يحيى محمد
للدليل الإستقرائي وظائف عديدة، فهي لا تنحصر ضمن حدود التعميم والتنبؤ بالحوادث المستقبلية، وإنما تشتمل ايضاً على إثبات وجود الأشياء وتفسيرها. وهذا الحال جعل من هذه الوظائف تختلط ببعض العناصر الذهنية، كما يحدث في المجال العلمي، وهو ما جعل مفهوم الإستقراء ينتابه الالتباس. فقد بات من المسلّم به اليوم ان الطريقة العلمية في إثبات القضايا وترجيحها سواء بالنسبة إلى تلك التي تتصف بالعموم أو غيرها من الحالات الخاصة؛ لا تستنتج في كثير من الأحيان بمحض الشكل المنطقي الصرف من التتبع في لحاظ الوقائع والقرائن بغية الوصول إلى الصيغة النهاية من عمل الدليل الإستقرائي، وفقاً لمتطلبات المرحلة الإستنباطية، وإنما دخلت في الميدان الفروض (المؤقتة) من القفزة الذهنية مما يطلق عليها الحدس العلمي والتي لا تجد لها تبريراً بحسب الصياغة المنطقية من الدليل، وإن كان من الممكن اخضاعها من جديد تحت الإختبار للحاظ ما يمكن أن تكسبه من قوة تأييد أو تكذيب. لذلك قيل بأن الإستقراء البيكوني وقواعد ستيوارت مل قد تجاوزتها علوم مثل الفيزياء والكيمياء، وان بقيت مستخدمة لدى علوم أخرى كالطب والعلوم الانسانية1. وقد كان الفيزيائي أرنست ماسن يقول: ‹‹إن العملية الذهنية التي ينجز بها المرء مفاهيم جديدة، والتي يشير إليها عموماً بالاسم غير الملائم (الإستقراء)، ليست عملية بسيطة وإنما هي عملية بالغة التعقيد. وهي في المقام الأول ليست عملية منطقية بالرغم من أن مثل هذه العمليات يمكن ادخالها كروابط وسطى ومساعدة. فالمجهود الرئيسي الذي يؤدي إلى اكتشاف معرفة جديدة إنما يرجع إلى التجريد والخيال››2.
فمن المعلوم ان الفكر الحديث ولّد نزاعاً عن طبيعة المفاهيم والنتائج المستخلصة من المنهج العلمي بواسطة الإستقراء. فخلال القرن التاسع عشر كان جون ستيوارت مل يعتقد بأن النتائج العلمية إنما تعبر عن مفاهيم مستنسخة من الواقع، أو انها تمتاز بالمطابقة معه، وخالفه في ذلك وليام هويويل الذي رأى القوانين العلمية عبارة عن افرازات ذهنية. فبينما كان ستيوارت مل يقول: ‹‹اذا صح ترتيب الوقائع تحت المفاهيم، فالسبب في ذلك هو ان الوقائع نفسها تتضمن شيئاً يكون المفهوم نسخة منه››، فإن هويويل اعترض عليه قائلاً: ‹‹ولكنها نسخة لا يستطيع صنعها إلا شخص ذو موهبة طبيعية خاصة، وهذا الوضع شبيه بوضع الشخص الذي يتعذر عليه ان يعدّ نسخة مفهومة من نقوش رديئة الكتابة إلا إذا كان ملماً باللغة››. لهذا رأى هويويل ان كل إستقراء ناجح هو بمثابة مفهوم جديد ونظام جديد يصنعه المؤلف من مادته اللغوية والمنطقية. فمثلاً يتمثل هذا المفهوم في المنحى الاهليليجي لحركة الكواكب في حالة كبلر، وفي العجلة في ميكانيكا غاليلو، وفي العجلة والجاذبية في فكر نيوتن، وفي الموجات في علم الضوء الحديث. وعليه فإنه يصل إلى تقرير: ‹‹ان تاريخ العلوم الإستقرائية هو تاريخ الاكتشافات، على الأقل فيما يختص بالوقائع التي جمعت بعضها إلى بعض لتؤلف العلم. وفلسفة العلوم الإستقرائية هي تاريخ الآراء والمفاهيم التي تربط الوقائع بعضها ببعض››3.
