحابه دونه، فطمأنهم بأنه سيكتب النسخة بعينها من غير زيادة ولا نقصان. فكان له ما أراد، إذ عُثر على النسخة المسروقة فطوبقت مع الأخرى فلم يجدوا فيها زيادة ولا نقصان سوى فوات واو العطف من بعض المواضع. وقد فُسّر الأمر بأن الحكمة منه هو الخوف من تأليه إبن عربي، وهو ما أيده العارف الآملي (المقدمات من نص النصوص، ص108ـ110).
[6] الجدير بالذكر أن العارف الآملي هو أيضاً قد اعتبر له كتابين أحدهما فائض عليه والآخر صادر عنه (انظر المقدمات من نص النصوص، ص148).
[7] شرح فصوص الحكم للجندي، ص109 و111 و112. وفصوص الحكم والتعليقات عليه، ج1، ص47.
[8] الملفت للنظر أن كتاب (فصوص الحكم) قد نال من الإهتمام ما لم ينله أي كتاب آخر. فعلى الرغم من ضآلة حجمه فقد عثر بعض الباحثين على (125) كتاباً من الشرح والإختصار، و(36) كتاباً من الرد، و(33) كتاباً من الدفاع، فكان المجموع الكلي هو (194) كتاباً ما بين شرح وإختصار ورد ودفاع. يضاف إلى ذلك وجود (138) رأياً يخص تجريح كاتبه، و(33) رأياً يخص تعديله، والمجموع هو (171) رأياً من التجريح والتعديل (لاحظ تفصيل ذلك في مقدمة الاستاذ عثمان يحيى لكتاب المقدمات).
[9] مفاتيح الغيب، ص72.
[10] يقول صدر المتألهين بهذا الصدد: «.. فكذلك ما أدركه العارف المكاشف من صور الحقائق بواسطة اتصاله بعالم القدس، يكون ما هي عليها في الخارج بلا غلط وتزويق وخبط وتفريق. إلا أن ههنا دقيقة أخرى، هي أنك قد علمت أن كلاً من الوجود والماهية مرآة لظهور الآخر، والناقص المحجوب يرى الحق في مرآة الأشياء ويعتقد على حسب ما يراه، فيعرفه على صورة منعقدة، فإذا تجلّى الحق له يوم القيامة في غير الصورة التي يعتقده اياها، ينكره ويتعوذ منه، ومن ههنا ينبعث إختلاف العقائد بين الناس لإختلاف ما يرى الحق فيها من الأشياء... فيقبل كل أحد منه ما يليق بحاله ويناسبه من التجليات الإلهية وينكر ما لا يعطيه نشأته. والسالك الواصل الواقف الفاني يشاهد الحق مجرداً عن نسبة الخلق إليه، فيحجب ضيق فنائه وقصور ذاته عن الحق لضيق الفاني عن كل شيء، فكما كان قبل الفناء محجوباً بالخلق عن الحق لضيق وعائه الوجودي، فهو في ثاني الحال أيضاً ذا نقص عن مراتب الإلهية وتجلياته الذاتية والاسمائية» (ايقاظ النائمين، ص52).
[11] السراج الطوسي: كتاب اللمع، تصحيح رينولد ألن نيكلسون، مطبعة بريل في ليدن، 1914م، ص107.
[12] القشيري: الرسالة، تحقيق عبد الحليم محمود ومحمود بن الشريف، دار الكتب الحديثة في القاهرة، ص520.
[13] المصدر السابق، ص664
[14] المصدر السابق، ص743.
[15] القشيري: لطائف الإشارات، مكتبة التفسير الإلكترونية: www.altafsir.com، ضمن تفسير (سورة يونس\62). كذلك: ابراهيم البسيوني: الإمام القشيري، مجمع البحوث الإسلامية، 1392هـ ـ 1972م.
[16] الرسالة للقشيري، ص667.
[17] شرح فصوص الحكم للجندي، ص234ـ238 و430ـ431. والفتوحات المكية، ج12، ص120ـ122.
[18] المقدمات من كتاب نص النصوص، ص186ـ188. وجامع الاسرار، ص400 وما بعدها.
[19] المقدمات، ص238 ـ239. وقد زعم الآملي بأن عدداً من المشايخ العرفاء قالوا بخاتمية الولايتين المطلقة والخاصة لعلي والمهدي، منهم الشيخ سعد الدين الحموئي وعبد الرزاق الكاشاني والجنيد وصدر الدين القونوي والسري السقطي ومعروف الكرخي والشبلي وأتباعهم (جامع الاسرار، ص395 و446).
[20] عرشية لصدر المتألهين، ص280.
[21] عرشية، ص282. والشواهد الربوبية، ص317 و778.
[22] الشواهد الربوبية، ص777ـ778.
[23] ليس المنظور بعدم التناقض الوجودي هو ذلك المتعلق بالقضية كحالة منطقية، وإنما يتعلق بالوقائع الخارجية من حيث نفي التناقض عنها.
[24] ما يعنيه مجمل الواقع الموضوعي هو ما يقابل إفتراض إعتبار الحياة كلها عبارة عن صور ذاتية أو حلم دائم. علماً بأنه سبق لنا أن بحثنا عن مصدر الإعتقاد بهذا الواقع، كما في: الإستقراء والمنطق الذاتي، مؤسسة الإنتشار العربي، بيروت، الطبعة الأولى، 2005م. والأسس المنطقية للإستقراء، بحث وتعليق، مطبعة نمونه في قم، الطبعة الأولى، 1405هـ ـ1985م، ص243ـ249.
[25] المقصود بالأمور الإخبارية المركبة تلك الأمور التي تخبر بشيء ما عن الوقائع الخارجية.
[26] بحثنا تلك المواضيع في بعض الفصول الخاصة بكتاب (الإستقراء والمنطق الذاتي).
[27] مقدمة إبن خلدون، ص535ـ536.