ويُذكر ان هويويل في خلافه مع ستيوارت مل قد أحدث معنى مختلفاً للإستقراء مما شكّل مورداً للالتباس4. فبسبب بعض العناصر الدخيلة في الممارسة الإستقرائية أصبح هناك لبس في المعنى المقصود منه.
بل واستخدم اللفظ أحياناً بعيداً عن المعنى المطلوب. فخلال القرن العشرين أطلق كارناب على الإحتمال المنطقي عبارة الإحتمال الإستقرائي أو المنطق الإستقرائي، وكانت محل التباس كما يخبرنا بذلك ستوف. فخلال ما يقارب اربعمائة سنة قصد الفلاسفة بالدليل الإستقرائي انه عبارة عن ذلك الذي يستند إلى المشاهدات الحسية لينتهي بها إلى حالات غير مشاهدة، ويعبر عن الأولى بالمقدمة، وعن الثانية بالنتيجة. فهذا ما كان عليه فهم الدليل الإستقرائي، ولا يوجد غير هذا المعنى الذي ما زال حضوره قائماً إلى يومنا هذا، حيث يستخدمه اغلب الفلاسفة حينما يطلقون كلمة (إستقرائي inductive ). لكن خلال الاربعينات من القرن العشرين بدأ كارناب باستخدام اللفظ السابق بمعنى جديد دون ان يدرك ما تسبب عنه هذا الفعل. فالمعنى الجديد كما قصده كارناب هو الدليل الذي لا يكون قياساً أو إستنباطاً deductive. ومع ان هذا المعنى اكتسب حضوراً معتبراً لدى الباحثين، لكنه لم يشتق عن المعنى الرئيسي الأول. فمفهوما الإستقراء ليس فقط انهما مختلفان، بل ومستقلان عن بعضهما البعض منطقياً. فيُقصد به بحسب المعنى الكارنابي انه محض تقييمي evaluative، حيث يخص القيمة المنطقية من الدليل في المسألة لا غير. أما المعنى الرئيسي له، فهو انه وصفي بياني محض، إذ يتعلق بقضايا المقدمة والنتيجة من الدليل. وقد اخطأ عدد من الكتّاب المعاصرين في تسمية الإحتمال المنطقي بالإحتمال الإستقرائي؛ للارباك الحاصل بفعل ضعف ورداءة العبارة التي استخدمها كارناب. وأخذ عدد من الفلاسفة اليوم يتحولون بلا وعي من أحد المعنيين إلى الآخر.
هكذا انتهى ستوف إلى ان عبارة (الإحتمال الإستقرائي)، والتي يقصد بها الإحتمال المنطقي، تتضمن اللبس والتضليل، وكذا مثلها عبارة (المنطق الإستقرائي)5.
وقريب من هذا المعنى ما عرّف به سالمون للإستقراء، إذ قال: ‹‹انني لا اعرّف الإستقراء على إعتبار كونه استدلالاً من الخاص إلى العام، ولا بوصفه معكوس الإستنباط، أو إستقراءاً تعدادياً أو نهجاً للاكتشاف. الإستقراء هو نوع من الاستدلال اللاإستنباطي بكون صدق مقدماته يعد أساساً جيداً لقبولها››6.
وفي (منطق الكشف العلمي) عرّف كارل بوبر الإستقراء بقوله: ‹‹عادة ما نسمي الإستدلال إستقراءً إذا انتقل من قضايا شخصية ـ أي قضايا جزئية كما يطلق عليها أحياناً ـ كتلك التي تبيِّن نتائج الملاحظات والتجارب تجاه القضايا الكلية، كالفروض أو النظريات››7.
وهو تعريف لا يشتمل على النتائج التنبؤية المحدودة، ولا على إثبات الجزئيات الشخصية.
وفي مقدمة (الأسس المنطقية للإستقراء) عرّف المفكر الصدر الإستقراء بقوله: ‹‹نريد بالإستقراء: كل إستدلال تجيء النتيجة فيه أكبر من المقدمات التي ساهمت في تكوين ذلك الإستدلال، فيقال مثلاً: هذه القطعة من الحديد تتمدد بالحرارة، وتلك تتمدد بالحرارة... إذا كل حديد يتمدد بالحرارة. وهذه النتيجة أكبر من المقدمات..››. وقال أيضاً: ‹‹وأما في حالات الإستقراء، فإن الدليل الإستقرائي يقفز من الخاص إلى العام، لأن النتيجة في الدليل الإستقرائي أكبر من مقدماتها››8.
وهنا نلاحظ المشكلة نفسها في التعريف، وهو انه لا يشتمل على التنبؤات المحدودة ولا على القضايا الجزئية. كما ان النتيجة قد تكون جديدة مقارنة بالمقدمات لكنها ليست أكبر منها.
وفي حالة اخذ القيمة المعرفية بعين الإعتبار فإنه يمكن للنتيجة ان تكون أكبر من المقدمات وجديدة عليها، إذ تتحول القيمة من المقدمات الإحتمالية إلى النتيجة اليقينة. فالاخيرة تعبر عن الإحتمال مضافاً إليها درجة معرفية جديدة، بمعنى انها حصيلة درجتين معرفيين، فإذا ما رمزنا لليقين بـ (ق)، وللإحتمال بـ (ح)، وللدرجة المعرفية المضافة أو الجديدة بـ (ض) فان العلاقة ستكون كالتالي:
ح + ض = ق
فاليقين (ق) يتضمن الإحتمال (ح) مع الاضافة الجديدة (ض)، وبالتالي فهو أكبر من المقدمة الإحتمالية لما يتضمنه من هذه الاضافة.
وعموماً ان الأدلة الإستقرائية متنوعة، وهو ما يجعل المفاهيم حول الإستقراء ملتبسة، لذلك تظهر الحاجة إلى تحديد المفاهيم بدقة كي لا تختلط الأمور. وفي جميع الأحوال يرتبط الدليل الإستقرائي بمقدمات تتعلق بالشواهد والجزئيات الموضوعية الخاصة، ومن ثم فهو قابل للتلبس بعدد من الأدلة المعرفية، وعلى رأسها التعميم والتنبؤ بالحالات الخاصة التي لا علاقة لها بالاول (التعميم)، ومثل ذلك تكوين الفروض الكلية وإثبات الجزئيات الخاصة، أي التحول الفكري من الخاص المتعدد إلى الخاص المنفرد، تمييزاً له عن القياس التمثيلي الذي يتحول فيه الفكر من الخاص المنفرد إلى خاص مثله. وميزة الإستقراء هي انه قائم على إعتبارات تعدد القرائن الإحتمالية، سواء كانت تماثلية سوية، أو تباينية غير سوية، وللاخيرة علاقة بتكوين الفروض والنظريات العلمية التي تعمل على تفسير الظواهر الطبيعية. كما ويستفاد منها في إثبات الأشياء وتعليلها. وهي ايضاً العنصر الأساس لبناء الدليل الإستقرائي منطقياً.
وبالتالي فقد نعبر عن الإستقراء بأنه الدليل القائم على تعدد القرائن الموضوعية المحتملة للوصول إلى نتيجة عامة أو شخصية، محتملة أو يقينة.
وقد نطلق على الدليل الإستقرائي ألفاظاً أخرى بحسب ما يقوم به من وظائف معرفية. فعلى الصعيد العلمي – مثلاً - تتنوع الأدلة الإستقرائية المعتمد عليها، بالاضافة إلى غيرها، ويمكن أن نميزها وفقاً لوظائفها المختلفة، حيث انها وفقاً لبعض دراساتنا المستقلة عبارة عن: الدليل التعميمي، والدليل التمثيلي، والدليل التفسيري، واخيراً الدليل الحدسي..
1 الإستقراءالعلميوالقواعدالطبيعية،ص29.
2فلسفةالعلم،ص386.
3 فلسفةالعلم،ص371ـ372.
4 الإستقراءالعلميوالقواعدالطبيعية،ص11ـ16.
5 انظر:.Stove; p.87-89, and p.113
6 ويسليسامون: الاستدلالالإستقرائي،ضمن: قراءاتفيفلسفةالعلوم،ص572.
7 كارلبوبر: منطقالكشفالعلمي،ص63ـ64.
8 لاحظ: ص6 و7.